الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]- الْآيَةَ وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ ضَحْضَاحِ النَّارِ وَأَيْضًا حَدِيثُ: «أَهْوَنُ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبُو طَالِبٍ لَهُ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ» وَيُرْوَى أَنَّهُ جُمِعَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ فَأَوْصَى بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِعَانَةِ الضُّعَفَاءِ وَإِعْطَاءِ السَّائِلِينَ وَصِدْقِ الْأَحَادِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ ثُمَّ أَوْصَى بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ أَمِينُ الْعَرَبِ وَصَادِقُ الْقَوْلِ وَأَنَّ مَا ادَّعَاهُ يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَيَشْهَدُهُ اللِّسَانُ وَاعْتِقَادِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ بِلَادُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَتُسْلِمُ إلَيْهِ وَيَكُونُ حَلُّ الْعَالَمِ وَعَقْدُهُ فِي تَصَرُّفِهِ يَا بَنِي هَاشِمٍ تَقَرَّبُوا إلَيْهِ وَأَعِينُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَلَمْ يُخْلُوهُ خَوْفًا مِنْ إيمَانِهِ وَقَالَ يَا عَمَّاهُ جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا حَمَيْتنِي فِي صِغَرِي وَكِبَرِي وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْك قُصُورٌ فِي رِعَايَتِي فَغَايَةُ رَجَائِي مِنْك إيمَانُك لِيُكَافِئَ خِدْمَتَك فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ إشْفَاقَك إيَّايَ لَكِنْ أَخَافُ إنْ مِتُّ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ يُتْعِبُوك لِأَجْلِ إيمَانِي فَلَوْلَا هَذَا لَجَعَلْتُك مَسْرُورًا بِهَذَا فَقَرَأَ أَبْيَاتًا مَضْمُونُهَا كَلَامُك حَقٌّ وَأَنْتَ أَمِينٌ فَلَمَّا سَمِعَتْهَا قُرَيْشٌ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَأَلَحُّوا بِعَدَمِ تَرْكِ دِينِ آبَائِهِ فَبِالْآخِرَةِ قَالَ لَا أَتْرُكُ دِينَ أَجْدَادِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَمَّاهُ أَنْتَ تُوصِي قَوْمَك بِإِيمَانِي وَلَا تُؤْمِنُ فَقَالَ لَوْ كُنْت فِي صِحَّةٍ لَآمَنْتُ بِك لَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ خَافَ مِنْ الْمَوْتِ (وَهُوَ) أَيْ خَوْفُ الذَّمِّ وَالتَّعْيِيرِ السَّبَبُ.
[الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ]
(الرَّابِعُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ وَالْخَامِسُ)
مِنْ الذَّمِيمَةِ السِّتِّينَ (حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَهُمَا) أَيْ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ يَعْنِي خَوْفَ الذَّمِّ وَحُبَّ الْمَدْحِ (كَحُبِّ الرِّيَاسَةِ) الَّذِي سَبَقَ (سَبَبًا) بِالْمَدْحِ إلَى مُشْتَهَيَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالتَّوَسُّلِ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ وَالتَّلَذُّذِ بِهِ عَلَى ظَنِّ الْكَمَالِ (وَحُكْمًا) مِنْ الْحُرْمَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْمَذْمُومَةِ (وَعِلَاجًا) مَنْ عَلِمَ عَدَمَ كَوْنِهِ كَمَالًا حَقِيقَةً لِفِنَائِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ سَرِيعُ الزَّوَالِ وَعَمَلُ مَا يُسْقِطُ الْمَدْحَ مِنْ أَلْسُنِ النَّاسِ (غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ) فِي حُبِّ الْجَاهِ وَهُمَا التَّوَسُّلُ إلَى مَا حَرَّمَ وَإِلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَنَحْوِهِ (فِي الْأَوَّلِ) فِي خَوْفِ الذَّمِّ وَالتَّعْيِيرِ خَوْفٌ (عَدَمُ التَّوَسُّلِ) إلَى مَا حَرَّمَ مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ أَوْ خَوْفُ عَدَمِهِ إلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَنَحْوِهِ.
(وَالثَّالِثُ) فِي حُبِّ الْجَاهِ، وَهُوَ التَّلَذُّذُ بِهِ نَفْسِهِ هُوَ التَّأَلُّمُ بِالشُّعُورِ الْمَذْكُورِ فِي خَوْفِ الذَّمِّ (التَّأَلُّمُ بِشُعُورِ النُّقْصَانِ وَعَدَمِ مِلْكِ الْقُلُوبِ وَالْحِشْمَةِ) أَيْ التَّعْظِيمِ (فِيهَا) أَيْ الْقُلُوبِ (وَعِلَاجُهُ) عِلَاجُ زَوَالِ خَوْفِ الذَّمِّ (أَنْ تُحْضِرَ) أَنْتَ فِي (قَلْبِك) أَيْ تَخْطِرَ بِبَالِك وَتَقُولَ فِي نَفْسِك (إنَّ الذَّامَّ) مَنْ يَذُمُّنِي (إنْ كَانَ صَادِقًا) فِي ذَمِّهِ بِأَنْ صَدَرَ عَنْهُ مَا يُذَمُّ بِهِ (فَقَدْ عَرَّفَنِي) الظَّاهِرُ مِنْ التَّعْرِيفِ يَعْنِي عَرَّفَنِي مَا لَمْ أَعْرِفْهُ مِنْ حَالِ نَفْسِي فَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْكِنُ عَدَمُ الْعِلْمِ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ، وَهُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مَسْبُوقٌ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَذَا عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ عَلَى عِلْمِهِ وَأَنْ لَا يَعْلَمَ كَوْنَ مَا صَدَرَ عَنْهُ مَذَمَّةً بِاعْتِقَادِهِ حَسَنًا (وَذَكَّرَنِي) مَا نَسِيته مِنْ حَالِ نَفْسِي فَهَذَا فِي صُورَةِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيْهَا الْغَفْلَةَ (وَنَبَّهَنِي) مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ (عَلَى عَيْبِي) الَّذِي ذَهِلْت عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ (فَإِنْ كَانَ مُمْكِنَ الزَّوَالِ)
كَالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ نَحْوِ الْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَظُلْمِ الْعِبَادِ (فَاجْتَهَدَ فِي إزَالَتِهِ فَهُوَ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْرِيفِ وَالتَّذْكِيرِ (نِعْمَةٌ) نَبَّهَك عَلَى عَيْبِك أَخُوك؛ لِأَنَّ ثَمَرَتَهَا حَسَنَةٌ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ مَا يُذَمُّ بِهِ بِمَا هُوَ مَذَمَّةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَفِي الشَّرْعِ دُونَ مَا هُوَ فِي الِاعْتِقَادِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَكُونُ الْمَذَمَّةُ اعْتِقَادًا مِمَّا يَمْتَنِعُ إزَالَتُهُ شَرْعًا (تُوجِبُ الْفَرَحَ بِهَا وَالْحُبَّ) لِذَلِكَ الذَّامِّ (وَالثَّنَاءَ وَالْمُكَافَأَةَ) بِالْجَمِيلِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنَّ فُلَانًا اغْتَابَك فَبَعَثَ إلَيْهِ طَبَقَ حَلْوَى وَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّك أَهْدَيْت إلَيَّ حَسَنَاتِك فَكَافَأْتُك وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فُلَانٌ يَغْتَابُك فَأَرْسَلَ إلَيْهِ دَنَانِيرَ فَقَالَ لَوْ يُعْطِينَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَنُكْثِرُ أَنْ نُعْطِيَهُ مِنْ الدُّنْيَا (لِمُعْطِيهَا) أَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهُوَ الذَّامُّ (وَلَوْ أَرَادَ) الذَّامُّ (قَدْحِي وَطَعْنِي إذْ نِيَّتُهُ) أَيْ الذَّامِّ (لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا) أَيْ فِي كَوْنِ تِلْكَ النِّعْمَةِ نِعْمَةً يَعْنِي لَا تُغَيِّرُهَا عَنْ كَوْنِهَا نِعْمَةً لِي (وَلَا تُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَنْفَعَ لِي) وَكَوْنُهَا نِعْمَةً إنَّمَا تَدُورُ عَلَى النَّفْعِ وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مَنْ يُعَرِّفُنِي إنْ مَادِحًا فَأَقُولُ هَذَا وَلِيٌّ مَا رَآنِي إلَّا بِصُورَتِهِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَانِي وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَإِنْ ذَامًّا فَأَقُولُ هَذَا رَجُلٌ قَدْ كَشَفَ اللَّهُ لَهُ عَنْ عَيْبِي وَلَا يُكَاشِفُ الْأُولَى وَهَذَا رَجُلٌ يُسَمِّنِي بِمَا يُنْسَبُ إلَيَّ وَيَذْكُرُ حَتَّى نَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا يَنْصَحُ عِبَادَ اللَّهِ إلَّا وَلِيٌّ هَذَا كَانَ اعْتِقَادُهُ فِي الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ الْحُبِّ وَالثَّنَاءِ يَقْتَضِي الرِّضَا وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الذَّمَّ مَعْصِيَةٌ وَالرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ كَمَا أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَكَوْنُ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ الشَّخْصِيِّ الْجُزْئِيِّ مَعْصِيَةً وَطَاعَةً مَعًا مُمْتَنِعٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَتَّصِفُ بِالْأُمُورِ الْمُتَقَابِلَةِ بِالِاعْتِبَارَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ فَمِنْ حَيْثُ صُدُورُهُ عَنْ الذَّامِّ قَبِيحٌ وَمِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهُ بِالْمَذْمُومِ حَسَنٌ كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ خَلْقُهُ تَعَالَى لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَمِنْ حَيْثُ كَسْبُ الْعَبْدِ قَبِيحٌ (بَلْ تَزِيدُ) تِلْكَ النِّيَّةُ الْفَاسِدَةُ نِعْمَةً أُخْرَى أَوْ تِلْكَ النِّعْمَةَ عَلَى نَفْعِي (لِصَيْرُورَةِ ذَمِّهِ حِينَئِذٍ) حِينَ إذْ أَرَادَ قَدْحِي وَطَعْنِي (لَمْزًا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ اعْتِيَادُ الطَّعْنِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَقِيلَ الطَّعْنُ فِي وَجْهِ الْمَطْعُونِ وَقِيلَ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ وَقِيلَ اسْتِهْزَاءٌ عَلَيَّ وَسُخْرِيَةٌ لِي وَقَوْلُهُ (أَوْ غِيبَةً) يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي وَجْهِ الْمَطْعُونِ (فَيَكُونُ) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْرِيعَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغِيبَةِ فَقَطْ (مُهْدِيًا) مِنْ الْإِهْدَاءِ (إلَيَّ بَعْضَ حَسَنَاتِهِ) إنْ كَانَتْ كَثِيرَةً وَالْغِيبَةُ قَلِيلَةٌ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْإِهْدَاءُ بِجَمِيعِ حَسَنَاتِهِ هَذَا إنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَمَا رُوِيَ أَنَّ مَنْ اغْتَابَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ ذَهَبَتْ حَسَنَاتُهُ إلَى صَحَائِفِ ذَلِكَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَهُ حَسَنَةٌ ثُمَّ تُكْتَبُ سَيِّئَاتُ الْغَيْرِ فِي صَحِيفَتِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (أَوْ مُنْقِذًا لِي) مِنْ الْإِنْقَاذِ أَيْ مُخَلِّصًا وَمُنْجِيًا (مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِي) وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ مَثَلُ الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ كَمَثَلِ مَنْ نَصَبَ مَنْجَنِيقًا يَرْمِي بِهِ حَسَنَاتِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَيَغْتَابُ وَاحِدًا خُرَاسَانِيًّا وَآخَرَ حِجَازِيًّا وَآخَرَ تُرْكِيًّا فَيُفَرِّقُ حَسَنَاتِهِ فَيَقُومُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَقِيلَ يُؤْتَى الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابُهُ وَلَا يَرَى فِيهِ حَسَنَةً فَيَقُولُ أَيْنَ صَلَاتِي وَصِيَامِي وَطَاعَتِي فَيُقَالُ ذَهَبَ
عَمَلُك كُلُّهُ بِاغْتِيَابِك لِلنَّاسِ وَقِيلَ مَنْ اُغْتِيبَ بِغِيبَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ نِصْفَ ذُنُوبِهِ وَقِيلَ يُعْطَى الرَّجُلُ كِتَابَهُ فَيَرَى فِيهِ حَسَنَاتٍ لَمْ يَعْمَلْهَا فَيُقَالُ هَذَا بِمَا اغْتَابَك النَّاسُ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَذُكِرَتْ الْغِيبَةُ عِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ: لَوْ كُنْت مُغْتَابًا لَاغْتَبْت وَالِدِيَّ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِحَسَنَاتِي (فَتَتَضَاعَفُ) أَيْ تَتَزَايَدُ (النِّعْمَةُ) لِإِهْدَائِهِ بَعْضَ حَسَنَاتِهِ وَلِإِنْقَاذِهِ مِنْ بَعْضِ سَيِّئَاتِهِ فَصَارَتْ نِعْمَةً أُخْرَى فَوْقَ الْأُولَى مِنْ نَحْوِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْعَيْبِ يَشْكُلُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَذْمُومِ حَقٌّ عَلَى الذَّامِّ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ يُؤَاخَذُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤَاخَذَ فِي الدُّنْيَا تَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا وَلَا يَبْعُدَانِ ذَلِكَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى صَبْرِهِ عَلَى ذَمِّهِ وَأَذَاهُ وَعَفْوِهِ وَمَا ذَكَرَ عَلَى عَدَمِ صَبْرِهِ وَعَدَمِ عَفْوِهِ وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ كَثْرَةُ فَضْلِ الْعَفْوِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ فِي مِثْلِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَأَيْنَ الْأَلَمُ) إذْ شَأْنُ مِثْلِ هَذِهِ النِّعْمَةِ إيجَابُ السُّرُورِ لَا الْأَلَمِ فَحَاصِلُ هَذَا الْعِلَاجِ أَنَّ الذَّمَّ لَا يَخْلُو عَنْ التَّذْكِيرِ وَالتَّنْبِيهِ وَإِهْدَاءِ الْحَسَنَاتِ وَتَحَمُّلِ السَّيِّئَاتِ وَمَا شَأْنُهُ كَذَا لَا يُوجِبُ الْأَلَمَ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ (وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ زَوَالُهُ) أَيْ زَوَالُ الْعَيْبِ كَالْعَمَى وَالْغَبَاوَةِ وَالْقُبْحِ (يَحْصُلُ لِي النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ) هِيَ النِّعْمَةُ الْقَوِيَّةُ مِنْ إهْدَاءِ الْحَسَنَاتِ أَوْ إنْقَاذِ السَّيِّئَاتِ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ الْأُولَى مِنْ التَّعْرِيفِ أَوْ التَّذْكِيرِ أَوْ التَّنْبِيهِ (وَإِنْ كَانَ) الذَّامُّ (كَاذِبًا) فِي ذَمِّهِ (فَقَدْ بَهَتَنِي) مِنْ الْبُهْتَانِ هُوَ الْقَذْفُ الْبَاطِلُ وَالِافْتِرَاءُ بِالْكَذِبِ وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ بَهَتَهُ إذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ (وَأَضَرَّ نَفْسَهُ) بِمَا أَتَى بِهِ فِي حَقِّي (وَحَصَلَ لِي النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ) إهْدَاءُ الْحَسَنَاتِ، وَإِنْقَاذُ السَّيِّئَاتِ (أَكْثَرُ) فِي الْإِهْدَاءِ (وَأَعْظَمُ) فِي الْإِنْقَاذِ (مِنْ الْأَوَّلِ) أَيْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّ الْبُهْتَانَ أَشَدُّ مِنْ الْغِيبَةِ وَقِيلَ هُوَ كَوْنُهُ صَادِقًا وَقِيلَ هُوَ التَّعْرِيفُ وَالتَّذْكِيرُ فَافْهَمْ (فَالْأَلَمُ مِنْ الذَّمِّ) مُطْلَقًا مُمْكِنُ الزَّوَالِ أَوَّلًا (إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الدُّنْيَا) دُونَ الْآخِرَةِ فَيَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ بِذَلِكَ جَاهُهُ فِيهَا.
(وَأَمَّا طَالِبُ الْآخِرَةِ فَالْحَاصِلُ لَهُ الْفَرَحُ وَالنَّشَاطُ) لِكَوْنِ الذَّمِّ دَاعِيًا لِمَا ذَكَرَ مِنْ النِّعَمِ الْأُخْرَوِيَّةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ ضَرَرِ الْغَيْرِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ وَيَسْتَلْزِمُ السُّرُورَ عَلَى ضَرَرِ غَيْرِهِ وَأَنَّ الذَّمَّ سِيَّمَا بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ يُوجِبُ إعْرَاضَ الْمُؤْمِنِينَ لَا سِيَّمَا الصَّالِحِينَ عَنْهُ وَعَدَمَ حُبِّهِمْ إيَّاهُ وَيُوجِبُ شَهَادَتَهُمْ عَلَى سُوءِ حَالِهِ وَأَهْلُ الْآخِرَةِ يَتَحَاشَوْنَ عَنْ مِثْلِهِ فَتَأَمَّلْ فِي كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ دَفْعُ مَا فِي ذَلِكَ (وَالسَّبَبُ الثَّالِثُ فِي حُبِّ الْمَدْحِ) وَالثَّنَاءِ شَيْئَانِ الْأَوَّلُ (التَّلَذُّذُ بِشُعُورٍ) بِإِدْرَاكِ (النَّفْسِ الْكَمَالَ) الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ (بِتَعْرِيفِ الْمَادِحِ) فَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَهَذَا فِي صُورَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ (أَوْ تَذْكِيرِهِ) عِنْدَ ذُهُولِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ (فِي الصِّدْقِ) ، وَأَمَّا الْكَذِبُ فَمُجَرَّدُ تَقْرِيرٍ.
(وَ) الثَّانِي التَّلَذُّذُ (بِشُعُورِهَا) أَيْ النَّفْسِ (مِلْكَ قَلْبِ الْمَادِحِ وَسَبَبِيَّتَهُ) أَيْ مِلْكَ قَلْبِ الْمَادِحِ (لِمِلْكِ قُلُوبِ الْآخَرِينَ) بِالِاسْتِمَاعِ مِنْ الْمَادِحِ (وَحِشْمَتِهَا) وَحَيَاءِ الْآخَرِينَ وَانْقِبَاضِهَا مِنْهُ تَوَاضُعًا وَتَعْظِيمًا فَيَرْجِعُ إلَى حُبِّ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَلِذَا كَانَ عِلَاجُهُ عِلَاجَ ذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَعِلَاجُ الثَّانِي) أَيْ شُعُورُ مِلْكِ قَلْبِ الْمَادِحِ وَالْآخَرِينَ (قَدْ سَبَقَ) فِي عِلَاجِ حُبِّ الرِّيَاسَةِ مِنْ عَدَمِ
كَوْنِهِ كَمَالًا حَقِيقِيًّا بَلْ فَانِيًا مُتَكَدِّرًا وَمَا قِيلَ فِي عِلَاجِ حُبِّ الذَّمِّ مِنْ إحْضَارِ الْقَلْبِ فَوَهْمٌ مَحْضٌ.
(وَ) عِلَاجُ (الْأَوَّلِ) شُعُورُ الْكَمَالِ بِالتَّعْرِيفِ أَوْ التَّذْكِيرِ (إنْ كَانَ الْكَمَالُ دُنْيَوِيًّا) كَالْكِتَابَةِ وَسَائِرِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ (فَكَالثَّانِي) فِي الْمُعَالَجَةِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا دُنْيَوِيًّا (وَإِنْ) كَانَ (أُخْرَوِيًّا فَعِلَاجُهُ الْعِلْمُ) النَّافِعُ (وَالْعَمَلُ) بِهِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ فَالْعِلْمُ إلَى آخِرِهِ بَيَانٌ لِلْكَمَالِ الْأُخْرَوِيِّ لَا يَخْفَى أَنَّ سَوْقَ الذَّوْقِ مَا عَرَفْته وَأَنَّ الْكَمَالَ الْأُخْرَوِيَّ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ الْمَلَكَاتِ الْحَمِيدَةِ وَفِي الْعَمَلِ (فَقَطْ) لَيْسَ لَهُ عِلَاجٌ غَيْرَهُمَا (وَخَيْرِيَّتُهُمَا) أَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ أَنَّا نَجِدُ أُنَاسًا لَهُمْ عِلْمٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ عِلَاجًا لِحُبِّ الْمَدْحِ (مَوْقُوفَةٌ عَلَى اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ كَالْإِخْلَاصِ فِي الْعَمَلِ) وَإِلَّا فَشَرٌّ مَحْضٌ وَضَرَرٌ خَالِصٌ (وَعَدَمُ الْإِحْبَاطِ) أَيْ الْإِبْطَالِ (بِالْكُفْرِ إلَى الْمَوْتِ) إذْ بِالْكُفْرِ يَحْبَطُ جَمِيعُ عَمَلِهِ، وَإِنْ مُخْلِصًا، وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ (وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ كَذَلِكَ (فَيَنْقَلِبَانِ شَرًّا وَضَرَرًا) قِيلَ الْأَوْلَى فَيَذْهَبُ عَلَيْهِ الْخَيْرُ وَيَفُوتُ نَفْعُهُ إذْ غَيْرُ الْخَيْرِ لَا يَصِيرُ شَرًّا وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ (فَيُوجِبَانِ أَلَمًا وَحُزْنًا) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(وَهِيَ) أَيْ الشَّرَائِطُ الْمَذْكُورَةُ (مَجْهُولَةٌ) لِلْعَامِلِ (مَشْكُوكَةٌ) بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ (بَلْ غَيْرُ مَظْنُونَةٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَلْ عَدَمُهَا مَظْنُونَةٌ، وَهُوَ الْأَوْفَقُ (غَالِبَةٌ) وَالْأَظْهَرُ غَالِبًا كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ فِي غَالِبِ النَّاسِ يَعْنِي الْجَهَلَةَ إمَّا لِلشَّكِّ أَوْ الْوَهْمِ (لِأَنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ) فَتَأْمُرُ بِعَدَمِ الشَّرَائِطِ مِنْ الرِّيَاءِ وَنَحْوِهَا (وَشَيَاطِينَ الْإِنْسِ) مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ (وَالْجِنِّ) الَّذِينَ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (صَارِفَةٌ عَنْهَا) أَيْ الشُّرُوطِ يَشْكُلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ النَّفْسِ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ امْتِثَالُهَا وَالْإِتْيَانُ بِذَلِكَ السُّوءِ بَلْ الْعَالِمُ يَدْفَعُهَا بِأَوَامِرِ الشَّرْعِ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى التَّأْثِيرِ بَلْ حَالُهُمْ هُوَ التَّحْرِيكُ وَالْوَسْوَسَةُ فَكَيْفَ يَقْطَعُ بِصَرْفِهِمْ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَأْتِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ عَمَلًا مَا بِشَرَائِطِهِ، وَهُوَ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا الزَّاهِدِينَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَأَنَّهُ إنْ كَانَ أَمْرُ النَّفْسِ مُوجِبًا لِلسُّوءِ وَصَرْفُ الشَّيَاطِينِ مَقْطُوعًا بِهِ يَلْزَمُ عَبَثِيَّةُ التَّكْلِيفِ، وَإِنْ مُمْكِنًا فَقَطْ وَمُحْتَمَلًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا أَنْ يُقَالَ النَّظَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ الْعَامِلِ إلَى نَفْسِهِ فَيَلْزَمُ عَلَى كُلِّ اعْتِقَادٍ عَدَمُ تَأَتِّي الشَّرَائِطِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَأَنَّ الْمَطْلَبَ كَالظَّنِّيِّ فَيُفِيدُ الدَّلِيلَ الْخَطَّابِيَّ (فَسَبَبِيَّتُهُمَا لِلْخَشْيَةِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَشْيَةَ مَهَابَةٍ وَإِجْلَالٍ (وَالْوَجَلِ) أَيْ الْخَوْفِ وَالتَّعَبِ (أَوْلَى) أَحْرَى (وَأَقْرَبَ) إلَى الصَّوَابِ (مِنْهَا) مِنْ سَبَبِيَّتِهِمَا أَيْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (لِلْفَرَحِ) بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْأَمْنِ) مِنْ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْرَحَ بِتَوْفِيقِ الطَّاعَةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ خَوْفُهُ عَلَى سُرُورِهِ وَفَرَحِهِ لَعَلَّ هَذَا مَحْصُولُ مَا قَالُوا مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ خَوْفَهُ غَالِبًا عَلَى رَجَائِهِ مَا دَامَ فِي الصِّحَّةِ وَعَكْسُهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ (عِنْدَ سَالِكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ) وَكُلُّ أَحَدٍ سَالِكُ الْآخِرَةِ أَوْ الْمُرَادُ عِنْدَ تَارِكِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]