الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا أَقَامُوا الْأَدِلَّةَ عَلَيْهَا فَبِهَذَا الْإِعْجَابِ وَقَعَ هَلَاكُ جَمِيعِ الْهَالِكِينَ (إذْ صَاحِبُهُ يَظُنُّهُ) ذَلِكَ الْخَطَأَ فِي الرَّأْيِ (عِلْمًا لَا جَهْلًا) فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ فَيَصْعُبُ دَفْعُهُ (وَنِعْمَةً لَا نِقْمَةً وَصِحَّةً لَا مَرَضًا فَلَا يَطْلُبُ الْعِلَاجَ) إنَّمَا يَطْلُبُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَى إزَالَتِهِ (وَلَا يَصْغَى) فَيَسْتَمِعُ (إلَى الْأَطِبَّاءِ) الرُّوحَانِيِّينَ الْحَاذِقِينَ فِي مُعَالَجَةِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ بِأَدْوِيَةِ الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ نَحْوِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ دَاءً، بَلْ إنَّمَا يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ صِحَّةً وَشِفَاءً بِلَا دَوَاءٍ (وَهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) كَثَّرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعَانَهُمْ وَخَذَلَ أَعَادِيهِمْ؛ لِأَنَّ دَوَاءَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْدِنِ الرِّسَالَةِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا تَصَرُّفِهِمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
[الْخُلُقُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ السِّتِّينَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْحَسَدُ]
الْخُلُقُ (الْخَامِسَ عَشَرَ) مِنْ السِّتِّينَ (الْحَسَدُ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَبَاحِثَ) الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهِ وَضِدِّهِ مَعَ مُنَاسِبِهِمَا وَحُكْمِهِمَا، الثَّانِي فِي آفَاتِهِ، الثَّالِثُ فِي عِلَاجِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، الرَّابِعُ فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ.
(الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهِ وَضِدِّهِ وَمُنَاسِبِهِمَا) أَيْ الْحَسَدِ وَضِدِّهِ (وَحُكْمُهُمَا) وَهُوَ الصَّوَابُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حُكْمُهَا بِلَا تَثْنِيَةِ تَعْرِيفٍ (الْحَسَدُ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (عَنْ أَحَدٍ) مِنْ الْخَلْقِ (مِمَّا لَهُ فِيهِ صَلَاحٌ دِينِيٌّ) إذْ مَا لَيْسَ لَهُ صَلَاحٌ لَيْسَ بِحَسَدٍ بَلْ غَيْرَةُ دِينٍ كَمَنْ يَجْعَلُ عِلْمَهُ أَوْ مَالَهُ آلَةً لِمَعْصِيَتِهِ كَمَا سَيَجِيءُ (أَوْ) صَلَاحٌ (دُنْيَوِيٌّ) كَالْمَالِ وَالْجَاهِ (مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فِي الْآخِرَةِ) ، وَأَمَّا بِهِ فَجَائِزٌ كَمَنْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَا يُعْطِي حَقَّهَا بَلْ يَجْعَلُهَا آلَةً لِمَعْصِيَةٍ فَتَمَنِّي زَوَالِ الصَّلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ الْمُضِرِّ لَا يَكُونُ حَسَدًا (أَوْ) إرَادَةُ (عَدَمِ وُصُولِهَا) أَيْ النِّعْمَةِ (إلَيْهِ) إلَى ذَلِكَ الْأَحَدِ ابْتِدَاءً (أَوْ حُبُّهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ لَهُ) أَيْ لِلْحُبِّ كَمَنْ رَأَى أَحَدًا يَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى شَيْءٍ فَأَحَبَّ ذَلِكَ الْحَسَدَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ. (وَلَوْ وَقَعَ ` فِي قَلْبِك) ضَرُورَةً (مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ) وَقَصْدٍ مِنْك (وَوَجَدْت الْإِنْكَارَ لِوُقُوعِهِ فِيهِ) لَعَلَّهُ الْأَظْهَرُ فَأَنْكَرْت (فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ) ؛ لِأَنَّ الْخَاطِرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ إذْ الْأُمُورُ الِاضْطِرَارِيَّةُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا - لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعُهَا - لَعَلَّ كَلِمَةَ لَا بَأْسَ هُنَا لَيْسَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْمَشْهُورِ مِمَّا كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى، إذْ التَّرْكُ اخْتِيَارِيٌّ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ وُجُودَ هَذَا اضْطِرَارِيٌّ بَلْ بِمَعْنَى لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْثَمُ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْهِدَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْقُشَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ غَيْرُهُ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْكَافِي وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى كَمَا نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ النِّهَايَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ بَلْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْبَأْسَ وَالْجُنَاحَ كَالْمُتَسَاوِي وَنَفْيِ الْجُنَاحِ لِلْوُجُوبِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَلْيُجِزْ أَيْضًا نَفْيَ الْبَأْسِ كَذَلِكَ كَذَا قِيلَ وَنُقِلَ عَنْ الزَّاهِدِيِّ أَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى لَا يَجُزْ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ لَا بَأْسَ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدْ) الْإِنْكَارَ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِلَا اخْتِيَارٍ (أَوْ وَقَعَ بِاخْتِيَارٍ) مِنْك (وَإِرَادَةِ زَوَالِ) نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْ أَحَدٍ (أَوْ) إرَادَةِ (عَدَمِ وُصُولِهَا) نِعْمَةٍ إلَى غَيْرِ (فَإِنْ عَمِلْت بِمُقْتَضَاهُ) بِأَنْ صَدَرَ مِنْك مَا يَكُونُ مُسَبَّبًا عَنْهُ قَوْلُهُ (أَوْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي بَعْضِ الْجَوَارِحِ) مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَحَمْلُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَطْفَ تَفْسِيرٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]- وَإِنْ جَازَ فِي نَفْسِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]- {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] وَكَالْإِضْرَابِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]- لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ التَّفَاهُمِ (فَحَسَدٌ حَرَامٌ)
قَيْدٌ وُقُوعِيٌّ لَعَلَّهُ لَيْسَ بِاحْتِرَازِيٍّ (بِالِاتِّفَاقِ) وَمَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَأَيُّ مَعْصِيَةٍ تَزِيدُ عَلَى كَرَاهَتِك لِرَاحَةِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَك فِيهِ مَضَرَّةٌ (وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ أَصْلًا) كُلًّا أَوْ بَعْضًا فِي أَيْ جَارِحَةٍ.
(وَكَانَ الْمَوْجُودُ فِي الْقَلْبِ نَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الْحَسَدِ (فَقَطْ) دُونَ الْجَوَارِحِ (فَحَسَدٌ) أَيْضًا لَكِنْ (اخْتَلَفُوا فِي حُرْمَتِهِ وَ) فِي (كَوْنِ صَاحِبِهِ آثِمًا وَمُخْتَارُ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ حُرْمَتُهُ وَظَنَّ هَذَا الْفَقِيرُ) يُرِيدُ الْمُصَنِّفَ نَفْسَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ (عَدَمَهَا) قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ وَبَعْدَمَا كَتَبْت هَذَا وَجَدْت الشَّيْخَ أَكْمَلَ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ سَبَقَنِي وَاخْتَارَ فِي هَذَا عَدَمَ الْحُرْمَةِ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَوَقَعَ التَّوَارُدُ فِي الْمُدَّعَى فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ الظَّنُّ» بِالنَّاسِ سُوءًا «وَالطِّيَرَةُ» وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ أَمَارَةً لِلشَّرِّ «وَالْحَسَدُ وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ» الْخَلَاصِ «مِنْ ذَلِكَ» الْمَذْكُورِ وَذَلِكَ الْمَخْرَجُ قَوْلُهُ «إذَا ظَنَنْت» السُّوءَ لِأَحَدٍ «فَلَا تُحَقِّقْ» أَيْ لَا تُخْرِجْ أَثَرَهُ فِي جَوَارِحِك مَا لَمْ تَتَيَقَّنْ «وَإِذَا تَطَيَّرْت فَامْضِ» وَلَا تَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى «وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ» لَا تَظْلِمْ عَلَى الْمَحْسُودِ عَلَيْهِ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِي الْجَوَارِحِ أَثَرُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ لَا يَخْفَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى لَا تَبْغِ بِإِبْقَائِهِ فِي قَلْبِك وَاسْتِمْرَارِهِ فِيهِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا فِي كَوْنِ ابْتِدَائِهِ اضْطِرَارِيًّا وَإِبْقَائِهِ اخْتِيَارِيًّا فَالْحُرْمَةُ حِينَئِذٍ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِظْهَارِ بِالْجَوَارِحِ بَلْ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْقَلْبِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ عَلَى الشَّرِّ إنْ كَانَتْ فِي مَرْتَبَةِ التَّصْمِيمِ وَالِاسْتِمْرَارِ فَيُؤَاخَذُ بِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] .
(خَرَّجَهُ دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. (وَحَمْلُ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ (هَذَا) أَيْ الْحَسَدَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ (عَلَى حُبِّ الطَّبْعِ لِزَوَالِ نِعْمَةِ الْعَدُوِّ مَعَ الْكَرَاهَةِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ) عَلَى مَعْنَى إذَا حَسَدْت إذَا وَجَدْت حُبًّا طَبِيعِيًّا فِي قَلْبِك لِزَوَالِ نِعْمَةِ الْعَدُوِّ فَلَا تَبْغِ أَيْ فَلَا تَقْبَلْهُ بَلْ انْكِرْهُ وَاكْرَهْهُ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ (غَيْرُ مُوَجَّهٍ إذْ الْحَسَدُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِرَادَةِ) الظَّاهِرُ مُطْلَقٌ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْحَسَدَ لَيْسَ مُطْلَقَ الْإِرَادَةِ بَلْ إرَادَةَ زَوَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ إلَخْ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقِيًّا، بَلْ ذِكْرُ الْكُلِّ وَإِرَادَةُ الْجُزْءِ أَوْ ذِكْرُ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ مِنْ الْمَجَازِ، نَعَمْ اسْتِعْمَالُهُ اللَّفْظَ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَاكَ حَقِيقَةً مُطْلَقَةً فَافْهَمْ (الَّتِي هِيَ ضِدُّ الْكَرَاهَةِ) فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ
كَوْنُ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا فَتَأَمَّلْ. فِيهِ بَلْ الْمُتَبَادِرُ كَوْنُهَا بِمَعْنَى الطَّلَبِ الْقَلْبِيِّ.
(فَلَا تُجَامِعُهَا) أَيْ الْإِرَادَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَدْ لَزِمَ مُجَامَعَتُهُمَا فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَقُولُ كَلَامُ الْإِمَامِ عَلَى مَا حَرَّرَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ آنِفًا لَا يَقْتَضِي اجْتِمَاعَهُمَا بَلْ يُوجَدُ أَوَّلًا الْحُبُّ الطَّبِيعِيُّ ثُمَّ لَا يَقْبَلُهُ شَرْعًا بَلْ يَكْرَهُهُ وَيُخْرِجُهُ عَنْ قَلْبِهِ فَالْمُحَالُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ مَعًا لَا وُجُودُهُمَا مُتَعَاقِبًا فَاللَّازِمُ عَلَى الْإِمَامِ هُوَ التَّعَاقُبُ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُحَالٍ وَالْمُحَالُ هُوَ الْمَعِيَّةُ وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا قَدْ خَفِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بَلْ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ لَمْ يَتَعَرَّضُوا وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ نَعَمْ يُقَرِّبُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ أَرَادَ نَفْيَ إمْكَانِ وُجُودِ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْحَاسِدِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِتَغَايُرِ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّ الْحَسَدَ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ، وَالْكَرَاهَةُ عَارِضَةٌ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ كَوْنِهِ حَسَدًا مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا لِوُجُودِ تَمَامِ مَاهِيَّةِ الْحَسَدِ فِيهِ غَايَتُهُ حَسَدًا مِنْ إثْمِهِ بِتِلْكَ الْكَرَاهَةِ (كَمَا لَا تُجَامِعُ الشَّهْوَةُ أَعْنِي حُبَّ الطَّبْعِ ضِدَّهَا) أَيْ الشَّهْوَةِ (الَّذِي هُوَ النَّفْرَةُ) لَعَلَّ هَذَا تَنْظِيرٌ لِلِاسْتِظْهَارِ لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ زِيَادَةُ.
فَائِدَةٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ (بِخِلَافِ كُلٍّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ) أَيْ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ (فَإِنَّهُ يُجَامِعُ كُلًّا مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ) أَيْ الشَّهْوَةِ وَالنَّفْرَةِ إلَى آخِرِهِ فَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى فَائِدَتِهِ فِي نَفْسِهِ بَلْ يَسْتَلْزِمُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ عَلَى زَعْمِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَدَ الشَّهْوَةَ وَالنَّفْرَةَ فِي الْإِرَادَةِ مَثَلًا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا فِيهَا فَافْهَمْ وَقَدْ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي أَمَّا مُجَامَعَةُ الْإِرَادَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ فَفِي أَكْلِ الْعَسَلِ لِصَحِيحِ الْمِزَاجِ وَأَمَّا مَعَ النَّفْرَةِ فَفِي أَكْلِ الدَّوَاءِ الْمَرِّ لِمَعْلُولِ الْمِزَاجِ وَأَمَّا مُجَامَعَةُ الْكَرَاهَةِ مَعَ الشَّهْوَةِ فَفِي الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَكْلِ الْعَسَلِ لِأَجْلِ ضَرَرِهِ لِمَرَضِهِ وَمَعَ النَّفْرَةِ فَفِي الْمُمْتَنِعِ عَنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ (وَالْأُولَيَانِ) أَيْ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ (اخْتِيَارِيَّتَانِ) لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَوْنُ الْإِرَادَةِ سِيَّمَا مَبَادِئُهَا اخْتِيَارِيَّةٌ مَحَلُّ خَفَاءٍ كَيْفَ وَالِاخْتِيَارِيُّ لَا يَكُونُ إلَّا فِعْلًا وَالْإِرَادَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَهِيَ مَقُولَةٌ مُغَايِرَةٌ لِلْأُولَى وَأَيْضًا يَجُوزُ لِمَنْ لَهُ مَلَكَةٌ رَاسِخَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عُرُوضُ الْكَرَاهَةِ اضْطِرَارِيَّةً بِلَا عِلْمٍ وَخَبَرٍ مِنْهُ كَمَا نُشَاهِدُ فِي بَعْضِ مَنْ وَجِدَاتِنَا (وَالْأُخْرَيَانِ) أَيْ الشَّهْوَةُ وَالنَّفْرَةُ (اضْطِرَارِيَّتَانِ) لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لَا يَخْفَى أَنَّهُمَا فِي نِهَايَتِهِمَا وَاسْتِمْرَارِهِمَا قَدْ تَكُونَانِ اخْتِيَارِيَّتَيْنِ (لَا تُوصَفَانِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ) كَيْفَ وَشَهْوَةُ الْمَعَاصِي وَنَفْرَةُ الطَّاعَاتِ قَدْ يُمْكِنُ اتِّصَافُهُمَا بِالْحُرْمَةِ فَافْهَمْ (وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَلَا تَبْغِ مِنْ الْبَغْي الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ» يُرِيدُ بِهِ رَدًّا آخَرَ عَلَى الْغَزَالِيِّ فَإِنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ بَلْ الْإِكْرَاهُ بِالْقَلْبِ وَيَقُولُ الْمُصَنِّفُ إنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ بَلْ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ فَالْمَعْنَى لَا تَبْغِ بِالْأَفْعَالِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا بِالْقُلُوبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَقُولُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْقَامُوسِ بَغَى الشَّيْءَ نَظَرَ إلَيْهِ وَبَغَيْته أَبْغِيه وَبَغِيَّتُهُ بِالْكَسْرِ طَلَبْته وَأَبْغَاهُ الشَّيْءَ طَلَبَهُ لَهُ وَاسْتَبْغَى الْقَوْمَ فَبَغَوْهُ وَلَهُ طَلَبُوا وَالْبَاغِي الطَّالِبُ وَبَغَى عَلَيْهِ عَلَا وَظَلَمَ وَعَدَلَ عَنْ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ، وَالشَّيْءَ نَظَرَ إلَيْهِ كَيْفَ هُوَ وَرَقَبَهُ وَانْتَظَرَ.
وَعَنْ الْمِصْبَاحِ بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا ظَلَمَ وَاعْتَدَى لَا يَخْفَى أَنَّ النَّظَرَ وَالطَّلَبَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ أَيْضًا بَلْ الِانْتِظَارُ ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ وَأَنَّ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ مُتَبَادِرًا فِيمَا بِالْجَوَارِحِ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْقَلْبِ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْبَغْي الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْجَوَارِحِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ مُحْتَمَلِيهِ إلَّا بِمُرَجَّحٍ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَقَدْ قِيلَ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ سِيَّمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَصْمِ سِيَّمَا الْإِمَامُ الْغَزَالِيِّ (وَسُئِلَ الْحَسَنُ) الظَّاهِرُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ (عَنْ الْحَسَدِ، فَقَالَ غُمَّةٌ) كَرْبٌ
شَدِيدٌ وَحُزْنٌ (لَا يَضُرُّك مَا لَمْ تُبْدِهِ) أَيْ مَا لَمْ تُظْهِرْهُ بِالْجَوَارِحِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا تُظْهِرُهُ مِنْ الْحَسَدِ لَا يَضُرُّ بِمُجَرَّدِ مَا فِي الْقَلْبِ وَاعْلَمْ أَنَّ حُجِّيَّةَ قَوْلِ التَّابِعِيِّ وَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابِيِّ كَالْحَسَنِ أَمْرٌ اخْتِلَافِيٌّ بَلْ حُجِّيَّةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَمَذْهَبُهُ أَيْضًا اخْتِلَافِيٌّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ أَيْضًا رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَتَّبِعُهُمْ فِي الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا فِي الدِّرَايَةِ فَهُمْ رِجَالٌ تَكَلَّمُوا بِعُقُولِهِمْ. وَنَحْنُ رِجَالٌ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالُوا لَا حُجَّةَ مَعَ الِاخْتِلَافِ نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا مُرْسَلًا وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ شَائِعَةٌ مَشْهُورَةٌ لَكِنْ قَالُوا إنَّ أَكْثَرَ أَحَادِيثِ الْحَسَنِ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ رِوَايَةَ كُلٍّ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِكُلٍّ، وَلِذَا قِيلَ أَكْثَرُ أَحَادِيثِ الْمُتَصَوِّفَةِ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ فَيَقْبَلُونَ الرِّوَايَةَ مِنْ الْفَاسِقِ وَالْمَجْرُوحِ وَالْمَسْتُورِ وَالْمَطْعُونِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَقْبَلُونَهَا ثُمَّ نُقِلَ عَنْ رِعَايَةِ الْإِمَامِ الْمُحَاسِبِيِّ فِي بَابِ الرَّدِّ عَلَى كَوْنِ الْحَسَدِ بِالْجَوَارِحِ دُونَ الْقَلْبِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا لَا يَضُرُّك مَا دَامَتْ فِي قَلْبِك وَكَرِهْتهَا فَلَمْ تُظْهِرْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَدَمُ إظْهَارِهَا دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَتِهَا لَعَلَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ لَفْظَ مَا لَمْ تُبْدِهِ تَجُوزُ عَنْ الْحُبِّ وَالْإِبْقَاءِ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَبِيلِ وَضْعِ دَلِيلِ الشَّيْءِ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْء فَإِنَّ الْإِظْهَارَ دَلِيلُ الْإِبْقَاءِ وَالْحُبِّ فَمَدَارُ عَدَمِ الضَّرَرِ هُوَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ لَا مُجَرَّدُ عَدَمِ الْإِظْهَارِ ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ الْحَسَدُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا الِاسْتِعْمَال بِالْجَوَارِحِ كَمَا فَعَلَ إخْوَةُ يُوسُفَ فَإِثْمٌ آخَرُ مُتَسَبِّبٌ عَنْ الْحَسَدِ كَمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْغِيبَةُ وَالْوَقِيعَةُ وَتَحْرِيمُ الْخَيْرِ عَنْهُ كَالْعِلْمِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْمُعَاوَنَةِ أَوْ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ وَالْإِيذَاءِ بِالْجَوَارِحِ وَلَوْ كَانَ جِنْسُ هَذَا حَسَدًا لَكَانَ جَمِيعُ إسَاءَةِ الْعِبَادِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ حَسَدًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بِعِلْمٍ أَوْ بِعَقْلٍ فَالْحَسَدُ بِالْقَلْبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] وَقَوْلُهُ {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] الْآيَةُ.
وَقَالَ {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69] وَغَيْرُهَا فَوَصَفَ الْحَسَدَ بِكَرَاهَةِ الْقُلُوبِ لِلْحَسَنَاتِ فَأَضَافَ لِفِعْلِ الْقَلْبِ دُونَ الْجَوَارِحِ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا فَسَّرْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً تَقُولُ إنَّ الْحَسَدَ بِالْجَوَارِحِ نَحْتَجُّ بِقَوْلِ الْحَسَنِ هَذَا وَقَدْ دَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بِالْقَلْبِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِالْجَوَارِحِ مُتَسَبِّبٌ عَنْهُ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَسَدَ فِي النَّفْسِ لَا فِي الْجَوَارِحِ، وَاسْتِعْمَالُ الْجَوَارِحِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِ الْمُحَاسِبِيِّ ثُمَّ قِيلَ الْمُحَاسِبِيُّ إمَامٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ مِنْ رِجَالِ الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَمُتَقَدِّمٌ عَلَى الْغَزَالِيِّ فَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ مِنْهُ ثُمَّ قِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ لَا يَضُرُّك أَيْ الضَّرَرَ الدُّنْيَوِيَّ كَالْقِصَاصِ وَالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرٌ بِمَا يَتَسَبَّبُ إلَى جِنْسِ مَا ذُكِرَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ وَإِنْ بَعُدَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ الْغَايَةَ إصْلَاحُهُ لِمُعَارِضَةِ الْقُوَى كَمَا سَمِعْت لَا يَكُونُ بَعِيدًا كُلَّ الْبُعْدِ فَافْهَمْ (وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ» أَيْ تَتَكَلَّمُ «أَوْ تَعْمَلُ بِهِ» لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعَى أَعْنِي الْحَسَدَ الْبَاطِنِيَّ مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ وَحَدِيثَ النَّفْسِ مِنْ مَقُولَةِ الْفِعْلِ فَلَا تَقْرِيبَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَدِيثُ حُكْمًا فِي ظَاهِرِهِ لَكَانَ نَحْوُ الْكُفْرِ وَالْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ مِمَّا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْقَلْبِ مُتَجَاوَزًا عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا لَا يَسْتَقِرُّ وَلَوْ كُفْرًا إذْ لَوْ صَرَفَهُ مِنْ فَوْرِهِ لَا يَكُونُ كُفْرًا بَلْ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ. وَرُوِيَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْ لَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْقَبَائِحِ قَهْرًا ثُمَّ إنْ تَكَلَّمَ أَوْ عَمِلَ بِهِ قِيلَ يُؤَاخَذُ بِهِمَا فَقَطْ وَقِيلَ يُؤَاخَذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَدِيثِ النَّفْسِ أَيْضًا لَعَلَّ التَّحْقِيقَ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُؤَاخَذُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْجَزْمِ فَلَوْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ أَثِمَ حَالًا كَمَا فِي الْفَيْضِ (أَخْرَجَهُ خ م) الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا) وَأَمَّا الْحَدِيثُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «إذَا هَمَّ عَبْدٌ بِسَيِّئَةٍ فَأَنَا أَغْفِرُهَا مَا لَمْ يَعْمَلْهَا؛ فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» فَعَنْ الْقَاضِي أَنَّ الْهَمَّ هُنَا يَمُرُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ وَلَا تَوْطِينٍ وَإِلَّا فَعَزْمٌ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِمَا فِي الْقَلْبِ قِيلَ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ. (وَحَمْلُهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جَانِبِ (الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ عَلَى مَيْلِ الطَّبْعِ بِلَا اخْتِيَارٍ) بَلْ بِاضْطِرَارٍ (مَرْدُودٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ التَّكْلِيفِ) عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى - لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا - (فَلَا ذَنْبَ فِيهِ فَلَا عَفْوَ وَ) لَفْظُ (تَجَاوَزَ) فِي الْحَدِيثِ مُسْتَعْمَلٌ (مَعَ عَنْ بِمَعْنَى عَفَا) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَاشِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ اللُّغَةُ أَقُولُ إنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ نَفْسُهُ اضْطِرَارِيًّا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَبَادِئُهُ اخْتِيَارِيَّةً، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تُحَدِّثُهُ إلَّا بِأَسْبَابٍ اخْتِيَارِيَّةٍ غَالِبًا فَيَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِاعْتِبَارٍ مَبَادِئِهِ وَأَسْبَابِهِ عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ الَّذِي رَجَّحُوهُ كَوْنُ " أَنْفُسُهَا " فِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا فَاعِلًا لِلْفِعْلِ حَدَّثَتْ فَيَلْزَمُ أَنْ تَخْتَرِعَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ الْأَنْفُسُ لِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ صَاحِبِهَا فَيُتَّجَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُحْمَلَ لَفْظُ تَجَاوَزَ عَلَى مَعْنًى مَجَازِيٍّ نَحْوُ لَا يُؤَاخِذُ.
وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ لَفْظَ مَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]- عَامَّةٌ لِمَا يُطْلَقُ وَمَا لَا يُطْلَقُ حَتَّى أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ مِنْ مُحَاسَبَتِهِمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَقَالُوا كُلِّفْنَا بِمَا لَا نُطِيقُ «، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا بَلْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَا فَهِمُوا مِنْ الْعُمُومِ فَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ، غَايَتُهُ أَنَّهُ نُسِخَ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُقُوعِ بَعْدَ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْأُصُولِ.
وَأَيْضًا عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تَكْلِيفَهُمْ بِمَا لَا يُطِيقُونَهُ مُمْكِنًا أَوْ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَكِنَّهُ تَعَالَى تَفَضَّلَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَلَّفَ سَائِرَ الْأُمَمِ بِهَا. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] مِنْ تَفْرِيطٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ أَوْ بِأَنْفُسِهَا إذْ لَا تَمْتَنِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا عَقْلًا ثُمَّ قَالَ لَكِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ التَّجَاوُزَ عَنْهَا رَحْمَةً وَفَضْلًا وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]- وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَإِلَّا لَمَا سَأَلَ التَّخَلُّصَ عَنْهُ. وَأَقُولُ أَيْضًا النَّهْيُ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ عِنْدَنَا لِيُتَصَوَّرَ النَّهْيُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ أَوْ يَأْتِيَ.
وَقَالَ فِي الدُّرَرِ النَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يُقَرِّرُ الْمَشْرُوعِيَّةَ وَعَنْ الْحِسِّيَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَقْدُورَةً حِسًّا وَعَنْ الْعَقْلِيَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مَقْدُورَةً شَرْعًا وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدُّعَاءَ أَيْضًا كَالنَّهْيِ فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ الْمَوْلَى أَبُو السُّعُودِ فِي تِلْكَ الْآيَة إنَّ تَعَاطِيَ الْمَعَاصِي لَا يَبْعُدُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَزِيمَةٍ وَوَعْدُهُ تَعَالَى بِعَدَمِهِ لَا يُوجِبُ اسْتِحَالَةَ وُقُوعِهِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَمِثْلُهُ بِعَيْنِهِ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَفْوُ وَالتَّجَاوُزُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُقُوعِ التَّكْلِيفِ وَالذَّنْبُ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِلَا عَزِيمَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَقَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ مَا لَا يُطْلَقُ تَكْلِيفُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا.
(وَ) الْوَجْهُ (الثَّانِي أَنَّ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ لَا تُؤَاخَذُ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ حِينَئِذٍ) حِينَ كَوْنِ الْمُرَادِ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيِّ (بِقَوْلِهِ أُمَّتِي) إذْ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ حِينَئِذٍ.
أَقُولُ قَدْ سَمِعْت آنِفًا جَوَازَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَكَوْنِ التَّجَاوُزِ تَفَضُّلًا مِنْهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِأُمَّتِي لِوَاقِعَةٍ أَوْ حَادِثَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَأَنَّ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي النُّصُوصِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ لَا يُنَافِي لِمَا عَدَاهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي كَمَا تَجَاوَزَ
لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
(وَالثَّالِثُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَمْلَ) أَيْ الْحَمْلَ عَلَى غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى رِوَايَةِ رَفْعِ أَنْفُسِهَا) بِأَنَّهَا فَاعِلُ حَدَّثَتْ (وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ نَصْبِهَا فَلَا) يَصِحُّ ذَلِكَ الْحَمْلُ (إذْ الرَّفْعُ دَالٌ عَلَى الِاضْطِرَارِ) كَمَا رُوِيَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ أَنْفُسُهَا بِالرَّفْعِ فَاعِلًا لَحَدَّثَتْ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ وَأَيْضًا مِثْلُهُ عَنْ الْحَلَبِيِّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ النَّوَوِيِّ (وَالنَّصْبُ) دَالٌ (عَلَى الِاخْتِيَارِ) لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ إذْ لَا يَتِمُّ هَذَا بِدُونِ رَدِّ رِوَايَةِ الرَّفْعِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ بَلْ الرَّفْعُ أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَ النَّصْبُ أَشْهَرَ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ بَلْ فِيهِ تَلْقِينُ الْجَوَابِ لِلْخَصْمِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ يَجُوزُ الِاضْطِرَارُ عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ أَيْضًا إذْ الْأَمَةُ تُحَدِّثُ أَنْفُسَهَا بِحَدِيثٍ هِيَ مُضْطَرَّةٌ فِيهِ إذْ لَيْسَ حَدِيثًا بِاللِّسَانِ حَتَّى يَلْزَمَ الِاخْتِيَارُ فَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى.
(وَالرَّابِعُ أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ) هُوَ قَوْلُهُ مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ (يُنَافِي ذَلِكَ الْحَمْلَ) أَيْ عَلَى غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (لِأَنَّهُ يُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ) هِيَ انْتِفَاءُ التَّجَاوُزِ (فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أُمَّتِي كُلَّ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا إلَى أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ) أَيْ أَثَرُ مَا حَدَّثَتْ بِهِ (عَلَى الْجَوَارِحِ إمَّا بِالتَّكَلُّمِ أَوْ بِالْعَمَلِ فَيَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ الْهَمُّ وَالْعَزْمُ بِالْقَلْبِ بَعْدَ مَيْلِ الطَّبْعِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ) الْهَمُّ وَالْعَزْمُ اخْتِيَارِيَّانِ فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ لَا يَقْصُرُ عَلَى الِاضْطِرَارِيِّ بَلْ يَشْمَلُ مُطْلَقَ مَا فِي الْقَلْبِ. أَقُولُ قَدْ عَرَفْت فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ أَنَّ التَّصْمِيمَ فِي الْعَزْمِ مُؤْثِمٌ وَعَنْ الْغَيْرِ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْعَزْمَ مُؤَاخَذٌ بِهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ الْقَارِي أَنَّ النِّيَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعَزِيمَةَ مُؤَاخَذٌ بِهَا وَأَيْضًا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] عَلَى مَا صَرَّحَ الْبَيْضَاوِيُّ مُنَافٍ لِإِطْلَاقِ مَا ذُكِرَ. وَقِيلَ إنَّهُ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ لَكِنْ جَاءَتْ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْهَمِّ وَالْعَزْمِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ (وَالْمُرَادُ بِالتَّكَلُّمِ تَكَلُّمُ مَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ) أَيْ الْحَسَدِ لَا مُطْلَقُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كَالْمُسْتَدْرَكِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ (وَمُقْتَضًى مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ كَالْغِيبَةِ وَالْقَدْحِ) أَيْ الطَّعْنِ (وَالسَّبِّ) أَيْ الشَّتْمِ (فِي الْحَسَدِ) لَفْظُ فِي مِنْ قَبِيل عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَيْ لِلْحَسَدِ (وَسُوءِ الظَّنِّ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ قَلْبِيٌّ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ وَالتَّأْوِيلُ بِالْقَوْلِ بَعْدَ كَوْنِهِ تَكَلُّفًا فِي نَفْسِهِ يُوجِبُ تَجْوِيزَ سُوءِ الظَّنِّ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ فَاسِدٌ كَمَا قِيلَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ لِلْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَيْضًا لَا يُحَرِّمُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ حَاصِلُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مَا فِي الْقَلْبِ غَيْرُ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا الْمَنْقُولَاتِ مِنْ الْبَزَّازِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا عَنْ قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ بِإِثْمِيَّةِ الْعَزْمِ الْمُصَمَّمِ، وَعَنْ الْإِمَامِ الْمَازِرِيِّ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ طَيِّبٍ إنْ وَطَّنَ عَزْمَ الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ آخِذِينَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِظَوَاهِر النُّصُوصِ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور: 19] وَ {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] كَيْفَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هَذَا خُلَاصَةُ مَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. أَقُولُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الْمُنَاسِبُ لِتَوْفِيقِ الْأَدِلَّةِ فَالْإِمَامُ فِي إفْرَاطٍ وَالْمُصَنِّفُ فِي تَفْرِيطٍ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَاَللَّه أَعْلَمُ (وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ) .
(فَإِنْ قُلْت إنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ) بِلَا عَمَلٍ
الظَّاهِرُ مَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ (حَرَامٌ لَا يُعْفَى عَنْهُ) بِدُونِ أَثَرٍ خَارِجِيٍّ (فَلِمَ لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ سُوءِ الظَّنِّ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا كَذَلِكَ) أَيْ حَرَامًا لَا يُعْفَى عَنْهُ (مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ النَّوْعَيْنِ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ مَعَ الْحَسَدِ فَالظَّاهِرُ مِنْهَا بَدَلٌ مِنْهُمَا (فِعْلٌ قَلْبِيٍّ) التَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مِنْ مَقُولَةِ الْكَيْفِ كَمَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ (فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا) حَتَّى كَانَ الْأَوَّلُ حَرَامًا دُونَ الثَّانِي (قُلْت الْأَوَّلُ) أَيْ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ كُلًّا مِنْهُمَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْأَوَّلَانِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (قُبْحُهُمَا وَحُرْمَتُهُمَا لِذَاتِهِمَا) لَا لِكَوْنِهِمَا بَاعِثَيْنِ لِعَمَلٍ مَحْظُورٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ آخَرُ سِوَى ذَاتِهِمَا كَجَمِيعِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَأَهْلُ الْأُصُولِ يَقُولُونَ الْكُفْرَ مِمَّا قَبُحَ لِعَيْنِهِ لِإِدْرَاكِ مُجَرَّدِ الْعَقْلِ قُبْحِهِ (وَقُبْحُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَحُرْمَتُهُ) مِنْ سُوءِ الظَّنِّ وَالْحَسَدِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ (لِسَبَبِيَّةِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ) فَإِنَّ أَثَرَهُ مِنْ الْقَبَائِحِ مُتَسَبِّبٌ عَنْهُ (فَإِذَا تَجَرَّدَ عَنْهُ وَلَمْ يُفِضْ إلَيْهِ لَا يَبْعُدُ) مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ (أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْهُ الْحُرْمَةُ وَالْإِثْمُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْحُكْمِ عَلَى مُقْتَضَى النَّصِّ.
وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى الشَّكِّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأَدُّبِ وَالتَّبَرُّكِ، كَيْفَ وَهَذَا قَرِيبٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّيَّاتِ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ لَكِنْ لَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ وَظَنَّ هَذَا الْفَقِيرُ عَدَمَهَا لَعَلَّ الْمَطْلَبَ ظَنِّيٌّ فَيَقْنَعُ بِالظَّنِّ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامَ الْمَقَاصِدِ (لَا سِيَّمَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرِ الْأُمَمِ لِتَشْرِيفِ حَبِيبِهِ وَتَكْرِيمِ صَفَّيْهِ) كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ أُمَّتِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَرَفْعُ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ مِنْ نَحْوِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَلَّفَ بِهَا الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ مِنْ بَخْعِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَصَرْفِ رُبْعِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَحُرْمَةِ الْحَلَالِ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ» وَقَالَ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَسْفُ وَالْمَسْخُ» . قِيلَ لَكِنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]- إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]- وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا كَمَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيّ. أَقُولُ قَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ قَبْلُ فَارْجِعْ إلَيْهِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْمُحَاسِبِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْحَسَدَ الْقَلْبِيَّ بِلَا إفْضَاءٍ إلَى الْعَمَلِ إثْمٌ وَلَوْ اشْتَرَطَ الْجَوَارِحَ لَكَانَتْ الْغِيبَةُ الْمُتَسَبِّبَةُ عَنْ الْحَسَدِ حَسَدًا، وَكَذَا الْكَذِبُ وَالضَّرْبُ وَنَحْوُهُمَا ثُمَّ قَالَ فَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنْ مَعْقُولِ الدِّينِ وَقِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]- وَقَوْلُهُ - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]- (نَعَمْ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ وَهَمُّهَا لَا سِيَّمَا الْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ) عَلَى الْفِعْلِ (قَلَّمَا يُوجَدُ بِدُونِ الْأَثَرِ عَلَى الْجَوَارِحِ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فَيَجُوزُ التَّخَلُّفُ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ وَالْعَزْمَ وَالْهَمَّ لَا يُؤْثِمُ (وَلَا كَلَامَ أَيْضًا أَنَّ الْكَمَالَ أَنْ يُخْلِيَ الْإِنْسَانُ قَلْبَهُ عَنْ الْعَزَائِمِ الْفَاسِدَةِ وَالصِّفَاتِ الْخَبِيثَةِ) الرَّذِيلَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الِاتِّفَاقِ لَا يَخْفَى أَنَّ الصِّفَاتِ مَا لَمْ تُؤْثِمْ لَا تَكُونُ خَبِيثَةً وَلَا فَاسِدَةً فَافْهَمْ.
(وَيُحَلِّيه بِالنِّيَّاتِ الصَّالِحَةِ وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ) لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى الْأَفْعَالِ الْمَرَضِيَّةِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَيُؤْجَرُ
لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (وَأَمَّا الرِّيَاءُ بِطَاعَةٍ أَوْ دَلِيلِهَا) ، نَحْوُ ذُبُولِ الشَّفَتَيْنِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ (فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ عَمَلٍ بِمُقْتَضَاهُ) فَلَا يُوجَدُ بِلَا أَثَرٍ فَلَا يُوجَدُ لَهُ التَّجَرُّدُ فَلَا تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْحُرْمَةُ (فَإِنَّ الِاجْتِنَابَ عَنْ بَعْضِ الشُّبُهَاتِ لِيَرَى النَّاسُ أَنَّهُ وَرِعٌ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الشُّبُهَاتِ (وَهُوَ) أَيْ الْكَفُّ (عَمَلُهَا) أَيْ الْجَوَارِحِ (وَالذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ وَالتَّفَكُّرُ) بِنِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُظْهِرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَجْعَلُهُ خَطِيرًا شَرِيفًا فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ، وَهَذَا رِيَاءٌ بِنَفْسِ الطَّاعَةِ (عَمَلٌ قَلْبِيٌّ) فَلَا يَنْفَكُّ الرِّيَاءُ بِحَالٍ عَنْ الْعَمَلِ (وَكِلَاهُمَا) أَيْ الذِّكْرُ وَالتَّفَكُّرُ (عَمَلٌ بِمُقْتَضَى الرِّيَاءِ) فَعَدَمُ انْفِكَاكِ الرِّيَاءِ عَنْ الْعَمَلِ فِي بَاقِي الصُّوَرِ ظَاهِرٌ (وَأَمَّا كَفُّ الْحَسُودِ وَالْجَوَارِحِ) عَنْ مُقْتَضَاهُ (فَلَيْسَ بِعَمَلٍ بِمُقْتَضَى حَسَدِهِ بَلْ عَمَلٌ بِضِدِّ مُقْتَضَاهُ) ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِ أَثَرِهِ لَا بِتَرْكِهِ قِيلَ فَلِذَا لَمْ يَأْثَمْ مَنْ وَجَدَ أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ أَوْ عَدَمُ حُصُولِهَا لِلْمَحْسُودِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ. (وَأَمَّا الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ فَمِنْ قَبِيلِ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةُ) فِي أَنَّ قُبْحَهُمَا لِذَاتِهِمَا (وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ) نُقِلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ لَمَّا كَانَ هَذَا الْإِلْحَاقُ بِمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ لَا بِالتَّصْرِيحِ مِنْ الْأَئِمَّةِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى.
أَقُولُ قَالَ فِي بَعْضِ حَوَاشِي الْكِتَابِ إنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقَالُ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَارْتِيَابٌ لَعَلَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الِاشْتِبَاهِ بَيْنَ الْحَسَدِ وَبَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ بَلْ الْأَوْلَوِيَّةُ وَالْمُقَايَسَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ رِعَايَةِ الْمُحَاسَبِيِّ أَنَّ الْحَسَدَ الْمُحَرَّمَ يَكُونُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ (وَإِنْ لَمْ تُرِدْ) أَنْتَ (زَوَالَ النِّعْمَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَبْحَثِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ الْحَسَدُ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَكِنْ أَرَدْت لِنَفْسِك مِثْلَهَا فَهُوَ غِبْطَةٌ وَمُنَافَسَةٌ لَيْسَتْ بِحَرَامٍ) عَنْ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ الْغِبْطَةُ حُسْنُ الْحَالِ غَبَطْتَهُ غَبْطًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ إذَا تَمَنَّيْت مِثْلَ مَا نَالَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرِيدَ زَوَالَهُ عَنْهُ لِمَا أَعْجَبَك مِنْهُ وَعَظُمَ عِنْدَك وَفِي الْحَدِيثِ أَقْوَمُ مَقَامٍ يَغْبِطُنِي فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ. وَعَنْ الرِّعَايَةِ الْحَسَدُ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ الْمُنَافَسَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] وَقَالَ - {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]- {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]- وَلَا تَكُونُ الْمُسَابَقَةُ إلَّا أَنْ يُسَابِقَ غَيْرَهُ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ» (بَلْ) هُوَ (مَنْدُوبٌ فِي الدِّينِيِّ) بَلْ قَدْ يَجِبُ كَمَا فِي الرِّعَايَةِ إنْ كَانَ مَا رَأَى فِي غَيْرِهِ إتْيَانُ فَرْضٍ وَانْتِهَاءَ مُحَرَّمَ فَحَسَدُهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ وَلَمْ يَغْتَمَّ وَيَحْزَنْ عَلَى مَا تَخَلَّفَهُ وَلَمْ يَأْتِ مِثْلَهُ يَكُنْ عَاصِيًا. (وَحِرْصٌ مَذْمُومٌ فِي الدُّنْيَوِيِّ) فَالْغِبْطَةُ إمَّا فِي دُنْيَوِيٍّ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَإِمَّا فِي دِينِيٍّ مَمْدُوحٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ (وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي مَبْحَثِ الْحِرْصِ
. وَعَنْ الرِّعَايَةِ إنْ كَانَ مَا رَأَى فِي الْغَيْرِ مِنْ اللَّذَّاتِ وَالنَّعَمَاتِ مُبَاحًا لَهُ فَاغْتَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ مِثْلَهُ وَاجِبٌ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ فَيُوَسَّعَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ مُتَنَعِّمًا مِثْلَهُ فَمُبَاحٌ لَهُ لَكِنْ يَنْقُصُ الْفَضْلُ وَالزُّهْدُ وَإِنْ مُحَرَّمًا كَاكْتِسَابِ الْحَرَامِ وَإِنْفَاقِ الْمَالِ بِالْمَعَاصِي فَاغْتَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ مِثْلَهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ، وَلَيْسَ بِحَسَدٍ مُحَرَّمٍ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْغِشِّ
لِأَنَّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ لِلْحَرَامِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّعْمَةِ) الَّتِي حَسَدْتهَا (صَلَاحٌ لِصَاحِبِهَا بَلْ) فِيهَا (فَسَادٌ) لَهُ (وَمَعْصِيَةٌ فَأَرَدْت زَوَالَهَا عَنْهُ أَوْ عَدَمَ وُصُولِهَا إلَيْهِ) إلَى صَاحِبِهَا (فَذَلِكَ) أَمْرٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ (نَاشِئٌ مِنْ غَيْرَةِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَة أَيْ أَنَفَةٌ وَامْتِنَاعِ (الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى) لِرِضَاهُ تَعَالَى (مَنْدُوبٌ إلَيْهِ) . الْغَيْرَةُ أَرْبَعٌ: قِسْمٌ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَهُوَ غَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِسْمَانِ وَاجِبَانِ وَهُمَا غَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ وَلِرَبِّهِ، وَقِسْمٌ مَذْمُومٌ وَهُوَ غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى بَعْلِهَا كَذَا قِيلَ (خ) الْبُخَارِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ» مِنْ الْغَيْرَةِ أَيْ عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إنَّ اللَّه تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ» وَفَسَّرَ أَيْ يَغَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ شَيْطَانَهُ وَهَوَاهُ وَجَمْعَ دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ حَبِيبُهُ وَغَيْرَتُهُ زَجْرٌ عَنْ ذَلِكَ «وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ وَالْمُؤْمِنُ يَغَارُ انْتَهَى وَقَالَ الصَّدْرُ الْمُنَاوِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ إلَّا قَوْلَهُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ زَادَ مُسْلِمٌ عَلَى الْبُخَارِيِّ «وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَشَدُّ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَةً رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَلِذَلِكَ كَانَ شَدِيدًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَانْتِقَامِهِ لِلَّهِ وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَصَحْبُهُ تَابِعُوهُ فِي الْغَيْرَةِ (وَإِنَّ غَيْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى) هِيَ (أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ) ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ وَشَرَعَ عَلَيْهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ وَالْقِتْلَاتِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي الْحَدِيثِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ اقْتِحَامِ حِمَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْهَلَاكِ وَالطَّرْدِ عَنْ دَارِ السَّلَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ «يَا ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُك لِنَفْسِي وَخَلَقْت كُلَّ شَيْءٍ لَك فَبِحَقِّي عَلَيْكَ أَنْ لَا تَشْتَغِلَ بِمَا خَلَقْته لَك عَمَّا خَلَقْتُك لَهُ» وَفِي أَثَرٍ آخَرَ «خَلَقْتُك لِنَفْسِي فَلَا تَلْعَبْ وَتَكَفَّلْت بِرِزْقِك فَلَا تَتْعَبْ» .
(تَنْبِيهٌ)
مِنْ غَيْرَةِ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى الْأَكَابِرِ أَنَّهُمْ إذَا سَاكَنُوا شَيْئًا سِوَاهُ أَوْ لَاحَظُوا غَيْرَهُ شَوَّشَ عَلَيْهِمْ وَامْتَحَنَهُمْ حَتَّى تَصْفُوَ أَسْرَارُهُمْ لَهُ كَمَا فَعَلَ بِيُوسُفَ عليه الصلاة والسلام حِين - قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ - أَيْ مَلِكِ مِصْرَ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ وَإِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَعْجَبَهُ إسْمَاعِيلُ عليه الصلاة والسلام أُمِرَ بِذَبْحِهِ وَنَظَرَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ إلَى شَابٍّ نَظْرَةً فَإِذَا كَفٌّ مِنْ الْهَوَاءِ قَدْ لَطَمَهُ وَسَقَطَتْ عَيْنُهُ وَسَمِعَ صَوْتًا: لَطْمَةٌ بِنَظْرَةٍ وَإِنْ زِدْت زِدْنَاك وَذَلِكَ لِعُلُوِّ قَدْرِهِمْ عِنْدَهُ كَذَا فِي الْفَيْضِ. (وَالْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ) وَاللُّغَةِ (كَرَاهِيَةُ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ) وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى فَلِذَا قَالَ (وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَنْعُهُ عَبْدَهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ؛ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْإِقْدَامِ (مُشَارَكَةَ) الْعَبْدِ (لِلَّهِ تَعَالَى) فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى (بِأَنْ يَفْعَلَ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمُشَارَكَةِ (مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ وَتَقَيُّدٍ بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ) كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلتَّعَبُّدِ، إذْ التَّعَبُّدُ إنَّمَا يَكُونُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَانْزِجَارِ النَّهْيِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى فَلَوْ أَقْدَمَ الْعَبْدُ عَلَى الْفَوَاحِشِ لَكَانَ فَاعِلًا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ فَيَلْزَمُ الْمُشَارَكَةُ لَهُ تَعَالَى مِنْ الْعَبْدِ فِيمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْفَوَاحِشِ فَاعِلًا بِلَا تَعَبُّدٍ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ إمَّا بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ أَوْ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ النَّهْيِ وَهُمَا مُنْتَفِيَانِ فَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مُقَيَّدٌ بِالْأَمْرِ فَافْتَرَقَا.
(وَغَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ) عِنْدَ فِعْلِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ (هَيَجَانٌ) تَحَرُّكٌ وَاضْطِرَابٌ
(وَانْزِعَاجٌ مِنْ قَلْبِهِ يَحْمِلُهُ) أَيْ الْعَبْدَ (عَلَى مَنْعِ الْحَرِيمِ) أَوْ ذَاتِ الْحَرِيمِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ وَهُوَ السَّاكِنُ فِي حَرِيمِهِ مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ (مِنْ الْفَوَاحِشِ) كَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ (وَمُقَدَّمَاتِهَا) ، نَحْوُ التَّكَلُّمِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَالنَّظَرِ وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (لِأَنَّ فِيهِ كَرَاهِيَةَ الِاشْتِرَاكِ) مِنْ الْغَيْرِ فِيمَا ذُكِرَ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ. وَحَاصِلُهُ أَيْضًا مَنْعُ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهِ (وَهَذِهِ) الْغَيْرَةُ. (وَاجِبَةٌ)(م) مُسْلِمٌ.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) الْأَنْصَارِيُّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْت مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ» أَيْ أَلَمْ أَمَسَّهُ بِالْقَتْلِ «حَتَّى آتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» مِنْ الرِّجَالِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ» فَإِنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ كَذَلِكَ «قَالَ» سَعْدٌ «كَلًّا» قَالَ فِي الْحَاشِيَةُ لَيْسَ هَذَا مِنْ سَعْدٍ رَدًّا أَوْ رَدْعًا لِرَسُولِ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كُفْرٌ بَلْ إخْبَارٌ عَمَّا فِي قَلْبِهِ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ عليه الصلاة والسلام فَكَأَنَّهُ قَالَ إنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَتَحَمَّلُ ذَلِكَ بَلْ تُبَاشِرُ الْقَتْلَ قَبْلَهُ انْتَهَى. فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْت لَكِنَّ نَفْسِي لَيْسَتْ بِقَانِعَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ مَعْنَى الرَّدْعِ كَحَرْفِ جَوَابٍ بِمَعْنَى نَعَمْ وَبِمَعْنَى حَقًّا أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي قَلْبِي وَبِمَعْنَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ كُلُّ ذَلِكَ مَعَانٍ لَهُ ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ «وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ» نَبِيًّا «إنْ كُنْت» أَيْ إنِّي كُنْت فَإِنْ مُخَفَّفَةٌ «لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ» أَيْ قَبْلَ قِيَامِ تِلْكَ الشُّهُودِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَأْنِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُعَالَجَةُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالشُّهَدَاءِ وَإِنْ أَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسِي لَا تَتَحَمَّلُ ذَلِكَ لِفَرْطِ غَيْرَتِهَا وَكَمَالِ حَمِيَّتِهَا كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُك هَذَا أَوْ لَمْ أَعْلَمْ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يَنْبَغِي مِنْ الصَّحَابِيِّ أَنْ يُخَالِفَ حُكْمَ الشَّرْعِ سِيَّمَا فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ» ؛ لِأَنَّهُ سَيِّدُ الْأَنْصَارِ «إنَّهُ لَغَيُورٌ» ؛ لِأَنَّهُ لِغَايَةِ حِرْصِهِ عَلَى مَنْعِ مُشَارَكَةِ الْغَيْرِ يَتَجَاسَرُ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. «وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَغْيَرُ مِنِّي» يَشْكُلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُقْتَضَى الْغَيْرَةِ الْقَتْلُ بِلَا شُهُودٍ فَكَيْفَ كَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيَّ التَّوَقُّفُ عَلَى الشُّهُودِ وَكَيْفَ تَكُونُ غَيْرَةُ اللَّهِ وَغَيْرَةُ رَسُولِهِ سَابِقَةً عَلَى غَيْرَةِ سَعْدٍ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ غَيْرَةٌ لَمَا مَنَعَ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ عَلَى الشُّهُودِ بَلْ ظَاهِرُهُ تَنَافٍ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النَّسْخِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضٍ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَعِيدٌ.
أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَغَيُورٌ أَيْ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنِّي أَغْيَرُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي تَعْجِيلٌ بَلْ أُمْهِلُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ مِنْ قِيَامِ الشُّهُودِ وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَهُوَ يُمْهِلُ وَلَا يُعَجِّلُ الْعُقُوبَةَ فِي فَوْرِ الْفَوَاحِشِ وَفِي وَصْفِهِ لَهُ عليه الصلاة والسلام بِالسِّيَادَةِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى وَجْهِ الْإِمْهَالِ مِنْ أَنَّ شَأْنَ السَّادَاتِ الِاقْتِدَارُ عَلَى الِانْتِقَامِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءُوا فَلَا فُرْصَةَ تَفُوتُ. وَبِالْجُمْلَةِ الْمَقْصُودُ هُوَ مَنْعُ سَعْدٍ عَنْ تَعْجِيلِهِ الْعُقُوبَةَ فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَوْلِهِ اسْمَعُوا وَقَوْلِهِ نَعَمْ هَذَا لَكِنَّ ظَاهِرَهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ كَالْبَزَّازِيَّةِ رَأَى فِي مَنْزِلِهِ رَجُلًا مَعَ أَهْلِهِ يَزْنِي وَخَافَ إنْ أَخَذَهُ يَقْهَرُهُ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَهُ قَتَلَهُمَا وَفِي الزَّيْلَعِيِّ
وَالْبَحْرِ يَحِلُّ قَتْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِنَحْوِ الصِّيَاحِ وَفِي فَتْحِ الْغَفَّارِ يُقْتَلُ إنْ انْزَجَرَ بِنَحْوِ صِيَاحٍ وَضَرْبٍ وَفِي الْبَحْرِ عَنْ الْمُجْتَبَى الْأَصْلُ فِي كُلِّ شَخْصٍ إذَا رَأَى مُسْلِمًا يَزْنِي أَنْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ خَوْفَ أَنْ يَقْتُلَ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ زَنَى. وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى إنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَوْ مَحْرَمُهُ مُكْرَهَةً فِي الزِّنَا فَلَهُ قَتْلُهُ فَقَطْ وَإِلَّا قَتَلَهُمَا جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلَانِ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ فَالْيَمِينُ عَلَى الْقَاتِلِ.
وَقِيلَ إنْ صَدَرَ الْقَتْلُ مِمَّنْ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْهُ هُمَا مُتَّهَمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ مَعَ يَمِينِهِ. وَفِي مُتَفَرِّقَاتِ فَتَاوَى مُؤَيَّدَةِ زَادَهْ عَنْ الْحَاوِي وَجَدَ أَجْنَبِيًّا مَعَ قَرَابَتِهِ فِي بَيْتٍ خَالٍ أَوْ مَفَازَةٍ خَالِيَةٍ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَزْنِي بِهَا فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا إذَا بَاشَرَ الْفِعْلَ وَإِلَّا قَتَلَ الْعَامِدَ دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ بَيِّنَةٍ وَقَالَ بَعْضٌ لَا يُرَخَّصُ الْقَتْلُ حَتَّى يَرَى عَلَامَةَ الْعَمْدِ كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَاللَّعِبِ، وَقَالَ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْمُكَابَرَةُ بِالظُّلْمِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الْمَكْسِ وَجَمِيعُ الظَّلَمَةِ بِأَدْنَى شَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَالْأَعْوَانُ وَالسُّعَاةُ فَيُبَاحُ قَتْلُ الْكُلِّ وَيُثَابُ قَاتِلُهُمْ وَفِيهِ أَيْضًا لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ التَّعْزِيرَ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ بَلْ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَكُلٌّ مَأْمُورٌ بِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتُ الْفِقْهِيَّةُ مُوَافِقَةٌ لِرَأْيِ سَعْدٍ فِي تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا ظَاهِرِ الْحَدِيثِ (وَفِي رِوَايَةِ. خ) الْبُخَارِيُّ «قَالَ عليه الصلاة والسلام أَتَعْجَبُونَ» مَكَانَ اسْمَعُوا مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ أَيْ لَا تَعْجَبُوا «مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ وَاَللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَغْيَرُ مِنِّي» لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) الظَّاهِرُ كَالزِّنَا وَالْبَاطِنُ كَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ مُطْلَقًا قَبْلَ قِيَامِ أَرْبَعَة شُهَدَاءَ عِنْدَ أَحْمَدَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَدِيَانَةً لَا قَضَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ وَدَفْعًا لِتَعَارُضِ الْحَدِيثِ وَلَا يَقْتُلُهُ بَلْ يَحْرُمُ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةَ الْغَيْرِ لِلتَّنَاقُضِ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ قَوْلِهِ كَلًّا وَبَيْنَ اسْمَعُوا أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرًا وَاحِدًا لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وَيُمْكِنُ دَفْعُ التَّنَاقُضِ مِنْ قِبَلِ أَحْمَدَ بِالْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ. أَقُولُ إذَا عَرَفْت آنِفًا الْمَنْقُولَ عَنْ كُتُبِنَا فَإِطْلَاقُ الْحُرْمَةِ مُشْكِلٌ. وَقَدْ نُقِلَ أَيْضًا عَنْ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ يَقْتُلُهُمَا إنْ طَوْعًا وَالْفَاعِلَ فَقَطْ إنْ كَرْهًا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي فَوَرَانِ غَضَبِهِ وَعِنْدَ التَّقَادُمِ لَا وَلَا يُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ الْيَمِينُ يَقُومُ مَقَامَهَا. وَعَنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَرْبَعَةِ بَلْ يَكْفِي شَاهِدَانِ؛ لِأَنَّهَا لِلْوُجُودِ مَعَ الْمَرْأَةِ لَا عَلَى الزِّنَا. وَقِيلَ لَا بُدَّ
مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيَجُوزُ إقَامَةُ التَّعْزِيرِ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَبَعْدَهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحَاكِمِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ. وَفِيهِ أَيْضًا لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ إنْ انْزَجَرَ بِصِيَاحٍ وَبِلَا سِلَاحٍ وَإِلَّا حَلَّ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الْمُحَشِّي تَبِعَ فِي إطْلَاقِ الْحُرْمَةِ عِنْدَنَا الْبَزَّازِيَّةَ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْخَبْطُ وَالْغَلَطُ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ. أَقُولُ الْكَلَامُ فِي إطْلَاقِ الْإِطْلَاقِ مَعَ أَئِمَّتِنَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْأَقْوَالُ فِي الْكُتُبِ لَكِنَّ الْمُفْتَى بِهِ لُزُومُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَدَمُ التَّصْدِيقِ بِيَمِينِهِ كَمَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمُوَافِقُ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (وَقَدْ تُطْلَقُ الْغَيْرَةُ) الظَّاهِرُ إطْلَاقٌ مَجَازِيٍّ (عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمَرْأَةِ اشْتَرَاكَ الْغَيْرِ) مَعَهَا (فِي بَعْلِهَا) زَوْجِهَا (وَهَذِهِ) أَيْ غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ (مَذْمُومَةٌ) لِخِلَافِ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها) وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا» الْتِفَاتٌ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ «فَغِرْت» أَخَذَتْنِي الْغَيْرَةُ لِخُرُوجِهِ إلَى بَعْضِ نِسْوَانِهِ «عَلَيْهِ» أَيْ عَلَى خُرُوجِهِ «فَجَاءَ) عليه الصلاة والسلام (فَرَأَى مَا أَصْنَعُ» مِنْ الْغَيْرَةِ «، فَقَالَ مَا لَك يَا عَائِشَةُ أَغِرْت» مِنْ الْغَيْرَةِ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ «، فَقَالَتْ» عَلَى الِالْتِفَاتِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقُلْت «وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي» فِي مَعْرِفَةِ شَرَفِ قَدْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي كَوْنِي مِنْ خِيَارِ زَوْجَاتِك «عَلَى مِثْلِك» فِي كَوْنِك أَفْضَلَ الْمَوْجُودَاتِ وَمَظْهَرَ رَحْمَةِ الْمُكَوَّنَاتِ «، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ جَاءَك شَيْطَانُك» كِنَايَةٌ عَنْ تَحْرِيكِهِ وَوَسْوَسَتِهِ فَظَهَرَتْ الْمَذْمُومِيَّةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْغَيْرَةِ الْمَذْمُومَةِ مَا هِيَ اخْتِيَارِيَّةٌ كَاسْتِمْرَارِهَا وَإِلَّا فَالْمَجْبُولَةُ الَّتِي طُبِعَتْ لَهَا النِّسْوَانِ لَا تَكُونُ مَذْمُومَةً لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ التَّكْلِيفِ «قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ مَعِي شَيْطَانِي» قِيلَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ دَاخِلَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ أَيْ أَنَا مُطِيعَةٌ وَمَعِي شَيْطَانٌ. «قَالَ نَعَمْ قُلْت وَمَعَك يَا رَسُولَ اللَّهِ» فِيهِ الْتِفَاتٌ «قَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» قَالَ الْمُحَشِّي رُوِيَ بِرَفْعِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى أَكُونَ سَالِمًا مِنْ وَسَاوِسِهِ بِسَبَبِ عِنَايَتِهِ تَعَالَى وَعَلَى الثَّانِي حَتَّى صَارَ مُسْلِمًا مُنْقَادًا لَا يَأْمُرُنِي إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ انْتَهَى. أَقُولُ تُرَجَّحُ صِيغَةُ الْمَاضِي بِمَا نُقِلَ عَنْ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الرُّوَاةِ إلَّا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فَأَسْلَمُ مِنْ شَرِّهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِسْلَامُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَحَسَّنَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَأَيَّدَ الْأَوَّلَ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِحَقٍّ. وَفِي رِوَايَةٍ «؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» . وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّ هَذَا وَإِنْ ظَاهِرًا فِي الْإِسْلَامِ لَكِنْ يُحْتَمَلُ الْقَوْلُ الْآخَرُ وَرُدَّ بِوُرُودِ إسْلَامِ الْقَرِينِ النَّبَوِيِّ صَرِيحًا بِلَا احْتِمَالِ تَأْوِيلٍ كَمَا فِي دَلَائِلِ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ «- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فُضِّلْت عَلَى آدَمَ بِخَصْلَتَيْنِ كَانَ شَيْطَانِي كَافِرًا أَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ وَكُنَّ أَزْوَاجِي عَوْنًا لِي وَكَانَ شَيْطَانُ آدَمَ كَافِرًا وَزَوْجَتُهُ عَوْنًا عَلَى خَطِيئَتِهِ» . وَقِيلَ اخْتَلَفُوا فِي تَرْجِيحِ الرِّوَايَةِ فَالْخَطَّابِيُّ رَجَّحَ الرَّفْعَ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ الْفَتْحَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرٍ» وَاخْتَلَفُوا عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ قِيلَ أَسْلَمَ بِمَعْنَى اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ اسْتَسْلَمَ وَقِيلَ صَارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا ثُمَّ قِيلَ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَتَأَمَّلْ. (وَغَيْرَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى كَرَاهِيَةُ الْمَعْصِيَةِ) مِنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ (وَمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذِهِ وَاجِبَةٌ) فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهَا
(وَضِدُّ الْحَسَدِ)
الْمَذْكُورِ (النُّصْحُ وَالنَّصِيحَةُ) يُقَالُ نَصَحْت لِزَيْدٍ أَنْصَحُ لَهُ نُصْحًا وَنَصِيحَةً، وَهَذِهِ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى - {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34]- وَفِي لُغَةٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ نَصَحْته وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ فِي الْمَشُورَةِ وَالْعَمَلِ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ (وَهِيَ إرَادَةُ بَقَاءِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّا لَهُ فِيهَا صَلَاحٌ) مَنْفَعَةٌ دِينِيَّةٌ أَوْ دُنْيَوِيَّةٌ (أَوْ) إرَادَةُ (حُدُوثِهَا لَهُ) أَيْ النِّعْمَةِ لِلْغَيْرِ (وَإِنْ شِئْت قُلْت) هِيَ (إرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ) فِيهِ جِنَاسٌ بَدِيعِيٌّ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ) بِالْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» وَقَالَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبَّ لِنَفْسِهِ» وَقِيلَ؛ لِأَنَّ ضِدَّهَا الْحَسَدُ الْمُحَرَّمُ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) كَانَ نَصْرَانِيًّا فَوَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَأَسْلَمَ وَكَانَ صَاحِبَ لَيْلٍ وَقُرْآنٍ اشْتَرَى حُلَّةً بِأَلْفٍ يَخْرُجُ فِيهَا إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ بِإِذْنِ عُمَرَ كَذَا فِي الْفَيْضِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إنَّ الدِّينَ» الْحَقَّ الْكَامِلَ وَفِي الْحَاشِيَةِ قِوَامُ الدِّينِ وَعِمَادُ الشَّرِيعَةِ «النَّصِيحَةُ» وَكَرَّرَهُ فِي رِوَايَةٍ ثَلَاثًا فَقِيلَ التَّكْرِيرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَتَأَمَّلْ.
«قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى» بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَوَصْفِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ جَمِيعِ مَا لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ وَبَذْلِ الطَّاقَةِ فِي طَاعَتِهِ وَتَجَنُّبِ مَعْصِيَتِهِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ بِمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ وَشُكْرِهِ عَلَيْهَا وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ وَالدُّعَاءِ إلَى ذَلِكَ فَمِنْ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا تُدْخِلَ فِي صِفَاتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَبْدِ فِي نَصِيحَةِ نَفْسِهِ لِلَّهِ وَاَللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ «وَلِكِتَابِهِ» الْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ جَمِيعِ كُتُبِهِ كَمَا فِي الْمُؤْمِنِ بِهِ وَذَلِكَ بِبَذْلِ جُهْدِهِ فِي الذَّبِّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَبِالْوُقُوفِ عِنْدَ أَحْكَامِهِ وَإِقَامَةِ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ وَالتَّخَشُّعِ عِنْدَهُ وَالِاعْتِبَارِ بِمَوَاعِظِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي عَجَائِبِهِ وَالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمُتَشَابِهِهِ «وَلِرَسُولِهِ» بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَنُصْرَتِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا وَإِعْظَامِ حَقِّهِ وَبَثِّ دَعَوْتِهِ وَنَشْرِ سُنَّتِهِ وَالتَّلَطُّفِ فِي تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ وَتَجَنُّبِ مَنْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ «وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ» الْخُلَفَاءِ وَنُوَّابِهِمْ بِمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَإِعَانَتِهِمْ فِيهِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِرِفْقٍ وَإِعْلَامِهِمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ بِصَلَاحِهِمْ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ مَعَهُمْ وَأَدَاءِ الصَّدَقَاتِ إلَيْهِمْ وَتَرْكِ الْخُرُوجِ بِالسَّيْفِ إذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ سِيرَةٍ وَعَدَمِ تَغْرِيرِهِمْ بِإِفْرَاطِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ يُرَادُ بِالْأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءُ وَنَصِيحَتُهُمْ قَبُولُ مَا رَوَوْا إذَا انْفَرَدُوا وَتَقْلِيدُهُمْ وَمُتَابَعَتُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا «وَعَامَّتِهِمْ» بِإِرْشَادِهِمْ لِمَا يَنْفَعُ لَهُمْ فِي مَبْدَئِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا جَهِلُوهُ وَسَتْرِ عَوْرَتِهِمْ وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ وَشَفَقَةٍ