المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[التذلل الثالث عشر من آفات القلب] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٢

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّقْوَى] [

- ‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَة التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِير التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا التَّقْوَى]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَعَدَدهَا سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع]

- ‌[الْأَوَّلُ كُفْر جَهْلِيٌّ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ كُفْرٌ حُكْمِيٌّ]

- ‌[السَّادِسُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ]

- ‌[السَّابِع اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالْغَيْرِ]

- ‌[التَّاسِعُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ الرِّيَاء]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي آلَةُ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مَا قَصَدَهُ الْمُرَائِي بِرِيَائِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الْكِبْرُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ]

- ‌[الْكِبْرِ جَائِزٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ]

- ‌[التَّذَلُّلُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالثَّانِي مِنْ الْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ لِلْكِبْرِ الْعِبَادَةُ وَالْوَرَعُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكِبْرِ النَّسَبُ]

- ‌[وَالرَّابِعُ الْجَمَالُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ]

- ‌[وَالسَّادِسُ الْمَالُ وَالتَّلَذُّذُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[لَلتَّكَبُّرَ دُونَ الْكِبْرِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ أُخَرُ الْأَوَّلُ الْحِقْدُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لَلتَّكَبُّرُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْعُجْبُ]

- ‌[الْخُلُقُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ السِّتِّينَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْحَسَدُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْأَرْبَعَةِ فِي غَوَائِلِ الْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ لِلْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَسْبَابُ الْحَسَدِ سِتَّةٌ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَمِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ التَّطَيُّرُ]

- ‌[فَرْعٌ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ]

الفصل: ‌[التذلل الثالث عشر من آفات القلب]

طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ فَتَأَمَّلْ.

(وَفِي) كِتَابِ (تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ التَّمَلُّقُ مَذْمُومٌ) فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ (إلَّا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) لِقُوَّةِ شَرَفِ الْعِلْمِ (فَإِنَّهُ يَنْبَغِي) لِطَالِبِ الْعِلْمِ (أَنْ يَتَمَلَّقَ لِأُسْتَاذِهِ) الَّذِي يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَكَذَا لِشَيْخِهِ الَّذِي يُرْشِدُهُ وَيُرَبِّيهِ بِالدَّلَالَةِ أَوْ الْمُقَايَسَةِ.

قَالَ الشَّاعِرُ

إنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا

لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا

أَكْرِمْ طَبِيبَك إنْ أَرَدْت تَدَاوِيَا

وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إنْ أَرَدْت تَعَلُّمَا

(وَشُرَكَائِهِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ) وَهُمْ حِينَئِذٍ فِي مَعْنَى الْأُسْتَاذِ (انْتَهَى) فَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ الِاسْتِفَادَةَ عَلَى الْأُسْتَاذِ بَلْ قَدْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُمْ وَلَا يَتَكَبَّرُ بَلْ قَدْ تَكُونُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْ الشُّرَكَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا مِنْ الْأُسْتَاذِ؛ إذْ قَدْ يَدِقُّ تَقْرِيرُ الْأُسْتَاذِ وَيَصْعُبُ فَهْمُهُ لِبَعْضِ التَّلَامِذَةِ لِكَوْنِهِ مُبْتَدِئًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَوَاقِي أَوْ لِبَلَادَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ وَلَا يَخَافُ مِنْ تَعْيِيرِ الْغَيْرِ وَمَذَمَّتِهِ بَلْ يَقْصُرُ النَّظَرَ عَلَى انْتِفَاعِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى الِاسْتِفَادَةِ مِنْ اسْتِشْكَالِهِمْ عَلَى الْأُسْتَاذِ وَمُبَاحَثَتِهِمْ مَعَهُ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَلَّقُ إلَى الْعُلَمَاءِ غَيْرُ تِلْمِيذِهِمْ حِينَ الطَّلَبِ فَغَيْرُ التِّلْمِيذِ مُطْلَقًا وَالتِّلْمِيذُ غَيْرُ زَمَانِ الطَّلَبِ لَا يَتَمَلَّقُ لَكِنْ السَّابِقُ إلَى الْخَاطِرِ أَنَّ قُوَّةَ شَرَفِ الْعِلْمِ تَقْتَضِي جَوَازَ تَمَلُّقِ الْكُلِّ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَعْلَ الْعِلَّةِ الِاسْتِشْفَاقَ وَالِاسْتِعَانَةَ عَلَى الطَّلَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ فَلَا يَعُمُّ وَأَنَّ مُطْلَقَ شَرَفِ الْعِلْمِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَعُمَّ نَعَمْ يُمْكِنُ الْمُقَايَسَةُ بِأَنَّ احْتِيَاجَ الْغَيْرِ إلَى الْعُلَمَاءِ وَلَوْ فِي الْمَسَائِلِ وَالْفَتَاوَى وَالْمَوَاعِظِ وَالنَّصَائِحِ ضَرُورِيٌّ فَكَمَا يَجُوزُ تَمَلُّقُ التِّلْمِيذِ لِلِانْتِفَاعِ بِالِاسْتِفَادَةِ فَلْيَجُزْ تَمَلُّقُ الْغَيْرِ لِلِانْتِفَاعِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَبِمَا ذُكِرَ أَمْكَنَ أَنْ يَنْدَفِعَ تَوَهُّمُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْحَصْرِ فِي الدَّعْوَى وَالْحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا وَسِعَ فِي تَعْلِيمِ الْمُتَعَلِّمِ وَجُمِعَ الشَّرِيكُ مَعَ الْأُسْتَاذِ (وَإِنْ) كَانَ إظْهَارُ التَّوَاضُعِ (أَكْثَرَ فَتَذَلُّلٌ حَرَامٌ) كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا لِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، وَالِافْتِقَارُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَمِنْ قِلَّةِ الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَالنَّفْعُ وَالضُّرُّ وَالْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ مَقْصُورٌ عَلَى اللَّهِ (إلَّا لِضَرُورَةٍ) كَصِيَانَةِ دِينٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عَرْضٍ عَنْ تَلَفٍ أَوْ تَأَلُّمٍ مِنْ ظَالِمٍ مُتَكَبِّرٍ وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]- وَجَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

ثُمَّ يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنْ كَانَ قَوْلُهُ إنَّ أَكْثَرَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَظْهَرَ كَثِيرًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ لَفْظًا فَلَا تَقَابُلَ وَلَا تَغَايُرَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ حَقِيقَةً وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْأَكْثَرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْكَثِيرَ مَذْمُومٌ فِي غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْأَكْثَرَ مَذْمُومٌ مُطْلَقًا فَيَلْزَمُ مَذْمُومِيَّةُ الْأَكْثَرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَالْمَنْقُولِ هُوَ الْمُطْلَقُ فَيَلْزَمُ التَّقْيِيدُ بِالرَّأْيِ، وَالرَّأْيُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّحَكُّمِ وَإِنْ عَطَفَ عَلَى مَضْمُونِ الْمُسْتَثْنَى أَيْ قَوْلَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَمَا تُوُهِّمَ فَمَعَ مَا ذُكِرَ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ إذْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ لَا تَتَأَتَّى مِنْ الْأَسَاتِذَةِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَتَّخِذَ مِثْلَهُ أُسْتَاذًا، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ التَّوَاضُعُ كَثِيرًا فِي غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى مَذْمُومٌ وَالْأَكْثَرُ حَرَامٌ مُطْلَقًا إلَّا فِي مُسْتَثْنَاهُ أَيْضًا لَعَلَّهُ اطَّلَعَ عَلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ عَلَى نَحْوِهِ فَافْهَمْ.

[التَّذَلُّلُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

(وَهُوَ) أَيْ التَّذَلُّلُ (الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) وَمِثَالُ التَّذَلُّلِ (كَالْعَالِمِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ إسْكَافٌ) خَصَّافٌ أَيْ صَنْعَتُهُ عَمَلُ النِّعَالِ (فَتَنَحَّى لَهُ) تَحَوَّلَ يَعْنِي قَامَ (عَنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَهُ فِيهِ) تَعْظِيمًا لَهُ (ثُمَّ تَقَدَّمَ وَسَوَّى لَهُ نَعْلَهُ) عِنْدَ الْخُرُوجِ (وَعَدَا) أَيْ تَجَاوَزَ وَمَشَى (إلَى بَابِ الدَّارِ) مَثَلًا تَشْيِيعًا لَهُ (خَلْفَهُ فَقَدْ تَخَاسَسَ) صَارَ خَسِيسًا (وَتَذَلَّلَ) صَارَ ذَلِيلًا أَوْ أَظْهَرَ الذِّلَّةَ (وَإِنَّمَا تَوَاضُعُهُ لَهُ) لِلْإِسْكَافِ (بِالْقِيَامِ) الظَّاهِرِ أَيْ بِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ (وَالْبِشْرِ) أَيْ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ لَهُ (وَالرِّفْقِ فِي السُّؤَالِ) عَنْ مَصْلَحَتِهِ وَسَبَبِ مَجِيئِهِ أَوْ عَنْ جَوَابِ سُؤَالِهِ وَبِالْجُمْلَةِ الرِّفْقُ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُكَالَمَةِ

ص: 188

مَعَهُ فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْرَاجِ عَلَى مَخْرَجِ الْعَادَةِ لَا التَّخْصِيصِ بِمَا ذُكِرَ (وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ) إلَى نَحْوِ ضِيَافَتِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَكَبُّرًا (وَالسَّعْيِ فِي حَاجَتِهِ) الَّتِي جَاءَ لِأَجْلِهَا إنْ كَانَ فِي وُسْعِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «مَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَاجَةً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ» ، وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةٍ أُخْرَى «كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَنْ خَدَمَ اللَّهَ عُمْرَهُ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَقَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَالْعَبْدُ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ لَهُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ الْأُولَى أَنْ يُنَزَّلَ فِي حَقِّهِمْ مَنْزِلَةَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَهُوَ أَنْ يَسْعَى فِي أَغْرَاضِهِمْ رِفْقًا بِهِمْ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِهِمْ الثَّانِيَةُ أَنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يُنِيلُهُمْ خَيْرَهُ وَلَكِنْ يَكُفُّ عَنْهُمْ شَرَّهُ الثَّالِثَةُ أَنْ يُنَزَّلَ مَنْزِلَةَ الْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُتَّقَى شَرُّهُ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَلْحَقَ بِأُفُقِ الْمَلَائِكَةِ فَاحْذَرْ أَنْ تَنْزِلَ عَنْ دَرَجَةِ الْجَمَادَاتِ إلَى دَرَجَةِ الْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ فَإِنْ رَضِيت النُّزُولَ مِنْ أَعْلَى عِلِّيِّينَ فَلَا تَرْضَ بِالرِّضَا فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ فَلَعَلَّك تَنْجُو كِفَافًا لَا لَك وَلَا عَلَيْك.

وَفِيهِ أَيْضًا أَمْرُ الْحَسَنِ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ بِالْمَشْيِ فِي حَاجَةٍ، فَقَالَ أَنَا مُعْتَكِفٌ فَقَالَ يَا أَعْمَشُ أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَك فِي حَاجَةِ أَخِيك خَيْرٌ لَك مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنْ يَتَأَكَّدَ لِلشَّيْخِ السَّعْيُ فِي مَصَالِحِ طَلَبَتِهِ وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِجَاهِهِ وَمَالِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَسَلَامَةِ دِينِهِ وَعِرْضِهِ انْتَهَى.

(وَأَنْ لَا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ) إذْ اللَّائِقُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ النَّاسِ أَوْلَى مِنْ نَفْسِهِ وَلَوْ كَافِرًا كَمَا سَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ وَوَقَعَ فِي دِيبَاجَةِ الشَّاطِبِيَّةِ وَفَصْلِ الْجَعْبَرِيِّ وَعَلِيٍّ الْقَارِيّ فِي شَرْحِهِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِمِهَا وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ بِمَاذَا يَخْتِمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَرُبَّ عَالِمٍ يُخْتَمُ لَهُ بِسُوءٍ كَمَا سَمِعْت مِنْ قِصَّةِ بَلْعَامٍ وَرُبَّ جَاهِلٍ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ كَسَحَرَةِ فِرْعَوْنَ - {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]- (وَلَا يُحَقِّرَهُ) لِكَوْنِهِ مِنْ الْإِسْكَافِ (وَلَا يَسْتَصْغِرَهُ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَسْبُ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّذَلُّلِ الْحَرَامِ (السُّؤَالُ لِمَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ) وَإِنْ سَأَلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَدْيُونِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَكُونُ سَائِلًا بَلْ هُوَ إعَانَةٌ لِذَلِكَ الْمُحْتَاجِ.

وَفِي الصُّرَّةِ عَنْ كَرَاهِيَةِ جَامِعِ الْفَتَاوَى وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا يَسْأَلُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُدُوشٌ أَوْ خُمُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ» ؛ وَلِأَنَّهُ إذْلَالُ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» .

(وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَمِنْ السُّؤَالِ إهْدَاءُ قَلِيلٍ لِأَخْذِ كَثِيرٍ كَمَا يُفْعَلُ فِي دَعْوَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ) كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي زَمَانِنَا جَرَتْ بِإِعْطَاءِ شَيْءٍ قَلِيلٍ عَلَى قَصْدِ دَفْعِ عِوَضٍ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ تَذَلُّلٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ لَازِمٌ لَهُ وَإِنْ تُعُورِفَ ذَلِكَ (وَكَمَنْ يُرِيدُ اتِّخَاذَ غَنَمٍ أَوْ نَحْلٍ) فَيُهْدِي إلَى جَمَاعَةٍ أَوْ أَهَالِي قَرْيَةٍ قَلِيلًا فَيُعْطُونَ لَهُ أَغْنَامًا (قِيلَ فِيهِ) أَيْ: فِي إهْدَاءِ الْقَلِيلِ لِأَخْذِ الْكَثِيرِ (نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أَيْ لَا تُعْطِ قَلِيلًا طَالِبًا لِلْكَثِيرِ وَإِنَّمَا صَدَّرَ بِلَفْظِ قِيلَ؛ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِغْزَارِ وَهُوَ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يُكَافِئَ الْهَدِيَّةَ بِأَفْضَلَ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمُكَافَأَةِ بِالْمَالِ فَبِالدُّعَاءِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ كَذَا فِي الصُّرَّةِ عَنْ جَوَاهِرِ الْفِقْهِ.

(وَمِنْهُ الذَّهَابُ إلَى الضِّيَافَةِ وَوَصِيَّةُ الْمَيِّتِ) أَيْ إلَى مَا أَوْصَى بِهِ (بِلَا دَعْوَةٍ د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دُعِيَ» مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَسَائِرِ الضِّيَافَةِ «فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ»

ص: 189

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: الْإِجَابَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْوَلِيمَةِ عِنْدَ وُجُودِ الشُّرُوطِ وَنُدِبَ فِي غَيْرِهَا وَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا بِشَرْطٍ وَجَزَمَ بِاخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِوَلِيمَةِ النِّكَاحِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَالَغَ السَّرَخْسِيُّ مِنْهُمْ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، أَقُولُ الظَّاهِرُ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وُجُوبُ الْإِجَابَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضٍ وَإِنْ وَلِيمَةً عِنْدَ آخَرَ فَسُنَّةٌ فِي غَيْرِهَا بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُنْكَرِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِيمَا يُرَى أَوْ يُسْمَعُ أَوْ يُعْلَمُ وَبِشَرْطِ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِعَدَمِ قَصْدِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَالتَّبَاهِيَ وَالتَّفَاخُرَ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ بَلْ لَا يَجُوزُ كَمَا قِيلَ.

وَفِي الدُّرَرِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُنْكَرَ ابْتِدَاءً لَا يَحْضُرُ وَإِنْ بَعْدَ الْحُضُورِ فَإِنْ مُقْتَدًى بِهِ فَيَمْتَنِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَخْرُجُ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ غَيْرَ مُقْتَدًى بِهِ جَازَ أَكْلُهُ فَإِنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا تُتْرَكُ لِاقْتِرَانِ الْبِدْعَةِ مِنْ غَيْرِهِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَا تُتْرَكُ لِنَائِحَةٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا لَكِنْ الْمَفْهُومُ مِنْ قَاعِدَةِ الْأُصُولِ تَرْجِيحُ الْبِدْعَةِ عَلَى السُّنَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ بَلْ مُحَرَّمٌ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ دَخَلَ) الضِّيَافَةَ (عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا) لِأَنَّهُ لِعَدَمِ الْإِذْنِ كَالدَّاخِلِ خُفْيَةً أَوْ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا إذْنِ صَاحِبِهِ أَوْ فِي أَصْلِ الْحُرْمَةِ (وَخَرَجَ مُغِيرًا) مِنْ الْإِغَارَةِ وَهِيَ النَّهْبُ فَهَذَا الشَّخْصُ جَمَعَ بَيْنَ إثْمَيْ السَّارِقِ فِي الدُّخُولِ وَالْمُغِيرِ فِي الْخُرُوجِ قِيلَ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ إلَّا أَنَّ لِلْمَحَلِّ الْمُسْتَشْهَدِ شَاهِدًا مِنْ الْقُرْآنِ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27]- الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ لَا يَخْفَى أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ أَوْ مُقَيَّدٌ بِالْبُيُوتِ.

وَفِي الْمَطْلَبِ: الدُّخُولُ لِأَكْلِ الضِّيَافَةِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِ الْأَكْلِ فَلَا يَصْلُحُ شَاهِدًا وَأَنَا أَقُولُ لَوْ سَلِمَ الضَّعْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْيِيدًا لِلْقِيَاسِ إذْ مَالُ الْغَيْرِ حَرَامٌ مُطْلَقًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ كَالسَّارِقِ وَالْمُغِيرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَبَرَ الضَّعِيفَ يُؤْتَى لِأَجْلِ تَأْيِيدِ دَلِيلٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ.

(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّذَلُّلِ (الِاخْتِلَافُ) أَيْ التَّرَدُّدُ وَالِاخْتِلَاطُ (إلَى الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُمَّالِ) عَمَلَةِ السُّلْطَانِ (وَالْأَغْنِيَاءِ طَمَعًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ بِلَا ضَرُورَةٍ) فِي قَوْلِهِ طَمَعًا نَوْعُ غِنًى عَنْ قَوْلِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ إلَّا أَنْ لَا يَجْعَلَ طَمَعًا قَيْدًا لِلِاخْتِلَافِ كَمَا قِيلَ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ ابْتِدَاءً وَجُعِلَ لِلْأَغْنِيَاءِ فَقَطْ وَحِينَئِذٍ أَيْضًا يَنْدَفِعُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ مَنْعُ الِاخْتِلَافِ الْمُطْلَقِ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُوجِبُ الْمَنْعَ بِشَرْطِ قَيْدِ ذَلِكَ الطَّمَعِ، ثُمَّ تِلْكَ الضَّرُورَةُ كَالشَّهَادَةِ سِيَّمَا عِنْدَ التَّعَيُّنِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ وَإِعَانَةِ الْمَظْلُومِ فَيَجُوزُ بَلْ قَدْ يَجِبُ (وَمِنْهُ السُّجُودُ وَالرُّكُوعُ) إنْ أَرَادَ التَّحِيَّةَ وَالتَّعْظِيمَ لَيْسَ بِكَافِرٍ عِنْدَ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَكَافِرٌ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ وَإِنْ أَرَادَ الْعِبَادَةَ يَكْفُرُ إجْمَاعًا.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَأَمَّا السَّجْدَةُ لِلْجَبَابِرَةِ فَكَبِيرَةٌ يَكْفُرُ فَاعِلُهَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَكْفُرُ مُطْلَقًا وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ إنْ لِلْعِبَادَةِ يَكْفُرْ وَإِنْ لِلتَّحِيَّةِ لَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي سِيَرِ الْأَصْلِ إذَا قِيلَ لِمُسْلِمٍ اُسْجُدْ لِلْمَلِكِ وَإِلَّا قَتَلْنَاك إنْ أَمَرَهُ لِلْعِبَادَةِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَسْجُدَ؛ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمَا هُوَ كُفْرٌ صُورَةً (وَالِانْحِنَاءُ لِلْكُبَرَاءِ عِنْدَ الْمُلَاقَاةِ وَ) عِنْدَ (السَّلَامِ وَرَدِّهِ) لِوُرُودِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ.

وَفِيهِ أَيْضًا تَشْبِيهٌ بِالْيَهُودِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَنُقِلَ عَنْ الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ الِانْحِنَاءُ لِلسُّلْطَانِ وَلِغَيْرِهِ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمَجُوسِ.

(وَ) مِنْهُ (الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْ الظَّلَمَةِ وَتَقْبِيلُ أَيْدِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ) بِلَا ضَرُورَةٍ قَيَّدَ بِالظَّلَمَةِ فَإِنَّ تَقْبِيلَ

ص: 190

يَدِ الْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِلِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ فِيهِ وَأَمَّا غَيْرُهُمَا فَإِنْ لِتَعْظِيمِ إسْلَامِهِ فَلَا بَأْسَ أَيْضًا لَكِنْ الْأَوْلَى عَدَمُهُ وَتُكْرَهُ الْمُعَانَقَةُ كَمَا فِي قَاضِي خَانْ.

وَعَنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُكْرَهُ تَقْبِيلُ فَمِ الرَّجُلِ أَوْ يَدِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ تَعَانُقُهُ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا الْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِ الظَّلَمَةِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَكَذَا تَقْبِيلُ ثِيَابِهِمْ فَلَعَلَّهُ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ.

(وَلَيْسَ مِنْهُ) أَيْ التَّذَلُّلِ (مُبَاشَرَةُ أَعْمَالِ الْبَيْتِ وَحَاجَاتِهِ كَكَنْسِ الْبَيْتِ) أَيْ إزَالَةِ قُمَامَةٍ (وَطَبْخِ الطَّعَامِ) .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «كَأَنْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفَلِّيَ ثَوْبَهُ أَيْ يُخْلِيَ عَنْ ثَوْبِهِ الْمُؤْذِيَاتِ كَقَمْلٍ وَبُرْغُوثٍ وَيَحْلُبَ شَاتَهُ وَيَخْدُمَ نَفْسَهُ» ، فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَخْدُمُ نَفْسَهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا.

قَالَ الْمِصْرِيُّ: مَحْمُولٌ عَلَى الْأَحْيَانِ فَتَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِغَيْرِهِ وَتَارَةً بِالْمُشَارَكَةِ، وَفِيهِ نَدْبُ خِدْمَةِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِمَنْصِبِهِ وَإِنْ جَلَّ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَيْضًا «أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ وَيَرْفَعُ دَلْوَهُ وَيَعْلِفُ شَاتَهُ وَيَقُمُّ بَيْتَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ» (وَحَمْلِ الْمَتَاعِ مِنْ السُّوقِ إلَى الْبَيْتِ)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام شَرَى سَرَاوِيلَ وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَرَادَ حَمْلَهَا فَأَبَى. وَقَالَ صَاحِبُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا» الْحَدِيثَ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَأَنْفَى لِلْكِبْرِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَعَ أَنَّ فِي خِدْمَتِهِ غَايَةَ شَرَفٍ؛ لِأَنَّهُ مُشَرِّعٌ فَبَيَّنَ مَشْرُوعِيَّةَ الْحُكْمِ (وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَالْخَلَقِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ (وَالْمُرَقَّعِ وَالْمَشْيِ حَافِيًا وَلَعْقِ الْأَصَابِعِ) بَعْدَ تَمَامِ الْأَكْلِ لَا فِي أَوْسَاطِهِ (وَ) لَعْقِ (الْقَصْعَةِ) بِاللِّسَانِ أَوْ الْأَصَابِعِ قِيلَ جَاءَ فِي الْخَبَرِ إنَّهَا تَسْتَغْفِرُ لِصَانِعِ ذَلِكَ بِهَا.

وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ رَجُلٌ قَالَ «كُلَّمَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ لَحِسَ أَصَابِعَهُ» فَقَالَ السَّامِعُ " أَيْنَ بِي ادب يست " يَكْفُرُ لِاسْتِخْفَافِ السُّنَّةِ (وَأَكْلُ مَا سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الطَّعَامِ) مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «أَكْلُ الْعَنَا وَتَرْكُ الزِّنَى مِنْ أَسْبَابِ الْغِنَى» .

(وَالْتِقَاطِ) أَيْ أَخْذُ (دَقَائِقِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهَا مِنْ السُّفْرَةِ) مَا وُضِعَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ كَالْمَائِدَةِ (وَالْحَصِيرِ وَ) مِنْ (الْأَرْضِ وَمُجَالَسَةِ الْمَسَاكِينِ) أَيْ لِأَنَّهَا مِنْ خُلُقِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَمُخَالَطَتِهِمْ) كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَذَلِكَ مِنْ سِيَرِ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ وَفِيهَا رَغْمَ أَنْفِ الْمُتَكَبِّرِينَ.

وَعَنْ تَخْرِيجِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى رِوَايَةِ «أَبِي ذَرٍّ وَصَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَنْ أَدْنُوَ مِنْهُمْ» .

وَعَنْ تَخْرِيجِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ أَحَبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَرِّبُك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَفِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ لِعَلِيٍّ الْقَارِي «اتَّخِذُوا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا دَوْلَتُهُمْ؟ قَالَ يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ: قُومُوا فَلَا يَبْقَى فَقِيرٌ إلَّا قَامَ حَتَّى إذَا اجْتَمَعُوا قِيلَ اُدْخُلُوا إلَى صُفُوفِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ صَنَعَ مَعَكُمْ مَعْرُوفًا فَأَوْرِدُوهُ إلَى الْجَنَّةِ قَالَ فَجَعَلَ يَجْتَمِعُ عَلَى الرَّجُلِ كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ أَلَمْ أَكْسُك

ص: 191

فَيُصَدِّقُهُ وَيَقُولُ الْآخَرُ يَا فُلَانُ: أَلَمْ أُكَلِّمْ لَك فُلَانًا فَلَا يَزَالُونَ يُخْبِرُونَهُ بِمَا صَنَعُوا إلَيْهِ وَهُوَ يُصَدِّقُهُمْ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِمْ جَمِيعًا حَتَّى يَدْخُلَ بِهِمْ الْجَنَّةَ، فَيَبْقَى قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا يَصْنَعُونَ الْمَعْرُوفَ فَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا كُنَّا نَصْنَعُ الْمَعْرُوفَ حَتَّى نَدْخُلَ الْجَنَّةَ» .

(فَائِدَةٌ) : رُئِيَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا أَحْسَنُ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ عَطْفُ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَحْسَنُ مِنْهُ تَيَّةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «اتَّخِذُوا عِنْدَ الْفُقَرَاءِ أَيَادِيَ فَإِنَّ لَهُمْ دَوْلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ سِيرُوا إلَى الْفُقَرَاءِ فَيُعْتَذَرُ كَمَا يَعْتَذِرُ أَحَدُكُمْ إلَى أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا» .

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَقَدْ تَأَدَّبَ السَّلَفُ فِي هَذَا بِأَدَبِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم حَتَّى حُكِيَ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي مَجْلِسِهِ أُمَرَاءُ.

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: الْفَقْرُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ دَاعٍ إلَى الْإِنَابَةِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالطَّلَبِ مِنْهُ، وَهُوَ حِلْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرُتْبَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَزِيُّ الصُّلَحَاءِ وَمِنْ ثَمَّةَ وَرَدَ خَبَرُ إذَا رَأَيْت الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ مَرْحَبًا بِشَعَائِرِ الصَّالِحِينَ فَهُوَ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ بَيْدَ أَنَّهُ مُؤْلِمٌ شَدِيدُ التَّحَمُّلِ.

وَأَمَّا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْفَقْرِ وَكَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» فَعَنْ الْغَزَالِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ خَيْرًا مَحْضًا وَلَا شَرًّا مَحْضًا كَالْمَالِ بَلْ سَبَبٌ لِلْأَمْرَيْنِ مَعًا يُمْدَحُ مَرَّةً وَيُذَمُّ أُخْرَى وَالْبَصِيرُ الْمُمَيِّزُ يُدْرِكُ أَنَّ الْمَحْمُودَ مِنْهُ غَيْرُ الْمَذْمُومِ

كَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ عَلَيْك بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْأَلُ رَبَّهُ حُبَّ الْمَسَاكِينِ» وَمِنْ أَحَادِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَيْضًا فِي الصُّرَّةِ مِنْ بُرْهَانِ الصِّحَاحِ أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُزْهِدٌ أَيْ قَلِيلُ الْمَالِ، وَلِهَذَا فُضِّلَ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ عَلَى الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ كَمَا سَبَقَ عَنْ بَحْرِ الْكَلَامِ وَأَيْضًا فِي الصُّرَّةِ عَنْ جَوَاهِرِ الْفِقْهِ اتَّفَقَ الْمَشَايِخُ أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ.

(وَ) مُعَاطَاةُ (أَنْوَاعِ الْكَسْبِ) بِنَفْسِهِ (مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَإِجَارَةِ نَفْسِهِ لِلْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ كَرَعْيِ الْغَنَمِ) قِيلَ فِيهِ إشْبَاعُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَرْحَمَةُ لَهُمْ (وَسَقْيِ الْبُسْتَانِ وَالْكَرَمِ وَعَمَلِ الطِّينِ وَالْبِنَاءِ وَحَمْلِ الْحَطَبِ) لِنَفْسِهِ أَوْ لِلنَّاسِ بِالْأَجْرِ أَوْ لِلضَّعِيفِ لِمُجَرَّدِ الْمَرْحَمَةِ (عَلَى ظَهْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ تَوَاضُعٌ) مَحْمُودٌ وَلَيْسَ بِتَذَلُّلٍ مَذْمُومٍ وَقَدْ (فَعَلَهُ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام) الظَّاهِرُ مِنْ قَبِيلِ انْقِسَامِ الْآحَادِ إلَى الْآحَادِ وَلَوْ آحَادًا نَوْعِيَّةً (وَالْأَوْلِيَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَعَيُّنِ رُتْبَةِ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لِمِقْدَارِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَرْضٌ وَمَا زَادَ فَمُبَاحٌ إنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ ثُمَّ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَنْوَاعَ الْكَسْبِ فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ وَاخْتُلِفَ هَلْ الْأَفْضَلُ الزِّرَاعَةُ أَوْ التِّجَارَةُ وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ (وَأَكْثَرُهُ) الظَّاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَسْبِ (صَدَرَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ) وَلَوْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ (عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ وَصَحَابَتِهِ الْمُكْرَمِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) .

وَفِي الشِّرْعَةِ كَسَبَ إدْرِيسَ خِيَاطَةُ الثِّيَابِ وَدَاوُد يَعْمَلُ الدُّرُوعَ مِنْ الْحَدِيدِ وَالْخَلِيلُ يَحْرُثُ وَيُحْرَثُ لَهُ وَيَتَّجِرُ فِي الْبَزِّ أَيْضًا وَأَوَّلُ مَنْ نَسَجَ الْأَثْوَابَ آدَم وَعِيسَى يَخْصِفُ النَّعْلَ وَيُرَقِّعُهُ وَنُوحٌ نَجَّارٌ وَصَالِحٌ يَنْسِجُ الْأَكْسِيَةَ بِيَدِهِ، وَرَعْيُ الْغَنَمِ مِنْ دَأْبِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ ذُكِرَ مَعَ سَائِرِهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَنْمَى التَّسْلِيمَاتِ رَعَى الْغَنَمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى قَرَارِيطَ قَبْلَ الْوَحْيِ.

وَعَنْ عَارِيَّةَ الْمُحَاسِبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ بِالْأَرْضِ وَأَلْبَسُ الصُّوفَ وَأَعْتَقِلُ الْعَنْزَ وَأَلْعَقُ أَصَابِعِي وَأُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ مَنْ حَمَلَ لِأَهْلِهِ الْفَاكِهَةَ وَالشَّيْءَ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ» ، وَذَكَرَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَيِّمِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ وَاشْتَرَى وَشِرَاؤُهُ أَكْثَرُ وَآجَرَ وَاسْتَأْجَرَ وَإِيجَارُهُ أَكْثَرُ وَضَارَبَ وَشَارَكَ وَوَكَّلَ وَتَوَكَّلَ وَتَوْكِيلُهُ أَكْثَرُ وَأَهْدَى وَأُهْدِيَ لَهُ وَوَهَبَ وَاتَّهَبَ وَاسْتَدَانَ وَاسْتَعَارَ وَضَمِنَ عَامًّا وَخَاصًّا وَوَقَفَ وَشَفَعَ فَقَبِلَ تَارَةً وَرَدَّ أُخْرَى فَلَمْ يَغْضَبْ

ص: 192