المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الأمل وهو العاشر من آفات القلب] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٢

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّقْوَى] [

- ‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَة التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِير التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا التَّقْوَى]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَعَدَدهَا سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع]

- ‌[الْأَوَّلُ كُفْر جَهْلِيٌّ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ كُفْرٌ حُكْمِيٌّ]

- ‌[السَّادِسُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ]

- ‌[السَّابِع اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالْغَيْرِ]

- ‌[التَّاسِعُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ الرِّيَاء]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي آلَةُ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مَا قَصَدَهُ الْمُرَائِي بِرِيَائِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الْكِبْرُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ]

- ‌[الْكِبْرِ جَائِزٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ]

- ‌[التَّذَلُّلُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالثَّانِي مِنْ الْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ لِلْكِبْرِ الْعِبَادَةُ وَالْوَرَعُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكِبْرِ النَّسَبُ]

- ‌[وَالرَّابِعُ الْجَمَالُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ]

- ‌[وَالسَّادِسُ الْمَالُ وَالتَّلَذُّذُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[لَلتَّكَبُّرَ دُونَ الْكِبْرِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ أُخَرُ الْأَوَّلُ الْحِقْدُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لَلتَّكَبُّرُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْعُجْبُ]

- ‌[الْخُلُقُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ السِّتِّينَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْحَسَدُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْأَرْبَعَةِ فِي غَوَائِلِ الْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ لِلْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَسْبَابُ الْحَسَدِ سِتَّةٌ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَمِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ التَّطَيُّرُ]

- ‌[فَرْعٌ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ]

الفصل: ‌[الأمل وهو العاشر من آفات القلب]

(وَالْمَغْلُوبُ) فِيهِ التَّقَرُّبُ فَالْغَالِبُ غَيْرُ التَّقَرُّبِ (وَ) قَوْلُهُ (الْمُتَّصِلَةُ) بِأَوَّلِهِ احْتِرَازٌ (عَنْ الْأَمَلِ) مِنْ تَأَمُّلِ الطَّاعَةِ غَدًا (وَنَحْوِهِ) كَالتَّمَنِّي وَالْوَعْدِ (فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ جَزْمًا صَلَاةَ الظُّهْرِ غَدًا أَوْ نَحْوَهَا) مِنْ الصَّلَاةِ (فَآمِلٌ) أَيْ ذُو أَمَلٍ؛ لِأَنَّهُ رَاجٍ لَا نَاوٍ (وَإِنْ) أَرَادَ جَزْمًا (بِشَرْطِ الصَّلَاحِ) قِيلَ: بِأَنْ قَالَ إنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ خَيْرٌ لِي فَيَسِّرْهَا لِي وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: كَأَفْعَلُ كَذَا إنْ كُنْت صَالِحًا (وَالِاسْتِثْنَاءُ) كَأَصُومُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - (فَغَيْرُ آمِلٍ) بِوُجُودِ شَرْطِ الصَّلَاحِ وَالِاسْتِثْنَاءِ (وَغَيْرُ نَاوٍ أَيْضًا) لِفَقْدِ الِاتِّصَالِ فِيهَا فَلَا يَصْدُقُ التَّعْرِيفُ (حَتَّى لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْمُعْتَبَرِ فِيهِ النِّيَّةُ (بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ) لِعَدَمِ صِدْقِ النِّيَّةِ.

(وَكَذَا مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ) إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا اتِّصَالٌ حُكْمًا (وَ) قَوْلُهُ (أَوْ حُكْمًا لِيَدْخُلَ فِيهِ) أَيْ التَّعْرِيفِ، وَقِيلَ: فِي الْقَصْدِ (نِيَّةُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْعَزْلِ) فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ بِأَوَّلِهِ حَقِيقَةً (وَ) كَذَا (نِيَّةُ الصَّوْمِ بَعْدَ الْغُرُوبِ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ) الشَّرْعِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الِاتِّصَالُ الْأَوَّلُ حَقِيقَةً لِجَوَازِ تَقَدُّمِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَتَأَخُّرُهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ (فِي) أَدَاءِ (رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ) نَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ أَوْ الْغَدَ (وَالنَّفَلِ وَإِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) الثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ عَرْضًا لَا طُولًا (فِي غَيْرِهَا) مِنْ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالْكَفَّارَاتِ (وَ)(نِيَّةُ الصَّلَاةِ إلَى الرُّكُوعِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ عَلَى وَجْهٍ) وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى تَحْرِيرِ مُرَادِ زُفَرَ، وَلَوْ قَالَ إلَى الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ لَكَانَ أَوْلَى، لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ صَنِيعِ الْمُصَنِّفِ اعْتِبَارُ دُخُولِ ذَلِكَ تَحْتَ الْحُكْمِيِّ

وَفِي الْأَشْبَاهِ عَنْ الْجَوْهَرَةِ لَا يُعْتَبَرُ بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقِرَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، انْتَهَى، ثُمَّ إنَّهُ أُشِيرَ فِي الْأَشْبَاهِ إلَى الْإِشْكَالِ عَلَى التَّعْرِيفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْمَلُ التُّرُوكَ، فَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ جَامِعٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَعُمُّ فِعْلَ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ فَيَدْخُلُ الْكَفُّ، وَالْكَفُّ فِعْلُ النَّفْسِ فَإِنَّ الْفِعْلَ كَمَا يُنْسَبُ لِلْجَوَارِحِ يُنْسَبُ لِلنَّفْسِ فَإِنْ قِيلَ: لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ بَلْ هُوَ تَرْكُهُ وَتَرْكُ غَيْرِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ فِعْلُ النَّفْسِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]- كَمَا فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ وَأَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ حُكْمًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ مِنْ فَوَائِدِهِ تَعْرِيفٌ بِالْأَخْفَى لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ بِالنَّظَرِ إلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَإِنَّ فَهْمَ حَقِيقَتِهِ تَابِعٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْأَصْلُ فِي التَّعْرِيفِ كَوْنُ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ مَأْخُوذًا مِنْ التَّعْرِيفِ فَقَلْبُ الْمَعْقُولِ كَقَلْبِ الْمَشْرُوعِ.

[الْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

(وَالْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) مِنْ قَبِيلِ إعَادَةِ الْمُعَرَّفِ عَيْنَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذِكْرَهُ هُنَا بِمُجَرَّدِ مُنَاسَبَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَافْهَمْ، ثُمَّ الْأَمَلُ رَجَاءُ إدْرَاكِ الزَّمَنِ الْآتِي كَمَا يُفَادُ مِمَّا يَذْكُرُهُ (إرَادَةُ الْحَيَاةِ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ وَالْأَمَلُ فَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ (لِلْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي) الظَّاهِرُ إلَى الْوَقْتِ (بِالْحُكْمِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرَادَةِ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ بِالْحُكْمِ مَا لَا يَكُونُ بِاسْتِثْنَاءٍ وَلَا شَرْطِ صَلَاحٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا (أَعْنِي) بِهِ (بِلَا اسْتِثْنَاءٍ) نَحْوُ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَلَا شَرْطِ صَلَاحٍ) كَمَا مَرَّ آنِفًا فَالتَّغَيُّرُ بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ بِمِقْدَارِ الْعُمُرِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا لَا احْتِمَالَ لَهُ بِوَجْهٍ، يَعْنِي الْأَمَلَ بِشَرْطِ

ص: 115

إرَادَةِ اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْأَمَلُ مَذْمُومٌ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْلَاهُ مَا صَنَّفُوا، كَمَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ فَالْقَوْلُ إنِّي أَعِيشُ بَعْدَ نَفُسٍ ثَانٍ مَثَلًا بِلَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَلٌ، وَبِهِ إرَادَةُ الْحَيَاةِ إلَى الْوَقْتِ الثَّانِي لِكَسْبِ الصَّلَاحِ لَيْسَ بِأَمَلٍ أَيْضًا فَافْهَمْ.

(وَغَوَائِلُهُ) مَفَاسِدُهُ وَمُهْلِكَاتُهُ (أَرْبَعَةٌ) الْأَوْلَى أَرْبَعٌ: الْأَوَّلُ (الْكَسَلُ) أَيْ تَرْكُ الْعَمَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (فِي الطَّاعَةِ) بِالتَّثْقِيلِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالتَّقَاعُدِ عَنْ السُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَالتَّكَرُّهِ فِي اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ (وَتَأْخِيرِهَا) لِأَمَلِ إدْرَاكِ زَمَنٍ يُوقِعُهَا فِيهِ بَعْدُ، فَتَخْرُجُ عَنْ وَقْتِهَا الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ مِنْ التَّأْخِيرِ التَّرْكُ بِتَسْوِيفِ الْقَضَاءِ فَيَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَطْفِ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ؛ إذْ التَّأْخِيرُ مُتَسَبِّبٌ عَنْ الْكَسَلِ وَحُرْمَةُ الدَّاعِي إلَى الشَّيْءِ كَحُرْمَةِ نَفْسِ الشَّيْءِ، وَلَا يَخْفَى رُتْبَةُ مُضِرَّاتِ الْكَسَلِ فِي الْعِبَادَاتِ بِالتَّأْخِيرِ أَوْ التَّرْكِ.

(وَ) الثَّانِي (تَسْوِيفُ التَّوْبَةِ) تَأْخِيرُهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَخِّرُهَا عَلَى رَجَاءِ إدْرَاكِ الْوَقْتِ الْمُتَرَاخِي فِي اعْتِقَادِهِ بِأَنْ يَقُولَ سَوْفَ أَتُوبُ وَفِي أَيَّامِنَا سَعَةٌ وَأَنَا شَابٌّ وَأَنَا قَادِرٌ عَلَيْهَا مَتَى أَرَدْت (وَتَرْكُهَا) أَيْ التَّوْبَةِ رَأْسًا وَضَرَرُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا تَرَى وَقَدْ رُوِيَ «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» .

(وَ) الثَّالِثُ (قَسْوَةُ الْقَلْبِ) بِأَنْ لَا يَتَأَثَّرَ بِالْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ (بِعَدَمِ ذِكْرِ الْمَوْتِ) وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» ، الْحَدِيثَ. قَالَ فِي شَرْحِهِ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَسْكَرِيِّ: لَوْ فَكَّرَ الْبُلَغَاءُ فِي قَوْلِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَعَلِمُوا أَنَّهُ أَتَى بِهَذَا الْقَلِيلِ عَلَى كُلِّ مَا قِيلَ فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ وَوُصِفَ بِهِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ وَلِهَذَا كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمَوْتُ يَقْطُرُ جِلْدُهُ

وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ ذِكْرُ الْمَوْتِ بَيْتًا إلَّا رَضِيَ أَهْلُهُ بِمَا قُسِمَ لَهُمْ وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ حُبِّبَ إلَيْهِ كُلُّ بَاقٍ وَبُغِّضَ إلَيْهِ كُلُّ فَانٍ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: لِأَنَّ نُورَ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ وَظُلْمَةَ الشَّهْوَةِ فِي الصَّدْرِ فَإِذَا أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ بِقَلْبِهِ انْقَشَعَتْ الظُّلْمَةُ وَاسْتَنَارَ الصَّدْرُ بِنُورِ الْيَقِينِ.

(تَنْبِيهٌ)

أَخَذَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ:

مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَك حُجَّةٌ

لَوْ قَدْ أَتَاك مُنَغِّصُ اللَّذَّاتِ

مَاذَا تَقُولُ إذَا حَلَلْت مَحَلَّةً

لَيْسَ الثِّقَاتُ بِأَهْلِهَا بِثِقَاتِ

وَقَالَ الْآخَرُ

اُذْكُرْ الْمَوْتَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ

وَتَجَهَّزْ لِمَصْرَعٍ سَوْفَ يَاتِي

قَالَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ: نَعَمْ مَصْلَحَةُ الْقَلْبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، يَطْرُدُ فُضُولَ الْأَمَلِ، وَيَكُفُّ غَرَبَ التَّمَنِّي وَيُهَوِّنُ الْمَصَائِبَ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالطُّغْيَانِ وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: مَنْ ذَكَرَ الْمَنِيَّةَ نَسِيَ أُمْنِيَةً وَقَالَ التَّيْمِيُّ: شَيْئَانِ قَطَعَا عَنِّي لَذَّةَ النَّوْمِ: ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ فَيَتَذَاكَرُونَ الْمَوْتَ وَالْقِيَامَةَ فَيَبْكُونَ حَتَّى كَأَنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ جِنَازَةً.

وَكَانَ الثَّوْرِيُّ إذَا ذُكِرَ الْمَوْتُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَيَّامًا، فَإِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: لَا أَدْرِي لَا أَدْرِي، وَقَالَ اللَّفَّافُ: مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أُكْرِمَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ وَقَنَاعَةِ الْقَلْبِ وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ نَسِيَهُ عُوقِبَ بِثَلَاثٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ، فَتَفَكَّرْ يَا مَغْرُورُ فِي الْمَوْتِ وَسَكْرَتِهِ وَصُعُوبَةِ كَأْسِهِ وَمَرَارَتِهِ، فَيَا لِلْمَوْتِ مِنْ وَعْدٍ مَا أَصْدَقَهُ وَمِنْ حَاكِمٍ مَا أَعْدَلَهُ، فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفْزِعًا لِلْقُلُوبِ، وَمُبْكِيًا لِلْعُيُونِ، وَمُفَرِّقًا لِلْجَمَاعَاتِ وَهَاذِمًا لِلذَّاتِ، وَقَاطِعًا لِلْأُمْنِيَاتِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُنَاوِيِّ.

وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ أَنَّ الْبَهَائِمَ تَعْلَمُ مِنْ الْمَوْتِ مَا تَعْلَمُونَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينًا»

وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يُحْشَرُ مَعَ الشُّهَدَاءِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَنْ يَذْكُرُ الْمَوْتَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عِشْرِينَ مَرَّةً» . وَفِي ذِكْرِهِ الْمَوْتِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا تَبْغِيضُ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ حَسَنَةٍ كَمَا أَنَّ حُبَّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ

ص: 116

(وَمَا بَعْدَهُ) أَيْ مِنْ الْقَبْرِ وَالْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى - {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]- النَّصِيبُ الْكَفَنُ فَالْمَعْنَى لَا تَنْسَ أَنَّك تَتْرُكُ جَمِيعَ الدُّنْيَا إلَّا نَصِيبَك الَّذِي هُوَ الْكَفَنُ، وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ كُلِّ آدَمِيٍّ ثَلَثَمِائَةِ نَظْرَةٍ وَسِتًّا وَسِتِّينَ نَظْرَةً كَمَا فِي جَلَاءِ الْمُصَنِّفِ (وَالْحِرْصُ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالُ) الْإِعْرَاضُ (بِهَا) بِالدُّنْيَا (عَنْ) أَعْمَالِ (الْآخِرَةِ) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] إذْ الرَّجُلُ يُبْتَلَى بِسَبَبِهِمْ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، لَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: أَوْلَادُنَا فِتْنَةٌ إنْ عَاشُوا أَتْعَبُونَا وَإِنْ مَاتُوا أَحْرَقُونَا - {وَالْقَنَاطِيرِ} [آل عمران: 14]- فُسِّرَ بِالْمَالِ الْكَثِيرِ - {الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14]- الْمَضْرُوبَةِ الْمَنْقُوشَةِ - {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ} [آل عمران: 14]- هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ - {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]- قَلِيلَةٌ فَانِيَةٌ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ - {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]- لَا يَزُولُ وَلَا يَفْنَى وَهُوَ الْجَنَّةُ

قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ وَالدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا (فَلَا يَزَالُ الْآمِلُ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (يَشْتَغِلُ بِجَمْعِ الدُّنْيَا) لِرَجَاءِ طُولِ عُمُرِهِ (وَتَكْثِيرِهَا خَوْفًا مِنْ الشَّيْخُوخَةِ وَالْمَرَضِ) فَيَجْمَعُ الدُّنْيَا حَالَ شَبَابِهِ وَصِحَّتِهِ لِلِادِّخَارِ (وَنَحْوِهِمَا) مِنْ مَوَانِعِ الْكَسْبِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ الْآمِلِينَ تَفْصِيلٌ لَهُمْ لِلذَّمِّ (مَنْ يُهَيِّئُ) مَنْ يُعِدُّ وَيُحْضِرُ (كِفَايَةَ عَشْرِ سِنِينَ) لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ (وَمِنْهُمْ) مَنْ يَدَّخِرُ كِفَايَةَ (خَمْسِينَ سَنَةً وَمِنْهُمْ أَكْثَرَ) مِنْ ذَلِكَ (وَمِنْهُمْ أَقَلَّ) التَّفَاوُتُ إمَّا لِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ أَوْ سِنِّ الْآمِلِينَ أَوْ عَلَى قَدْرِ ضَعْفِ تَوَكُّلِهِمْ وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالتَّوَكُّلُ لَازِمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النمل: 79]{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]- وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ قِيلَ لِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ: التَّوَكُّلُ رَدُّ الْعَيْشِ إلَى يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِسْقَاطُ هَمِّ غَدٍ وَعَنْ الشِّبْلِيِّ

ص: 117

شَكَا إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ كَثْرَةِ عِيَالِهِ، قَالَ: ارْجِعْ إلَى بَيْتِك فَمَنْ لَمْ يَكُنْ رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَاطْرُدْهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُتَوَكِّلُ مَنْ لَمْ يَدَّخِرْ لِغَدٍ وَلَمْ يَهْتَمَّ بِرِزْقٍ وَكَانَ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا عِنْدَهُ» (قَالَ مَشَايِخُ الصُّوفِيَّةِ) الَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْعَمَلَ بِالْأَقْوَى وَالْأَحْوَطِ وَالِاعْتِصَامَ بِعَزَائِمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَأْتُونَ الرُّخَصَ بِلَا ضَرُورَةٍ دُونَ الْغُلَاةِ مِنْهُمْ

(مَنْ أَعَدَّ) ادَّخَرَ (كِفَايَةَ سَنَةٍ لِعِيَالِهِ لَا يُلَامُ) مِنْ اللَّوْمِ (وَلَا يَخْرُجُ) بِهِ (مِنْ التَّوَكُّلِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ لِأَزْوَاجِهِ) رضي الله عنهن (قُوتَ سَنَةٍ) » قِيلَ وَلَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ يَأْتِيهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّائِلُ فَلَا يَجِدُ فِي بُيُوتِ أَهْلِهِ مَا يُطْعِمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّخِرُ لَهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَيَّارَةِ فِي يَدِهِ فَيَأْتِي مَنْ ذُكِرَ بَعْدَهَا فَلَا يَجِدُ شَيْئًا أَوْ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ذَلِكَ الِادِّخَارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ (فَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنَّهُ) أَيْ قُوتَ السَّنَةِ (مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ) الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا (لَا يُعْتَبَرُ فِي الْغِنَى) قِيلَ: حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ ذَلِكَ مِقْدَارَ النِّصَابِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُ زَكَاةِ الْغَيْرِ وَالنَّذْرُ وَالْوَصِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوعِ (وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى قُوتِ شَهْرٍ يُعْتَبَرُ فِي الْغِنَى) فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا: فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي رَجُلٌ اشْتَرَى طَعَامًا لِلْقُوتِ بِمِقْدَارِ مَا يَكْفِيهِ شَهْرًا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى لَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِحَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الشَّهْرِ لَا يُعْطَى لِأَنَّ الشَّهْرَ هُوَ الْوَسَطُ فِيمَا يَدَّخِرُ النَّاسُ لِأَنْفُسِهِمْ قُوتًا فَكَانَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ

وَفِي قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ والتتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ وَلَوْ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا فَفِيهِ كَلَامٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْغِنَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَكْفِيَ مَا وَرَاءَ النِّصَابِ لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ سَنَةً، انْتَهَى وَأَيْضًا فِي الْأَشْبَاهِ وَلَوْ لَهُ قُوتُ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا أَوْ كِسْوَةً شَتْوِيَّةً لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ فَالصَّحِيحُ حِلُّ الْأَخْذِ وَفِي التتارخانية أَيْضًا قُبَيْلَ مَا ذُكِرَ آنِفًا وَالْفَتْوَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْفَضْلُ عَلَى الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ، وَلِلدِّهْقَانِ يُعْتَبَرُ الْفَضْلُ فِي قُوتِ سَنَةٍ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَقَوْلُهُ الْأَصَحُّ كَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ وَلِادِّخَارِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام قُوتَ سَنَةٍ، وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ تَحَقُّقِ الْأَصَحِّ فِيمَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بَعِيدٌ، كَمَا أَنَّ الِادِّخَارَ بِقُوتِ سَنَةٍ لَا يَقْتَضِي مَا ذُكِرَ؛ إذْ عِنْدَ تَعَارُضِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَاَلَّذِي يَشْهَدُ لَهُ النَّصُّ يُرَجَّحُ عَلَى مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّك سَمِعْت ذِكْرَ الْأَصَحِّ مِنْ الْأَشْبَاهِ وَإِطْلَاقِ الْفَتْوَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ عِيَالٌ (وَأَمَّا مَنْ لَا عِيَالَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ قُوتَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْأَعْدَلُ فِي حَقِّهِ هُوَ هَذَا الْوَقْتُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحْصِلُ نَفَقَتَهُ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ وَأَمَّا الْكَثِيرُ إنْ لَمْ يَكُنْ نَفَقَتُهُ حَاضِرَةً فَاسْتِحْصَالُهَا مُحْتَاجٌ إلَى زَمَانٍ كَثِيرٍ.

(وَإِنْ ادَّخَرَ زَائِدًا عَلَيْهِ) عَلَى أَرْبَعِينَ (خَرَجَ مِنْ التَّوَكُّلِ) لِتَعَمُّقِهِ بِالْأَسْبَابِ، لَكِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، لَعَلَّ الثَّانِيَ مُنَاسِبٌ لِسِيَاقِ الْمُتَصَوِّفَةِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى الْفَتْوَى وَالثَّانِي عَلَى التَّقْوَى لَكِنْ سِيَاقُ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُهُ فَافْهَمْ (أَقُولُ مُرَادُهُمْ) الظَّاهِرُ: الْمُتَصَوِّفَةُ بِقَوْلِهِمْ خَرَجَ مِنْ التَّوَكُّلِ هُوَ (التَّوَكُّلُ الْكَامِلُ النَّفْلِ) لَعَلَّ ذَلِكَ كَمَالٌ إضَافِيٌّ وَإِلَّا فَالِاحْتِيَاجُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْ احْتَجْت بَصَلَةً لِمَا فَهِمْت مَسْأَلَةً وَفِي الْقُشَيْرِيِّ عَنْ الْخَوَّاصِ لَقِيَنِي الْخَضِرُ عليه الصلاة والسلام فَسَأَلَنِي الصُّحْبَةَ فَخَشِيت أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ تَوَكُّلِي بِسُكُونِي إلَيْهِ فَفَارَقْته وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنْ التَّوَكُّلِ؟ فَقَالَ: قَلْبٌ عَاشَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَاقَّةٍ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ (لَا أَصْلُ التَّوَكُّلِ الْفَرْضِ) بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] (لِمَا بَيَّنَّا فِي فَصْلِ

ص: 118

الْعِلْمِ) عِنْدَ بَيَانِ مُرَادِ الْعِمَادِيِّ بِقَوْلِهِ: مُرَادُهُ بِالتَّوَكُّلِ كَمَالُهُ؛ إذْ أَصْلُهُ فَرْضٌ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا خَالِقَ وَلَا مُؤَثِّرَ فِي شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ - تَعَالَى -

وَلَمَّا بَيَّنَ الْأَمَلَ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَشَرْطِ صَلَاحٍ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأَمَلَ بِهِمَا فَقَالَ (وَأَمَّا)(إرَادَةُ طُولِ الْحَيَاةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَشَرْطِ الصَّلَاحِ) نَحْوُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي» (لِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ) كَالتَّفْسِيرِ لِلصَّلَاحِ وَإِلَّا فَكَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (فَلَيْسَ بِأَمَلٍ مَذْمُومٍ) كَيْفَ وَالدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ وَالْمَقَامَاتُ الرَّفِيعَةُ فِي الْجَنَّةِ مَنُوطَةٌ عَلَى قَدْرِ الْعِبَادَةِ كَمَا رُوِيَ «اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِفَضْلِي وَاقْتَسِمُوهَا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِكُمْ» (بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ آنِفًا (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَأَبُو بَكْرَةَ بِالتَّاءِ كُنْيَةٌ لِنُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ غَلَبَ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَهِيَ أُمُّ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي اسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ أَخًا وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَوَالِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟» أَيْ أَكْثَرُ فَضِيلَةً عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَعْظَمُ مَقَامًا وَأَجْرًا «قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ» بِضَمِّ الْمِيمِ الْعُمُرُ امْتِدَادٌ وَهْمِيٌّ مِنْ مَبْدَأٍ مَوْهُومٍ إلَى مُنْتَهًى، كَذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيُفَسَّرُ بِالْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَتَصَوُّرِ الطُّولِ فِي الْعُمُرِ مَعَ أَنَّهُ وَهْمِيٌّ وَالطُّولُ يَقْتَضِي الْوُجُودَ، مُحَرَّرٌ عِنْدَ حَدِيثِ الصَّدَقَةِ تَرُدُّ الْبَلَاءَ وَتَزِيدُ الْعُمُرَ وَلَا يَزِيدُ الْعُمُرَ إلَّا الْبِرُّ، وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ بِرِسَالَةٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِمَنِّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الطُّولَ هُنَا مَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ تَأَمَّلْ «وَحَسُنَ عَمَلُهُ» بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْثُرُ حَسَنَاتُهُ وَيُرْفَعُ دَرَجَاتُهُ وَيَزِيدُ إلَى اللَّهِ قُرْبُهُ، وَعَنْ شَرْحِ الْمَصَابِيحِ الْأَوْقَاتُ كَرَأْسِ الْأَمْوَالِ لِلتَّاجِرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّجِرَ لِمَا يَرْبَحُ فِيهِ وَكُلَّمَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِ كَثِيرًا كَانَ الرِّبْحُ أَكْثَرَ «قَالَ» السَّائِلُ «فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» بِالشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ وَارْتِكَابِ الْفَضَائِحِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيِّ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالًا» .

، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى «خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا إذَا سَدَّدُوا» .

وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» قَالَهُ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَوْتُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَعَرَفَ رَبَّهُ خَيْرٌ مِنْ مَوْتِهِ طِفْلًا بِلَا حِسَابٍ فِي الْآخِرَةِ.

فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الطِّيبِيِّ (حدهق) أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ (عَنْ جَابِرِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ: فَيُكْرَهُ ذَلِكَ أَوْ يَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ جَزِيلِ الْفَوَائِدِ وَجَلِيلِ الْعَوَائِدِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْتِمْرَارُ الْإِيمَانِ فَأَيُّ أَمْرٍ أَعْظَمُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: نَعَمْ، إنَّ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ تَمَنَّوْهُ شَوْقًا إلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْأَقْدَسِيَّةِ وَذَلِكَ لِمَقَامِ الْخَوَاصِّ فَإِنْ قِيلَ: الْآجَالُ مُقَدَّرَةٌ لَا تَزِيدُ بِالتَّمَنِّي فَمَا مَعْنَى التَّمَنِّي قُلْنَا ذَلِكَ: هُوَ حِكْمَةُ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ لَهُ وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ وَهْبٍ كَانَ مَلِكٌ مُتَعَظِّمٌ لَا يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ كِبْرًا فَعِنْدَ ذَهَابِهِ مَعَ خَدَمِهِ جَاءَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَلَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ فَمُنِعَ فَلَمْ يَنْدَفِعْ، فَقَالَ: لِي إلَيْك حَاجَةٌ، فَقَالَ: اصْبِرْ إلَى وَقْتِ النُّزُولِ، فَقَالَ: لَا الْآنَ، فَقَهَرَهُ عَلَى لِجَامِ دَابَّتِهِ فَقَالَ الْمَلِكُ: اُذْكُرْهَا، فَقَالَ: سِرٌّ فَأَدْنَى إلَيْهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاضْطَرَبَ لِسَانُهُ، فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي وَأَقْضِيَ حَاجَتِي وَأُوَدِّعَهُمْ، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ لَيْسَ لَك رُؤْيَةُ أَهْلِك وَوَلَدِك أَبَدًا، فَقَبَضَ رُوحَهُ ثُمَّ مَضَى فَلَقِيَ عَبْدًا مُؤْمِنًا فَسَلَّمَ فَرَدَّ عليه السلام، فَقَالَ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً، وَقَالَ لَهُ سِرًّا: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِمَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَلَيَّ فَوَاَللَّهِ مَا كَانَ فِي الْأَرْضِ غَائِبٌ أَحَبَّ إلَيَّ لِقَاؤُهُ إذَا أَلْقَاهُ مِنْك، فَقَالَ: اقْضِ

ص: 119

حَاجَتَك الَّتِي خَرَجْتَ لَهَا، فَقَالَ مَالِي: حَاجَةٌ أَكْبَرُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - قَالَ: فَاخْتَرْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شِئْت، قَالَ: هَلْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ أُمِرْت بِذَلِكَ قَالَ: دَعْنِي أَتَوَضَّأُ وَأُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَاقْبِضْ رُوحِي وَأَنَا سَاجِدٌ فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ «فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ» قِيلَ: بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ أَوْ فَكَسْرٍ مَحَلُّ الِاطِّلَاعِ الْمَوْتُ الْقَبْرُ أَوْ الْقِيَامَةُ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَعُ بِهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ عَنْ الصِّحَاحِ: بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَوْضِعُ الِاطِّلَاعِ: وَقِيلَ الْمَأْتِيُّ: وَعَنْ الْقَامُوسِ اطَّلَعَ عَلَى بَاطِنِهِ ظَهَرَ وَعَرَفَ «شَدِيدٌ» قَوِيٌّ صَعْبٌ، فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ:«لَوْ أَنَّ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ الْمَيِّتِ وُضِعَتْ عَلَى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمَاتُوا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ الْمَوْتَ وَلَا يَقَعُ الْمَوْتُ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، وَيُرْوَى «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ أَلَمِ الْمَوْتِ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الْأَرْضِ كُلِّهَا لَذَابَتْ» ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَجِدُ أَلَمَ الْمَوْتِ مَا لَمْ يُبْعَثْ مِنْ قَبْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ أَوْسٍ: الْمَوْتُ أَفْظَعُ هَوْلٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ نَشْرِ الْمَنَاشِيرِ وَقَرْضِ الْمَقَارِيضِ وَغَلْيٍ فِي الْقُدُورِ وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ نُشِرَ فَأَخْبَرَ أَهْلَ الدُّنْيَا بِأَلَمِ الْمَوْتِ مَا انْتَفَعُوا بِعَيْشٍ وَلَا لَذُّوا بِنَوْمٍ. وَفِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا: اعْلَمْ، أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْ الْعَبْدِ كَرْبٌ وَلَا هَوْلٌ وَلَا عَذَابٌ إلَّا الْمَوْتُ الْمُجَرَّدُ لَانْتَغَصَ عَيْشُهُ وَتَكَدَّرَ سُرُورُهُ وَتُفَارِقُهُ شَهْوَتُهُ وَغَفْلَتُهُ وَتَطُولُ فِكْرَتُهُ وَيَعْظُمُ اسْتِعْدَادُهُ وَهُوَ فِي كُلِّ نَفَسٍ بِصَدَدِهِ «وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ» السَّرْمَدِيَّةِ «أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - الْإِنَابَةَ» أَيْ الرُّجُوعَ إلَيْهِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا اقْتَرَفَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ أَوْ بِالطَّاعَاتِ وَاكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ الْبَاقِيَاتِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ فَسَّرَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي فَإِذَا مَاتَ جَاءَتْهُ الْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ - {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]- قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: تَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا تَخَفْ مَا أَمَامَك مِنْ الْأَهْوَالِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا خَلَّفْت وَأَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْت تُوعَدُ، وَقِيلَ لَا تَخَفْ مَا تَذْهَبُ إلَيْهِ مِنْ الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْوَحْشَةِ وَلَا تَحْزَنْ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَمْوَالِ وَأَبْشِرْ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَجَنَّةِ نَعِيمٍ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:«تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» عَلَى مَا نُقِلَ مِنْ الرِّعَايَةِ وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إذَا رَضِيَ عَنْ عَبْدٍ قَالَ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَأْتِنِي بِرُوحِهِ لِأَرِيحَهُ حَسْبِي مِنْ عَمَلِهِ قَدْ بَلَوْته فَوَجَدْته حَيْثُ أُحِبُّهُ فَيَنْزِلُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَمَعَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَعَهُمْ قُضْبَانٌ وَأُصُولُ الزَّعْفَرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ يُبَشِّرُهُ بِبِشَارَةٍ سِوَى بِشَارَةِ صَاحِبِهِ، وَتَقُومُ الْمَلَائِكَةُ صَفَّيْنِ لِخُرُوجِ رُوحِهِ مَعَهُمْ الرَّيْحَانُ فَإِذَا نَظَرَ إبْلِيسُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ صَرَخَ. قَالَ الرَّاوِي فَيَقُولُ لَهُ جُنُودُهُ مَالَك يَا سَيِّدَنَا؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَرَوْنَ مَا أُعْطِيَ هَذَا الْعَبْدُ مِنْ الْكَرَامَةِ، أَيْنَ كُنْتُمْ عَنْ هَذَا؟ قَالُوا: قَدْ جَهَدْنَا بِهِ فَكَانَ مَعْصُومًا» ، هَذَا هُوَ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ إلَّا لِقَاءُ اللَّهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحَدِيثِ إرَادَةُ طُولِ الْحَيَاةِ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قُلْنَا: حَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ يُرَادَ وَيَتَمَنَّى الْمَوْتَ أَوْ طُولَ الْحَيَاةِ بِالْإِنَابَةِ وَالْمُقَدَّمُ بَاطِلٌ فَالتَّالِي أَيْ إرَادَةُ طُولِ الْعُمْرِ بِالْإِنَابَةِ حَقٌّ أَيْ مِنْ السَّعَادَةِ، أَمَّا بُطْلَانُ الْمُقَدَّمِ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْتَ قَاطِعُ الطَّاعَاتِ وَالطَّاعَاتُ مُزِيلُ هَوْلِ الْمَطْلَعِ وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ أَمْرٌ شَدِيدٌ فَيَنْتِجُ الْمَوْتُ قَاطِعٌ مُزِيلُ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ ثُمَّ نَقُولُ وَكُلُّ قَاطِعٍ مُزِيلِ أَمْرٍ شَدِيدٍ لَا يُرَادُ وَلَا يُتَمَنَّى فَالْمَوْتُ لَا يُرَادُ فَهُوَ عَيْنُ الْبُطْلَانِ، فَقَوْلُهُ (فَإِنَّ هَوْلَ إلَى آخِرِهِ) هُوَ الْكُبْرَى الثَّانِيَةُ، وَقَوْلُهُ (لَا تَتَمَنَّوْا) فِي قُوَّةِ بُطْلَانِ الْمُقَدَّمِ، وَقَوْلُهُ (إنَّ مِنْ السَّعَادَةِ إلَى آخِرِهِ) فِي قُوَّةِ النَّتِيجَةِ لِأَصْلِ الْقِيَاسِ فَعَلَيْك وَجْهُ دَلَالَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنَّهُ خَفِيٌّ أَيْضًا.

(س) النَّسَائِيّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ) قِيلَ: بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ الثَّانِيَةِ وَسُكُونِ النُّونِ بَعْدَ الْأُولَى (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ شَابَ» ابْيَضَّ شَعْرُهُ «شَيْبَةً» حَقِيرَةً أَوْ وَاحِدَةً

ص: 120

«فِي الْإِسْلَامِ» بِأَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ ظَرْفًا لِشَيْبَتِهِ «كَانَتْ» تِلْكَ الشَّعْرَةُ «لَهُ نُورًا» عَظِيمًا يَسْتَضِيءُ بِهِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَيْ يَصِيرُ الشَّيْبُ نَفْسُهُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ صَاحِبُهُ وَيَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ فِي ظُلُمَاتِ الْحَشْرِ إلَى أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَالشَّيْبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ بِسَبَبِ نَحْوِ جِهَادٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ اللَّهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ سَعْيِهِ فَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ مِنْ مُطْلَقِ شَعْرِهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ لَوْ قِيلَ يَحْرُمُ لَمْ يَبْعُدْ، كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ لَكِنْ لِفُقَهَائِنَا الْحَنَفِيَّةِ تَجْوِيزُهُ فِي بَعْضِ الْأَغْرَاضِ وَأَيْضًا يُكْرَهُ تَغْيِيرُهَا كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ زِيَادَةُ قَوْلِهِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا بِالسَّوَادِ وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ «مَا لَمْ يُخَضِّبْهَا أَوْ يَنْتِفْهَا» . وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:«آلَيْت عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ» ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «يَنْظُرُ اللَّهُ - تَعَالَى - إلَى وَجْهِ الشَّيْخِ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَيَقُولُ كَبِرَ سِنُّك وَدَقَّ عَظْمُك وَرَقَّ جِلْدُك وَقَرُبَ أَجَلُك وَكَادَ قُدُومُك إلَيَّ يَا عَبْدِي أَمَا تَسْتَحْيِي وَأَنَا أَسْتَحِي مِنْ شَيْبِك» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ جَاوَزَ أَرْبَعِينَ وَلَمْ يَغْلِبْ خَيْرُهُ عَلَى شَرِّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .

(د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عُبَيْدٍ) مُصَغَّرِ عَبْدٍ ابْنِ خَالِدٍ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ آخَى» بِالْمَدِّ أَصْلُهُ وَاخَى، قُلِبَتْ الْوَاوُ هَمْزَةً كَمَا فِي أُجُوهٍ فِي وُجُوهٍ أَيْ عَقَدَ الْأُخُوَّةَ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ الشَّرِيفُ لِأَجْلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ» «بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقُتِلَ أَحَدُهُمَا» شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «وَمَاتَ الْآخَرُ» حَتْفَ أَنْفِهِ «بَعْدَهُ بِجُمُعَةٍ» أُسْبُوعٍ «أَوْ نَحْوِهَا فَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ» عَلَى الْمُتَوَفَّى آخِرَ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قُلْتُمْ» أَيْ أَيَّ شَيْءٍ قُلْتُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: الْمَقُولُ فِي الصَّلَاةِ مُتَعَيَّنٌ بِتَعْيِينِهِ عليه الصلاة والسلام فَمَا وَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ؟ قُلْنَا يَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّعْيِينِ بَلْ الْكُلُّ مُرَخَّصٌ بِالدُّعَاءِ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ الْمَيِّتِ أَوْ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ بَلْ فِي خَارِجِهَا وَيَجُوزُ كَوْنُ الْمُرَادِ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ هُوَ الْإِعْلَامُ بِفَائِدَةِ طُولِ الْعُمُرِ الْقَرِينِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِتَفَطُّنِهِ عليه الصلاة والسلام بِفِرَاسَتِهِ أَوْ بِاسْتِمَاعِهِ قَوْلَهُمْ «فَقَالُوا: دَعَوْنَا لَهُ وَقُلْنَا» فِي دَعْوَتِنَا «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَأَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ» الَّذِي مَاتَ شَهِيدًا فِي مَرْتَبَتِهِ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَصَوْمُهُ بَعْدَ صَوْمِهِ» ، الْحَاصِلَةُ فِي ذَلِكَ الْأُسْبُوعِ وَلَمْ تُوجَدْ لِلشَّهِيدِ الْمُتَوَفَّى قَبْلَهُ (شَكَّ شُعْبَةُ) أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ، قِيلَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ «فِي صَوْمِهِ وَعَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ» يَعْنِي هَلْ قَالَ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا أَوْ قَالَ بَدَلَهُ هَذَا الثَّانِي يَعْنِي صُدُورَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْزُومٌ لَهُ قَطْعًا وَإِنَّمَا شَكُّهُ فِي تَعْيِينِهِ «فَإِنَّ بَيْنَهُمَا» بَيْنَ مَنْ مَاتَ أَوَّلًا وَبَيْنَ مَنْ مَاتَ ثَانِيًا «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» فِي الرِّفْعَةِ وَالشَّرَفِ فَكَيْفَ يَصِحُّ دُعَاؤُكُمْ بِالْإِلْحَاقِ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ طُولَ الْعُمُرِ وَلَوْ بِأَقَلِّ قَلِيلٍ أَفْضَلُ مِنْ قِصَرِهِ لِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هَذَا أَمَّا قَبْلَ وُرُودِ تَمَامِ فَضْلِ الشَّهِيدِ أَوْ الْمَيِّتِ ثَانِيًا شَهِيدٌ أَيْضًا مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهِيدِ الْحَقِيقِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا حُكْمِيًّا أَوْ مِنْ خَاصَّةِ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَمُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَى

ص: 121

(وَسَبَبُ الْأَمَلِ حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ الدَّاءُ الْمُشْكِلُ الشَّدِيدُ عَجَزَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ عَنْ دَوَائِهِ (وَالْغَفْلَةُ عَنْ قُرْبِ الْمَوْتِ) فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ يُوجِبُ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَيَتَقَاضَى الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْمَوْتِ تَدْعُو إلَى الِانْهِمَاكِ فِي شَهَوَاتِ الدُّنْيَا (وَالِاغْتِرَارُ) مِنْ الْغُرُورِ الطَّمَعُ الْبَاطِلُ (بِالصِّحَّةِ) الْعَافِيَةِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ (وَالشَّبَابِ) الْحَدَاثَةِ فَضِدُّ الشَّيْبِ

(وَعِلَاجُهُ) أَيْ دَوَاءُ الْأَمَلِ (إزَالَةُ أَسْبَابِهِ) الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ مَا دَامَ سَبَبُ الشَّيْءِ مَوْجُودًا لَا يَزُولُ نَفْسُهُ فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْأَثَرِ إنَّمَا هُوَ بِانْتِفَاءِ الْمُؤَثِّرِ (أَمَّا حُبُّ الدُّنْيَا فَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَأَمَّا الْبَوَاقِي فَبِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ وَقُرْبِهِ وَمَجِيئِهِ بَغْتَةً) فَجْأَةً (عَلَى) حِينِ (غَفْلَةٍ) إذْ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالْمَرَضِ وَالشَّيْبِ (وَإِنَّ الصِّحَّةَ) وَدَوَامَهَا (وَالشَّبَابَ لَا يَمْنَعُهُ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ الْمَوْتَ (بَلْ مَوْتُ الشَّبَابِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِ الشُّيُوخِ) إذْ مِنْ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ إلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنْ شَبَابٍ وَشَيْبٍ وَكُهُولَةٍ وَمِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَرَبِيعٍ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَعْدَ تَفْصِيلِ مَا ذُكِرَ: وَلَكِنَّ الْجَهْلَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَحُبَّ الدُّنْيَا دَعْوَاهُ إلَى طُولِ الْأَمَلِ وَإِلَى الْغَفْلَةِ عَنْ تَقْدِيرِ الْمَوْتِ فَيَظُنُّ أَبَدًا أَنَّهُ يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ تُشَيَّعَ جِنَازَتُهُ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ فِي الْغَيْرِ وَلَمْ يَأْلَفْهُ لِنَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنْ وَقَعَ مَرَّةً فَلَا يَقَعُ أُخْرَى وَذَلِكَ تَفْصِيلُ قَوْلِهِ (كَمَا أَنَّ مَوْتَ الصِّبْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ مَوْتِهِمَا) الْأَصِحَّاءِ وَالشَّبَابِ فَعَلَى الشَّبَابِ وَالْأَصِحَّاءِ أَنْ يَغْتَنِمَا عَمَلًا بِعِظَتِهِ صلى الله عليه وسلم «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك وَفَرَاغَك قَبْلَ شُغْلِك وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ) : افْعَلْ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ قَبْلَ حُصُولِ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: (شَبَابَك قَبْلَ هَرَمِك) اغْتَنِمْ الطَّاعَةَ حَالَ قُدْرَتِك قَبْلَ هُجُومِ عَجْزِ الْكِبَرِ عَلَيْك فَتَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَّطْت فِي جَنْبِ اللَّهِ، (وَصِحَّتَك قَبْلَ سَقَمِك) اغْتَنِمْ حَالَ الصِّحَّةِ فَقَدْ يَمْنَعُ مَانِعٌ كَمَرَضٍ فَتَقْدَمُ الْمَعَادَ بِلَا زَادٍ، (وَغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك) اغْتَنِمْ التَّصَدُّقَ بِفُضُولِ مَالِكِ قَبْلَ عُرُوضِ حَاجَةٍ تُفْقِرُك فَتَصِيرُ فَقِيرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (وَفَرَاغَك قَبْلَ شُغْلِك) اغْتَنِمْ فَرَاغَك فِي هَذِهِ الدَّارِ قَبْلَ شُغْلِك بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ (وَحَيَاتَك قَبْلَ مَوْتِك) اغْتَنِمْ مَا تَلْقَى نَفْعَهُ بَعْدَ مَوْتِك فَإِنَّ مَنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ وَفَاتَهُ أَمَلُهُ وَحَقَّ نَدَمُهُ.

(تَنْبِيهٌ) قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَا مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْبَدَنُ مَرْكَبٌ وَمَنْ ذَهِلَ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ وَالْمَرْكَبِ لَمْ يَتِمَّ سَفَرُهُ وَمَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا أَمْرَ التَّبَتُّلِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ السُّلُوكُ انْتَهَى (وَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ يَمُوتُ وَيَبْقَى الْمَرِيضُ) الَّذِي يُتَوَقَّعُ مَوْتُهُ (بَعْدَهُ) الصَّحِيحِ (سِنِينَ) فَلَا يَنْبَغِي لِلصَّحِيحِ أَنْ يَغْتَرَّ بِصِحَّتِهِ وَيَتَسَوَّفَ اقْتِنَاصَ الْقُرُبَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَيُؤَخِّرَ التَّوْبَةَ عَنْ مَا قَارَفَهُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْخَالِيَةِ وَلْيَعْتَبِرْ بِمَنْ يَمُوتُ شَابًّا وَلَيْسَ كُلُّ الْأَمْوَاتِ مَاتُوا مَرْضَى (وَمِنْ أَقْوَى عِلَاجِهِ) فَهَذَا بَعْضٌ مِنْ الْأَقْوَى (اسْتِمَاعُ مَا وَرَدَ) عَلَى وَجْهِ الْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ (فِي مَدْحِ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَذَمِّ طُولِ الْأَمَلِ) .

فَقَالَ الْمُصَنِّف بَيَانًا لِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِهِمَا (مَدْحُ ذِكْرِ الْمَوْتِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا سَيُذْكَرُ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ هَذَا مَدْحٌ إلَخْ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ» فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَا لَفْظِ مِنْ «فَإِنَّهُ» أَيْ ذِكْرَهُ ( «يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ» يُزِيلُهَا بِالْخَوْفِ وَالنَّدَمِ وَالْإِنَابَةِ وَالْفِرَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى «وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا» يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا لِأَخْطَارِ مُفَارَقَتِهَا وَإِعْلَامِ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَيُؤْذِنُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ النِّعَمِ الْعَاجِلَةِ لَيْسَتْ

ص: 122

مِلْكًا لَهُ بَلْ يَدُهُ يَدُ أَمَانَةٍ وَمُسْتَعَارَةٍ وَنَفْسُهُ خَدِيمٌ لِلْغَيْرِ بَلْ عَبْدُهُ وَهُوَ فِي خَطَرِ إيثَارِ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، هَذَا لَيْسَ تَمَامَ هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ تَمَامُهُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَإِنْ ذَكَرْتُمُوهُ عِنْدَ الْغِنَى هَدَمَهُ وَإِنْ ذَكَرْتُمُوهُ عِنْدَ الْفَقْرِ أَرْضَاكُمْ بِعِيشَتِكُمْ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَاطِعُ كُلِّ لَذَّةٍ وَحَائِلُ كُلِّ أُمْنِيَةٍ وَمَانِعُ كُلِّ مُرَادٍ وَدَافِعُ كُلِّ حَاجَةٍ، وَعُمُرُ الْمَرْءِ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ وَأَوْقَاتٌ مَحْدُودَةٌ لَا يُدْرَى مَتَى يَنْفَدُ الْعَدَدُ وَيَنْقَضِي الْمَدَدُ وَكَيْفِيَّةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ عَلَى مَا فِي الْإِحْيَاءِ الْقَرِيبِ إلَى مَا فِي جَلَاءِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ أَمْثَالِهِ وَأَقْرَانِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ فَيَتَذَكَّرَ مَوْتَهُمْ وَصَيْرُورَتَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ وَيَتَذَكَّرَ صُوَرَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ كَيْفَ مَحَا التُّرَابُ الْآنَ صُوَرَهُمْ وَانْدَرَسَتْ آثَارُهُمْ وَآمَالُهُمْ وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ كُسُوبُهُمْ وَمَا جَمَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَيْفَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُمْ فِي قُبُورِهِمْ وَأَرْمَلُوا نِسْوَانَهُمْ وَأَيْتَمُوا أَوْلَادَهُمْ وَضَيَّعُوا أَمْوَالَهُمْ وَاقْتَسَمَ الْغَيْرُ أَرْزَاقَهُمْ وَأَكَلَتْ الدُّودُ لِسَانَهُمْ وَالتُّرَابُ أَسْنَانَهُمْ ثُمَّ يَنْظُرُ أَنَّهُ مِثْلُهُمْ وَغَفْلَتَهُ كَغَفْلَتِهِمْ وَسَيَكُونُ عَاقِبَتُهُ نَحْوَهُمْ وَنِعْمَ مَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ السَّعِيدُ مَنْ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ وَفِي الْإِحْيَاءِ هُوَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُكِيَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: وَيْحَك يَا يَزِيدُ مَنْ ذَا يُصَلِّي عَنْك بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ ذَا يَصُومُ عَنْك بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ ذَا يُرْضِي عَنْك رَبَّك بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا تَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَمَنْ الْمَوْتُ مَوْعِدُهُ وَالْقَبْرُ بَيْتُهُ وَالثَّرَى فِرَاشُهُ وَالدُّودُ أَنِيسُهُ وَمَعَ هَذَا يَنْتَظِرُ الْفَزَعَ الْأَكْبَرَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ ثُمَّ بَكَى حَتَّى سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ الْبَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ» طَرَفِهِ ( «فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى» تُرَابَ الْقَبْرِ مِنْ دُمُوعِهِ لَعَلَّهُ لِمَا تَجَلَّى لَهُ عَنْ عَالَمِ الْقُدُسِ مِنْ أَحْوَالِ الْمَوْتَى وَلَيْسَ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ بَلْ لِمَا عَرَفَهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ فَذَا لِنَحْوِ الِاحْتِرَامِ لَهُ - تَعَالَى - وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ رُتْبَةَ خَوْفِهِ - تَعَالَى - أَوْ إغْرَاءً لَهُمْ عَلَى إنَابَتِهِ - تَعَالَى - أَوْ تَرَحُّمًا وَتَشَفُّقًا لِذَلِكَ الْمَيِّتِ لِمَا رَأَى فِيهِ مِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ أَوْ لِحَالِ مُطْلَقِ أُمَّتِهِ «ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا إخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا» أَيْ الْمَوْتِ «فَأَعِدُّوا» تَهَيَّئُوا وَاسْتَحْضِرُوا مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ يَعْنِي اتَّخِذُوا عُدَّةً وَزَادًا لِمِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَهِيبِ فِي الْإِحْيَاءِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ: عِظْنِي، فَقَالَ: أَنْتَ خَلِيفَةٌ تَمُوتُ، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: لَيْسَ مِنْ آبَائِك أَحَدٌ إلَى آدَمَ إلَّا ذَاقَ الْمَوْتَ وَقَدْ جَاءَتْك نَوْبَتُك فَبَكَى عُمَرُ. وَيُقَالُ: الْقَبْرُ يَنُوحُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ

ص: 123

يَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الظُّلْمَةِ فَنَوِّرُونِي بِصَلَاةِ اللَّيْلِ أَنَا بَيْتُ التُّرَابِ فَاحْمِلُوا الْفِرَاشَ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَنَا بَيْتُ الْأَفَاعِي فَاحْمِلُوا التِّرْيَاقَ وَهُوَ دُمُوعُ الْعَيْنِ أَنَا بَيْتُ الضَّيْفِ فَتَزَوَّدُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَنَا بَيْتُ الْفَقْرِ فَتَزَوَّدُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ غِنَاكُمْ أَنَا بَيْتُ سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فَأَكْثِرُوا عَلَى ظَهْرِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ: رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا» بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْوَعْظُ دَعْوَةُ الْأَشْيَاءِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ لِانْقِيَادِ الْحَقِّ - تَعَالَى - كَيْفَ لَا يَكْفِي وَالْيَوْمُ فِي الدُّورِ وَغَدًا فِي الْقُبُورِ، كَيْفَ وَهُوَ الْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى وَأَعْظَمُ مِنْهُ الْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ - تَعَالَى - وَقِلَّةُ تَفَكُّرِهِ، وَأَنَّ لَهُ وَحْدَةً وَلِلْعَاقِلِ عِبْرَةً فَهَلْ لَك اعْتِذَارٌ بَعْدَ قَوْلِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ «كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا» أَمَا تَسْتَحْيِي مِنْ اسْتِبْطَائِك هُجُومَ الْمَوْتِ اقْتِدَاءً بِالْغَافِلِينَ الَّذِينَ {مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] فَيَأْتِيهِمْ الْمَرَضُ نَذِيرًا مِنْ الْمَوْتِ فَلَا يَنْزَجِرُونَ وَيَأْتِيهِمْ الشَّيْبُ رَسُولًا مِنْهُ فَمَا يَعْتَبِرُونَ، فَ {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خَالِدُونَ {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] أَمْ يَحْسَبُونَ الْمَوْتَى سَافَرُوا مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُمْ يَعُودُونَ، كَلًّا {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] لَكِنْ {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4]«وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنًى» لِأَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ بِأَنَّ الْأَرْزَاقَ بِتَقْسِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُعْطِيهِ أَلْبَتَّةَ عَلَى مُقْتَضَى وَعْدِهِ - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وَ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]- بَلْ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَا مَحَالَةَ، هَذَا كَافٍ فِي الْغِنَى قَالَ الْخَوَّاصُ: الْغِنَى حَقُّ الْغِنَى مَنْ أَسْكَنَ قَلْبَهُ مِنْ غِنَاهُ يَقِينًا وَمِنْ مَعْرِفَتِهِ تَوَكُّلًا وَمِنْ عَطَايَاهُ رِضًا ثُمَّ هَذَا الْخَبَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْحَثِّ عَلَى الزُّهْدِ وَهُوَ أَمْرٌ تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ الْمِلَلُ وَالنِّحَلُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ وَصُحُفُ مُوسَى وَصُحُفُ إبْرَاهِيمَ وَكُلُّ كِتَابٍ مُنْزَلٍ مَا نَزَلَ إلَّا لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إلَى الْمُلْكِ الدَّائِمِ الْمُخَلَّدِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ أَنْ يَمُوتُوا مُلُوكًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا مُلْكُ الدُّنْيَا فَبِالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَبِالْقُرْبِ مِنْهُ يُدْرَكُ بَقَاءٌ لَا فِنَاءَ فِيهِ، وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إلَى مُلْكِ الدُّنْيَا لِيُفَوِّتَ عَلَيْهِمْ مُلْكَ الْأُخْرَى إذْ هُمَا ضَرَّتَانِ، وَنَعِيمُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ لَهُ أَيْضًا لِكَدَرِهَا وَمُنَازَعَتِهَا وَمَعْنَى الزُّهْدِ أَنْ يَتْرُكَ الْعَبْدُ شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ وَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا، وَبِاسْتِيلَاءِ الشَّهْوَةِ يَصِيرُ عَبْدًا لِبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ وَسَائِرِ أَغْرَاضِهِ، فَيَكُونُ مُسَخَّرًا كَالْبَهِيمَةِ يَجُرُّهُ إمَامُ الشَّهْوَةِ إلَى حَيْثُ يُرِيدُ فَمَا أَعْظَمَ اغْتِرَارُ الْإِنْسَانِ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَنَالُ الْمُلْكَ يَصِيرُ مَمْلُوكًا وَمِثْلُهُ هَلْ يَكُونُ إلَّا مَعْكُوسًا فِي الدُّنْيَا وَمَنْكُوسًا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِبَعْضِ الزُّهَّادِ هَلْ لَك حَاجَةٌ؟ قَالَ: كَيْفَ أَطْلُبُ مِنْك حَاجَةً وَمُلْكِي أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِك، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: مَنْ أَنْتَ عَبْدُهُ فَهُوَ عَبْدِي أَنْتَ عَبْدُ شَهْوَتِك وَأَنَا مَلَكْتُهَا فَهِيَ عَبْدِي، وَقَالَ بَعْضٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ: أَنْتَ عَبْدُ عَبْدِي فَهَذَا هُوَ الْمُلْكُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الْجَارُّ إلَى مُلْكِ الْآخِرَةِ فَالْمَخْدُوعُونَ بِالْغُرُورِ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ ثُمَّ قَالَ فِيهِ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثُ ضَعَّفَهُ الْعِرَاقِيُّ

ص: 124

وَالْمُنْذِرِيُّ وَغَرِيبٌ مُنْقَطِعٌ عِنْدَ الْعَلَائِيِّ وَعَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ مَتْرُوكٌ وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَقُولُ الْحَدِيثُ إنْ كَانَ لَهُ تَأْيِيدٌ صَحِيحٌ وَقَوِيٌّ يَجُوزُ رِوَايَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ سِيَّمَا عِنْدَ مُطَابَقَةِ الْقِيَاسِ وَقَدْ وَرَدَ صَحِيحًا «كَفَى بِالْمَوْتِ مُزَهِّدًا فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ» وَلَا شَكَّ فِي قُرْبِ مَعْنَيَيْهِمَا (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ» بِالْمُعْجَمَةِ أَيْ قَاطِعِ «اللَّذَّاتِ» يَعْنِي الْمَوْتَ) قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَيْ نَغِّصُوا بِذِكْرِهِ لَذَّاتِكُمْ فَيَنْقَطِعَ رُكُونُكُمْ إلَيْهَا فَتَنْقَلِبُوا إلَى اللَّهِ، قَالُوا: هَذَا أَبْلَغُ الذِّكْرَى وَالْمَوَاعِظِ فَإِنَّ ذِكْرَهُ الْحَقِيقِيَّ لَا الصُّورِيَّ مُزِيلٌ لِلَّذَّةِ وَمَانِعٌ لِلْأَمَانِيِّ وَنَافٍ لِلْآمَالِ لَكِنْ النُّفُوسُ الرَّاكِدَةُ وَالْقُلُوبُ الْغَافِلَةُ تَحْتَاجُ إلَى تَطْوِيلِ الْوَعْظِ وَتَزْوِيقِ الْأَلْفَاظِ وَإِلَّا فَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]- كَافٍ وَشَافٍ فَذِكْرُ الْمَوْتِ يَطْرُدُ طُولَ الْأَمَلِ وَيَكُفُّ التَّمَنِّيَ وَيُهَوِّنُ الْمَصَائِبَ.

وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: ذِكْرُ الْمَنِيَّةِ يُنْسِي الْأُمْنِيَةَ وَقَالَ الْحَافِظُ وُجِدَ مَكْتُوبًا عَلَى حَجَرٍ: لَوْ رَأَيْت يَسِيرًا مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِك لَزَهِدْت فِي طُولِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِك وَلَرَغِبْت فِي الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِك وَاقْتَصَرْتَ مِنْ حِرْصِك وَجَدَلِك وَإِنَّمَا يَلْقَاك غَدًا نَدَمُك، لَوْ قَدْ زَلَّتْ بِك قَدَمُك وَأَسْلَمَك أَهْلُك وَحَشَمُك وَتَبَرَّأَ مِنْك الْقَرِيبُ وَانْصَرَفَ عَنْك الْحَبِيبُ وَقَالَ التَّيْمِيُّ شَيْئَانِ قَطَعَا عَنِّي لَذَّةَ النَّوْمِ: ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عز وجل وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ فَيَتَذَاكَرُونَ الْمَوْتَ وَالْقِيَامَةَ فَيَبْكُونَ كَأَنَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ جِنَازَةً. وَقَالَ اللَّفَّافُ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أُكْرِمَ بِثَلَاثٍ: تَعْجِيلِ التَّوْبَةِ وَقَنَاعَةِ الْقَلْبِ وَنَشَاطِ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ نَسِيَهُ عُوقِبَ بِثَلَاثٍ: تَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ وَالتَّكَاسُلِ فِي الْعِبَادَةِ، فَتَفَكَّرْ يَا مَغْرُورُ فِي الْمَوْتِ وَسَكْرَتِهِ وَصُعُوبَةِ كَأْسِهِ وَمَرَارَتِهِ فَيَا لِلْمَوْتِ مِنْ وَعْدٍ مَا أَصْدَقَهُ وَمِنْ حُكْمٍ مَا أَعْدَلَهُ فَكَفَى بِالْمَوْتِ مُفْزِعًا لِلْقُلُوبِ وَمُبْكِيًا لِلْعُيُونِ وَمُفَرِّقًا لِلْجَمَاعَاتِ وَهَاذِمًا لِلَّذَّاتِ وَقَاطِعًا لِلْأُمْنِيَاتِ (فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ) أَيْ الْمَوْتَ (أَحَدٌ فِي ضِيقٍ) كَفَقْرٍ وَمَرَضٍ وَحَبْسٍ وَمَصَائِبِ الْأَنْفُسِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَقَارِبِ (إلَّا وَسَّعَهُ) صَيَّرَهُ وَاسِعًا، إمَّا لِأَنَّهُ مُذَكِّرٌ عَدَمَ كَوْنِ النِّعَمِ مِلْكًا لَهُ بَلْ فَانِيَةً لَيْسَ لَهَا دَوَامٌ، وَإِمَّا لِلْأَجْرِ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالصَّبْرِ، وَإِمَّا لِأَنَّ عُمُرِي أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ زَالَتْ سَرِعَةً فَلَا تَفَاوُتَ فِي سَعَتِهِ وَضِيقِهِ (وَلَا ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا) أَيْ السَّعَةَ (عَلَيْهِ) لِعِلْمِهِ بِمُفَارَقَتِهَا

ص: 125

وَمُحَاسَبَتِهِ أَوْ مُنَاقَشَتِهِ بَلْ مَعْذَبِيَّتُهُ عَلَيْهَا وَلِإِخْطَارِهِ كَوْنَ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَعَارًا لَهُ وَالْمِلْكُ لِغَيْرِهِ وَنَفْسُهُ عَبْدٌ خَادِمٌ لَهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ الْمَوْتُ خَطَرٌ هَائِلٌ وَخَطْبٌ عَظِيمٌ وَغَفْلَةُ النَّاسِ عَنْهُ أَعْظَمُ لِقِلَّةِ فِكْرِهِمْ فِيهِ وَمَنْ ذَكَرَهُ لَا يَذْكُرُهُ عَلَى حُرِّيَّةٍ بِقَلْبٍ فَارِغٍ بَلْ بِشَغْلِ الشَّهَوَاتِ. هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ ضَعَّفَهُ بَعْضٌ كَالذَّهَبِيِّ؛ لِأَنَّ فِي أَسَانِيدِهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُسْلِمٍ لَكِنْ قَوَّاهُ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ أَنَسٍ حَسَنٌ.

(دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (طص) طَبَرَانِيٌّ فِي الصَّغِيرِ (عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ (بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» حَالَ كَوْنِي «عَاشِرَ عَشَرَةِ» رِجَالٍ « (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ) » أَكْثَرُهُمْ عَقْلًا أَيْ الْفَطِنُ سَرِيعُ الْفَهْمِ ( «وَأَحْزَمُ النَّاسِ» أَيْ جَوْدَةُ رَأْيِهِمْ «قَالَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ» لَا بِقَلْبٍ لَاهٍ وَصَدْرٍ سَاهٍ بَلْ بِفِكْرٍ حَرِيٍّ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ وَأَبْشَعُ الرَّزَايَا وَأَشْنَعُ الْبَلَايَا، فَتَفَكَّرْ يَا ابْنَ آدَمَ، فِي مَصْرَعِك وَانْتِقَالِك مِنْ مَوْضِعِك إذَا نُقِلْت مِنْ السَّعَةِ إلَى الضِّيقِ وَخَانَك الصَّاحِبُ وَالرَّفِيقُ وَهَجَرَك الْأَخُ وَالصَّدِيقُ وَأُخِذْتَ مِنْ فِرَاشِك وَنُقِلْتَ مِنْ مِهَادِك فَيَا جَامِعَ الْمَالِ وَالْمُجْتَهِدَ فِي الْبُنْيَانِ، لَيْسَ لَك مِنْ مَالِك إلَّا الْأَكْفَانُ، بَلْ هُوَ لِلْخَرَابِ وَجِسْمُك لِلتُّرَابِ فَاعْتَبِرْ يَا مِسْكِينُ بِمَنْ صَارَ تَحْتَ التُّرَابِ وَانْقَطَعَ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ بَعْدَ أَنْ قَادَ الْجُيُوشَ وَالْعَسَاكِرَ وَنَافَسَ الْأَصْحَابَ وَالْعَشَائِرَ وَجَمَعَ الْأَمْوَالَ وَالذَّخَائِرَ فَجَاءَهُ الْمَوْتُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْتَسِبْهُ وَهَوْلٍ لَمْ يَرْتَقِبْهُ، وَلْيَتَأَمَّلْ حَالَ مَنْ مَضَى مِنْ إخْوَانِهِ وَدَرَجَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَخُلَّانِهِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْآمَالَ كَيْفَ انْقَطَعَتْ آمَالُهُمْ وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَمَحَا التُّرَابُ مَحَاسِنَ وُجُوهِهِمْ وَتَفَرَّقَتْ فِي الْقُبُورِ أَجْزَاؤُهُمْ وَتَرَمَّلَتْ بَعْدَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَشَمِلَ ذُلُّ الْيُتْمِ أَوْلَادَهُمْ وَقَسَمَ غَيْرُهُمْ طَرِيفَهُمْ وَتِلَادَهُمْ قِيلَ: الْكَنْزُ الَّذِي لِلْغُلَامَيْنِ فِيهِ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهِ عَجِبْت لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ «وَأَكْثَرُهُمْ اسْتِعْدَادًا لِلْمَوْتِ» بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَلْقِ، وَالْحَقُّ اسْتِبْرَاءُ الذِّمَمِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ مَا ظَلَمَهُمْ وَتَحْسِينُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ عَلَى وَفْقِ مَا يَرْضَى عَنْهُ اللَّهُ - تَعَالَى - «أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ» لِتَهَيُّئِهِمْ لِلْمَوْتِ لَا يَعْبَئُونَ بِقُدُومِ الْمَوْتِ وَلَا يَحْزَنُونَ بَلْ يُسَرُّونَ لِلْوُصُولِ إلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَلِلْخَلَاصِ مِنْ سِجْنِ السَّجِينِ وَأَمَّا الْحَمْقَى الَّذِينَ لَمْ يَسْتَعِدُّوا فَيَتَحَسَّرُونَ وَيَنْدَمُونَ بَلْ يَهْلِكُونَ.

قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ: إنَّ رَجُلًا مِنْ جَبَابِرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ عِنْدَ خَلْوَتِهِ فِي دَارِهِ بِبَعْضِ أَهْلِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ فَقَامَ إلَيْهِ مُغْضَبًا قَائِلًا: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَنْ أَدْخَلَك؟ قَالَ: أَدْخَلَنِي الدَّارَ رَبُّ الدَّارِ، وَأَمَّا أَنَا فَاَلَّذِي لَا يُمْنَعُ عَنِّي الْحِجَابُ وَلَا أَسْتَأْذِنُ عَلَى الْمُلُوكِ وَلَا أَخَافُ مِنْ صَوْلَةِ كُلِّ مُتَسَلِّطٍ وَلَا يَتَخَلَّصُ مِنِّي كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَلَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ، فَقَالَ خَائِفًا مُتَذَلِّلًا: إذَنْ أَنْتَ مَلَكُ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: امْهَلْ حَتَّى أُحْدِثَ عَهْدًا، قَالَ: هَيْهَاتَ انْقَطَعَتْ مُدَّتُك وَانْقَضَتْ أَنْفَاسُك فَلَيْسَ إلَى تَأْخِيرٍ مِنْ سَبِيلٍ، قَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِي؟ قَالَ: إلَى عَمَلِك الَّذِي قَدَّمْته وَإِلَى بَيْتِك الَّذِي مَهَّدْته قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أُقَدِّمْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَمْ أُمَهِّدْ بَيْتًا حَسَنًا، قَالَ: فَإِلَى لَظًى نَزَّاعَةٍ لِلشَّوَى، ثُمَّ قَبَضَ

ص: 126

رُوحَهُ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ صَارِخٍ وَبَاكٍ وَأَيْضًا قِصَّةٌ أُخْرَى لِحَسْرَةِ مَنْ لَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْمَوْتِ فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا جَمَعَ أَمْوَالًا وَبَنَى قَصْرًا وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: يَا نَفْسِي انْعَمِي سِنِينَ قَدْ جَمَعْت لَك مَا يَكْفِيك، فَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ كَلَامِهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي هَيْئَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِ خُلْقَانُ الثِّيَابِ وَفِي عُنُقِهِ مِخْلَاةٌ يُشْبِهُ الْمَسَاكِينَ فَقَرَعَ الْبَابَ بِغَيْرِ حِشْمَةٍ، وَشِدَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَوَثَبَ إلَيْهِ الْغِلْمَانُ قَائِلِينَ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: اُدْعُوا إلَيَّ مَوْلَاكُمْ، قَالُوا وَإِلَى مِثْلِك لَا يَخْرُجُ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: هَلَّا ضَرَبْتُمْ وَرَدَدْتُمْ مِنْ الْبَابِ فَقَرَعَ الْبَابَ أَشَدَّ مِنْ الْأَوَّلِ فَوَثَبَ إلَيْهِ الْحَرَسُ، فَقَالَ: أَخْبِرُوهُ أَنِّي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِمْ الرُّعْبُ وَوَقَعَ عَلَى مَوْلَاهُمْ الذُّلُّ وَالتَّخَشُّعُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا: هَلْ تَأْخُذُ أَحَدَنَا؟ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اصْنَعْ فِي مَالِكِ وَأَنَا لَسْت بِخَارِجٍ مَا لَمْ أُخْرِجْ نَفْسَك فَأَحْضَرَ مَالَهُ وَقَالَ لَعَنَك اللَّهُ شَغَلْتنِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي وَمَنَعْتنِي أَنْ أَتَخَلَّى لِرَبِّي فَأَنْطَقَ اللَّهُ الْمَالَ، فَقَالَ: لِمَ تَسُبُّنِي وَقَدْ كُنْت تَدْخُلُ عَلَى السَّلَاطِينِ بِي وَهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَّقِينَ وَتَنْكِحُ الْمُتَنَعِّمَاتِ بِي وَتَجْلِسُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ بِي وَهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَّقِينَ وَتُنْفِقُنِي فِي سَبِيلِ الشَّرِّ فَلَا أَمْتَنِعُ مِنْك وَلَوْ أَنْفَقْتَنِي فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ نَفَعْتُك، ثُمَّ قَبَضَ رُوحَهُ «ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا» لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَوْتِ فِي الدُّنْيَا يُوجِبُ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَيَتَقَاضَى الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إذْ شَرَفُ الدُّنْيَا إنَّمَا يَكُونُ بِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلْآخِرَةِ، وَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ لَهُمْ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالْبَهَائِمُ لَهُمْ مُسَخَّرُونَ لَا يَشَاءُونَ شَيْئًا إلَّا وَهُوَ كَائِنٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَشَاءُونَ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَخْدُمُونَ إلَّا اللَّهَ وَيَخْدُمُهُمْ كُلُّ مَنْ دُونَ اللَّهِ، وَأَيْنَ مُلُوكُ الدُّنْيَا بِعُشْرِ أَعْشَارِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ، بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَعَلَى خَطَرٍ كَثِيرٍ وَخَوْفٍ عَظِيمٍ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ وَقَدْ سَمِعْت قَوْلَ زَاهِدٍ لِمَلَكٍ: أَنْتَ عَبْدُ عَبْدِي وَمُلْكِي أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِك «وَكَرَامَةِ الْآخِرَةِ» بِمَا وَعَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ حُسْنِ الْمَآبِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ وَكَرِيمِ الْمَقَامَاتِ وَعُلُوِّ الطَّبَقَاتِ إلَى رُتْبَةِ الْمُلْكِ الْكَبِيرِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا فَصَّلَ نِسْبَةَ هَذَا الْمُلْكِ بِمُلْكِ الدُّنْيَا وَبِعِبَادَةِ الْعَابِدِ: كَلًّا بَلْ لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ نَفْسٍ وَأَلْفُ أَلْفِ رُوحٍ وَأَلْفُ أَلْفِ عُمُرٍ أَكْثَرُ مِنْ عُمُرِ الدُّنْيَا فَبَذَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ الْعَزِيزِ لَكَانَ قَلِيلًا، وَلَئِنْ ظَفِرَ بَعْدَهُ كَانَ غُنْمًا عَظِيمًا، فَتَنَبَّهْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ مِنْ نَوْمَةِ الْغَافِلِينَ لَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ - تَعَالَى - مِثْلَ هَذَا الْمُلْكِ فِي قَلِيلِ الْعُمُرِ بِقَلِيلِ الْعَمَلِ وَأَنْتَ لَا تَطْلُبُهُ وَلَا تَرْغَبُهُ بَلْ تُؤْثِرُ الْفَانِيَاتِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْبَاقِيَاتِ.

(مُهِمَّةٌ) ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الْأَكْيَاسَ الَّذِينَ اسْتَعَدُّوا لِلْمَوْتِ حَقَّ الِاسْتِعْدَادِ جُمْلَةُ مَا أُعْطِيَ لَهُمْ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَتِهَا بَالِغٌ إلَى عِشْرِينَ، وَكَذَا كَرَامَةُ الْآخِرَةِ وَالدِّينِ، فَالْجُمْلَةُ أَرْبَعُونَ عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْأُولَى: أَنْ يَذْكُرَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ وَأَكْرِمْ بِعَبْدٍ يَكُونُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ذِكْرِهِ.

وَالثَّانِيَةُ: شُكْرُهُ - تَعَالَى - وَتَعْظِيمُهُ وَلَوْ شَكَرَك وَعَظَّمَك مَخْلُوقٌ مِثْلُك لَشَرُفْت بِهِ فَكَيْفَ بِإِلَهِ الْعَالَمِينَ.

وَالثَّالِثَةُ: حُبُّهُ - تَعَالَى - فَلَوْ أَحَبَّك رَئِيسُ مَحَلَّةٍ لَافْتَخَرْت وَانْتَفَعْت بِهِ فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ وَكِيلَهُ يُدَبِّرُ أُمُورَهُ.

وَالْخَامِسَةُ: يَكُونُ كَفِيلَ رِزْقِهِ بِلَا تَعَبٍ.

وَالسَّادِسَةُ: يَكُونُ لَهُ نَصِيرًا كَافِيًا مِنْ كُلِّ عَدُوِّهِ.

وَالسَّابِعَةُ: يَكُونُ أَنِيسَهُ لَا يَسْتَوْحِشُ بِحَالٍ.

وَالثَّامِنَةُ: عِزُّ النَّفْسِ فَلَا يَلْحَقُهُ ذُلُّ خِدْمَةِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا بَلْ لَا يَرْضَى بِخِدْمَةِ الْمُلُوكِ.

وَالتَّاسِعَةُ: رَفْعُ الْهِمَّةِ فَيُبْرِيهِ مِنْ التَّلَطُّخِ بِقَاذُورَاتِ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى زَخَارِفِهَا.

وَالْعَاشِرَةُ: غِنَى الْقَلْبِ فَلَا يَزُولُ فَرَحُ صَدْرِهِ بِقَحْطٍ وَلَا يُفْزِعُهُ عُدْمٌ.

وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: نُورُ الْقَلْبِ فَيَهْتَدِي إلَى حِكَمٍ وَعُلُومٍ لَا يَهْتَدِي إلَى بَعْضِهَا غَيْرُهُ إلَّا بِجِدٍّ فِي عُمُرٍ مَدِيدٍ.

وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: شَرْحُ الصُّدُورِ

ص: 127

فَلَا تَضِيقُ بِشَيْءٍ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا وَمَكَايِدِ النَّاسِ.

وَالثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْمَهَابَةُ يَحْتَرِمُهُ الْأَخْيَارُ وَالْأَشْرَارُ وَيَهَابُهُ كُلُّ فِرْعَوْنٍ وَجَبَّارٍ.

وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْمَحَبَّةُ فِي الْقُلُوبِ فَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَمَطْبُوعَةٌ عَلَى إكْرَامِهِ.

وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْبَرَكَةُ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كَلَامٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قُوتٍ أَوْ مَكَان حَتَّى يُتَبَرَّكَ بِتُرَابٍ وَطِئَهُ وَبِمَكَانٍ جَلَسَهُ، أَوْ بِإِنْسَانٍ صَحِبَهُ.

وَالسَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَسْخِيرُ الْأَرْضِ مِنْ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إنْ شَاءَ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ أَوْ طَوَى الْأَرْضَ لَهُ.

وَالسَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَسْخِيرُ الْحَيَوَانِ مِنْ السِّبَاعِ وَالْوُحُوشِ وَالْهَوَامِّ فَتُجِيبُهُ الْوُحُوشُ وَالْأُسُودُ.

وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مِلْكُ مَفَاتِيحِ الْأَرْضِ فَكُلَّمَا أَرَادَ كَنْزًا أَوْ عَيْنًا جَارِيَةً أَوْ حُضُورَ مَائِدَةٍ يُوجَدُ.

وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: الْوَجَاهَةُ عَلَى بَابِ رَبِّ الْعِزَّةِ فَتَبْتَغِي الْخَلْقُ الْوَسِيلَةَ إلَى اللَّهِ بِخِدْمَتِهِ وَتُسْتَنْجَحُ الْحَاجَاتُ بِبَرَكَتِهِ.

وَالْعِشْرُونَ: إجَابَةُ الدَّعْوَةِ فَلَا يَسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَلَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ بِمَا شَاءَ حَتَّى لَوْ أَشَارَ إلَى جَبَلٍ لَزَالَ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى تَكَلُّمٍ وَلَوْ خَطَرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَحَضَرَ بِلَا إشَارَةٍ بِيَدٍ.

وَأَمَّا الَّتِي فِي الْعُقْبَى الْأُولَى: أَنْ يُهَوَّنَ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْمَوْتُ عِنْدَهُ مِثْلَ شَرْبَةِ مَاءٍ زُلَالٍ لِظَمْآنَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] .

وَالثَّانِيَةُ: التَّثْبِيتُ عَلَى الْإِيمَانِ الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] .

وَالثَّالِثَةُ: إرْسَالُ الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] .

وَالرَّابِعَةُ: الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ.

وَالْخَامِسَةُ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ لِرُوحِهِ وَتَحِيَّةُ مَلَائِكَةِ السَّمَوَاتِ بِالْإِكْرَامِ وَلِبَدَنِهِ فِي الْعَلَانِيَةِ بِتَعْظِيمِ جِنَازَتِهِ وَالْمُزَاحَمَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَحَمْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ وَنَحْوِهِ رَجَاءَ أَكْثَرِ ثَوَابٍ وَغُفْرَانٍ.

وَالسَّادِسَةُ: أَمْنٌ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ.

وَالسَّابِعَةُ: تَوْسِيعُ الْقَبْرِ وَتَنْوِيرُهُ فِي رَوْضَةِ جَنَّةٍ.

وَالثَّامِنَةُ: إينَاسُ رُوحِهِ فَتُجْعَلُ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ مَعَ الصَّالِحِينَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ.

وَالتَّاسِعَةُ: الْحَشْرُ بِالْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ مِنْ حُلَلٍ وَتَاجٍ بَرَّاقٍ.

وَالْعَاشِرَةُ: بَيَاضُ الْوَجْهِ وَنُورُهُ.

وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْأَمْنُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ.

وَالثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَخْذُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ كُفِيَ رَأْسًا.

وَالثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: تَيْسِيرُ الْحِسَابِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَاسَبُ أَصْلًا.

وَالرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ثِقَلُ الْمِيزَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا وَزْنَ لَهُ أَصْلًا.

وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: وُرُودُ حَوْضِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

وَالسَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ الصِّرَاطِ وَالنَّجَاةُ مِنْ النَّارِ حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَعُ حَسِيسَهَا وَتُخْمَدُ لَهُ النَّارُ.

وَالسَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الشَّفَاعَةُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَالثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: مُلْكُ الْأَبَدِ فِي الْجَنَّةِ.

وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: الرِّضْوَانُ الْأَكْبَرُ فِي الْجَنَّةِ.

وَالْعِشْرُونَ: لِقَاءُ رَبِّ الْعَالَمِينَ إلَهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ جل جلاله ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ أَيْضًا: هَذَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِي الْقَاصِرِ مَعَ أَنِّي اكْتَفَيْت بِالْأُصُولِ وَإِلَّا فَكُلُّ نَوْعٍ لَوْ فُصِّلَ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «خَلَقَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» .

(ذَمُّ طُولِ الْأَمَلِ)

(دنياهق) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ) بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَهِيَ سَلْمَى بِنْتُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيَّةُ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ اطَّلَعَ» بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى نَظَرَ ( «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ عَشِيَّةٍ» آخِرَ النَّهَارِ «إلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تَجْمَعُونَ» مِنْ الدُّنْيَا «مَا لَا تَأْكُلُونَ» مِنْ الْكَثْرَةِ أَوْ مِنْ عَدَمِ إيفَاءِ الْعُمُرِ فَيَأْكُلُهُ الْغَيْرُ حَبِيبُهُ قَرِيبُهُ، أَوْ عَدُوُّهُ بَعِيدُهُ، فَلَوْ صَرَفَهُ إلَى الْمَصَارِفِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ جَمَعَ مَا أَكَلَهُ كَنَفَقَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ فِي بَيْتِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ: أَيْنَ مَتَاعُ بَيْتِك؟ قَالَ: لِي بَيْتٌ آخَرُ فَكُلَّمَا حَصَلَ لِي شَيْءٌ أَبْعَثُهُ إلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَنْتَ تَسْكُنُ هُنَا؟ قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْطَلِقَ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا مُنْذُ خَلَقَهَا» «وَتَأْمُلُونَ» بِضَمِّ الْمِيمِ «مَا لَا تُدْرِكُونَ» أَيْ تَتَمَنَّوْنَ وَتَرْجُونَ أُمُورًا كَثِيرَةً أَوْ عَظِيمَةً لَا يُمْكِنُ

ص: 128

وُصُولُكُمْ إلَيْهَا عَادَةً لِعَظَمَتِهَا أَوْ كَثْرَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ نِهَايَةِ مَا أَمَّلْتُمْ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إذَا وَصَلَ إلَى مَقَامٍ مِنْ مُشْتَهَيَاتِهِ يَأْمُلُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ «وَتَبْنُونَ» مِنْ الْبُنْيَانِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ «مَا لَا تَسْكُنُونَ» لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْ يُشَيِّدُونَهُ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِمْ فَلَا يَسْكُنُونَ بَلْ السُّكْنَى لِلْغَيْرِ، لَعَلَّ هَذَا فِيمَا هُوَ مِنْ الْحَلَالِ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ خَرَابُ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ وَشُؤْمِ الْبَيْتِ، أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبِنَاءِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُسْرِعَ إلَيْهِ الْخَرَابُ فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ وَلَوْ لَمْ يَبْنِ بِهِ لَمْ يَخْرَبْ سَرِيعًا بَلْ يَطُولُ بَقَاؤُهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: الْحَجَرُ الْوَاحِدُ فِي الْحَائِطِ مِنْ الْحَرَامِ عُرْبُونُ الْخَرَابِ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَجَدْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ اسْتَغْنَى بِأَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ جُعِلَتْ عَاقِبَتُهُ الْفَقْرَ وَأَيُّ دَارٍ بُنِيَتْ بِالضُّعَفَاءِ جُعِلَتْ عَاقِبَتُهَا الْخَرَابَ وَوَرَدَ أَيْضًا: أَنَّ الْبِنَاءَ إنْ كَانَ مِنْ حَرَامٍ لَمْ يَطُلْ تَمَتُّعُ صَاحِبِهِ بِهِ وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «إنَّ لِلَّهِ عز وجل بِقَاعًا تُسَمَّى الْمُنْتَقِمَاتِ فَإِذَا كَسَبَ الرَّجُلُ الْمَالَ مِنْ حَرَامٍ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَالطِّينَ ثُمَّ لَا يُمَتِّعُهُ بِهِ» وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا انْتَفَعْت بِكَلَامِ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِكِتَابٍ كَتَبَهُ إلَيَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَسُوءُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ وَيَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ فَلْيَكُنْ سُرُورُك بِمَا نِلْت مِنْ أَمْرِ آخِرَتِك وَلْيَكُنْ أَسَفُك عَلَى مَا فَاتَك مِنْهَا وَمَا نِلْت مِنْ دُنْيَاك فَلَا تُكْثِرَنَّ بِهِ فَرَحًا وَمَا فَاتَك مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعًا وَلْيَكُنْ هَمُّك فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ. وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيْضًا: إنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَلَكًا يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ وَاجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ

(دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (طب) الطَّبَرَانِيُّ (نَعَمْ) أَبُو نُعَيْمٍ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ اشْتَرَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) هُوَ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ مَوْلَاهُ وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ اسْتَعْمَلَهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً» (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَاتِبِ الْوَحْيِ وَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَجْمَعَ الْقُرْآنَ وَأَمَرَهُ عُثْمَانُ فَكَتَبَ الْمُصْحَفَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يُمْلِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا لِصِغَرِهِ وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ وَكَانَ أَحَدَ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَالْقَيِّمَ فِي الْفَرَائِضِ وَأَحَدَ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْتَى فِي حَيَاتِهِ ( «وَلِيدَةً» أَيْ جَارِيَةً «بِمِائَةِ دِينَارٍ» مُؤَجَّلَةٍ «إلَى» مُضِيِّ «شَهْرٍ قَالَ» أَبُو سَعِيدٍ «فَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَلَا تَعْجَبُونَ» مِنْ الْعَجَبِ قِيلَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِالتَّعَجُّبِ «مِنْ أُسَامَةَ الْمُشْتَرِي إلَى شَهْرٍ إنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ الْأَمَلِ» فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ بِالْعِلَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَقْتَضِيَ الْكَرَاهَةَ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ نَسِيئَةً عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ شِرَاءَهُ لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ قُلْنَا: هَذَا لِلْعَوَامِّ وَأُسَامَةُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَأَنَّهُ يَجُوزُ فَهْمُهُ

ص: 129

- عليه الصلاة والسلام عَدَمَ ضَرُورَتِهِ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّف فِي الْحَاشِيَةِ: هَذَا التَّوْبِيخُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَطْعِ أُسَامَةَ إرَادَةَ الْحَيَاةِ إلَى شَهْرٍ وَإِلَّا فَإِرَادَتُهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ بِشَرْطِ الصَّلَاحِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ فَكَيْفَ التَّوْبِيخُ، انْتَهَى «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ» أَيْ مَا وَقَعَ طَرَفُ جَفْنِهَا بِالطَّرَفِ الْآخَرِ ( «إلَّا ظَنَنْت أَنَّ شُفْرَيَّ» أَيْ جَفْنَيَّ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ تَثْنِيَةُ شُفْرٍ أَصْلُ مَنْبَتِ الشَّعْرِ فِي الْجَفْنِ «لَا يَلْتَقِيَانِ» لَا يَنْطَبِقَانِ عَلَى الْعَيْنِ «حَتَّى يَقْبِضَ اللَّهُ رُوحِي» فَأَمُوتَ فِي مِقْدَارِ طَرْفَةِ عَيْنٍ الطَّرْفُ تَحْرِيكُ الْجَفْنِ لِلنَّظَرِ إلَى شَيْءٍ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43]«وَلَا رَفَعْت طَرْفِي وَظَنَنْت أَنِّي وَاضِعُهُ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَاءِ يَعْنِي لَا أَظُنُّ وَضْعَهُ «حَتَّى أُقْبَضَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «وَلَا لَقِمْت» بِكَسْرِ الْقَافِ ( «لُقْمَةً إلَّا ظَنَنْت أَنِّي لَا أَسِيغُهَا» أَبْتَلِعُهَا وَأُدْخِلُهَا فِي حَلْقِي سَاغَ الشَّرَابُ سَوْغًا سَهُلَ مَدْخَلُهُ «حَتَّى أُغَصَّ بِهَا مِنْ» أَجْلِ «الْمَوْتِ» هُجُومِهِ «ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي آدَمَ: إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» مِنْ الْعُقَلَاءِ الْمُدْرِكِينَ لِعَاقِبَةِ الْأُمُورِ «فَعُدُّوا» اُحْسُبُوا «أَنْفُسَكُمْ مِنْ» جُمْلَةِ «الْمَوْتَى» لِأَنَّكُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِمْ قَرِيبًا كَقَوْلِهِ: مُوتُوا قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا عَلَى وَجْهٍ، وَكَمَا قِيلَ: عِشْ مَا شِئْت فَإِنَّك مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْت فَإِنَّك مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْت فَإِنَّك مَجْزِيٌّ بِهِ.

«وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» التَّأْكِيدُ بِالْقَسَمِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ أَوْ لِصِدْقِ الرَّغْبَةِ أَوْ لِقُوَّةِ الِاهْتِمَامِ «إنَّ مَا تُوعَدُونَ» مِنْ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْمُجَازَاةِ وَالْمُحَاسَبَاتِ «لَآتٍ» {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]«وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إعْجَازِ اللَّهِ عَنْ إتْيَانِ مَا تُوعَدُونَهُ مِنْ الْمَوْتِ وَنَحْوِهِ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] .

وَفِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مِنْ خُطْبَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيُّهَا النَّاسُ، اعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقًا عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلًا مَنِيعًا ذُرْوَتُهُ، وَبَادِرُوا الْمَوْتَ وَغَمَرَاتِهِ، وَامْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَأَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ، إنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ، وَكَفَى بِذَلِكَ وَاعِظًا لِمَنْ عَقَلَ، وَمُعْتَبَرًا لِمَنْ جَهِلَ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ وَشِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَهَوْلِ الْمَطْلَعِ وَرَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَاخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ وَاسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَظُلْمَةِ اللَّحْدِ وَخِيفَةِ الْوَعْدِ وَغَمِّ الضَّرِيحِ وَرَدْمِ الصَّفِيحِ وَأَيْضًا مِنْ حِكَمِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ وَالْآخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَلَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ، وَأَخْرِجُوا مِنْ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ أَبْدَانُكُمْ، فِيهَا اُخْتُبِرْتُمْ وَلِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الْحَسَنِ) التَّابِعِيِّ (رضي الله عنه) مُرْسَلًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكُلُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟» الِاسْتِفْهَامُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام يَعْلَمُ حُبَّهُمْ دُخُولَ الْجَنَّةِ فَلِلتَّقْرِيرِ أَيْ حَمْلِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمَحَبَّةِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ سَبَبَ دُخُولِهَا «قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ» جَاءُوا بِهِ تَلَذُّذًا بِمُخَاطَبَتِهِ وَتَعْظِيمًا بِتَوْصِيفِ رِسَالَتِهِ وَطَلَبِ أَجْرٍ بِاعْتِرَافِ رِسَالَتِهِ وَإِيمَاءً بِقُوَّةِ تَصْدِيقِهِمْ بِمَا سَيُخْبِرُ بِهِ عليه الصلاة والسلام الْمُشَارِ مِنْ صَنِيعِ حِسَانِ فِعَالِهِ.

«قَالَ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ص: 130

«قَصِّرُوا الْأَمَلَ» فَإِنَّ طُولَ الْأَمَلِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ حُبُّ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ: وَمِنْ شَأْنِ الْمُرِيدِ قِصَرُ الْأَمَلِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ ابْنُ وَقْتِهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ تَدْبِيرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَطَلُّعٌ لِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْوَقْتِ وَأَمَلٌ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ «وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ» أَوْقَاتَ مَوْتِكُمْ «بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ» لِئَلَّا تَغْفُلُوا عَنْهَا وَتَشْتَغِلُوا بِالدُّنْيَا «وَاسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حَقَّ الْحَيَاءِ» لِئَلَّا تَتَعَمَّقُوا فِي مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ وَأَذْوَاقِ الْهَوَى، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام «قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالُوا: إنَّا نَسْتَحْيِي مِنْ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكِنْ مَنْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى أَيْ جَمَعَهُ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَلْيَحْفَظْ الْبَطْنَ مِنْ الْحَرَامِ وَمَا حَوَى أَيْ جَمَعَهُ الْبَطْنُ مِنْ الْفَرْجِ وَالْقَلْبِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ الطِّيبِيِّ: فَمَنْ أَهْمَلَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَةِ الِاسْتِحْيَاءِ وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جِبِلَّةَ الْإِنْسَانِ وَخِلْقَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ إلَى قَدَمِهِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ مَعْدِنُ الْعَيْبِ وَمَكَانُ الْمُحَارَبَةِ فَحَقُّ الْحَيَاءِ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَيَصُونَهَا عَمَّا يُعَابُ فِيهَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ وَرَأْسُهُ تَرْكُ الْمَرْءِ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَشَغْلُهُ فِيمَا يَعْنِيهِ عَلَيْهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْرَثَهُ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَلِلْحَيَاءِ مَرَاتِبُ) أَعْلَاهَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهُوَ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ الْمُوصِلُ إلَى مَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ.

قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ الْإِكْثَارُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِحَيْثُ يَصِيرُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَالْمَرِيضُ أَوْلَى

ثُمَّ أَرَادَ تَفْصِيلَ حُكْمِ الْأَمَلِ (فَالْأَمَلُ إنْ كَانَ لِلتَّلَذُّذِ بِالْمُحَرَّمَاتِ) كَظُلْمِ الْعِبَادِ وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ (فَحَرَامٌ) لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْأُمُورِ بِمَقَاصِدِهَا (وَإِلَّا) كَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحَاتِ وَإِتْمَامِ عَمَلِ خَيْرٍ مَثَلًا (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) لِعَدَمِ آلِيَّتِهِ لِأَمْرٍ مُحَرَّمٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) قَطْعًا أَوْ قَوِيًّا (وَلَوْ كَانَ لِتَكْثِيرِ الطَّاعَاتِ) كَالتَّصَدُّقِ وَالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ وَطَرِيقِ الْخَيْرِ كَالصَّدَقَاتِ الْجَارِيَةِ نَحْوِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ (لِلْآفَاتِ السَّابِقَةِ) فِي أَوَائِلِ بَحْثِ الْأَمَلِ نَحْوُ الْكَسَلِ فِي الطَّاعَةِ وَتَأْخِيرِهَا وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ الْأَوَّلُ أَمَلُ الْعَامَّةِ وَهَذَا الثَّانِي أَمَلُ الْخَاصَّةِ، لَكِنْ فِيهِ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ خَطَرٍ فِيهِ أَوْ فِي إتْمَامِهِ يُنَافِي الصَّلَاحَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ شَرْطِ الصَّلَاحِ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْأَمَلَ (يَسْتَلْزِمُ الطَّمَعَ الْمَذْمُومَ) طَمَعَ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا بِخِلَافِ طَمَعِ الدِّينِ

(وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ الْمَذْمُومُ (إرَادَةُ الْحَرَامِ) سَوَاءً كَانَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ الثَّانِي أَقْبَحُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ذُلٌّ حَرَامٌ (الْمُلِذِّ) الْمُوقِعِ فِي اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ الْفَانِيَةِ الظُّلْمَانِيَّةِ مِنْ مُيُولَاتِ إمَارَةِ النَّفْسِ وَمِنْ التَّحْرِيكَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ (أَوْ) إرَادَةُ (الشَّيْءِ الْمُخَاطَرِ) لَا يُؤْمَنُ مِنْ عُرُوضِ خَطَرٍ (أَعْنِي) بِالْمُخَاطَرِ (النَّوَافِلَ) فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إذَا ابْتَدَأَ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنْ يُتِمَّهُ إذْ هُوَ غَيْبٌ وَلَا أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ صَلَاحٌ بَلْ يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَوْ شَرْطِ الصَّلَاحِ فَيَخْلُصُ مِنْ غَيْبِ الْأَمَلِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23]{إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] .

ص: 131

(وَالْمُبَاحَاتِ) حَالَ كَوْنِ إرَادَةِ الشَّيْءِ الْمُخَاطَرِ (بِالْحُكْمِ) بِلَا اسْتِثْنَاءٍ وَلَا شَرْطِ صَلَاحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِيهِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْمُحْبِطَاتِ فَتَأَمَّلْ (وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ الْمَذْمُومُ.

(الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ هق) الْبَيْهَقِيُّ (حك) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ثَالِثٌ فِي الْإِسْلَامِ، أَوَّلُ رَامٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ أَحَدَ السِّتَّةِ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَرَاقَ دَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ «ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي» وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ حِينَ إمَارَتِهِ بِالْكُوفَةِ: أَنْتَ لَا تَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ وَلَا تَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا تَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَعْمِ بَصَرَهُ وَعَجِّلْ فَقْرَهُ وَأَطِلْ عُمُرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ فَعَمِيَ فَكَانَ يَلْتَمِسُ الْجُدْرَانَ وَافْتَقَرَ حَتَّى سَأَلَ النَّاسَ وَأَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ، فَقِيلَ فِيهَا يَقُولُ أَدْرَكَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ وَهُوَ آخِرُ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً، وَكَانَ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي جُبَّةِ صُوفٍ لَهُ كَانَ لَقِيَ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَكُفِّنَ فِيهَا.

«جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي» بِمَا يُنْقِذُنِي مِنْ النَّارِ وَمِنْ الذِّلَّةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ «قَالَ عَلَيْك بِالْإِيَاسِ» فِعَالٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْيَأْسِ أَيْ الْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْأُمْنِيَةِ «مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا يَعْنِي صَمِّمْ وَأَلْزِمْ نَفْسَك بِالْيَأْسِ مِنْهُ «وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ» أَيْ الطَّمَعَ «الْفَقْرُ الْحَاضِرُ» وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ عُدِمَ الْقَنَاعَةَ لَمْ يَزِدْهُ الْمَالُ إلَّا فَقْرًا وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ

دَعْ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا

وَفِي الْعَيْشِ فَلَا تَطْمَعْ

وَلَا تَجْمَعْ مِنْ الْمَالِ

فَلَا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ

فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ

وَسُوءُ الظَّنِّ لَا يَنْفَعْ

فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ

غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى وَمَالٌ لَا يَنْفَدُ» وَأَنْشَدُوا

إنَّ الْقَنَاعَةَ بَابٌ أَنْتَ دَاخِلُهُ

إنْ كُنْت ذَاكَ الَّذِي يُرْجَى لِخِدْمَتِهِ

فَاقْنَعْ بِمَا أَعْطَتْ الْأَيَّامُ مِنْ نِعَمٍ

مِنْ الطَّبِيعَةِ لَا تَقْنَعْ بِنِعْمَتِهِ

لَوْ كَانَ عِنْدَك مَالُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ

لَنْ يَأْكُلَ الشَّخْصُ مِنْهُ غَيْرَ لُقْمَتِهِ

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:

مَا ذَاقَ ذَوْقَ الْغِنَى مَنْ لَا قُنُوعَ لَهُ

وَلَنْ تَرَى قَانِعًا مَا عَاشَ مُفْتَقِرًا

«وَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ» أَيْ اشْرَعْ فِيهَا وَالْحَالُ أَنَّك تَارِكٌ غَيْرَك لِمُنَاجَاةِ رَبِّك مُقْبِلًا عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِك «وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ» أَيْ احْذَرْ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِمَا يُحْوِجُك أَنْ تَعْتَذِرَ مِنْهُ وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إيَّاكَ وَمَا سَبَقَ الْقُلُوبَ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ كَمَا فِي ابْنِ مَالِكٍ وَلِذَا كَرِهَ الذَّوْقَ وَمَضْغَ شَيْءٍ لِلصَّائِمِ؛ لِأَنَّ مَنْ رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ يَظُنُّهُ آكِلًا وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِبَةِ.

(فَطَمَعُ الْحَرَامِ حَرَامٌ) لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا (وَطَمَعُ الْمُخَاطَرِ)(لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْمُحَرَّمِ إذْ رُبَّمَا

ص: 132