الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلَا يَطْلُبُ إزَالَتَهُ وَعِلَاجَهُ) ؛ لِأَنَّ دَاعِيَ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِزَالَةِ إنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ كَوْنِهِ نَقْصًا وَهَذَا يَعْرِفُهُ كَمَالًا (إلَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى فَسَادِهِ بَغْتَةً) فَجْأَةً (بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى) لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي انْسِدَادَ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ لِصَاحِبِ هَذَا النَّوْعِ إلَّا أَنْ يُرَادَ الْإِزَالَةُ عَلَى الْيُسْرِ وَالْكَثْرَةِ وَالسُّهُولَةِ.
[النَّوْعُ الثَّانِي كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ]
(وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الثَّلَاثَةِ كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ)
مِنْ الْمُعَانَدَةِ، وَهِيَ الْمُفَارَقَةُ وَالْمُجَانَبَةُ وَالْمُعَارَضَةُ بِالْخِلَافِ كَالْعِنَادِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (وَسَبَبُهُ) ثَلَاثَةٌ اسْتِكْبَارٌ وَحُبُّ رِيَاسَةٍ وَخَوْفُ ذَمٍّ الْأَوَّلُ (الِاسْتِكْبَارُ وَسَيَجِيءُ) أَبْحَاثُهُ لِئَلَّا يَقَعَ الْفَصْلُ؛ لِأَنَّ بَحْثَهُ طَوِيلٌ (كَكُفْرِ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أَيْ قَوْمِهِ مَعَ رُؤْيَتِهِمْ الْمُعْجِزَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْتَكْبَرُوا} [المؤمنون: 46] عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46] مُتَكَبِّرِينَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} [المؤمنون: 47] مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] وَفِي اعْتِقَادِهِمْ التَّمَاثُلُ فِي الْبَشَرِيَّةِ مَانِعٌ لِلنُّبُوَّةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَالْمَلَكِ وَهَذَا مِنْ غَايَةِ جَهْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ فِرْعَوْنَ مَعَ كَوْنِهِ مِثْلَهُمْ {وَقَوْمُهُمَا} [المؤمنون: 47] وَالْحَالُ أَنَّ قَوْمَهُمَا أَيْ بَنِي إسْرَائِيلَ {لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] يَخْدُمُونَ وَيَنْقَادُونَ لِقَهْرِهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ وَقِيلَ لِعِبَادَتِهِمْ فِرْعَوْنَ عَلَى اعْتِقَادِ أُلُوهِيَّتِهِ (وقَوْله تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل: 14] أَيْ آيَاتِ اللَّهِ {وَاسْتَيْقَنَتْهَا} [النمل: 14] تَحَقَّقَتْهَا {أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} [النمل: 14] تَجَاوُزًا عَنْ الْحَدِّ {وَعُلُوًّا} [النمل: 14] أَيْ جَحَدُوا بِهَا لِلظُّلْمِ وَالتَّكَبُّرِ عَنْ اتِّبَاعِهِ.
(وَ) الثَّانِي (خَوْفُ عَدَمِ وُصُولِ الرِّيَاسَةِ) الْجَاهِ وَالرِّفْعَةِ (أَوْ) خَوْفُ (زَوَالِهَا كَكُفْرِ هِرَقْلَ) بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ عَلَمٌ لَهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الرُّومِ وَالشَّامِ وَلَقَبُهُ قَيْصَرُ وَكَذَا كُلٌّ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ كَمَلِكِ فَارِسَ يُلَقَّبُ بِكِسْرَى وَالْحَبَشَةِ بِالنَّجَاشِيِّ وَالتُّرْكُ بِخَاقَانَ وَالْقِبْطُ بِفِرْعَوْنَ وَمِصْرُ بِالْعَزِيزِ وَحِمْيَرُ بِتُبَّعَ وَقِصَّتُهُ أَنَّ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ حِينَ أَعْطَى إلَى هِرَقْلَ مَكْتُوبَ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ طَرَفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ اتَّفَقَ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهِ بِلَيْلَةٍ أَنَّهُ نَظَرَ فِي النُّجُومِ فَرَأَى عَلَائِمَ شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَظُهُورِ دِينِهِ وَانْتِشَارِهِ وَنَسْخِهِ لِسَائِرِ الْأَدْيَانِ فَأَصْبَحَ مُضْطَرِبًا وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَعْيَانَ دَوْلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ فَحَصُوا وَوَجَدُوا أَبَا سُفْيَانَ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ تُجَّارٍ مِنْ الشَّامِ فَأَحْضَرُوهُ عِنْدَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ هُوَ مِنْ أَشْرَافِكُمْ وَفُقَرَائِكُمْ وَهَلْ سَبَقَ مِنْ الْغَيْرِ فِيكُمْ دَعْوَى نُبُوَّةٍ وَهَلْ فِي أَجْدَادِهِ مَلِكٌ وَإِمَارَةٌ وَهَلْ أَتْبَاعُهُ أَغْنِيَاءُ أَوْ فُقَرَاءُ وَضُعَفَاءُ وَهَلْ أَمْرُهُ عَلَى التَّزَايُدِ أَوْ التَّنَاقُصِ وَهَلْ يَبْقَى مَنْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ وَهَلْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَدْرٌ وَهَلْ يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ وَهَلْ الْغَلَبَةُ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْكَثْرَةُ فِي الْغَلَبَةِ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ مِنْ مُخَالِفِهِ وَكَذَا وَكَذَا.
فَلَمَّا أَجَابَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ قَالَ هِرَقْلُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ غَيْرَةً وَتَكْذِيبًا لَكِنْ صَدَرَ عَنْهُ كَذِبٌ عَجِيبٌ فَأَخْبَرَ أَمْرَ الْمِعْرَاجِ مِنْ إسْرَائِهِ فِي لَيْلَةٍ
مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يَعْنِي الْقُدْسَ فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ خُدَّامِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَخْبَرَ بَعْضَ وَقَائِعِهِ فِي الْقُدْسِ أَمَرَ هِرَقْلَ بِقِرَاءَةِ الْمَكْتُوبِ فَبَعْدَ الْقِرَاءَةِ أَظْهَرَ مَا فِي ضَمِيرِهِ مِنْ الْإِيمَانِ لِدِحْيَةَ فَقَالَ أَخَافُ عَلَى نَفْسِي إنْ أَظْهَرْت إيمَانِي لَكِنْ اذْهَبْ بِكِتَابِي إلَى رَاهِبٍ مُعْتَمَدٍ لِلْكُلِّ يُقَالُ لَهُ ضغاطر عَرِيفٌ بِالْعِلْمِ وَالنُّجُومِ عَسَى أَنْ يُؤْمِنَ فَيَقْتَدُوا بِهِ فَذَهَبَ فَلَمَّا رَأَى مَكْتُوبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفَ صِدْقَهُ فَآمَنَ وَدَعَا قَوْمَهُ إلَى دِينِهِ فَقَتَلُوهُ فَعَادَ دِحْيَةُ إلَى هِرَقْلَ فَأَخْبَرَ فَقَالَ لَوْلَا خَوْفُ هَذِهِ الْمَعْنَى لَأَظْهَرْت ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى دَارِ سَلْطَنَتِهِ بَلْدَةِ حِمْصَ أَتَاهُ مَكْتُوبٌ مِنْ صَاحِبٍ لَهُ يُمَاثِلُهُ فِي الْعِلْمِ يُخْبِرُ فِيهِ شَأْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نُبُوَّةٍ فَجَمَعَ عُظَمَاءَ الرُّومِ وَعَرَضَ مُتَابَعَتَهُ عليه الصلاة والسلام فَأَعْرَضُوا وَنَفَرُوا عَنْهُ فَلِمَا أَيِسَ مِنْ إيمَانِهِمْ رَدَّهُمْ إلَيْهِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ مُرَادِي اخْتِبَارُ شِدَّةِ ثَبَاتِكُمْ فِي دِينِكُمْ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَآثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ خَوْفَ زَوَالِ رِيَاسَتِهِ
وَيُؤَيِّدُهُ إرْسَالُ غَوْثٍ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ فَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْسَلَ كِتَابَ إيمَانِهِ غَزْوَةً فَكَذَّبَ عليه الصلاة والسلام إيمَانَهُ فَقَالَ هُوَ عَلَى نَصْرَانِيَّتِهِ وَقِيلَ إنَّهُ تَشَرَّفَ بِالْإِسْلَامِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُهُ، وَأَمَّا مَكْتُوبُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتَك اللَّهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّنَ وَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وَعَنْ شَرْحِ الْكَرْمَانِيِّ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جُمَلٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ تَصْدِيرِ الْكُتُبِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِ كَافِرًا وَمِنْهَا سُنِّيَّةُ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَكْتُوبِ بِاسْمِ الْكَاتِبِ أَوَّلًا وَلِذَا كَانَ عَادَةُ الْأَصْحَابِ أَنْ يَبْدَءُوا بِأَسْمَائِهِمْ وَرَخَّصَ جَمَاعَةٌ الِابْتِدَاءَ بِالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا كَتَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَى مُعَاوِيَةَ مُبْتَدِئًا بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ
وَأَنَا أَقُولُ فِيهِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ تَعْظِيمِ الْمُعَظَّمِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَوْ كَافِرًا إنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً وَفِيهِ أَيْضًا إيمَاءٌ إلَى طَرِيقِ الرِّفْقِ وَالْمُدَارَاةِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ وَفِيهِ أَيْضًا جَوَازُ السَّلَامِ عَلَى الْكَافِرِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّجْنِيسِ مِنْ جَوَازِهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ إذًا لَيْسَ لِلتَّوْقِيرِ بَلْ لِلْمَصْلَحَةِ وَلِإِشْعَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مِنْ التَّوَدُّدِ وَالِائْتِلَافِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَخُصُّ بِالْخِطَابِ فِي السَّلَامِ عَلَى الْكَافِرِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةٍ بَلْ يَذْكُرُ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ، وَإِنْ رَأَى السَّلَامَ عَلَى الْكَافِرِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ وَالْحَقِيقَةِ لَيْسَ لَهُ بَلْ لِمَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَبَعِيَّةُ هُدًى بَلْ فِيهِ إغْرَاءٌ عَلَى دَلِيلِ اسْتِحْقَاقِ الدُّعَاءِ بِالسَّلَامِ مِنْ تَبِيعَةِ الْهُدَى.
(وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ هُوَ الثَّالِثُ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ) مِنْ السِّتِّينَ الْمَذْمُومَةِ (وَهِيَ) الرِّيَاسَةُ (مَلِكُ) بِكَسْرِ اللَّامِ (الْقُلُوبِ وَيُسَمَّى) أَيْ حُبُّ الرِّيَاسَةِ (جَاهًا) مِنْ الْوَجَاهَةِ، وَهِيَ الصَّدَارَةُ وَالتَّقَدُّمُ عَلَى الْغَيْرِ (وَشَرَفًا وَصِيتًا) أَيْ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ الَّذِي يَنْتَشِرُ فِي النَّاسِ (ت س) التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا» عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ «فِي غَنَمٍ» جِنْسٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْحَيَوَانِ «بِأَفْسَدَ» أَكْثَرَ فَسَادًا «لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ» أَيْ شِدَّةِ مُحَافَظَتِهِ فِي الْمَذْمُومِ «عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» مُتَعَلِّقٌ بِأَفْسَدَ أَيْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَالِ وَالشَّرَفِ يَفْعَلُ فِي دِينِ صَاحِبِهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ أَشَدَّ مَا يَفْعَلُهُ الذِّئْبُ فِي غَنَمٍ أُرْسِلَ فِيهَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ أَكْثَرُ فَسَادًا لِلدِّينِ مِنْ إفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لِلْغَنَمِ لِاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَذِكْرُ الذِّئْبَيْنِ لِمُنَاسِبَةِ حِرْصِ الْمَالِ وَحِرْصِ الشَّرَفِ
(هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ حَسْبُ) بِالسُّكُونِ (امْرِئٍ) أَيْ يَكْفِيهِ (مِنْ الشَّرِّ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ (إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ) بِتَوْفِيقِهِ (تَعَالَى) إمَّا بِخَلْقِ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ أَوْ ابْتِدَاءٍ مِنْ الْعَبْدِ (أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ) لِتَفَرُّدِهِ وَعَظَمَتِهِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ (فِي دِينِهِ) بِسَبَبِ دِينِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» (وَدُنْيَاهُ) وَلِذَا كَانَتْ الشُّهْرَةُ آفَةً أَمَّا الدِّينُ فَلِكَوْنِهِ مَنْبَعًا لِنَحْوِ الْعُجْبِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَمَلِ وَالرِّيَاءِ وَآلَةً لِجَمْعِ الدُّنْيَا وَقِيلَ إنَّ الشُّهْرَةَ فِيهِ إنَّمَا تَكُونُ بِإِحْدَاثِ بِدْعَةٍ عَظِيمَةٍ فِيهِ خَفَاءٌ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلِكَوْنِهِ مَنْبَعًا لِنَحْوِ الظُّلْمِ وَالْكِبْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّاعَاتِ وَالتَّعَمُّقِ فِي الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ (دَيْلَم) الدَّيْلَمِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «حُبُّ الثَّنَاءِ» الْمَدْحِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ «مِنْ النَّاسِ يُعْمِي» عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ أَوْ عَنْ النَّظَرِ إلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ «وَيَصُمُّ» عَنْ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ أَوْ عَنْ اسْتِمَاعِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَمِعَ فَلَا يَسْمَعُ قَبَائِحَهُ فَإِذَا غَلَبَ الْحُبُّ عَلَى الْقَلْبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رَادِعٌ مِنْ عَقْلٍ أَوْ دِينٍ أَصَمَّ عَنْ الْعَدْلِ وَأَعْمَى عَنْ الرُّشْدِ فَيَكْرَهُ اسْتِمَاعَ قَبَائِحِهِ لِحِرْصِهِ عَلَى اسْتِمَاعِ مَآثِرِهِ (وَسَبَبُهُ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا التَّوَسُّلُ بِالْجَاهِ) الَّذِي هُوَ الرِّيَاسَةُ (إلَى مَا حُرِّمَ مِنْ مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ) كُلُّ مَا تَتَلَهَّى النَّفْسُ بِهِ وَتَشْتَهِي فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ بِحُبِّ الْمَنَاهِي فَإِنَّهَا إذَا خُلِّيَتْ عَنْ مَوَانِعِهَا وَطَبْعِهَا تُحِبُّ وَتَهْوَى حُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمُرَادَاتِهَا) كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ مِنْ نَحْوِ اسْتِيلَاءِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَالتَّرَفُّعِ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَإِيقَاعِ الْهَيْبَةِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَالِاسْتِخْدَامِ (وَهَذَا حَرَامٌ) فَإِنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْحَرَامِ فَحَرَامٌ (وَثَانِيهَا التَّوَسُّلُ بِهِ إلَى أَخْذِ الْحَقِّ) الَّذِي لَهُ عَلَى الْغَيْرِ إذْ بِالرِّيَاسَةِ يَسْهُلُ ذَلِكَ (وَتَحْصِيلِ الْمَرَامِ) الْمَقْصُودِ الْمَشْرُوعِ (الْمُسْتَحَبِّ) قِيلَ كَالتَّمَكُّنِ بِبَذْلِ الصَّدَقَاتِ وَبُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ (أَوْ الْمُبَاحِ) كَأَنْوَاعِ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكِحِ (أَوْ) إلَى (دَفْعِ الظُّلْمِ) مِنْ الظَّالِمِينَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ وَعِلْمٌ بِلَا جَاهٍ كَلَامٌ مُضَيَّعٌ (وَ) دَفْعِ (الشَّوَاغِلِ) الْعَائِقَةِ لَهُ عَنْ الطَّاعَاتِ (وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ أَوْ إلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ) عِنْدَ الْجَبَابِرَةِ (وَإِعْزَازِ الدِّينِ) الْمُحَمَّدِيِّ (وَإِصْلَاحِ الْخَلْقِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) فَإِنَّ الرِّيَاسَةَ وَالرِّفْعَةَ تُعِينُ وَتُسَهِّلُ جِنْسَ هَذَا الْمَرَامِ (فَهَذَا إنْ خَلَا) عَرَى (عَنْ الْمَحْظُورِ) الْمَمْنُوعِ شَرْعًا (كَالرِّيَاءِ وَالتَّلْبِيسِ) أَيْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ (وَتَرْكِ الْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ فَجَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مَشْرُوعٍ فَمَشْرُوعٌ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
حِكَايَةً عَنْ الصَّالِحِينَ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وَنَحْوُ قَوْلِ سُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]- وَمِنْ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهُ اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِحَقٍّ وَعَدْلٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَنَةٍ أَغْزُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَأَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ الْقُرْآنُ» (وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْ الْمَحْظُورِ (فَلَا) يَجُوزُ فَضْلًا عَنْ الِاسْتِحْبَابِ يَعْنِي إذَا كَانَ نِيَّتُهُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ، وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْ الْحَظْرِ نَحْوَ الرِّيَاءِ وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ (لِأَنَّ النِّيَّةَ) الصَّحِيحَةَ (لَا تُؤَثِّرُ فِي) حِلِّ تِلْكَ (الْمُحَرَّمَاتِ وَ) كَذَا إبَاحَةُ (الْمَكْرُوهَاتِ) فَلَا يَحِلُّ تَعَاطِيهَا بِنِيَّةِ الْحِلِّ وَلَا تُبَاحُ بَلْ رُبَّمَا يَغْلُظُ حُكْمُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ بِضَمِّ نِيَّةِ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّاعَاتِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ عَمَلًا وَاحِدًا قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا بِنِيَّةٍ وَغَيْرَ مَشْرُوعٍ بِأُخْرَى وَدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِمَا يَكُونُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيمَا يَكُونُ حَرَامًا فِي أَصْلِهِ تَحَكُّمٌ (وَثَالِثُهَا التَّلَذُّذُ بِهِ) بِالْجَاهِ (نَفْسِهِ) تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ وَقِيلَ لِلتَّلَذُّذِ احْتِرَازًا عَنْ التَّلَذُّذِ بِعَوَارِضِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ مِنْ قَضَاءِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ النَّفْسَانِيَّةِ (وَظَنُّهُ كَمَالًا وَهَذَا كَحُبِّ الْمَالِ لِلتَّنَعُّمِ) فِي أَنْوَاعِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ (وَالتَّلَذُّذِ بِهِ) لِمُجَرَّدِ هَوَى النَّفْسِ (فَإِنْ خَلَا عَنْ الْمَحْظُورِ) أَيْ الْمَمْنُوعِ نَحْوَ قَصْدِ مُحَرَّمٍ (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ) فِي رُتْبَةِ الْكَمَالِ لِإِخْلَالِهِ بِهَا (لِكَوْنِ صَاحِبِهِ مَقْصُورًا لَهُمْ) أَيْ الْعَزْمِ وَالْهِمَّةِ (عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ) يَعْنِي يَقْصُرُ قَصْدَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْخَلْقِ لِئَلَّا يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَلِئَلَّا يَذُمُّوهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُحِبُّ ثَنَاءَهُمْ وَيَكْرَهُ ذَمَّهُمْ (وَ) لِخَوْفِ (تَأْدِيَتِهِ) أَيْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجَاهِ يَخَافُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَاحِبَهُ (إلَى الْمُرَاءَاةِ) مِنْ الرِّيَاءِ وَالْمُدَاهَنَاتِ وَالتَّصَنُّعَاتِ (لِأَجْلِهِمْ) لِأَجْلِ جَلْبِهِمْ وَثَنَائِهِمْ وَلِأَجْلِ نَيْلِهِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ (وَ) لِخَوْفِ (النِّفَاقِ) أَيْ وَلِخَوْفِ تَأْدِيَتِهِ إلَى النِّفَاقِ لِلْخَلْقِ (بِإِظْهَارِ مَا لَيْسَ فِيهِ) أَيْ فِيمَنْ يُحِبُّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْجَاهِ (مِنْ الْكِمَالَاتِ) يَعْنِي يُظْهِرُ هَذَا الرَّجُلُ كَمَالًا، وَهُوَ لَيْسَ فِيهِ (لِاقْتِنَاصِ قُلُوبِهِمْ) أَيْ صَيْدِ قُلُوبِهِمْ وَجَلْبِهِمْ (وَالتَّلْبِيسِ) أَيْ وَلِخَوْفِ تَأْدِيَتِهِ إلَى التَّلْبِيسِ أَيْ تَلْبِيسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا (وَالْخُدْعَةِ) فُسِّرَ بِإِظْهَارِ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ هُوَ الْحِيلَةُ وَالْمَكْرُ (وَالْكَذِبِ وَالْعُجْبِ) أَيْ النَّظَرِ لِلنَّفْسِ (وَنَحْوِهَا) مِنْ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي تَصْدُرُ فِيمَنْ يَكُونُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ مِمَّا ذَكَرَ هُوَ الْحُرْمَةُ وَمَطْلُوبُ عَدَمِ الْحُرْمَةِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِ قَصْرِ الْقَصْدِ إلَى الْخَلْقِ مُعْرِضًا عَنْ الْحَقِّ أَوْ مُسْتَلْزِمًا إيَّاهُ وَمَا فِيهِ خَوْفُ الْحُرْمَةِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، وَأَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَيَغْلِبُ الْحَرَامُ وَقَدْ قُرِّرَ تَرْجِيحُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهُ قَدْ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَطْلُوبٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ أَيْ قَطْعِيٍّ، وَيُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلَوْ تَحْرِيمًا لَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ دُخُولُهُ فِي الْأَوَّلِ تَأَمَّلْ (وَعِلَاجُهُ) يَعْنِي إذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مَذْمُومًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَاجٍ فَعِلَاجُهُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ عَدَمُ ذِكْرِ عِلَاجِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّهُ أَهَمُّ مِنْ هَذَا، وَلَوْ أُرِيدَ
مِنْ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ مُطْلَقُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ لَأَشْكَلَ بِالثَّانِي إذْ هُوَ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ إذْ الْأَصْلُ وَالْمُتَبَادِرُ فِي النَّظَرِ هُوَ الذَّاتُ لَا الْعَوَارِضُ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيبِ أَوْ ادَّعَى اعْتِبَارَ الْوَصْفِ الْمَذْمُومِ وَلَوْ بَعِيدًا أَوْ يُرَادُ مِنْ الْمَرْجِعِ مُطْلَقُ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ (أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَمَالٍ حَقِيقِيٍّ) بَلْ صُورِيٍّ وَمُسْتَعَارٍ مَجَازِيٍّ لِسُرْعَةِ زَوَالِهِ وَلِكَوْنِهِ مَشُوبًا بِالْكَدُورَاتِ وَالْعَوَائِقِ (لِفِنَائِهِ وَكَدُورَاتِهِ) فَإِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَإِنَّ الْبَاقِيَاتِ هِيَ الصَّالِحَاتُ (وَمَعْرِفَةُ) عَطْفٌ عَلَى أَنْ يَعْلَمَ أَيْ عِلَاجُهُ مَعْرِفَةُ (غَوَائِلِهِ الْمَذْكُورَةِ) فِي جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ فَتَأَمَّلْ وَأَيْضًا مَا فُهِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ (وَأَنْ يَعْمَلَ مَا يُسْقِطُ الْجَاهَ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ مِنْ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ) الدَّنِيئَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا (الْمُبَاحَةِ) لِيَسْتَتِرَ بِهَا عَنْ عُيُونِ النَّاسِ فَيَسْلَمَ مِنْ إقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ (كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ قَصَدَ) زِيَارَةَ (بَعْضِ الزُّهَّادِ فَلَمَّا عَلِمَ) الزَّاهِدُ (بِقُرْبِهِ مِنْهُ اسْتَدْعَى طَعَامًا وَبَقْلًا وَأَخَذَ يَأْكُلُ بِشَرَهٍ) قُوَّةِ حِرْصٍ (وَيُعَظِّمُ اللُّقْمَةَ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلِكُ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَانْصَرَفَ) الْمَلِكُ عَنْهُ (فَقَالَ الزَّاهِدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَرَفَك عَنِّي) إمَّا بِلِسَانِهِ فِي غِيَابِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الْأَكْلِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِأَرْبَابِ الزُّهْدِ بَلْ صُنْعُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ أَمْثَالِ هَذَا إنَّمَا هُوَ شَأْنُ الْعَوَامّ فَإِنَّ الْخَاصَّ الْعَارِفَ لَا يُغَيِّرُ اعْتِقَادَهُ بِمُطْلَقِ الْمُبَاحَاتِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْكَلَامِيَّةِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَنْفِيرِ الْخَلْقِ عَنْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي الشَّرْعِ وَأَيْضًا لَيْسَ هَذَا وُقُوعًا فِي التُّهَمِ الَّتِي أُمِرْنَا بِتَجَنُّبِهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ» فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْكَامِلَ لَا تُغَيِّرُ رِيَاسَتُهُ كَمَالَهُ بَلْ تَزِيدُهُ بِتَرْوِيجِ مَقَالِهِ فِي أَبْوَابِ الْمَشْرُوعَاتِ وَزَجْرِ الْمُنْهَيَاتِ بِالْمَوَاعِظِ الْحَسَنَةِ وَالْوَصَايَا الْمُسْتَحْسَنَةِ بَلْ هُوَ طَرِيقُ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا وَجْهُ التَّسَتُّرِ فَإِنَّ الْمَلِكَ الْمَذْكُورَ مَثَلًا لَا يَخْلُو عَنْ مَنْفَعَةٍ دِينِيَّةٍ عِنْدَ صُحْبَتِهِ بِذَلِكَ الزَّاهِدِ مِنْ نَحْوِ اسْتِمَاعِ نُصْحِهِ وَائْتِمَارِ أَمْرِهِ وَرَجَاءِ مَظْلُومٍ وَتَخْلِيصِ مَلْهُوفٍ وَالْأَخْذِ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الطَّاعَاتِ وَثَوَابِ الزِّيَارَةِ قُلْنَا لَعَلَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ التَّشَبُّثَ بِالْأَفْضَلِ وَأَنَّ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ اسْتِكْمَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّائِرِ لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَزُورِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَسْكُنُ فِي بَلْدَةٍ وَأَهَالِيُهَا يَتَكَامَلُونَ بِك وَأَنْتَ مُنْتَقِصٌ بِهِمْ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْإِخْوَانِ وَضَرَرُهُمْ الْأَقَلُّ أَنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَقْتَك بِزِيَارَتِهِمْ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لَك شَيْءٌ أَعَزُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ رَأْسُ مَالِ بِضَاعَتِك؛ لِأَنَّك إنَّمَا تَنَالُ بِهِ مَا يُنَالُ مِنْ الْقُرْبِ الْإِلَهِيِّ وَلِهَذَا كَانَ عَادَةُ الْمَشَايِخِ التَّوَحُّشَ عَنْ النَّاسِ وَالْعُزْلَةَ عَنْهُمْ وَهَذَا مَضْمُونُ مَا قَالَ (وَأَقْوَى الطُّرُقِ فِي قَطْعِ الْجَاهِ) وَإِزَالَتِهِ (الِاعْتِزَالُ عَنْ النَّاسِ) وَالنَّفْرَةُ مِنْهُمْ (إلَى مَوْضِعِ الْخُمُولِ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ سُقُوطُ النَّبَاهَةِ وَعَدَمُ الذِّكْرِ وَانْصِرَافُ شُهْرَتِهِ كَالْقُرَى الْبَعِيدَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْقَلِيلِ كَالنَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ بَيْتَهُ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ «إذَا رَأَيْت النَّاسَ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودَهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتِهِمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَنَامِلِهِ فَالْزَمْ بَيْتَك وَامْلِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْك بِخَاصَّةِ أَمْرِ نَفْسِك وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَامَّةِ كَمَا يُقَالُ هَذَا الزَّمَانُ زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومُ الْبُيُوتِ وَالْقَنَاعَةُ بِأَقَلِّ الْقُوتِ» (وَأَمَّا الْجَاهُ فَلَا حُبَّ لَهُ وَلَا حِرْصَ عَلَيْهِ) لَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ حَيْثُ جَعَلَهُ آلَةً لِغَيْرِ الْمَمْدُوحِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (لِلَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ) دُونَ لَذَّةِ الْآخِرَةِ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الظَّاهِرِ لِلَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ فَاللَّامُ
التَّعْرِيفِ (فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ) شَرْعًا وَعَقْلًا بَلْ مَمْدُوحٍ كَيْفَ لَا وَإِنَّ عَمَلَهُمْ فِي سَاعَةٍ يُعَادِلُ بَلْ يَفُوقُ عَلَى عَمَلِ غَيْرِهِمْ فِي السِّنِينَ وَالْأَيَّامِ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَعْلَى النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالْجَائِرِ أَخَسُّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مِنْ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ قَالَ شُرَّاحُ هَذَا الْحَدِيثِ قَدَّمَ الْإِمَامَ الْعَادِلَ لِعُمُومِ نَفْعِهِ وَتَعَدِّيهِ (فَأَيُّ جَاهٍ أَعْظَمُ مِنْ جَاهِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَ) جَاهِ (الْخُلَفَاءِ) الْأَرْبَعَةِ (الرَّاشِدِينَ) الْمَهْدِيِّينَ الَّذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ وَلَا مَقَامَ أَرْفَعُ مِنْ مَقَامَاتِهِمْ وَلَا جَاهَ أَعْظَمُ مِنْ جَاهَاتِهِمْ وَلَا حِرْصٌ وَلَا حُبٌّ لَهُمْ بِذَلِكَ وَمَا رُوِيَ مِنْ طَلَبِ بَعْضِهِمْ إنْ صَحَّ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ فَضْلِهِ الْأُخْرَوِيِّ.
(وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكُفْرِ الْجُحُودِيِّ خَوْفُ الذَّمِّ) مِنْ النَّاسِ (وَالتَّعْيِيرِ) مِنْ الْعَارِ يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ الْكُفْرِ عِنَادًا قَدْ يَكُونُ خَوْفَ ذَمِّ النَّاسِ وَتَعْيِيرِهِمْ (كَكُفْرِ أَبِي طَالِبٍ) هُوَ أَبُو الْإِمَامِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مَعَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤْمِنْ لِخَوْفِ ذَمِّ النَّاسِ وَتَعْيِيرِهِمْ إذْ رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ يَا عَمِّ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ بِهَا لَك عِنْدَ اللَّهِ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي قَدْ عَلِمْت أَنَّك لَصَادِقٌ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ جَزَعَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] » - كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ «جُمِعَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ أَيِسُوا مِنْ حَيَاتِهِ فَقَالُوا نَحْنُ مُعْتَرِفُونَ بِرِيَاسَتِك وَلَمْ يَكُنْ لَنَا مُخَالَفَةٌ فِي أَمْرٍ مَا لَكِنَّا نَخَافُ بَقَاءَ الْخُصُومَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام بَعْدَك فَانْصَحْ لَهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِدِينِنَا فَدَعَا أَبُو طَالِبٍ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَلَّغَهُ مَا قَالُوا فَلَمْ يُفِدْ ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ بِكَلَامٍ فَهِمَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام مَيْلَهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَدَعَاهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَالَ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَوْفُ طَعْنِ الْخَلْقِ لَآمَنْت بِك وَطَيَّبْتُكَ وَقِيلَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَكَلَّمُ لِسَانُهُ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ لِضَعْفِهِ فَقَرُبَ إلَيْهِ عَبَّاسٌ فَقَالَ آمَنُ بِك» وَعَنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ اُخْتُلِفَ فِي إيمَانِهِ قِيلَ نَعَمْ وَقِيلَ لَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى الْكُفْرِ وَيُؤَيِّدُهُ «قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِرَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ فَقَالَ اغْسِلْ فَكَفِّنْ فَادْفِنْ فَلْنَدْعُ لَهُ اللَّهَ تَعَالَى إلَى أَنْ نُمْنَعَ» وَيُرْوَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اجْتَهَدَ لِدُعَائِهِ أَيَّامًا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهِ وَوَقَفَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فَدَعَوْا لِأَقْرِبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى