الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُهَانُ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ مِنْ نَظَرِهِمْ (وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ) مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِي خَطَإٍ (وَ) عَدَمُ (الشُّكْرِ لَهُ) لِصَاحِبِهِ عَلَى إعْلَامِهِ وَإِرْشَادِهِ إلَى الْحَقِّ الْأَوْلَى مَعَ أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ هُوَ الشُّكْرُ وَعَدَمُ ذَلِكَ الْقَبُولِ (إمَّا لِعَدَمِ الْإِصْغَاءِ وَالتَّأَمُّلِ فِي كَلَامِهِ احْتِقَارًا وَاسْتِصْغَارًا لَهُ) يَعْنِي لَا يُصْغِي لِكَلَامِهِ لِعَدَمِ اعْتِنَائِهِ بِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ حَقِيرٌ وَصَغِيرٌ وَكَذَا عَدَمُ تَأَمُّلِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ عَدَمُ الشُّكْرِ، وَعَدَمُ الِاعْتِرَافِ يَقْتَضِي فَهْمَ كَلَامِ صَاحِبِهِ وَقَوْلُهُ هَذَا يَقْتَضِي جَانِبَ عَدَمِ فَهْمِهِ فَافْهَمْ قِيلَ هُنَا كَمَا فَعَلَهُ الْمُدَرِّسُونَ مَعَ تَلَامِذَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي أَيْدِيهِمْ وَكَمَا فَعَلَ الْكَفَرَةُ مَعَ الْقُرْآنِ لَا يَخْفَى الْكَلَامُ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَهُمَا لَيْسَا بِمُنَاظَرَةٍ وَأَنَّ عَدَمَ اعْتِرَافِ الْأُسْتَاذِ مِنْ التِّلْمِيذِ يَجُوزُ لِمَصْلَحَةٍ كَتَشْحِيذِ الْأَذْهَانِ وَاخْتِبَارِ الْأَفْهَامِ وَعَدَمِ زَوَالِ اعْتِقَادِ التِّلْمِيذِ فِي حَقِّ أُسْتَاذِهِ فَيُخِلُّ بِتَعَلُّمِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضٍ (أَوْ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً) أَيْ إصْرَارًا عَلَى الْبَاطِلِ وَنُصْرَةً لِلْبَاطِلِ وَتَقْوِيَةً لَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ (فَكُلُّ هَذِهِ) الْمَذْكُورَاتِ (إنْ كَانَ فِي الْمَلَإِ فَقَطْ فَرِيَاءٌ) وَلَيْسَ فِيهِ كِبْرٌ فَيُعَالَجُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ قَطْعِ الطَّمَعِ عَنْ النَّاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدْوِيَةِ الرِّيَاءِ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَلَإِ (وَفِي الْخَلْوَةِ) جَمِيعًا (فَكِبْرٌ) فَيَنْبَغِي أَنْ يُدَاوِمَ التَّوَاضُعَ وَالْمَسْكَنَةَ حَتَّى يَظْهَرَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْوَاعُ الْعُلُومِ الرَّبَّانِيَّةِ وَأَصْنَافُ الْمَعَارِفِ السُّبْحَانِيَّةِ كَالتُّرَابِ لِتَوَاضُعِهِ تَحْتَ الْأَقْدَامِ أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَفِيفَ الْمُؤْنَةِ لَيِّنَ الْخُلُقِ كَرِيمَ الطَّبِيعَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ مَحْزُونًا مِنْ غَيْرِ عُبُوسٍ رَقِيقَ الْقَلْبِ رَءُوفًا رَحِيمًا لَمْ يَتَجَشَّأْ قَطُّ مِنْ شِبَعٍ وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ لِطَمَعٍ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيُشَيِّعُ الْجِنَازَةَ وَيُجِيبُ الدَّعْوَةَ» قَالَ فِي الرَّوْضَةِ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ «وَلَا يَحْتَقِرُ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَلَوْ إلَى كُرَاعٍ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَوْ حَشَفَ التَّمْرِ وَيَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَالشَّاةَ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيَرْقَعُ الثَّوْبَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَطْحَنُ مَعَهُ إذَا عَيِيَ وَيُقِيمُ حَوَائِجَ الْبَيْتِ وَيَحْمِلُ حَاجَتَهُ فِي السُّوقِ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَصَافَحُ مَعَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَيَبْدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ وَيُسَلِّمُ عَلَى الصِّبْيَانِ إذَا مَرَّ بِهِمْ» ، وَلِهَذَا قِيلَ مِنْ رَأْسِ التَّوَاضُعِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ مَنْ لَقِيَهُ، كَذَا نُقِلَ عَنْ التَّوْفِيقِ وَالْإِحْيَاءِ
[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ]
آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ (فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ (وَالتَّوَاضُعِ وَفَوَائِدِهِمَا) مِنْ قَبِيلِ اسْتِكْشَافِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَضْدَادِ فَالتَّوَاضُعُ ضِدُّ التَّكَبُّرِ وَقِيلَ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَقِيلَ التَّكَبُّرُ لِلْأَغْنِيَاءِ وَالتَّذَلُّلُ لِلْفُقَرَاءِ وَعَرَّفَهُ الْمُصَنِّفُ بِالرُّكُونِ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ دُونَ غَيْرِهِ (أَمَّا الْأُولَى) مِنْ أَسْبَابِ الضَّعَةِ (فَهِيَ مَعْرِفَةُ نَفْسِهِ مِنْ أَيْنَ إلَى أَيْنَ) مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ نُطْفَةٍ ثُمَّ عَلَقَةٍ ثُمَّ مُضْغَةٍ ثُمَّ جِسْمٍ جَمَادٍ ثُمَّ نُفِخَ الرُّوحُ فِيهِ وَوُكِّلَتْ بِهِ الْأَمْرَاضُ إلَى أَنْ كَانَ آخِرُهُ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَتَفَرُّقَ الْأَجْزَاءِ وَغِذَاءَ الدِّيدَانِ وَتَنَادِي الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ
فِي الْمَهَانِ وَالْعَذَابِ قِيلَ عَنْ الرِّعَايَةِ مَا حَاصِلُهُ أَرَأَيْت مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِضَرْبِ أَلْفِ سَوْطٍ وَحُبِسَ لِأَجْلِهِ فِي سِجْنٍ يَنْتَظِرُ مَتَى يَخْرُجُ وَيُضْرَبُ كَيْفَ ذِلَّتُهُ فِي السِّجْنِ وَتَوَقُّعُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعَرْضِ فَيُضْرَبُ، فَكَذَا مَنْ فِي سِجْنِ الدُّنْيَا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ لَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ مِنْ الدُّنْيَا فَيُعْرَضُ عَلَى الْعَذَابِ فَهُوَ فِي خَوْفِ الْعَذَابِ يَتَوَقَّعُ الْمَوْتَ فَيَعْمَى بَعْدَ الْبَصَرِ وَيَصَمُّ بَعْدَ السَّمْعِ وَيَبْكَمُ بَعْدَ النُّطْقِ وَلَوْ تُقَطَّعُ أَوْصَالُهُ فَيَكُونُ جِيفَةً مُنْتِنَةً وَقَذِرَةً مُسْتَوْحَشَةً ثُمَّ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَزَفِيرُ جَهَنَّمَ فِي سَمْعِهِ وَرُكُوبُ الصِّرَاطِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَالْعَرْضُ عَلَى الْمَوْلَى لِلسُّؤَالِ لِكُلِّ عَمَلِهِ فَالْأَمْرُ إلَى عَذَابٍ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ فِي غَايَةِ هَوَانٍ وَضَعْفٍ وَذُلٍّ.
فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ كَيْفَ كَانَ مَبْدَؤُهُ وَأَصْلُهُ وَفَصْلُهُ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالْبِلَى وَالْعَذَابِ فَلَا جَرَمَ زَالَ عَنْهُ الْكِبْرُ وَلَزِمَهُ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ وَالتَّوَاضُعُ وَالشُّكْرُ لِلنِّعَمِ وَالِانْكِسَارُ لَعَلَّ هَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ يَكْفِي فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى سَبْعِ آيَاتٍ - {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18]{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19]{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]- فَقَدْ أَشَارَتْ إلَى أَوَّلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَخُلِقَ مِنْ كَتْمِ الْعَدَمِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا وَلَا شَيْءَ أَخَسَّ مِنْ الْعَدَمِ ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْ أَذَلِّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ مِنْ أَقْذَرِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ لَيْسَ لَهَا حَيَاةٌ وَقُوَّةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ ثُمَّ خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18]{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19]- ثُمَّ امْتَنَّ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]- وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ إلَى الْمَوْتِ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى غَايَةِ النُّقْصَانِ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ وَتُضَادُّ فِيهِ الطَّبَائِعُ وَيَهْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَمْرَضُ كُرْهًا وَيَجُوعُ كُرْهًا وَلَا يَأْمَنُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ الْمَوْتِ وَالْآفَاتِ ثُمَّ آخِرُهُ الْمَوْتُ وَالتَّعَرُّضُ لِلْعِقَابِ وَالْحِسَابِ فَإِنْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَالْخِنْزِيرُ خَيْرٌ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِهِ الْكِبْرُ وَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21]{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] .
- (وَمَعْرِفَةُ عُيُوبِ غَوَائِلِ الْكِبْرِ) لِيَمْتَنِعَ عَنْهُ وَيَجْتَهِدَ فِي إزَالَتِهِ.
(وَ) مَعْرِفَةُ (فَوَائِدُ التَّوَاضُعِ وَفَضَائِلِهِ) لِيَتَشَوَّقَ إلَى تَحْصِيلِهِ (مِنْ كَوْنِهِ) بَيَانٌ لِلْفَضَائِلِ (مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُوتِيتُ مَفَاتِحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَخُيِّرْت بَيْنَ أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا وَنَبِيًّا مَلِكًا بِكَسْرِ اللَّامِ فَأَوْحَى جَبْرَائِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ فَاخْتَرْت أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَأُوتِيتُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلَ شَافِعٍ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْقُنْيَةِ، وَفِي الْفَيْضِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قَالَ لَا يَا رَبِّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاضَعْ إلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ تَوَاضُعَك (وَالْأَوْلِيَاءِ) رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ سَمِعْت قَرِيبًا قِصَّةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ كَانَ عِنْدَهُ ضَيْفٌ فَاسْتَعْجَلَتْ جَارِيَةٌ بِالْعِشَاءِ فَأَرَاقَتْ الْقَصْعَةَ عَلَى رَأْسِ سَيِّدِهَا فَقَالَ سَيِّدُهَا أَحْرَقْتنِي فَقَالَتْ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ وَمُؤَدِّبَ النَّاسِ ارْجِعْ إلَى مَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]- قَالَ كَظَمْت غَيْظِي قَالَتْ زِدْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]- قَالَ عَفَوْت عَنْك، قَالَتْ زِدْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]- قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْعُلَمَاءِ) الْعَامِلِينَ (وَالصَّالِحِينَ) وَكَانُوا أَعَزَّ النَّاسِ عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ إلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِفْعَةً.
كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَقِيلَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ حَيْثُ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ تَحْتَ أَوَامِرِهِ سبحانه وتعالى لِيَكُونَ عَبْدًا فِي كُلِّ حَالٍ
فَيَرْفَعَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ
وَعَنْ الطَّبَرِيِّ فِي التَّوَاضُعِ مَصْلَحَةُ الدَّارَيْنِ فَلَوْ اسْتَعْمَلَتْهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا زَالَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ الشَّحْنَاءُ وَاسْتَرَاحُوا مِنْ نَصَبِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ مَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَسْفَلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ كَيْفَ صَعِدْت هُنَا وَأَنْتَ فِي الذُّلِّ، فَقَالَ لِسَانُ حَالِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ.
قَالَ فِي الْحِكَمِ مَا طُلِبَ لَك شَيْءٌ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إلَيْك مِثْلُ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ كَذَا فِي الْفَيْضِ مُلَخَّصًا (وَ) كَوْنُهُ (مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبًا لِرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ) وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ حَبِيبَهُ عليه الصلاة والسلام بِالتَّوَاضُعِ فَقَالَ - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]- وَقَدْ مَدَحَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]- أَيْ تَوَاضُعًا وَفِي الرَّوْضَةِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى عِيسَى عليه الصلاة والسلام إذَا أَرَدْت أَنْ تَطِيرَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْجَنَّةِ فَكُنْ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْخَلْقِ كَالْهَامَةِ مَعَ الطُّيُورِ وَكُنْ بِالتَّوَاضُعِ مَعَ الضُّعَفَاءِ كَالْأَرْضِ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ وَلْيَكُنْ مَا فِي يَدَيْك كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي النَّهْرِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَكُنْ مُشْرِفًا عَلَى الْخَلْقِ كَالشَّمْسِ عَلَى الدُّنْيَا وَكُنْ حَارًّا فِي طَاعَتِي كَالنَّارِ وَكُنْ خَائِفًا وَجِلًا كَالْوَرَقِ مَعَ شَجَرٍ وَكُنْ هَيِّنًا لَيِّنًا مَعَ الْخَلْقِ كَالْجَمَلِ فِي يَدِ الْجَمَّالِ وَكُنْ خَفِيفًا عِنْدَ حَاجَاتِ النَّاسِ كَالتُّرَابِ عِنْدَ الرِّيحِ وَكُنْ ثَقِيلًا عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ (وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُنْزِلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ مَنْزِلَتَهُ) أَيْ الْعَبْدِ إذْ مَنْزِلَةُ الْعَبْدِ هُوَ الذُّلُّ وَالضَّعْفُ وَالْحَقَارَةُ فَتَكَبُّرُهُ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ
وَقِيلَ أَيْ قِيَاسُ التَّوَاضُعِ عَلَى سَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ التَّنْزِيلُ الْمَذْكُورُ (لَا دُونَهَا وَلَا فَوْقَهَا) شَرْعًا وَعُرْفًا (كَالشَّجَاعَةِ بَيْنَ التَّهَوُّرِ) هُوَ الْوُقُوعُ فِي أَمْرٍ بِلَا رَوِيَّةٍ (وَالْجُبْنِ وَالْعِفَّةِ بَيْنَ الشَّرَهِ) الْحِرْصِ الشَّدِيدِ (وَالْخُمُودِ) مَوْتِ الشَّهْوَةِ وَسُكُونِ لَهَبِهَا فِي النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَالسَّخَاءِ) الْجُودِ وَالْكَرَمِ (بَيْنَ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَطَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ (لَكِنْ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَكَانَ الْقِيَاسُ (لَمَّا كَانَ النَّفْسُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَتْ وَهُوَ الْأَقْيَسُ (مَائِلَةً بِالطَّبْعِ) إذَا خَلَتْ عَنْ الْعَوَائِقِ وَطَبْعُهَا أَنْ تَكُونَ مَائِلَةً (إلَى الْعُلُوِّ كَانَ الْأَحْوَطُ) مِنْ الِاحْتِيَاطِ (وَالْأَنْسَبُ حَطَّهَا) تَنْزِيلَ النَّفْسِ (عَنْ مَرْتَبَتِهَا قَلِيلًا إذْ رُبَّمَا لَا يَدْرِي مَرْتَبَتَهَا) شَرْعًا وَعُرْفًا (فَيُنْزِلَ) الْعَبْدُ (نَفْسَهُ فَوْقَهَا غَفْلَةً) عَنْ مَرْتَبَتِهِ (وَحُبًّا لِلْعُلُوِّ) عَلَى الْأَقْرَانِ (إذْ حُبُّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ) قِيلَ هَذَا تَلْمِيحٌ لِحَدِيثِ «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» وَاقْتِبَاسٌ مِنْهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَنَافِيَانِ إلَّا بِاعْتِبَارَيْنِ قَالَ فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ يَجْعَلُك أَعْمَى عَنْ عُيُوبِ الْمَحْبُوبِ وَأَصَمَّ عَنْ سَمَاعِهَا حَتَّى لَا تُبْصِرَ قَبِيحَ فِعْلِهِ وَلَا تَسْمَعَ فِيهِ نَهْيَ نَاصِحٍ، بَلْ تَرَى الْقَبِيحَ مِنْهُ حَسَنًا وَتَسْمَعُ مِنْهُ قَوْلًا جَمِيلًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ كَثِيرٍ يُعْمِي الْعَيْنَ عَنْ النَّظَرِ إلَى مُسَاوِيهِ وَيُصِمُّ الْأُذُنَ عَنْ الْعَذَلِ فِيهِ أَيْ يُعْمِي وَيُصِمُّ عَنْ الْآخِرَةِ أَوْ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى، وَفَائِدَتُهُ النَّهْيُ عَنْ حُبِّ مَا لَا يَنْبَغِي الْإِغْرَاقُ فِي حُبِّهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعَسْكَرِيُّ مِنْ الْأَمْثَالِ وَالْحُبُّ لَذَّةٌ تُعْمِي عَنْ رُؤْيَةِ غَيْرِ
الْمَحْبُوبِ وَتُصِمُّ عَنْ سَمَاعِ الْعَذَلِ فِيهِ وَالْمَحَبَّةُ إذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْقَلْبِ سَلَبَتْهُ عَنْ صِفَاتِهِ انْتَهَى
وَيَقْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا صَدَقَتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَ (هَذَا) أَيْ كَوْنُ حَطِّ النَّفْسِ عَنْ مَرْتَبَتِهَا أَحْوَطَ وَأَنْسَبَ (فِي التَّوَاضُعِ) أَيْ فِي إظْهَارِ الضَّعَةِ.
(وَأَمَّا فِي الضَّعَةِ) نَفْسِهَا فَالْأَوَّلُ مَا فِي الظَّاهِرِ وَالثَّانِي مَا فِي الْبَاطِنِ (فَالْأَوْلَى) الْأَحْرَى (أَنْ يَرَى) يَعْتَقِدَ (نَفْسَهُ أَدْنَى) أَذَلَّ (مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ وَهَذَا دَأْبُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ) مِنْ سَادَاتِنَا الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ (حَتَّى قَالَ الشِّبْلِيُّ رحمه الله) قِيلَ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الْوَلِيُّ الْمَشْهُورُ بَغْدَادِيٌّ صَحِبَ الْجُنَيْدَ قُدِّسَ سِرُّهُ مَالِكِيٌّ مَذْهَبًا عَاشَ سَبْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَقَبْرُهُ بِبَغْدَادَ (عَطَّلَ) لَعَلَّهُ مِنْ التَّعْطِيلِ (ذُلِّي) فَأَعَلَّهُ أَيْ جَعَلَ ذُلِّي (ذُلَّ الْيَهُودِ) مُعَطَّلًا يَعْنِي صَارَ ذُلُّ الْيَهُودِ مُعَطَّلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُلِّي أُعْدِمَ بَقَاءُ ذُلٍّ لَهُمْ فَجَمِيعُ الذُّلِّ حَصَلَ لَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْيَهُودِ ذُلٌّ وَقَدْ كَانَ الْيَهُودِيُّ عَرِيفَنَا بِالذُّلِّ عِنْدَ النَّاسِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَ الشَّيْخُ نَفْسَهُ أَدْنَى مِنْ الْيَهُودِيِّ الَّذِي هُوَ أَذَلُّ الْخَلْقِ فَانْظُرْ (وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رحمه الله لَوْ أَرَادَ جَمِيعُ الْخَلْقِ أَنْ يَضَعُونِي أَدْنَى مِمَّا فِي نَفْسِي مِنْ الدَّنَاءَةِ) الَّتِي حَصَلَتْ بِنَفْسِهَا فِي نَفْسِهِ (مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ) لِعَدَمِ تَصَوُّرِ رُتْبَةٍ أَدْنَى مِنْهَا إذْ كُلُّ مَنْزِلَةٍ مُتَصَوَّرَةٍ فِي الْحَقَارَةِ فَنَفْسِي أَحْقَرُ مِنْهَا (فَإِنْ اخْتَلَجَ) اضْطَرَبَ (فِي قَلْبِك أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ) لَا سِيَّمَا الْمُؤْمِنُ هَذَا سُؤَالٌ نَشَأَ مِنْ قَوْلِ الدَّارَانِيِّ وَالشِّبْلِيِّ (نَفْسَهُ أَدْنَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ) وَهُمَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَنِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ لِلْقَطْعِ بِكُفْرِهِمَا وَكَوْنِ كُفْرِهِمَا مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ مِلَّةً وَاحِدَةً لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ كَكُفْرِ دَعْوَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَاَلَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَنْوَاعَ جِهَةِ الْكُفْرِ وَتَفَرَّعَ عَلَى كُفْرِهِ أَنْوَاعُ الْفَضَائِحِ وَالشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ كَمَا فِي إبْلِيسَ لَعَلَّ اخْتِيَارَهُمَا فِي الْمِثَالِ لِلْإِشَارَةِ إلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَلَا يَضُرُّهُ عَدَمُ ذِكْرِهِ فِي أَمْثِلَةِ مَنْ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ فِي وَصَايَاهُ التُّرْكِيَّةِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ الْبَعْضِ كَالدَّوَّانِيِّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسْتَقِلَّةِ مِنْ عَدَمِ إكْفَارِهِ اقْتِدَاءً بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي فُصُوصِهِ وَأَوْضَحَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ كَالْجَامِيِّ بِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ مُحْتَجِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَالْأَصْلُ فِي نَفْيِ الْمُقَيَّدِ أَنْ يَرْجِعَ الْقَيْدُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَا عَصَيْت يَا فِرْعَوْنُ الْآنَ وَهَكَذَا وَهَكَذَا فَقَدْ أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ كَابْنِ الْكَمَالِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ إمَّا الْكُفْرُ أَوْ الضَّلَالُ لِلْمُخَالَفَةِ إمَّا لِلنُّصُوصِ الْمُحْكَمَةِ أَوْ الْمُفَسَّرَةِ وَإِمَّا لِلنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ أَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكْفُرَ لِكَوْنِ الِاحْتِجَاجِ بِمُحْتَمَلِ النَّصِّ وَلَوْ بَعِيدًا وَأَمَّا الشَّيْخُ ابْنُ عَرَبِيٍّ فَقَدْ طَالَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَكَثُرَتْ الْفُتْيَا وَالْأَقْوَالُ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَفَّرُوهُ كَسَعْدِ الدِّينِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِ وَكَعَلِيٍّ الْقَارِي فِي رِسَالَتِهِ الْمَخْصُوصَةِ لِرَدِّ الْفُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ عَدَّ مَوَاضِعَ تَخْطِئَةِ الْفُصُوصِ وَكَفَّرَ بِكُلٍّ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ لُزُومَ التَّأْوِيلِ إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ الْمَعْصُومِ، وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ فَإِمَّا يَكْفُرُ وَإِمَّا يَلْزَمُ عَدَمُ فَائِدَةِ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فُتِحَ بَابُ التَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ لَا يَكْفُرُ مُسْلِمٌ أَصْلًا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهَا بَعِيدَةً بِالنَّظَرِ إلَى أَنْفُسِهَا لَا نُسَلِّمُ بُعْدَهَا مُطْلَقًا، بَلْ عُلُوُّ شَأْنِ قَائِلِهَا وَكَلِمَاتُهُ الْمُتَكَثِّرَةُ وَالْمُتَعَدِّدَةُ الْمُهِمَّةُ فِي مَوَاضِعَ سَائِرِ كُتُبِهِ مُسْتَلْزِمَةٌ بِالْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ وَالطُّرُقِ النَّقْلِيَّةِ تَقَرُّبُ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ، بَلْ تَيَقُّنُهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا مَدْلُولًا لِأَلْفَاظِهَا وَلَوْ الْتِزَامًا وَمَجَازًا بِالدَّلَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قُلْنَا هَذَا بَحْثٌ اسْتِقْرَائِيٌّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَنَدٍ مُحَقَّقٍ وَأَنَّهُ عِنْدَ بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ لَفْظِهِ لَا يُخَطَّأُ بِالنَّظَرِ إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَإِنْ خُطِّئَ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهُ وَجُهِلَ بِحَسَبِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا مَخْصُوصًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسَبَةٌ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ كَالْمُرْتَجِلِ وَأَقُولُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ ارْتِيَابَ أُولِي الْأَفْهَامِ وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الشَّيْخِ صَادِرَةٌ حَالَ الْغَيْبَةِ وَالسَّكْرَةِ
فَيَلْحَقُ بِالْمَجَانِينِ فَلَا يَكْفُرُ وَرُدَّ بِأَنَّ كِتَابَتَهُ فِي تَصْنِيفِهِ بِالْأَدِلَّةِ الدَّقِيقَةِ آبٍ عَنْهُ وَقِيلَ إنَّ مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي الْفُصُوصِ مِنْ إلْحَاقِ يَهُودِيٍّ قَالَ أَبُو السُّعُودِ فِي الْمَعْرُوضَاتِ إنَّ كَوْنَهُ كَذَلِكَ مَعْرُوفٌ وَجُمْهُورُ الْمَشَايِخِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالشَّرِيفِ الْعَلَّامَةِ وَالسُّيُوطِيِّ وَابْنِ الْكَمَالِ وَأَبِي السُّعُودِ نَزَّهُوهُ عَنْ الْكُفْرِ وَحَكَمُوا بِفَضْلِهِ بَلْ بِوِلَايَتِهِ وَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ الْكُفْرُ، وَقَالَ بَعْضٌ لَا يُمْكِنُ تَوْفِيقُ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا افْتِرَاءٌ وَإِلْحَاقٌ مِنْ الْغَيْرِ كَمَا يَشْهَدُهُ تَوَاتُرُ حُسْنِ حَالِهِ وَشُهْرَةُ عُلُوِّ شَأْنِهِ وَيَشْهَدُهُ أَيْضًا مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ سَائِرِ كُتُبِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا مِنْ حَضْرَةِ الشَّيْخِ وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ صَالِحٌ صَفِيٌّ وَالنَّظَرُ إلَى كُتُبِهِ مَمْنُوعٌ وَقَعَ فِيهِ نَهْيٌ سُلْطَانِيٌّ فَلْيُعْتَقَدْ بِحُسْنِهِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى كُتُبِهِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي فَتَاوَى أَبِي السُّعُودِ وَرِسَالَةِ ابْنِ الْكَمَالِ وَرِسَالَةِ السُّيُوطِيّ (فَقُلْ) فِي دَفْعِ ذَلِكَ (إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَذَلَهُمَا) تَرَكَ عَوْنَهُ وَنُصْرَتَهُ لَهُمَا (وَأَضَلَّهُمَا) خَلَقَ فِيهِمَا الضَّلَالَةَ (فَوَقَعَا فِيمَا وَقَعَا) مِنْ دَعْوَى الْأُلُوهِيَّةِ وَتَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ لِلِاسْتِكْبَارِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَارَا مَا صَارَا يَرُدُّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي إضْلَالِهِ تَعَالَى مَدْخَلٌ مِنْهُمَا كَصَرْفِ إرَادَتِهِمَا الْجُزْئِيَّةِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ أَهْلِ الْحَقِّ فَلَا يَحْسِمُ الْجَوَابُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ الْجَبْرُ مَا وَقَعَ فِي دِيبَاجَةِ اللَّامِيَّةِ الشَّاطِبِيَّةِ
يُعَدُّ جَمِيعُ النَّاسِ مَوْلًى لِأَنَّهُمْ
…
عَلَى مَا قَضَاهُ اللَّهُ يُجْرُونَ أَفْعُلَا
وَمَا أَوْضَحَهُ شَارِحُهَا الْجَعْبَرِيُّ أَيْ يَعْتَقِدُ الْمُجْتَبِي كُلَّ النَّاسِ سَادَاتٍ تَوَاضُعًا مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يُحَقِّرُ أَحَدًا طَائِعًا كَانَ أَوْ عَاصِيًا وَتَعْلِيلُهُ يَرْجِعُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُهُمْ عَبِيدًا لِلَّهِ مَسْلُوبِي الِاخْتِيَارِ وَالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَتَقَعُ أَفْعَالُهُمْ عَلَى مَا حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَزَلِ وَعَلَيْهِ دَلَّتْ النُّصُوصُ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يَقْطَعَ النَّظَرَ عَنْ خَيْرِهِ وَضُرِّهِ وَمَنْ نَظَرَ الْمُحْدَثَاتِ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ لَمْ يَبْقَ فِي الْوُجُودِ إلَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ وَهَذَا مَقَامُ التَّوْحِيدِ فَلَا يُدْفَعُ ذَلِكَ بَلْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ بِعِنْوَانِ الدَّقِيقَةِ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ لِلْجَبْرِيَّةِ لِتَعَلُّقِ الثَّوَابِ بِالِامْتِثَالِ وَالْعِقَابِ بِالْمُخَالَفَةِ فَلَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إنَّمَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَى الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَعَلَى مَا ذُكِرَ الِامْتِثَالُ وَالْمُخَالَفَةُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، وَالْقَوْلُ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَقَطْ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَلَوْ سُلِّمَ نَفْعُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّاطِبِيِّ وَالْجَعْبَرِيِّ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ نَفْعِهِ لِلْمُصَنِّفِ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِتَأْثِيرِ مَجْمُوعِ الْقُدْرَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ لَكِنَّ أَصْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ فَعَلَ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ صَادِرًا بَعْدَ صَرْفِهِ عَادَةً، لَكِنْ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ عَلَى خَرْقِ عَادَةٍ فَعَدَمُ خَلْقِ التَّخَلُّفِ بَعْدَ الصَّرْفِ يَجْعَلُ الْفِعْلَ كَالصَّادِرِ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَإِنَّ نِسْبَةَ الْخِذْلَانِ وَالْإِضْلَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ مِنْ قَبِيلِ التَّغْلِيبِ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ إرَادَتِهِ لَفْظًا فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابِ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَعْنًى وَلَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ الْإِشْكَالِ أَنَّ الْكِبْرَ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْعَبْدُ بِوَجْهِهِ وَأَمَّا جَوَازُ التَّكَبُّرِ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ فَلَعَلَّ الْكِبْرَ فِيهِ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ (وَوَفَّقَنِي وَهَدَانِي لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ) يَعْنِي مَا صَدَرَ مِنِّي مِنْ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ بِمَحْضِ عِنَايَتِهِ فَالْكَلَامُ كَالْكَلَامِ (فَلَوْ عَكَسَ) بِأَنْ خَذَلَنِي وَوَفَّقَهُمَا (لَعُكِسَ) لَكُنْت فِي خِذْلَانٍ وَكَانَا فِي هِدَايَةٍ (وَلَيْسَ اجْتِنَابُ نَفْسِي مِمَّا فَعَلَاهُ) فِرْعَوْنُ وَإِبْلِيسُ (مِنْ ذَاتِهَا) مِنْ ذَاتِ نَفْسِي أَصْلًا كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ أَوْ فَقَطْ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا كَمَا أُشِيرَ (بَلْ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى) وَتَوْفِيقِهِ (وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي مِنْ الْخَبَائِثِ الْكَثِيرَةِ وَالْعُيُوبِ الْعَظِيمَةِ مَا لَا أَعْلَمُ مِنْهُمَا) أَيْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ (وَالْمَعْلُومُ أَدْنَى مِنْ الشُّكُوكِ وَالْمَجْهُولِ) أَقُولُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ سُلِّمَ مَعْلُومِيَّةُ الْخَبَائِثِ الْكَثِيرَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَجْهُولِيَّتُهَا فِيهِمَا لَكِنْ أَيْضًا مَعْلُومٌ عَدَمُ أَخْبَثِ الْخَبَائِثِ أَعْنِي الْكُفْرَ وَوُجُودُ أَشْرَفِ الْفَضَائِلِ أَعْنِي الْإِيمَانَ فِي نَفْسِهِ وَعَدَمُ هَذَا الْأَشْرَفِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْأَخْبَثِ فِيهِمَا فَكَيْفَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ
دُونًا مِنْهُمَا وَقَدْ كَانَ التَّرْجِيحُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْكَثْرَةِ (وَلَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَمُوتُ) بِالْإِيمَانِ أَوْ الْكُفْرِ الْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ فِي غَيْرِ الْمَعْصُومِينَ وَلِهَذَا كَانَ الْأَمْنُ كُفْرًا (وَيُحْتَمَلُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَمُوتَ عَلَى الْكُفْرِ) بِخِذْلَانِهِ تَعَالَى (فَأُشَارِكَهُمَا فِي الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ) وَيَرِدُ أَيْضًا أَنَّ عَاقِبَتِي مَشْكُوكَةٌ وَأَنَّ عَاقِبَتَهُمَا مَجْزُومَةٌ، وَالْمَجْزُومَةُ أَدْنَى مِنْ الْمَشْكُوكَةِ وَأَنَّ غَايَتَهُ الْمُسَاوَاةُ وَالْكَلَامُ فِي الْأَدْنَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْعَذَابِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ إذْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ خِفَّةُ عَذَابِ الْمُؤْمِنِ طُولَ عُمُرِهِ وَالْكَافِرُ فِي خَاتِمَةِ حَالِهِ، فَالْجَوَابُ الْحَقُّ هُوَ الْجَوَابُ الْحَقُّ فَالْحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَحَقُّ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقَامَ خَطَابِيٌّ، بَلْ شِعْرِيٌّ يَقْنَعُ بِالظَّنِّ وَدَعْوَى وُجُودِ الظَّنِّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ وَاهٍ أَيْضًا (وَلْنَذْكُرْ) أَوْرَدَ عَلَى مِثْلِهِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ شَخْصٍ وَاحِدٍ آمِرًا وَمَأْمُورًا وَيُجَابُ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ يُجَرِّدُ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا وَيَتَخَاطَبُ مَعَهُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ اعْلَمْ وَيُمْكِنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ الْكُفَّارِ - {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] .
- (مَا وَرَدَ فِي فَضَائِلِ التَّوَاضُعِ) أَيْ بَعْضِهَا أَوْ جَمِيعِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَوَفَّقَهُ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عِيَاضٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ أَوْصَى» وَحْيُ إرْسَالٍ وَهُوَ الْأَصْلُ وَزَعْمُ أَنَّهُ وَحْيُ إلْهَامٍ خِلَافَ الْأَصْلِ بِلَا دَلِيلٍ. وَالْوَحْيُ إعْلَامٌ فِي الْخَفَاءِ «أَنْ» بِأَنْ «تَوَاضَعُوا» بِخَفْضِ جَنَاحٍ وَلِينِ الْجَانِبِ وَأَنْ مُفَسِّرَةٌ «حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ» مِنْكُمْ «عَلَى أَحَدٍ» بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِهِ كِبْرًا وَرَفْعِ قَدْرِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ تِيهًا وَعُجْبًا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ التَّوَاضُعُ انْكِسَارُ الْقَلْبِ لِلَّهِ وَخَفْضُ جَنَاحِ الذُّلِّ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ حَتَّى لَا يَرَى لَهُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا وَلَا يَرَى لَهُ عِنْدَ أَحَدٍ حَقًّا وَالْفَخْرُ ادِّعَاءُ الْعَظِيمِ قَالَ الطِّيبِيُّ وَحَتَّى هُنَا بِمَعْنَى كَيْ «وَلَا يَبْغِيَ» بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى تَوَاضَعُوا أَيْ لَا يَجُورُ وَلَا يَتَعَدَّى «أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» وَلَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهَدًا أَوْ مُؤَمَّنًا مِنْ الْأَمَانِ وَالْبَغْيُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ.
قَالَ الْجَدُّ بْنُ تَيْمِيَّةَ نَهَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَنْ نَوْعَيْ الِاسْتِطَالَةِ لِلْخَلْقِ الْفَخْرِ وَالْبَغْيِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَالَةَ إنْ بِحَقٍّ فَافْتِخَارٌ وَإِنْ بِغَيْرِهِ فَبَغْيٌ فَلَا يَحِلُّ هَذَا وَلَا ذَاكَ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَائِفَةٍ فَاضِلَةٍ كَبَنِي هَاشِمٍ فَلَا يُفَضِّلُ نَفْسَهُ فَإِنَّ فَضْلَ الْجِنْسِ لَا يَسْتَلْزِمُ فَضْلَ الشَّخْصِ فَرُبَّ حَبَشِيٍّ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُمْهُورِ قُرَيْشٍ وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ لِلشَّيْخِ التَّوَاضُعُ مَعَ طَلَبَتِهِ - {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]- وَإِذَا طَلَبَ التَّوَاضُعَ لِمُطْلَقِ النَّاسِ فَكَيْفَ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الصُّحْبَةِ وَحُرْمَةُ التَّوَدُّدِ وَصِدْقُ الْمَحَبَّةِ، لَكِنْ لَا يَتَوَاضَعُ مَعَهُمْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ دُونَهُ.
قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ مَنْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ تَوَاضُعًا فَهُوَ الْمُتَكَبِّرُ حَقًّا فَالتَّوَاضُعُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ رِفْعَةٍ مَعَ عَظَمَةٍ وَاقْتِدَارٍ لَيْسَ الْمُتَوَاضِعُ الَّذِي إذَا تَوَاضَعَ رَأَى أَنَّهُ فَوْقَ مَا صَنَعَ، بَلْ الَّذِي إذَا صَنَعَ رَأَى أَنَّهُ دُونَ مَا صَنَعَ انْتَهَى، كَذَا فِي الْفَيْضِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ) مِنْ حَدِيثِ نُصَيْحٍ الْعَنْسِيِّ عَنْ الذَّهَبِيِّ رَكْبٌ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَلَمْ تَصِحَّ صُحْبَتُهُ وَنَصِيحٌ ضَعِيفٌ وَعَنْ الْإِصَابَةِ هَذَا حَدِيثٌ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ أَقُولُ لَا يَضُرُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً وَقَدْ قَالُوا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ فِي الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَعَنْ الْقَامُوسِ رَكْبٌ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ غَايَتُهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَمُنْقَطِعٌ.
(أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ» قِيلَ أَيْ فِي حَالِ الِاتِّصَافِ بِالْكَمَالِ وَإِلَّا فَالتَّوَاضُعُ فِي النَّقِيصَةِ نَقِيصَةٌ قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِأَنْ لَا يَضَعَ نَفْسَهُ بِمَكَانٍ يُزْرِي بِهِ وَيُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ حَقِّ الْحَقِّ وَالْخَلْقِ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِالتَّوَاضُعِ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْخَوَّاصُ إيَّاكَ وَالْإِكْثَارَ مِنْ ذِكْرِ نَقَائِصِك؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَقِلُّ شُكْرُك فَمَا رَبِحْته مِنْ جِهَةِ
نَظَرِك إلَى عُيُوبِك خَسِرْته مِنْ جِهَةِ تَعَامِيك مِنْ مَحَاسِنِك الَّتِي أَوْدَعَهَا الْحَقُّ. وَقَالَ شُهُودُ الْمَحَاسِنِ هُوَ الْأَصْلُ وَأَمَّا نُقْصَانُك فَإِنَّمَا طَلَبُ النَّظَرِ إلَيْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الْعُجْبِ. وَقَالَ إذَا أَغْضَبَك أَحَدٌ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا تَبْدَأْهُ بِالصُّلْحِ؛ لِأَنَّك تُذِلُّ نَفْسَك فِي غَيْرِ مَحِلِّ وَتُكَبِّرُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الْإِفْرَاطُ فِي التَّوَاضُعِ يُورِثُ الْمَذَلَّةَ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمُؤَانَسَةِ يُورِثُ الْمَهَانَةَ.
قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ الْخُضُوعُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ الْأَوْلَى فِيهِ ظُهُورُ عِزَّةِ الْإِيمَانِ وَجَبَرُوتِهِ لِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ وَعَظَمَتِهِ وَأَنْ يَظْهَرَ فِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْجَبَرُوتِ مَا يُنَاقِضُ الْخُضُوعَ وَالذِّلَّةَ، فَالْأَوْلَى إظْهَارُ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الْآيَةَ، وَقَالَ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] فَهَذَا مِنْ بَابِ إظْهَارِ عِزَّةِ الْإِيمَانِ لِعِزَّةِ الْمُؤْمِنِ فَإِذَا عَلِمْت أَنَّ لِلْمَوَاطِنِ أَحْكَامًا فَافْعَلْ بِمُقْتَضَاهَا تَكُنْ حَكِيمًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْمَهَانَةِ، أَنَّ التَّوَاضُعَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَجَلَالَةِ نُعُوتِهِ، وَالْمَهَانَةَ الدَّنَاءَةُ وَالْخِسَّةُ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَابْتِذَالُهَا فِي نَيْلِ حُظُوظِهَا كَتَوَاضُعِ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالضَّعَةِ أَنَّ التَّوَاضُعَ رِضَا الْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَا تَسْتَحِقُّهُ مَنْزِلَتُهُ، وَالضَّعَةَ وَضْعُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي مَكَان يُزْرِي بِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْخُشُوعِ أَنَّ التَّوَاضُعَ يُعْتَبَرُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَالْخُشُوعَ بِاعْتِبَارِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ إذَا تَوَاضَعَ الْقَلْبُ خَشَعَتْ الْجَوَارِحُ وَالْكِبْرُ ظَنُّ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكَبُّرُ إظْهَارُ ذَلِكَ وَهَذِهِ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَالتَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَبَّرَ عَلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَبَّهَ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا تَكَبَّرَ عَلَى مُتَكَبِّرٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ التَّجَبُّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ «وَأَذَلَّ نَفْسَهُ» وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمَوْجُودُ فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي نُسَخِ الْكِتَابِ «ذَلَّ» أَيْ اعْتَقَدَ ذُلَّ نَفْسِهِ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِهِ مَعَ وُجُودِ التَّوَاضُعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّذَلُّلَ حَرَامٌ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ «مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ» مِنْ النَّاسِ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذُلَّ فَوْقَ السُّؤَالِ
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ» .
قَالَ الْغَزَالِيُّ تَشَبَّثَتْ بِهِ طَائِفَةٌ فَقَلَّمَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمْ عَنْ التَّكَبُّرِ عَلَى الْأَمْثَالِ وَالتَّرَفُّعِ إلَى فَوْقِ قَدْرِهِ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَتَقَاتَلُونَ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي الِارْتِفَاعِ وَالْقُرْبِ مِنْ وِسَادَةِ الصَّدْرِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الدُّخُولِ مُعَلِّلِينَ بِصِيَانَةِ الْعِلْمِ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَإِذْلَالُ النَّفْسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْمُؤْمِنُ فَيُعَبِّرُونَ عَنْ التَّوَاضُعِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَعَنْ الْكِبْرِ الْمَمْقُوتِ عِنْدَ اللَّهِ بِعِزَّةِ الدِّينِ تَحْرِيفًا لِلِاسْمِ وَإِضْلَالًا لِلْخَلْقِ.
(فَائِدَةٌ) رَوَى الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى عُمَرَ وَقَدْ تَخَشَّعَ وَتَذَلَّلَ وَبَالَغَ فِي الْخُضُوعِ، فَقَالَ عُمَرُ أَلَسْت مُسْلِمًا، قَالَ بَلَى قَالَ فَارْفَعْ رَأْسَك وَامْدُدْ عُنُقَك فَإِنَّ الْإِسْلَامَ عَزِيزٌ مَنِيعٌ، كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ «وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ» بَلْ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ أُشِيرَ بِمِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ إلَى تَرْكِ الصَّدَقَةِ بِكُلِّ الْمَالِ «وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ» أَيْ الَّذِي بِمُخَالَطَتِهِمْ تَحْيَا الْقُلُوبُ «وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ» لِنَحْوِ الْفَقْرِ «وَالْمَسْكَنَةِ» أَيْ عَطَفَ عَلَيْهِمْ وَرَقَّ لَهُمْ وَوَاسَاهُمْ بِمَقْدُورِهِ «طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَعَ قَبْلَ هَذَا «طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ نَفْسَهُ»
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ رَأَى ذُلَّهَا وَعَجْزَهَا فَلَمْ يَتَكَبَّرْ وَتَذَلَّلَ لِحُقُوقِ الْحَقِّ وَتَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ رُوِيَ أَنَّ الْفَارُوقَ حَمَلَ حَالَ خِلَافَتِهِ قِرْبَةً إلَى بَيْتِ امْرَأَةٍ أَرْمَلَةَ أَنْصَارِيَّةٍ وَمَرَّ بِهَا فِي الْمَجَامِعِ «وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ» بِصِفَاتِ التَّوْحِيدِ وَالثِّقَةِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخَوْفِ مِنْهُ أَوْ الرَّجَاءِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ وَالْمَحَبَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ «وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ» أَيْ ظَهَرَتْ أَنْوَارُ سَرِيرَتِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ فَكَرُمَتْ أَفْعَالُهَا بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَكَارِمِ أَخْلَاقِ الدِّينِ بِالصِّدْقِ وَالْبِرِّ وَبِمُرَاعَاةِ الْحُقُوقِ «وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ» فَلَمْ يُؤْذِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ لِرَاهِبٍ عِظْنِي، فَقَالَ إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَك وَبَيْنَ النَّاسِ سُوَرًا مِنْ حَدِيدٍ فَافْعَلْ، وَقِيلَ لِسُقْرَاطَ لِمَ لَا تُعَاشِرُ النَّاسَ فَقَالَ وَجَدْت الْخَلْوَةَ أَجْمَعَ لِدَوَاعِي السَّلْوَةِ «طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ» لِئَلَّا يَكُونَ عِلْمُهُ وِزْرًا وَوَبَالًا عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ زُهْدًا فَإِنَّمَا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بُعْدًا» «وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ» عَنْ حَوَائِجِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ
«مِنْ مَالِهِ» فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ لِئَلَّا يَطْغَى وَيَسْكُنَ قَلْبُهُ إلَيْهِ وَيَحْظَى بِثَوَابِهِ فِي الْعُقْبَى «وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ» مِمَّا يَزِيدُ عَلَى الْحَاجَةِ بِأَنْ تَرَكَ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ مَنْ شُغِلَ بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنْ النَّاسِ وَمَنْ شُغِلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ قَالَ الْغَزَالِيُّ التَّوَاضُعُ عَامِّيٌّ وَخَاصِّيٌّ فَالْعَامِّيُّ اكْتِفَاءٌ بِالدُّونِ مِنْ نَحْوِ مَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَالْخَاصِّيُّ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ مِنْ وَضِيعٍ أَوْ شَرِيفٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ.
(حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ تَعَالَى» لِأَجْلِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَوَاضُعًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لِلنَّاسِ مَعَ اعْتِقَادِ عَظَمَةٍ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِتَوَاضُعٍ حَقِيقِيٍّ، بَلْ هُوَ بِالتَّكَبُّرِ أَشْبَهُ «دَرَجَةً» قَلِيلَةً «يَرْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى دَرَجَةً» عَظِيمَةً أَوْ كَثِيرَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ أَيْ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى وَفِي إخْرَاجِ أَبِي نُعَيْمٍ أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قَالَ لَا يَا رَبِّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاضَعْ إلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ مِثْلَ تَوَاضُعِك وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ تَفْسِيرِ الرِّفْعَةِ هُنَا بِأَنْ يُصَيِّرَهُ فِي نَفْسِهِ صَغِيرًا وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَبِيرًا وَقِيلَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ حَيْثُ يَضَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ تَحْتَ أَوَامِرِهِ سبحانه وتعالى بِالِامْتِثَالِ وَزَوَاجِرِهِ بِالِانْزِجَارِ وَأَحْكَامِهِ بِالتَّسْلِيمِ لِلْأَقْدَارِ لِيَكُونَ عَبْدًا فِي كُلِّ حَالٍ فَيَرْفَعَهُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَلْبَتَّةَ وَالْمُكَلَّفُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ وَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ فَإِنَّ الرِّفْعَةَ بِقَدْرِ النُّزُولِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَسْفَلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا، قَالَ فِي الْحِكَمِ مَا طُلِبَ لَك شَيْءٌ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ وَلَا أَسْرَعَ بِالْمَوَاهِبِ إلَيْك مِثْلُ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ كَمَا فِي الْفَيْضِ وَفِي شَرْحِ الْحَكَمِ عَنْ الشِّبْلِيِّ مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً فَلَيْسَ لَهُ مِنْ التَّوَاضُعِ نَصِيبٌ وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ مَا دَامَ الْعَبْدُ يَرَى أَنَّ فِي الْخَلْقِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ فَمُتَكَبِّرٌ قِيلَ فَمَتَى يَكُونُ مُتَوَاضِعًا قَالَ إذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ مَقَامًا وَلَا حَالًا وَتَوَاضَعَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ «حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ» يَعْنِي كُلَّمَا ازْدَادَ التَّوَاضُعُ ازْدَادَ بِحَسَبِهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي عِلِّيِّينَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ «وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دَرَجَةً» أَيْ عَلَى عِبَادِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ تَعَالَى كُفْرٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِمَنْ كَفَرَ «يَضَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ» قِيلَ فِيهِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ لِتَأْكِيدِ مَنْطُوقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ، وَقِيلَ فِيهِ مُقَابَلَةٌ فِي مَوْضِعَيْنِ فَتَأَمَّلْ
. (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْرِ عَلَى مُوجِبِ أُخُوَّتِهِ وَعَلَى مُقْتَضَى إسْلَامِهِ لَيْسَ لَهُ تَوَاضُعٌ؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْفَاسِقِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ التَّكَبُّرُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالتَّوَاضُعُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ التَّوَاضُعِ كَمَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ إخْرَاجٌ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت التَّوَاضُعَ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَنَحْوِهِمَا فَيُفْهَمُ غَيْرُهُ إمَّا بِالدَّلَالَةِ أَوْ بِالْمُقَايَسَةِ فَافْهَمْ «رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» لِأَنَّهُ تَعَالَى غَيُورٌ فَيُجَازِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ قَالَ
فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْلِفُ الْبَعِيرَ وَيَقُمُّ الْبَيْتَ وَيَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرْقِعُ الثَّوْبَ وَيَحْلُبُ الشَّاةَ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَطْحَنُ مَعَهُ إذَا عَيِيَ وَكَانَ لَا يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يَحْمِلَ بِضَاعَتَهُ مِنْ السُّوقِ إلَى أَهْلِهِ وَكَانَ يُصَافِحُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَيُسَلِّمُ مُبْتَدِئًا وَلَا يُحَقِّرُ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَلَوْ إلَى حَشَفِ التَّمْرِ، وَكَانَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ لَيِّنَ الْخُلُقِ كَرِيمَ الطَّبِيعَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا مِنْ غَيْرِ ضَحِكٍ مَحْزُونًا مِنْ غَيْرِ عُبُوسَةٍ مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ مَذَلَّةٍ جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَمْ يَتَجَشَّأْ قَطُّ مِنْ شِبَعٍ وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى طَمَعٍ» .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام شَمَخَتْ الْجِبَالُ وَتَوَاضَعَ الْجُودِيُّ فَجَعَلَهُ اللَّهُ قَرَارًا لِسَفِينَةِ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام، وَقَالَ الْفُضَيْلُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْجِبَالِ إنِّي مُكَلِّمٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْكُمْ نَبِيًّا فَتَطَاوَلَتْ الْجِبَالُ وَتَوَاضَعَ طُورُ سَيْنَاءَ فَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عَلَيْهِ لِتَوَاضُعِهِ وَعَنْ ابْنِ شَيْبَانَ الشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ وَالْعِزُّ فِي التَّقْوَى وَالْحُرِّيَّةُ فِي الْقَنَاعَةِ
وَعَنْ الثَّوْرِيِّ أَعَزُّ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ عَالِمٌ زَاهِدٌ وَفَقِيهٌ صُوفِيٌّ وَغَنِيٌّ مُتَوَاضِعٌ وَفَقِيرٌ شَاكِرٌ وَشَرِيفٌ سُنِّيٌّ، وَقِيلَ رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ مَهْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، فَقَالَ زَيْدٌ أَرِنِي يَدَك فَأَخْرَجَهَا فَقَبَّلَهَا وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عُرْوَةُ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَنْبَغِي لَك هَذَا، فَقَالَ لَمَّا أَتَانِي الْوُفُودُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ دَخَلَتْ نَفْسِي نَخْوَةٌ فَأَحْبَبْت أَنْ أَكْسِرَهَا وَمَضَى بِالْقِرْبَةِ إلَى حُجْرَةِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَفْرَغَهَا فِي إنَائِهَا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ ابْنًا لَهُ اشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي بِعْ الْخَاتَمَ وَأَشْبِعْ أَلْفَ بَطْنٍ وَاتَّخِذْ خَاتَمًا مِنْ دِرْهَمَيْنِ وَاجْعَلْ فَصَّهُ حَدِيدًا صِينِيًّا وَاكْتُبْ عَلَيْهِ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مَا سُرِرْت فِي إسْلَامِي إلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَرَّةً كُنْت فِي سَفِينَةٍ وَفِيهَا رَجُلٌ مِضْحَاكٌ كَانَ يَقُولُ كُنَّا نَأْخُذُ بِشَعْرِ الْعِلْجِ فِي بِلَادِ التُّرْكِ هَكَذَا وَيَأْخُذُ شَعْرَ رَأْسِي وَيَهُزُّنِي وَأُخْرَى كُنْت عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ وَقَالَ اُخْرُجْ فَلَمْ أُطِقْ فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ وَأُخْرَى كُنْت بِالشَّامِ وَعَلَيَّ فَرْوٌ فَلَمْ يُمَيَّزْ بَيْنَ شَعْرِهِ وَبَيْنَ الْقَمْلِ لِكَثْرَتِهِ فَسَرَّنِي ذَلِكَ، وَمَرَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - بِصِبْيَانٍ مَعَهُمْ كِسَرُ خُبْزٍ فَاسْتَضَافُوهُ فَنَزَلَ وَأَكَلَ مَعَهُمْ ثُمَّ حَمَلَهُمْ إلَى مَنْزِلِهِ وَأَطْعَمَهُمْ وَكَسَاهُمْ وَقَالَ الْيَدُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ مَا طَعَّمُونِي وَنَحْنُ نَجِدُ أَكْثَرَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ عُصَارَةُ مَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَقَدْ انْصَرَفْت مِنْ عَرَفَاتٍ لَمْ أَشُكَّ فِي الرَّحْمَةِ لَوْلَا أَنِّي كُنْت فِيهِمْ وَقِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ اُدْعُ اللَّهَ لَنَا فَبَكَى، وَقَالَ لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ أَنَا سَبَبُ هَلَاكِكُمْ وَمِنْ عَلَامَاتِ تَحْقِيقِ هَذَا الْخُلُقِ أَنْ لَا يَغْضَبَ إذَا عِيبَ أَوْ نُقِصَ وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يُذَمَّ وَيُقْذَفَ بِالْكَبَائِرِ وَيُحْكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ أُسْتَاذِ الْجُنَيْدِ أَنَّ رَجُلًا دَعَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إلَى طَعَامٍ ثُمَّ يَرُدُّهُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ دَارِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ قَدْ رَضِيت عَلَى الذُّلِّ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى صِرْت بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ يُطْرَدُ فَيَنْظُرُ ثُمَّ يُدْعَى فَيَعُودُ وَيُرْمَى لَهُ عَظْمٌ فَيُجِيبُ وَلَوْ رَدَدْتنِي خَمْسِينَ مَرَّةً ثُمَّ دَعَوْتنِي بَعْدَ ذَلِكَ لَأَجَبْتُك عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْحَكَمِ.
(وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَاضُعِ السُّخْرِيَةَ وَالنِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ وَالطَّمَعَ) لِمَا فِي يَدِ مَنْ تَوَاضَعَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَالْمَنْصِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَالْخَوْفِ) مِمَّنْ تَوَاضَعَ لَهُ (فَيَكُونُ) أَيْ التَّوَاضُعُ (رَذِيلَةً) أَيْ ذَمِيمَةً