المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المبحث السابع في علاج الرياء] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٢

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّقْوَى] [

- ‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي فَضِيلَة التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِير التَّقْوَى]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا التَّقْوَى]

- ‌[الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَعَدَدهَا سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع]

- ‌[الْأَوَّلُ كُفْر جَهْلِيٌّ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّانِي كُفْرٌ جُحُودِيٌّ وَعِنَادِيٌّ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْقَلْبِ حُبُّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ]

- ‌[النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْكُفْرِ كُفْرٌ حُكْمِيٌّ]

- ‌[السَّادِسُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ]

- ‌[السَّابِع اتِّبَاعُ الْهَوَى]

- ‌[الثَّامِنُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَهُوَ الِاقْتِدَاءُ بِالْغَيْرِ]

- ‌[التَّاسِعُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ الرِّيَاء]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي آلَةُ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مَا قَصَدَهُ الْمُرَائِي بِرِيَائِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الْأَمَلُ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ الْكِبْرُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ]

- ‌[الْكِبْرِ جَائِزٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ]

- ‌[التَّذَلُّلُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالثَّانِي مِنْ الْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ لِلْكِبْرِ الْعِبَادَةُ وَالْوَرَعُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لِلْكِبْرِ النَّسَبُ]

- ‌[وَالرَّابِعُ الْجَمَالُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[وَالْخَامِسُ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْقُوَّةُ الْبَدَنِيَّةُ وَشِدَّةُ الْبَطْشِ]

- ‌[وَالسَّادِسُ الْمَالُ وَالتَّلَذُّذُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ]

- ‌[لَلتَّكَبُّرَ دُونَ الْكِبْرِ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ أُخَرُ الْأَوَّلُ الْحِقْدُ]

- ‌[السَّبَبُ الثَّالِثُ لَلتَّكَبُّرُ الرِّيَاءُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ فِي عَلَامَاتِ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ آخِرُ مَبَاحِثِ الْكِبْرِ فِي أَسْبَابِ الضَّعَةِ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْعُجْبُ]

- ‌[الْخُلُقُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ السِّتِّينَ مِنْ آفَات الْقَلْب الْحَسَدُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْأَرْبَعَةِ فِي غَوَائِلِ الْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَمَلِيِّ لِلْحَسَدِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَسْبَابُ الْحَسَدِ سِتَّةٌ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَمِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ التَّطَيُّرُ]

- ‌[فَرْعٌ فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ]

الفصل: ‌[المبحث السابع في علاج الرياء]

مِنْ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] . وَلَا شَتْمًا وَلَا ضَرْبًا بَلْ وَلَا قَتْلًا وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ أَنَّ أَبَا غِيَاثٍ الزَّاهِدَ رَأَى فِي بُخَارَى غِلْمَانَ الْأَمِيرِ يَلْعَبُونَ بِالْمَلَاهِي فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ بِالْعَصَا فَفَرُّوا مُنْهَزِمِينَ فَدَعَا بِهِ الْأَمِيرُ. وَقَالَ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ يَخْرُجُ عَلَى السُّلْطَانِ يُسْجَنُ، فَقَالَ الزَّاهِدُ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ يَخْرُجُ عَلَى الرَّحْمَنِ يَتَعَشَّى فِي النِّيرَانِ، فَقَالَ الْأَمِيرُ مَنْ وَلَّاك الْحِسْبَةَ أَيْ خِدْمَةَ الِاحْتِسَابِ، قَالَ الَّذِي وَلَّاك الْإِمَارَةَ، فَقَالَ وَلَّانِي الْخَلِيفَةُ، قَالَ الزَّاهِدُ وَلَّانِي رَبُّ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ وَلَّيْتُك الْحِسْبَةَ بِسَمَرْقَنْدَ، قَالَ عَزَلْت نَفْسِي عَنْهَا، فَقَالَ الْعَجَبُ مِنْ أَمْرِك تَحْتَسِبُ حِينَ لَمْ تُؤْمَرْ وَتَمْتَنِعُ حِينَ تُؤْمَرُ، قَالَ إنْ وَلَّيْتنِي عَزَلْتنِي وَإِذَا وَلَّانِي رَبِّي لَمْ يَعْزِلْنِي أَحَدٌ، فَقَالَ الْأَمِيرُ سَلْ حَاجَتَك، فَقَالَ حَاجَتِي أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ شَبَابِي، فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إلَيَّ، قَالَ فَاكْتُبْ إلَى مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ أَنْ لَا يُعَذِّبَنِي، قَالَ لَيْسَ ذَاكَ أَيْضًا إلَيَّ، فَقَالَ الزَّاهِدُ فَلَا أَسْأَلُ حَاجَةً مِنْ مَالِكِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا إلَّا أَجَابَنِي إلَيْهَا، فَخَلَّى الْأَمِيرُ سَبِيلَهُ.

وَفِي الِاحْتِسَابِ أَيْضًا عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ رَأَى خَوَابِيَ خَمْرٍ حُمِلَتْ لِلْخَلِيفَةِ الْمُعْتَصِمِ بِاَللَّهِ فَأَهْرَقَهَا وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً حَتَّى بَقِيَ وَاحِدَةٌ وَالْقَوْمُ سُكُوتٌ مِنْ هَيْبَتِهِ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْت هَذَا، فَقَالَ أَيَّدَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ لَوْ عَلِمْت أَنَّ فِي بَطْنِك خَمْرًا لَشَقَقْته بِهَذِهِ الْحَرْبَةِ، فَقَالَ قَصْدُك أَنْ أَقْتُلَك حَتَّى تَصِيرَ شَهِيدًا لَكِنِّي لَا أَفْعَلُ، ثُمَّ قَالَ لِمَ تَرَكْت الْخَابِيَةَ الْوَاحِدَةَ، فَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْت نَفْسِي عِنْدَهَا خِلَافَ السَّوَابِقِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهَا لَمْ تَكُنْ عَلَى مُرَادِ نَفْسِي.

[الْمَبْحَثُ السَّابِعُ فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ]

(الْمَبْحَثُ السَّابِعُ)

آخِرُ مَبَاحِثِ الرِّيَاءِ (فِي عِلَاجِ الرِّيَاءِ) لِأَنَّ الرِّيَاءَ كَمَا عَرَفْت مَرَضٌ مُهْلِكٌ قَوِيٌّ تَحْتَاجُ إزَالَتُهُ إلَى دَوَاءٍ وَمُعَالَجَةٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ (وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهِ) لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَزُلْ سَبَبُ الْأَمْرَاضِ لَمْ يَزُلْ الْمَرَضُ فَلَوْ أُزِيلَ بِتَكَلُّفٍ لَحَصَلَ فَوْرًا (وَ) عَلَى (غَوَائِلِهِ) لِتَحْصِيلِ النَّفْرَةِ (وَ) عَلَى (مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ ضِدِّهِ) لِأَنَّ الْأَمْرَاضَ تُعَالَجُ بِالْأَضْدَادِ وَالضِّدُّ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهِ.

(وَ) عَلَى مَعْرِفَةِ (فَوَائِدِهِ) أَيْ فَوَائِدِ الضِّدِّ لِلِانْبِعَاثِ وَالشَّوْقِ إلَى تَحْصِيلِهِ (أَمَّا أَسْبَابُ الرِّيَاءِ فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ) مِنْ أَنَّهَا أَرْبَعَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، حُبُّ الْجَاهِ ثُمَّ الطَّمَعُ ثُمَّ الْفِرَارُ ثُمَّ الْجَهْلُ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ (أَنَّهَا حُبُّ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ) الرِّفْعَةِ (فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى يَمْدَحُونَهُ وَلَا يَذُمُّونَهُ) كَمَنْ يُعَدِّلُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لِلذَّمِّ فِي تَرْكِهَا (إمَّا لِذَاتِهِ) لِأَجْلِ تَلَذُّذِهِ بِنَفْسِ الْجَاهِ كَمَنْ يَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ اشْتِهَارَهُ بِالصَّلَاحِ وَكَثْرَةَ الْمُرِيدِينَ وَكَمَنْ يَرَى جَمَاعَةً يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَيُوَافِقُهُمْ لِئَلَّا يَنْسُبُونَهُ إلَى الْكَسَلِ (أَوْ لِلتَّسَلُّلِ بِهِ) بِالْجَاهِ (إلَى غَيْرِهِ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَالطَّاعَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ كَمَنْ يَتَوَرَّعُ لِنَيْلِ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالْأَوْقَافِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى أَوْ يُودَعُ فَيَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ وَيُنْكِرُ.

(وَ) الثَّانِي (الطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ) مِنْ نَحْوِ الْأَمْوَالِ كَمَنْ يَذْكُرُ وَيَقْرَأُ لِإِعْطَاءِ

ص: 167

النَّاسِ لَهُ نَحْوَ الدَّرَاهِمِ.

(وَ) الثَّالِثُ (الْفِرَارُ مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ) كَمَنْ يُعَدِّلُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لِذَمِّ النَّاسِ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ لِئَلَّا يَتَأَلَّمَ بِذَمِّ النَّاسِ جَائِزٌ لَيْسَ بِرِيَاءٍ فَكَيْفَ التَّطْبِيقُ قُلْنَا التَّرْكُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا دَلِيلِهَا، فَلَا يَكُونُ مِنْ الرِّيَاءِ فِي الدِّينِ وَكُلًّا مُنَافِيهِ بِخِلَافِ فِعْلِ الطَّاعَاتِ فِرَارًا مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ وَتَرْكِ الذَّنْبِ إيهَامًا بِأَنَّهُ وَرِعٌ خَائِفٌ، فَإِنَّ التَّرْكَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ صَارَ دَلِيلَ الْعِبَادَةِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّيَاءُ وَأَمَّا إنْ كَانَ لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى فَعِبَادَةٌ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمَا فَمُبَاحٌ، فَالتَّرْكُ ثَلَاثَةٌ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ وَمُبَاحٌ، فَالْمُعَيَّنُ هُوَ الْقَصْدُ مِنْ التَّارِكِ بِخِلَافِ فِعْلِ الطَّاعَةِ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ بِتَعَيُّنِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعْلُهَا لِغَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ انْتَهَى.

لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ تَرْكِ الذَّنْبِ لِإِيهَامِ أَنَّهُ وَرِعٌ دَلِيلَ الْعِبَادَةِ مَعَ عَدَمِ تَرْكِ الذَّنْبِ لِئَلَّا يَذُمَّ النَّاسَ مَحَلُّ خَفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دَلِيلَهَا، فَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِمَا فَمُبَاحٌ مِثْلُهُ أَيْضًا؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَبْنَاهُ.

(وَ) الرَّابِعُ (الْجَهْلُ) بِحَقِيقَةِ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ لِلْإِخْلَاصِ لَا لِلرِّيَاءِ كَمَنْ يُصَلِّي الضُّحَى لِأَجْلِ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ وَحُصُولِ ثَوَابِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِلَا فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ.

(وَأَمَّا غَوَائِلُهُ) فَاسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ إنْ مَحْضًا أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ غَالِبًا وَنَقْصُ أَجْرِهِ إنْ كَانَ مَغْلُوبًا كَمَا مَرَّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] بِأَنْ يُرَائِيَهُ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَجْرًا فَالْمُرَائِي مُشْرِكٌ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَ رَبِّهِ.

(وَخَرَّجَ يَعْلَى) أَبُو يَعْلَى «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ عليه السلام» الْأَوْلَى لِمَنْصِبِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ عليه الصلاة والسلام أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَالَ «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ» بِتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ مَعَ جَمِيعِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالْآدَابِ «حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حِينَ يَخْلُو» بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا فِي الْمَلَأِ بِنَحْوِ طُولِ الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الْأَرْكَانِ وَالتَّخَشُّعِ وَالتَّأَدُّبِ وَأَدَاؤُهَا فِي السِّرِّ بِدُونِ ذَلِكَ أَوْ بَعْضِهِ. «فَتِلْكَ» الْخَصْلَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ «اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبُّهُ تبارك وتعالى» أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْمُسْتَهِينِ بِهِ فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِهَانَةَ بِهِ كَفَرَ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّدَاوِي لَهَا وَدَوَاؤُهُ يُسْتَحْضَرُ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي اعْلَمْ أَنَّ اسْتِهَانَةَ مَا يَجِبُ تَعْظِيمُهُ فِي الشَّرْعِ قَوْلًا وَفِعْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنِ وَالْمَلَكِ وَالرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إمَّا مَعَ النِّيَّةِ أَوْ لَا فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ، جَلِيَّةً كَانَتْ الِاسْتِهَانَةُ أَوْ خَفِيَّةً، وَالثَّانِي إنْ كَانَتْ جَلِيَّةً بِحَيْثُ تُدْرَكُ فِي بَادِئِ النَّظَرِ وَلَا تَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ فَكُفْرٌ أَيْضًا كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ مَثَلًا بِلَا نِيَّةِ الِاسْتِهَانَةِ وَإِنْ خَفِيَّةً بِأَنْ تَحْتَاجَ إلَى التَّأَمُّلِ فَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالِاسْتِهَانَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (حَدَّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ص: 168

قَالَ «إنَّ أَخْوَفَ» مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ كَأَشْهَرَ وَأَعْذَرَ «مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ» عَنْ أَبِي الْبَقَاءِ أَخْوَفَ اسْمُ إنَّ وَمَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ إنَّ أَخْوَفَ شَيْءٍ أَخَافُهُ. وَعَنْ الطِّيبِيِّ أَضَافَ أَفْعَلَ إلَى مَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَقْصَى الْأَشْيَاءَ الْمَخُوفَةَ لَمْ يُوجَدْ أَخْوَفُ وَلِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَقْصَى الْأَشْيَاءَ الْمَخُوفَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ أَخْوَفُ «الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» هَذَا النِّدَاءُ إمَّا إشَارَةٌ إلَى وَجْهِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ؛ لِأَنَّ مَنْ شَأْنُهُ الرِّسَالَةُ يَسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ أَوْ لِلِاسْتِشْفَاقِ أَوْ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ عَلَى مَضْمُونِ مَا سُئِلَ. «قَالَ الرِّيَاءُ» كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ قِيلَ أَتُشْرِكُ أُمَّتُك مِنْ بَعْدِك؟ قَالَ نَعَمْ أَمَا إنِّي لَسْتُ أَقُولُ تَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهْوَةً خَفِيَّةً.» وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ الرِّيَاءِ أَهُوَ شِرْكٌ قَالَ نَعَمْ أَمَا تَقْرَأُ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وَعَنْ الْجُنَيْدِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَهُوَ مَالِكٌ وَاَلَّذِي يَمْلِكُهُ هَوَاهُ مَمْلُوكٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّهُ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ هَوَاهُ وَنَفْسَهُ (يَقُولُ اللَّهُ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُرَائِينَ (إذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ) أَيْ أُعْطِيَ كُلُّ أَحَدٍ الْجَزَاءَ فِي مُقَابَلَةِ أَعْمَالِهِ «اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً»

لِأَعْمَالِكُمْ قِيلَ فِيهِ إعْلَامٌ بِحُبُوطِ ثَوَابِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالرِّيَاءِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا حُبُوطَ لِطَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ وَلَا لِمَعْصِيَتِهِ بِطَاعَتِهِ وَقَدْ اُدُّعِيَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ فَرُدَّ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ بِحَبْطِ الْأَقَلِّ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمَا مَعَ سُقُوطِ مِثْلِهِ فِي الْأَكْثَرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

(عَنْ جَبَلَةَ الْيَحْصُبِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ الْمُرَائِيَ يُنَادَى» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ قِبَلِ الرَّحْمَنِ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا فَاجِرُ» أَيْ فَاسِقُ «يَا غَادِرُ» مِنْ الْغَدْرِ هُوَ نَقْضُ الْعَهْدِ «يَا كَافِرُ» بِمَعْنَى سَاتِرِ النِّعَمِ «يَا خَاسِرُ» فِي عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ بِضَاعَتِهِ «ضَلَّ عَمَلُك» أَيْ غَابَ عَنْك وَضَاعَ «وَحَبَطَ أَجْرُك» أَيْ بَطَلَ ثَوَابُ عَمَلِك «اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَك مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ» فِي الدُّنْيَا وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّات

ص: 169

أَنَّ حَكِيمًا صَنَّفَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ كِتَابًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى نَبِيِّهِمْ قُلْ لَهُ قَدْ مَلَأْت الْأَرْضَ نِفَاقًا وَلَمْ تُرِدْنِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ شَيْئًا فَنَدِمَ وَتَرَكَ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَتَوَاضَعَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ، قُلْ لَهُ الْآنَ قَدْ وَافَقْت رِضَايَ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ.

قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ مِنْ خَطَرِ الرِّيَاءِ مُصِيبَتَانِ وَفَضِيحَتَانِ فَضِيحَةُ السِّرِّ وَهِيَ اللَّوْمُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَائِكَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَصْعَدُ بِعَمَلِ الْعَبْدِ مُبْتَهِجِينَ فَيَقُولُ اللَّهُ رُدُّوهُ إلَى سِجِّينٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْنِي بِهِ» فَيُفْضَحُ الْعَمَلُ وَالْعَبْدُ، وَفَضِيحَةُ الْعَلَانِيَةِ وَهِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْمُرَائِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَادَى بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ يَا كَافِرُ يَا فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ سَعْيُك وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا خَلَاقَ لَك الْتَمِسْ الْأَجْرَ مِمَّنْ كُنْت تَعْمَلُ لَهُ يَا مُخَادِعُ» . وَرُوِيَ «أَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ النَّاسَ قُومُوا خُذُوا أَجْرَكُمْ مِمَّنْ عَمِلْتُمْ لَهُ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ عَمَلًا خَالَطَهُ شَيْءٌ» وَأَمَّا الْمُصِيبَتَانِ فَإِحْدَاهُمَا فَوْتُ الْجَنَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«إنَّ الْجَنَّةَ قَالَتْ أَنَا حَرَامٌ عَلَى كُلِّ بَخِيلٍ وَمُرَاءٍ» وَالثَّانِيَةُ دُخُولُ النَّارِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَارِئِ أَلَمْ أُعْلِمْك مَا أَنْزَلْت عَلَى رَسُولِي فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ مَا عَمِلْت فِيمَا عَلِمْت، فَيَقُولُ يَا رَبِّ قُمْت بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَبْت وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ كَذَبْت وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْت أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ» الْحَدِيثَ

(ز) الْبَزَّارُ (عَنْ الضَّحَّاكِ) قِيلَ الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خَمْسَةٌ، فَاللَّازِمُ عَلَى الْمُصَنِّفِ تَمْيِيزُهُ (رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ» حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِإِلْهَامٍ أَوْ مَنَامٍ فَمَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مِنْ النَّبِيِّ لَكِنْ عَلَى أَنَّهُ يُسْنَدُ إلَيْهِ تَعَالَى وَالْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ أَيْضًا مَعْنَاهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى لَكِنْ لَا يُسْنَدُ فِيهِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ يُورِدُهُ عليه السلام كَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، فَالْقُرْآنُ وَمُطْلَقُ الْحَدِيثِ يَتَّحِدَانِ فِي كَوْنِهِمَا وَحْيًا مِنْ اللَّهِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَحْيٌ مَتْلُوٌّ، وَالثَّانِيَ غَيْرُ مَتْلُوٍّ إذْ اللَّفْظُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ اللَّهِ وَمُعْجِزٌ دُونَ الثَّانِي؛ وَلِذَا قِيلَ لَا يَجُوزُ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فِي الْأَكْثَرِ فَعِلْمُ الْحَدِيثِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ بَعْدَ الْقُرْآنِ.

«أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ» فُسِّرَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي إلَى عَمَلٍ فِيهِ شَرِكَةُ الْغَيْرِ فَأَدَعُهُ وَلَا أَجْزِيهِ جَزَاءً وَأَفْعَلُ لِمُطْلَقِ الزِّيَادَةِ «فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي» فِي عَمَلٍ مَا «شَرِيكًا» لِي «فَهُوَ لِشَرِيكِي» لِغِنَايَ عَنْهُ وَعَدَمِ احْتِيَاجِي إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ عَدَمُ الثَّوَابِ مُطْلَقًا مَحْضًا أَوْ غَالِبًا أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ مَغْلُوبًا وَقَدْ قَرَّرَ الْمُصَنِّفُ الثَّوَابَ فِي الْمَغْلُوبِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ» أَيْ قَاسِمٍ لِمَنْ أُشْرِكَ بِي بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا» أَيَّ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ «فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِي أَنَا غَنِيٌّ عَنْهُ»

، قُلْنَا نَعَمْ تَمَسَّكَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كَالْمُحَاسِبِيِّ فِي عَدَمِ الثَّوَابِ فِي الْمَغْلُوبِ أَيْضًا لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ وَالْإِمَامَ الرَّازِيَّ فِي الثَّوَابِ بِقَدْرِهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا وَإِنْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا فَالْحُكْمُ لَهُ وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ لَفْظَ الشِّرْكِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّسَاوِي وَعِنْدَهُ يَنْحَبِطُ كُلٌّ بِالْآخَرِ.

وَكَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ «قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ» يَأْبَى عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَحَمْلُ الْقَلِيلِ عَلَى الْمُسَاوِي فَإِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَالِبِ وَحَمْلُ الْكَثِيرِ عَلَى نَفْسِ الْغَالِبِ تَأْوِيلٌ بِلَا دَاعٍ كَحَمْلِهِ عَلَى نَفْسِ الْعَمَلِ ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ عَطَاءٍ وَكَمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ عَمَلَ الْمُشْتَرَكِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْقَلْبَ الْمُشْتَرَكَ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ بَيْتُ الرَّبِّ، وَالرَّبُّ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ غَيْرُهُ

ص: 170

فَالْعَمَلُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَقْبَلُهُ وَالْقَلْبُ الْمُشْتَرَكُ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

قَالَ الْغَزَالِيُّ: قِيلَ لِلْخَوَاصِّ قَدَّمَ ابْنُ أَدْهَمَ فَائِتَهُ قَالَ لَأَنْ أَلْقَى شَيْطَانًا مَارِدًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لِقَائِهِ فَاسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ إذَا لَقِيته أَخَافُ أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهُ فَإِذَا لَقِيت شَيْطَانًا أَمْتَنِعُ مِنْهُ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَقِيَ شَيْخِي الْإِمَامُ بَعْضَ الْعَارِفِينَ فَتَذَاكَرَا مَلِيًّا فَقَالَ الْإِمَامُ مَا أَظُنُّنِي جَلَسْت مَجْلِسًا أَرْجَى مِنْ هَذَا، فَقَالَ الْعَارِفُ: مَا جَلَسْت مَجْلِسًا أَنَا لَهُ أَخْوَفَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا أَلَسْت تَعْمِدُ إلَيَّ أَحْسَنَ عُلُومِك فَتُظْهِرُهَا لَدَيَّ وَأَنَا كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الرِّيَاءُ، فَبَكَى الْإِمَامُ مَلِيًّا حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ.

قَالَ بَعْضٌ وَمِنْ أَدْوِيَةِ الرِّيَاءِ التَّفَكُّرُ فِي أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ مَا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَهُ وَلَا عَلَى ضَرِّهِ مَا لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا» مِنْ مَقُولِهِ عليه الصلاة والسلام إمَّا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ أَوْ تَتِمَّةُ مَقُولِ اللَّهِ تَعَالَى «أَعْمَالُكُمْ» اجْعَلُوهَا خَالِصَةً لَهُ وَلَا تَجْعَلُوا فِيهَا شَرِيكًا لِلَّهِ تَعَالَى «فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ» مِنْ الْأَغْرَاضِ الْمُوجِبَةِ مُشَارَكَةُ الْغَيْرِ «وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ» هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَنَهَى عَنْهُ لِمُشَارَكَةِ الْغَيْرِ وَقِيلَ عَادَةُ الْعَرَبِ عِنْدَ إعْطَاءِ الشَّيْءِ لِرِضَاهُ تَعَالَى وَلِقَرَابَةِ فُلَانٍ «فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ» فَقَطْ لَا شَرِكَةَ لَهُ تَعَالَى لِغِنَاهُ لِكَوْنِهِ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ «وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ» فَلَا يَقْبَلُ لِعَدَمِ خُلُوصِهِ لَهُ تَعَالَى «وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا شَيْءٌ» وَالْآيَاتُ) الْقُرْآنِيَّةُ نَحْوُ {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264] الْآيَةَ.

وَ {يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} [فاطر: 10]{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10] أَيْ أَهْلِ الرِّيَاءِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] .

(وَالْأَحَادِيثُ) النَّبَوِيَّةُ نَحْوُ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الرِّيَاءِ إنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ الشِّرْكُ» .

«وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سَأَلَ رَجُلٌ فِيمَ النَّجَاةُ قَالَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُرِيدُ بِهَا النَّاسَ» ، وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ إنَّ هَذَا لَمْ يُرِدْنِي بِعَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ» .

وَقَالَ «اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أُعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِينَ» .

«وَقَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ طَوِيلٍ «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ أَوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ النَّارَ وَأَهْلَهَا يَعِجُّونَ أَيْ يَتَضَرَّعُونَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَاءِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعِجُّ النَّارُ قَالَ مِنْ حَرِّ النَّارِ الَّتِي يُعَذَّبُونَ بِهَا» .

ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ وَفِي هَذِهِ الْفَضَائِحِ بَلَاغٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ (فِي ذَمِّ الرِّيَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا هَاهُنَا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ (كِفَايَةٌ لِلْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ) إذْ فِيمَا أُلْقِيَ دَلِيلٌ عَلَى مَا أُبْقِيَ فَالْعَارِفُ يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ (بَلْ الْعَقْلُ) السَّلِيمُ إذَا خَلَى عَنْ شَوَائِبِ الْوَهْمِ وَعَوَائِقِ الْهَوَى وَعَوَارِضِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَطَبْعُهُ أَنْ (يَهْتَدِيَ إلَيْهِ) إلَى رَدَاءَتِهِ وَقُبْحِهِ (بِقَلِيلِ الْتِفَاتٍ) لِأَنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْحُكْمَ وَاضِحٌ.

قَالَ الْمُحَشِّي: لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ يُدْرِكُ قُبْحَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ جَازَ إدْرَاكُهُ لَكِنْ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ وَالْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ لَا مُجَرَّدُ الْإِدْرَاكِ بَلْ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ الْعَقْلُ يَهْتَدِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ (إذْ مَعْنَى الرِّيَاءِ جَعْلُ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْضُوعَةِ لِتَعْظِيمِهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَسِيلَةً إلَى غَيْرِهِمَا) غَيْرِ التَّعْظِيمِ وَالتَّقَرُّبِ مِمَّا يُرَاعَى بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

(وَفِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْجَعْلِ (قَلْبُ الْمَوْضُوعِ)

ص: 171

لِأَنَّهُ قَلَبَهُ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى (وَعَكْسُ الْمَشْرُوعِ) لِأَنَّ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَمَلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ عَكَسَ بِجَعْلِهِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى (وَتَلْبِيسٌ بِإِعْلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ) أَيْ الْمُرَائِيَ (يَقْصِدُ بِالْعِبَادَةِ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْبَةَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ) أَيْ الْقَصْدَ بِالْعِبَادَةِ (لَيْسَ كَذَلِكَ) أَيْ تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى (بَلْ يَقْصِدُ) الْمُرَائِي (بِهَا التَّقَرُّبَ إلَيْهِمْ) إلَى النَّاسِ (وَالتَّحَبُّبَ) مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُمْ (فَلَوْ عَلِمُوا نِيَّتَهُ) أَيْ النَّاسُ (لَمَقَتُوهُ) أَبْغَضُوهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ (وَهَجَرُوهُ) تَرَكُوهُ؛ لِأَنَّ حُبَّهُمْ لَهُ لِكَوْنِهِ مُطِيعًا لَهُ تَعَالَى فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ أَبْغَضُوهُ (وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ) أَيْ بِقَصْدِهِ (فَهُوَ بِالْمَقْتِ) الْبُغْضِ الشَّدِيدِ (أَوْلَى) مِنْ غَيْرِهِ إذْ يَلِيقُ بِالْمَقْتِ لِقَلْبِهِ الْمَوْضُوعَ وَعَكْسِهِ الْمَشْرُوعَ (وَفِيهِ اسْتِهَانَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى) أَيْ يَلْزَمُ اسْتِهَانَةٌ وَإِلَّا فَكُفْرٌ، نَعَمْ يَلْزَمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لُزُومَ الْكُفْرِ كُفْرًا مُطْلَقًا دُونَ مَنْ يَخُصُّهُ بِالِالْتِزَامِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اللُّزُومِ الْبَيِّنِ وَالْغَيْرِ الْبَيِّنِ، لَكِنْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ (وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا) يَقْتَضِي ذَلِكَ عُرْفًا (وَأَقَلُّ مَا فِي الرِّيَاءِ) مِنْ الضَّرَرِ (صُورَةُ تَلْبِيسٍ) وَتَزْوِيرٍ (وَعِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا) أَيْ الْأَقَلُّ (كَافٍ فِي التَّحْرِيمِ) لَكِنْ فِي كَوْنِهِ أَقَلَّ الضَّرَرِ خَفَاءً إذْ لَا أَعْظَمَ جِنَايَةً مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى.

(فَلِذَا) لِكَوْنِهِ تَلْبِيسًا وَعِبَادَةً لِلْغَيْرِ (حَرُمَ كُلُّهُ) جَمِيعُ أَفْرَادِهِ إذْ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى قَبِيحٌ لِذَاتِهِ فَلَا جِهَةَ لِحَسَنَةٍ أَصْلًا لَكِنْ يُرَدُّ إنْ كَانَتْ هِيَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَيَكُونُ كُفْرًا حَقِيقِيًّا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعِبَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ فَلَا يَكُونُ قَبِيحًا لِذَاتِهِ فَلَا يَلْزَمُ حُرْمَةُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَتَأَمَّلْ (وَإِنْ تَفَاوَتَ آحَادُهُ فِي غِلْظَةِ التَّحْرِيمِ وَخِفَّتِهِ) كَمَا سَبَقَ (فَغَائِلَةُ الرِّيَاءِ اسْتِحْقَاقُ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَإِبْطَالُ الْعَمَلِ) فِي الرِّيَاءِ الْمَحْضِ وَالْغَالِبِ وَالْمُسَاوِي (أَوْ نَقْصُ أَجْرِهِ) فِي الْمَغْلُوبِ وَقَدْ عَرَفْت الْكَلَامَ فِيهِ أَيْضًا.

قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: فَالرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ فِي الْعَارِفِ عِنْدَ بَعْضٍ وَإِنْ أَبْطَلَ نِصْفَ الثَّوَابِ وَعِنْدَ بَعْضٍ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ وَيَذْهَبُ بِنِصْفِ الْأَضْعَافِ، وَالتَّخْلِيطُ يَذْهَبُ بِرُبْعِ الْأَضْعَافِ وَالصَّحِيحُ الرِّيَاءُ الْمَحْضُ لَيْسَ فِي الْعَارِفِ مَعَ تَذَكُّرِ الْآخِرَةِ وَيَكُونُ مَعَ السَّهْوِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مِنْ تَأْثِيرِ الرِّيَاءِ رَفْعَ الْقَبُولِ وَالنُّقْصَانَ فِي الثَّوَابِ وَأَنْ لَا تَقْدِيرَ لَهُ بِنِصْفٍ وَرُبْعٍ.

(وَأَمَّا سَبَبُ الْإِخْلَاصِ) الَّذِي يَكُونُ مَنْشَأً لَهُ وَمَبْدَأً لَهُ (فَالْإِيمَانُ) بِأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ إلَّا هُوَ وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إلَّا هُوَ (وَوُجُوبُهُ) أَيْ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْإِخْلَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِ (وَتَوَقُّفُ قَبُولِ كُلِّ عَمَلٍ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِخْلَاصَ لَهُ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ عَمَلًا بِغَيْرِ إخْلَاصٍ كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ.

(وَأَمَّا فَوَائِدُهُ) ثَمَرَاتُهُ وَنَتَائِجُهُ الْأُخْرَوِيَّةُ (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الشَّرْعِ {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] لَا يُشْرِكُونَ بِهِ فِيهَا غَيْرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يُحْصَرَ الِانْقِيَادُ لَهُ تَعَالَى فِعْلًا وَتَرْكًا.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]{أَلا} [الزمر: 3] حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ {لِلَّهِ} [الزمر: 3] لَا لِغَيْرِهِ {الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] مِنْ شَائِبَةِ قَصْدِ الْغَيْرِ أُورِدَ

ص: 172

بِأَنَّ دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى فَوَائِدِ الْإِخْلَاصِ مَحِلُّ تَأَمُّلٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ بِصِفَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الْأُولَى وَاخْتِصَاصِ الدِّينِ الْخَالِصِ لَهُ تَعَالَى فِي الثَّانِيَةِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (حك) الْحَاكِمُ.

(عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ» فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ «لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» حَالَانِ لَازِمَانِ أَوَّلُهُمَا لِتَوْحِيدِ الذَّاتِ وَثَانِيهِمَا لِتَوْحِيدِ الصِّفَاتِ «وَأَقَامَ الصَّلَاةَ» أَتَى بِهَا مُسْتَقِيمَةً بِجَمِيعِ كَمَالَاتِهَا «وَآتَى الزَّكَاةَ» عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُنْسَحِبٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِرِضَاهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْعِبَادَةُ وَهِيَ إمَّا بِالْجِنَانِ أَوْ بِالْأَرْكَانِ وَهِيَ إمَّا بَدَنِيَّةٌ أَوْ مَالِيَّةٌ فَالْمَذْكُورُ هُوَ الْأَصْلُ الْمَتْبُوعُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ.

وَقِيلَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْإِخْلَاصِ هُوَ كُلُّ الْعَمَلِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الصَّلَاةَ لِتَكَرُّرِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَالزَّكَاةَ لِكَوْنِهَا بِالْمَالِ الْمَحْضِ كَانَتَا أَشَقَّ عَلَى النَّفْسِ فَأَمَّا الْحَجُّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجَامَعَ مَعَهُ غَرَضٌ نَفْسَانِيٌّ كَالتِّجَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَكُونُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ عِبَادَةً مَطْلُوبَةً بِالتَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ وَالْكَلَامُ فِي أَدَاءِ مَا كَلَّفَهُ عَلَى وَجْهِ تَكْلِيفِهِ نَعَمْ إنَّ مُقْتَضَى التَّجَارِبِ أَنَّهُ كَمْ شَخْصٍ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ سِنِينَ وَأَعْوَامًا يَذْهَبُ إلَى الْحَجِّ فِي أَوَّلِ وُجُوبِهِ مَعَ كَوْنِ الْأَشْقِيَاءِ أَزْيَدَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً «فَارَقَهَا» أَيْ الدُّنْيَا «وَاَللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَاضٍ» يَعْنِي يَرْضَى اللَّهُ تَعَالَى حِينَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ عَنْ الْبُرْهَانِ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ وَاحِدٍ فِي طُولِ عُمُرِهِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الرِّضَا وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ الْعَفْوَ، فَإِذَا حَصَلَ حَصَلَ الرِّضَا كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكُمَّلِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى لَعَلَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ كُلِّ أَحَدٍ مَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ وَلِهَذَا حَسَّنَ الْعُلَمَاءُ دُعَاءَ الرِّضَا لِلصَّحَابَةِ كَدُعَاءِ الرَّحْمَةِ لِسَائِرِ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ.

وَفِي الْحَدِيثِ «مَا أُعْطِيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَحَبُّ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى» ثُمَّ إنَّ اللَّازِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ هُوَ الرِّضَا وَالرِّضَا لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ (حك) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ بُعِثَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ هُوَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام حُذِفَ لِتَعَيُّنِهِ «إلَى الْيَمَنِ» قِيلَ لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، وَقِيلَ يَمِينُ الْكَعْبَةِ وَقِيلَ مِنْ الْيُمْنِ كَمَا أَنَّ الشَّامَ مِنْ الشُّؤْمِ وَقِيلَ وَقِيلَ «وَإِرْسَالُهُ عليه الصلاة والسلام إلَى الْيَمَنِ عَامَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ أَرْكَبَهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ رَاجِلٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ الْإِرْسَالِ. فَقَالَ مُعَاذٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَرْكَبَ وَأَنْتَ رَاجِلٌ فَأَرْجُو الْإِذْنَ حَتَّى أَكُونَ رَاجِلًا قَالَ يَا مُعَاذُ إنِّي أَتَصَوَّرُ كَوْنَ هَذِهِ الْخُطُوَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُوصِيك بِتَقْوَى اللَّهِ وَصِدْقِ الْكَلَامِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمُحَافَظَةِ حُقُوقِ الْجِيرَانِ وَالْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْقِيَامَةِ وَإِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، يَا مُعَاذُ لَا تَشْتُمْ مُسْلِمًا وَلَا تُكَذِّبْ مَنْ تَكَلَّمَ صَادِقًا وَلَا تُصَدِّقْ مَنْ تَكَلَّمَ كَاذِبًا وَلَا تُخَالِفْ الْإِمَامَ الْعَادِلَ، يَا مُعَاذُ أَطْلُبُ لَك مَا أَطْلُبُ لِنَفْسِي وَأَكْرَهُ لَك مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي، يَا مُعَاذُ عُدْ الْمَرْضَى وَعَجِّلْ قَضَاءَ حَوَائِجِ الضُّعَفَاءِ وَقَرِّبْ الْيَتَامَى وَاجْلِسْ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كُنْ عَدْلًا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى مَلَامَةِ أَحَدٍ فِي طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ يَا مُعَاذُ لَوْ أَمْكَنَ الْمُلَاقَاةُ بَعْدُ لَمْ أُطَوِّلْ الْوَصِيَّةَ» «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ أَخْلِصْ» مِنْ الْإِخْلَاصِ وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَاهُ «دِينَك» مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا حَقِيقِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا أَوْ عَمَّا يُفْسِدُهُ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ طَاعَتِك بِتَجَنُّبِ دَوَاعِي الرِّيَاءِ بِأَنْ تَعْبُدَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَقِيَامًا بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ لَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ وَلَا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ «يَكْفِك» هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ

ص: 173

لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِالْجَزْمِ جَوَابُ الْأَمْرِ وَفِي نُسَخٍ يَكْفِيك بِيَاءٍ بَعْدَ الْفَاءِ وَلَا أَصْلَ لَهَا فِي خَطِّهِ «الْعَمَلُ الْقَلِيلُ» هَكَذَا فِي نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَشَرْحِهِ «الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ» ، وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّوحَ إذَا خَلَصَتْ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَأَسْرِهَا نَطَقَتْ الْجَوَارِحُ وَقَامَتْ بِالْعِبَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنَازِعَهَا النَّفْسُ وَلَا الْقَلْبُ وَلَا الرُّوحُ فَكَانَ ذَلِكَ صِدْقًا فَيُقْبَلُ الْعَمَلُ، وَشَتَّانَ بَيْنَ قَلِيلٍ مَقْبُولٍ وَكَثِيرٍ مَرْدُودٍ وَفِي التَّوْرَاةِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي فَقَلِيلُهُ كَثِيرٌ وَمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِي فَكَثِيرُهُ قَلِيلٌ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ لَا يَتَّسِعُ فِي إكْثَارِ الطَّاعَةِ بَلْ فِي إخْلَاصِهَا وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ أَقَلُّ طَاعَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَقَارَنَهَا الْإِخْلَاصُ يَكُونُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْقِيمَةِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَكْثَرُ طَاعَةٍ إذَا أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْآفَةُ لَا قِيمَةَ لَهَا إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لَا يَقِلُّ عَمَلٌ أَلْبَتَّةَ وَكَيْفَ يَقِلُّ عَمَلٌ مَقْبُولٌ.

وَعَنْ النَّخَعِيِّ الْعَمَلُ إذَا قُبِلَ لَا يُحْصَى ثَوَابُهُ وَلِهَذَا إنَّمَا وَقَعَ بَصَرُ أُولِي الْبَصَائِرِ مِنْ الْعِبَادِ فِي شَأْنِ الْإِخْلَاصِ وَاهْتَمُّوا بِهِ وَلَمْ يَعْتَنُوا بِكَثْرَةِ الْأَعْمَالِ وَقَالُوا الشَّأْنُ فِي الصَّفْوَةِ لَا فِي الْكَثْرَةِ وَجَوْهَرَةٌ وَاحِدَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ خَرَزَةٍ، وَأَمَّا مَنْ قَلَّ عَمَلُهُ وَكُلٌّ فِي هَذَا نَظَرُهُ جَهْلُ الْمَعَانِي وَأَغْفَلَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْعُيُوبِ وَاشْتَغَلَ بِإِتْعَابِ نَفْسِهِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْإِمْسَاكِ فَغَرَّهُ الْعَدَدُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمُخِّ وَمَا يُغْنِي عَدَدُ الْجَوْزِ وَلَا لُبَّ فِيهِ وَمَا يَنْفَعُ رَفْعُ السُّقُوفِ وَلَمْ تُحْكَمْ مَبَانِيهَا، وَمَا يَعْقِلُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ إلَّا الْعَالِمُونَ إلَى هُنَا كَلَامُ الْغَزَالِيِّ كَذَا فِي الْمُنَاوِيِّ، ثُمَّ إنَّهُ ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ كِفَايَةُ قَلِيلِ الْعَمَلِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ ( «عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ طُوبَى» تَأْنِيثُ أَطْيَبَ أَيْ رَاحَةٌ وَطِيبُ عَيْشٍ.

وَعَنْ الْكَشَّافِ مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ كَزُلْفَى وَبُشْرَى أَوْ أَصَبْت طَيِّبًا وَخَيْرًا.

وَعَنْ الطِّيبِيِّ فُعْلَى مَنْ الطِّيبِ قَلَبُوا الْيَاءَ وَاوًا لِلضَّمَّةِ قَبْلَهَا قِيلَ مَعْنَاهُ أُصِيبُوا خَيْرًا عَلَى الْكِنَايَةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا قِيلَ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ وَفِي كُلِّ دَارٍ وَغُرْفَةٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ تَعَالَى لَوْنًا وَلَا زَهْرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا إلَّا السَّوَادَ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فَاكِهَةً وَلَا ثَمَرَةً إلَّا وَفِيهَا مِنْهَا يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ الْكَافُورُ وَالسَّلْسَبِيلُ وَرَقَةٌ مِنْهَا تُظِلُّ أُمَّةً عَلَيْهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى شَجَرَةٌ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ تَنْبُتُ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ، قِيلَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي دَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي دَارِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهَا غُصْنٌ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ تُنْبِتُ الْحُلِيَّ، وَالثِّمَارُ مُهْتَدِلَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: مُتَدَلِّيَةٌ عَلَى أَفْوَاهِ الْخَلَائِقِ» .

وَفِي الثَّعْلَبِيِّ يَرْفَعُهُ «طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهَا تَفَتَّقِي لِعَبْدِي فَتَنْفَتِقُ لَهُ عَنْ الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا وَعَنْ الْإِبِلِ بِأَزِمَّتِهَا وَعَمَّا شَاءَ مِنْ الْكِسْوَةِ وَمَا مِنْ الْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا وَغُصْنٌ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مُتَدَلٍّ عَلَيْهِمْ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَدَلَّتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا» الْكُلُّ مِنْ فَيْضِ الْقَدِيرِ «لِلْمُخْلِصِينَ» الَّذِينَ أَخْلَصُوا أَعْمَالَهُمْ مِنْ شَوَائِبِ الْأَقْذَارِ وَمَحَّضُوا عِبَادَتَهُمْ لِلْمَلِكِ الْغَفَّارِ وَهُمْ الْوَاصِلُونَ لِلْحَبْلِ وَالْبَاذِلُونَ لِلْفَضْلِ وَالْحَاكِمُونَ بِالْعَدْلِ «أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ» لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَخْلَصُوا فِي الْمُرَاقَبَةِ وَنَسُوا الْحُظُوظَ كُلَّهَا وَقَطَعُوا النَّظَرَ وَالْقَصْدَ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ بَلْ هُمْ مِنْهُ فِي حِمَايَةٍ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: عَقَبَةُ الْإِخْلَاصِ عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَكِنْ بِهَا يُنَالُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَقْصُودُ نَفْعُهَا كَثِيرٌ وَقَطْعُهَا شَدِيدٌ وَخَطَرُهَا عَظِيمٌ كَمْ مَنْ عَدَلَ عَنْهَا فَضَلَّ وَمَنْ سَلَكَهَا فَدَلَّ.

وَالْإِخْلَاصُ إخْلَاصَانِ إخْلَاصُ عَمَلٍ وَإِخْلَاصُ طَلَبِ أَجْرٍ، فَالْأَوَّلُ إرَادَةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمُ أَمْرِهِ وَإِجَابَةُ دَعَوْته وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَضِدُّهُ إخْلَاصُ النِّفَاقِ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَى مَنْ دُونَ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 174

(طِبّ) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الدُّنْيَا» هَذِهِ الْفَانِيَةُ الْغَدَّارَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمَكَارِهِ وَالْخَدَّاعَةُ «مَلْعُونَةٌ» مُبْغَضَةٌ لَهُ تَعَالَى وَمَتْرُوكَةٌ لِأَهْلِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى فَمَنْ أَحَبَّ مَا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبْغَضَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ

(تَنْبِيهٌ) : قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ تَحْقِيرُك لِلدُّنْيَا وَأَنْتَ مُقْبِلٌ عَلَيْهَا زُورٌ وَبُهْتَانٌ وَتَعْظِيمُك لِلَّهِ مَعَ وُجُودِ إعْرَاضِك عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْخِذْلَانِ كَيْفَ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَك قَدْرٌ عِنْدَهُ وَقَدْ اسْتَبْعَدَك مَا لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ عِنْدَهُ «مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» مَطْرُوحٌ عَنْ سَاحَةِ قُدْسِهِ «إلَّا مَا ابْتَغَى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ» رِضَا اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِيهِ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ وَجَلْبَ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ (حَدَّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَازَ وَظَفِرَ بِالْبُغْيَةِ «مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ» فَبَرِئَ مِنْ النِّفَاقِ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَصْدِهِ شَوَائِبُ الرِّيَاءِ فِي أَعْمَالِهِ «وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا» مِنْ الْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.

«وَلِسَانَهُ صَادِقًا» بَرِيئًا مِنْ الْكَذِبِ «وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً» بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالْحَقِّ أَوْ بِالرِّضَا عَلَى الْأَقْضِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ «وَخَلِيقَتَهُ» أَيْ طَرِيقَتَهُ وَطَبِيعَتَهُ «مُسْتَقِيمَةً» وَالِاسْتِقَامَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ لِمَا فِيهَا {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] » «وَأُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً» لِكُلِّ قَوْلِ حَقٍّ «وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً» فِي مَصْنُوعَاتِهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ خَصَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى إمَّا سَمْعِيَّةٌ فَالْأُذُنُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْقَلْبَ وِعَاءً لَهَا أَوْ نَظَرِيَّةٌ وَالْعَيْنُ هِيَ الَّتِي تُقِرُّهَا فِي الْقَلْبِ وَتَجْعَلُهُ وِعَاءً لَهَا.

«فَأَمَّا الْأُذُنُ فَقِمْعٌ» وَهُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى فَمِ مَا يَضِيقُ فَمُهُ عِنْدَ صَبِّ الشَّيْءِ فِيهِ أَيْ آلَةٌ لِوُصُولِ مَا يُلْقَى فِيهَا إلَى الْقَلْبِ «وَالْعَيْنَ مُقَرَّةً» أَيْ مُثَبَّتَةً فِي الْقَلْبِ «لِمَا يُوعِي الْقَلْبُ» أَيْ يَحْفَظُهُ «وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا» حَافِظًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ عَنْ مُخْتَصَرِ الْإِحْيَاءِ مَنْ أَخْلَصَ الْعَمَلَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ظَهَرَتْ آثَارُ بَرَكَتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى عَقِبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

(فَفَائِدَةُ الْإِخْلَاصِ) عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّف أَوْ مَا اخْتَارَهُ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعَةٌ (رِضَا اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ صَرِيحًا وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَفْهُومًا أَوْ الْتِزَامًا فَافْهَمْ (وَقَبُولُ الْعَمَلِ) كَحَدِيثِ مُعَاذٍ الْتِزَامًا (وَالنَّجَاةُ) يُنَاسِبُ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ (وَالْفَلَاحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) صَرِيحٌ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ وَأَنْ يَزِيدَ قَوْلَهُ: وَانْجِلَاءُ كُلِّ فِتْنَةٍ وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَائِدَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ» ، وَقَوْلُهُ:«أَخْلِصُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَأَقِيمُوا خَمْسَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» ، وَقَوْلُهُ:«مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» الْكُلُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَالْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ إمَّا رُوحَانِيٌّ فَقَطْ فَإِخْلَاصٌ أَوْ شَيْطَانِيٌّ فَقَطْ فَرِيَاءٌ أَوْ مُرَكَّبٌ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مُسَاوٍ أَوْ الرُّوحَانِيُّ قَوِيٌّ

ص: 175

أَوْ الشَّيْطَانِيُّ فَالْمُسَاوِي يَتَنَاقَضَانِ فَالْعَمَلُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَغَالِبُ الطَّرَفَيْنِ يُحْبِطُ مُسَاوِيَ الْآخَرِ وَيُبْقِي الزِّيَادَةَ مُوجِبَةً أَثَرَهَا اللَّائِقَ بِهَا.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ لَهَا تَأْثِيرَاتٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنْ خَلَا الْمُؤَثِّرُ عَنْ الْمُعَارِضِ خَلَا الْأَثَرُ عَنْ الضَّعْفِ وَإِنْ اقْتَرَنَ بِالْمُعَارِضِ فَتَسَاوَيَا تَسَاقَطَا وَإِنْ أَحَدُهُمَا أَغْلَبُ فَلَا بُدَّ فِي الزَّائِدِ بِقَدْرِ النَّاقِصِ فَبِقَدْرِ التَّسَاوِي يَتَسَاقَطُ فَيَبْقَى الزَّائِدُ خَالِيًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيُؤَثِّرُ كَمَا فِي الْفَيْضِ فَتَأَمَّلْ (وَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَعِلَاجُ الرِّيَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ قَطْعُ عُرُوقِهِ) مِنْ الْقَلْبِ (وَاسْتِئْصَالُ أُصُولِهِ) أَيْ خُرُوجُ أُصُولِهِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَذَلِكَ) الْقَطْعُ وَالِاسْتِئْصَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ (بِإِزَالَةِ أَسْبَابِهِ) الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ إذَا قُطِعَ عُرُوقُهُ يَبِسَ لَا مَحَالَةَ (وَتَحْصِيلِ ضِدِّهِ) أَيْ الْإِخْلَاصِ (وَأَصْلُ أَسْبَابِهِ حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَنْبَعُ كُلِّ شَنِيعَةٍ (وَ) حُبُّ (اللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ) عَطَفَ اللَّازِمَ عَلَى الْمَلْزُومِ (وَتَرْجِيحُهَا) أَيْ الدُّنْيَا أَوْ اللَّذَّةِ (عَلَى الْآخِرَةِ) الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَهَذَا) أَيْ التَّرْجِيحُ (غَايَةُ الْحَمَاقَةِ) فَلَا حَمَاقَةَ وَرَاءَهُ (وَنِهَايَةُ الْبَلَادَةِ فَإِنَّ الدُّنْيَا كَدِرَةٌ) أَيْ مُكَدَّرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْكُدُورَاتِ جَمَّةُ الْمَصَائِبِ كَدِرَةُ الْمَشَارِبِ تُثْمِرُ لِلْبَرِيَّةِ أَصْنَافَ الْبَلِيَّةِ مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ غُصَّةٌ وَمَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ سِمَةٌ.

وَعَنْ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ إنَّمَا جَعَلَهَا اللَّهُ مَحِلًّا لِلْأَغْيَارِ وَمَعْدِنًا لِلْأَكْدَارِ تَزْهِيدًا لَك مِنْ الْبَوَارِ فَأَذَاقَك الْأَكْدَارَ فَمَنْ عَرَفَ ذَلِكَ ثُمَّ رَكَنَ إلَيْهَا فَمَا هُوَ إلَّا أَسْفَهُ الْأَشْرَارِ؛ لِأَنَّهُ آثَرَ الْخَيَالَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَنَامَ عَلَى الْيَقَظَةِ وَالظِّلَّ الزَّائِلَ عَلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَاعَ حَيَاةَ الْأَبَدِ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ بِحَيَاةٍ هِيَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَحَالٌ حَائِلٌ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ مَا دُمْت فِي هَذِهِ الدَّارِ (سَرِيعَةُ الزَّوَالِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَالِي وَلِلدُّنْيَا وَمَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» قَالَ الطِّيبِيُّ هَذَا تَمْثِيلٌ فِي سُرْعَةِ الرِّحْلَةِ وَقِلَّةِ الْمُكْثِ.

قَالَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ أَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ، قَالُوا يَا رُوحَ اللَّهِ وَمَنْ يَقْدِرُ قَالَ إيَّاكُمْ وَالدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا.

قَالَ الْحَكِيمُ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الدُّنْيَا مَمَرًّا وَالْآخِرَةَ مَقَرًّا.

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (وَالْآخِرَةُ صَافِيَةٌ) عَنْ تِلْكَ الْأَكْدَارِ (بَاقِيَةٌ) لَا انْقِضَاءَ لَهَا أَبَدًا (وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَاجِزُونَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَمْلِكُونَ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لِأَحَدٍ فَإِذَنْ الْعِبَادَةُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَجَزَةِ وَمَحَبَّةِ تِلْكَ الْفَانِيَةِ الْكَدِرَةِ، وَتَرْجِيحُهَا عَلَى الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الصَّافِيَةِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ كَمَالِ الْحَمَاقَةِ وَنِهَايَةِ الْبِغَايَةِ وَغَايَةِ الْغَوَايَةِ (فَعَلَيْك أَيُّهَا الْعَاقِلُ) الْمَاشِي عَلَى مُقْتَضَى عَقْلِهِ بِتَمْيِيزِ مَا يَنْفَعُهُ عَمَّا يَضُرُّهُ وَبِصَرْفِهِ إلَى مَا هُوَ لَهُ (أَنْ تَقْنَعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِك) وَأَيْضًا بِثَوَابِهِ عَلَى عِبَادَتِك (وَلَا تَطْلُبُ عِلْمَ غَيْرِهِ) وَكَذَا النَّفْعُ مِنْهُ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ عَاجِزٌ وَالنَّفْعَ وَالضُّرَّ إلَيْهِ تَعَالَى قَاصِرٌ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] اقْتِبَاسٌ مُشِيرٌ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ وَمُنَبِّهٌ عَلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ وَبَدَاهَةِ الْحُكْمِ وَتَقْرِيعٌ لِلذَّاهِلِينَ وَتَوْبِيخٌ لِلْغَافِلِينَ بِحِكَايَةِ كَلَامِ أَصْدَقِ الْقَائِلِينَ (وَ) عَلَيْك (أَنْ تَذْكُرَ وَتُكَرِّرَ عَلَى قَلْبِك) لِئَلَّا يَقَعَ الذُّهُولُ وَالْغُفُولُ، فَإِنَّ الْخَطَرَ عَظِيمٌ وَالْهَلْكَى كَثِيرٌ (غَوَائِلَ الرِّيَاءِ وَفَوَائِدَ الْإِخْلَاصِ) مِنْ نُورِهَا وَجَلَالَتِهَا وَعَظَمَتِهَا وَرِفْعَتِهَا (الْمَذْكُورَتَيْنِ) لِتَنْفِرَ عَنْ الرِّيَاءِ وَتَرْغَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ فَتَأْلَفَ مَا بِهِ الْفَائِدَةُ وَتَنْفِرُ عَمَّا بِهِ الْغَائِلَةُ فَيَزُولُ الرِّيَاءُ وَيَحْصُلُ الْإِخْلَاصُ.

وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ أَرَادَ أَنْ

ص: 176

يَذْكُرَ الْعِلَاجَ الْعَمَلِيَّ فَقَالَ (وَالْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ إخْفَاءُ الْعَمَلِ) الَّذِي يَصْلُحُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ عَنْ الْخَلْقِ سِيَّمَا عَمَّنْ يُهَيِّجُ عِنْدَهُ دَوَاعِيَ الرِّيَاءِ (وَإِغْلَاقُ الْبَابِ) أَيْ بَابِ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ سَلِيمٌ أَوْ بَابِ الْعِبَادَةِ لِئَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (إلَّا مَا لَزِمَ إظْهَارُهُ) بِأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعِيَّتُهُ مَعَ الْجَمْعِ كَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي دَفْعُ مَا يَخْطِرُ مِنْ الرِّيَاءِ) فِي قَلْبِ الْعَابِدِ (فِي الْحَالِ) بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ مِمَّا تَقَدَّمَ (وَرَفْعُ مَا يَعْرِضُ مِنْهُ) مِنْ الرِّيَاءِ لِلْعَابِدِ (فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ فَعَلَيْك فِي أَوَّلِ كُلِّ عِبَادَةٍ أَنْ تُفَتِّشَ قَلْبَك) بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَالِاخْتِبَارِ لَدَيْهِ.

(وَتُخْرِجُ عَنْهُ خَوَاطِرَ الرِّيَاءِ) الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ إحْبَاطُ ثَوَابِ الْعَمَلِ (وَتُقَرِّرَهُ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَعْزِمُ عَلَيْهِ) عَلَى الْإِخْرَاجِ وَالتَّقْرِيرِ (إلَى أَنْ تَتِمَّ) الْعِبَادَةُ (لَكِنْ الشَّيْطَانُ لَا يَتْرُكُك بَلْ يُعَارِضُك بِخَطَرَاتِ الرِّيَاءِ) لَكِنْ لَا يَضُرُّ عُرُوضُ الرِّيَاءِ بَعْدَ كَوْنِ الشُّرُوعِ بِالْإِخْلَاصِ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ رَجُلٌ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ ثُمَّ خَلَطَهُ الرِّيَاءُ فَالْعِبْرَةُ لِلسَّابِقِ.

وَعَنْ الْمَطَالِعِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يُصَلِّيَ وَيَخَافَ أَنْ يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ لَا يَتْرُكُ الْقُرْآنَ وَالصَّلَاةَ.

(وَهِيَ) أَيْ خَطَرَاتُ الرِّيَاءِ (ثَلَاثَةٌ مُرَتَّبَةٌ) الْأَوَّلُ (الْعِلْمُ) عِلْمُ الْعَابِدِ (بِاطِّلَاعِ الْخَلْقِ) عَلَى الْعَمَلِ (أَوْ رَجَاؤُهُ) رَجَاءُ الِاطِّلَاعِ (ثُمَّ) الثَّانِي (الرَّغْبَةُ فِي حَمْدِهِمْ وَحُصُولِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ ثُمَّ) الثَّالِثُ (قَبُولُ النَّفْسِ لَهُ) لِلْمَنْزِلَةِ (وَالرُّكُونُ) الْمَيْلُ الْقَوِيُّ (إلَيْهِ) أَيْ الْقَبُولِ (وَعَقْدُ الضَّمِيرِ) أَيْ رَبْطُ الْقَلْب (عَلَى تَحْقِيقِهِ) قِيلَ فَالْأَوَّلُ مَعْرِفَةٌ وَالثَّانِي حَالَةٌ تُسَمَّى بِالشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالثَّالِثُ فِعْلٌ يُسَمَّى الْعَزْمُ وَالتَّصْمِيمُ وَإِنَّمَا كَانَ الْقُوَّةُ فِي دَفْعِ الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ وَرَدِّهِ قَبْلَ أَنْ يَتْلُوَهُ الثَّانِي لَا يَخْفَى أَنَّ قَبُولَ النَّفْسِ لِلْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْخَلْقِ مَوْقُوفٌ عَلَى عَدِّ الرَّغْبَةِ فِي مَدْحِهِمْ وَالرَّغْبَةُ هَذِهِ إنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْعِلْمِ فَوَجْهُ التَّرْتِيبِ ظَاهِرٌ (فَعَلَيْك رَدُّ كُلٍّ مِنْهَا) مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

(أَمَّا) رَدُّ (الْأَوَّلِ فَبِأَنْ قَالَ) الْمُخْلِصُ الْمُتَّقِي الْمُتَوَرِّعُ بِالْقَوْلِ الْمَعْقُولِ وَالْمَلْفُوظِ (مَالِكٌ) يَا نَفْسِي فِيهِ تَجْرِيدٌ إذْ مِنْ الْمُحَالِ اتِّحَادُ الْمُخَاطَبِ مَعَ الْمُخَاطِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (وَلِلْخَلْقِ) هَكَذَا فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ النُّسَخِ لَعَلَّ الصَّوَابَ وَالْخَلْقُ (عَلِمُوا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا) يَعْنِي عِلْمَهُمْ وَعَدَمَ عِلْمِهِمْ سِيَّانِ إذْ لَا يُجْلَبُ بِعِلْمِهِمْ نَفْعٌ وَلَا بِعَدَمِ عِلْمِهِمْ ضُرٌّ بَلْ النَّافِعُ وَالضَّارُّ وَالْمُعْطِي وَالدَّافِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَالِك) فَيَكْفِيك عِلْمُهُ (فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ) وَهُوَ عَبْدٌ عَاجِزٌ وَفَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مِثْلُك إنْ قِيلَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ لَكِنْ لِإِعْطَاءِ بَعْضِ شَيْءٍ وَوُصُولِ بَعْضِ مُرَادٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدْخَلًا عَادِيًا لِعِلْمِهِمْ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ فَمِنْ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَةِ قُلْنَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي (وَأَمَّا) رَدُّ.

(الثَّانِي فَبِتَذَكُّرِ آفَاتِ الرِّيَاءِ) السَّابِقَةِ (وَتَعَرُّضِهِ) كَوْنُهُ عُرْضَةً (لِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى) لِبُغْضِهِ الشَّدِيدِ بِسَبَبِ الرِّيَاءِ وَخَيْبَتِهِ فِي أَحْوَجِ أَوْقَاتِهِ إلَى أَعْمَالِهِ بِعَدَمِ الثَّوَابِ بَلْ بِجَزْمِ الْعِقَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلْأَوَّلِ أَيْضًا بَلْ رَدُّ الْأَوَّلِ أَيْضًا صَالِحٌ لِرَدِّ الثَّانِي فَافْهَمْ (فَيُثِيرُ) بِالثَّاءِ أَيْ يُهَيِّجُ ذَلِكَ التَّذْكِيرُ فِي قَلْبِ الْعَابِدِ

ص: 177

(كَرَاهِيَةً) مِنْ حَمْدِهِمْ (فِي مُقَابَلَةِ الرَّغْبَةِ) إلَيْهِ (تَدْعُو) تِلْكَ الْكَرَاهِيَةَ (إلَى الْإِبَاءِ) الِامْتِنَاعِ عَنْهُ (فِي مُقَابَلَةِ الْقَبُولِ) وَقَدْ قُرِّرَ تَرْجِيحُ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا فَضْلًا عَنْ قُوَّةٍ الضُّرِّ كَمَا هُنَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَالنَّفْسُ) أَيْ الْعَقْلُ إذَا خَلَا عَنْ شُؤُونِ الْإِمَارَةِ بِالسُّوءِ (لَا مَحَالَةَ تُطَاوِعُ أَقْوَى الْمُتَقَابِلَيْنِ) وَأَغْلَبُهُمَا الْكَرَاهَةُ وَالرَّغْبَةُ وَلَا شَكَّ فِي غَلَبَةِ ضَرَرِ الْكَرَاهِيَةِ كَمَا عَرَفْت فِي غَوَائِلِ الرِّيَاءِ عَلَى نَفْعِ الرَّغْبَةِ (فَلَا بُدَّ فِي رَدِّ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ الْمَعْرِفَةُ) مَعْرِفَةُ مَا خَطَرَ مِنْ خَوَاطِرِ الرِّيَاءِ (وَالْكَرَاهِيَةُ لَهُ) لِدَاعِي الْمَقْتِ (وَالْإِبَاءُ) الِامْتِنَاعُ عَنْ الرِّيَاءِ، ثُمَّ فَصَّلَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ يَشْرَعُ الْعَبْدُ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى عَزْمِ الْإِخْلَاصِ) بِأَنْ لَا يَقْصِدَ شَيْئًا سِوَى رِضَاهُ تَعَالَى (ثُمَّ يَرِدُ) مِنْ الْوُرُودِ عَلَى قَلْبِهِ (خَاطِرُ الرِّيَاءِ) إيجَابًا (فَيَقْبَلُهُ) اخْتِيَارًا (بَغْتَةً) فَجْأَةً عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ (وَلَا يَحْضُرُهُ) أَيْ الْعَبْدَ (وَاحِدٌ مِنْ وُجُوهِ الرَّدِّ) الْمَعْرِفَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ وَالْإِبَاءُ (بِسَبَبِ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِحُبِّ الْحَمْدِ) أَيْ الْمَدْحِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ.

(وَخَوْفِ الذَّمِّ وَاسْتِيلَاءِ) غَلَبَةِ (الْحِرْصِ عَلَيْهِ) أَيْ الْعَبْدِ (فَيَعْزُبُ) بِضَمِّ الزَّايِ بِمَعْنَى يَغِيبُ وَيَخْرُجُ (عَنْ الْقَلْبِ آفَاتُ الرِّيَاءِ) لِغَلَبَةِ أَسْبَابِهِ عَلَيْهِ وَالذِّهْنُ بَسِيطٌ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى شَيْئَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ (فَيَنْسَاهَا) أَيْ الْآفَاتِ (فَلَمْ تَظْهَرْ الْكَرَاهِيَةُ) حَتَّى أَمْكَنَ الرَّدُّ لِغَيْبُوبَةِ سَبَبِهَا عَنْهُ بِغَلَبَةِ سَبَبِ مُقَابِلِهَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْكَرَاهِيَةُ عِنْدَ الْحُضُورِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْكَرَاهِيَةَ (ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ) قِيلَ أَيْ بِغَوَائِلِ الرِّيَاءِ مِنْ نَحْوِ الْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَفِيهِ خَفَاءٌ فَافْهَمْ (وَقَدْ يَتَذَكَّرُ) مَا خَطَرَ بِبَالِهِ مِنْ خَاطِرِ الرِّيَاءِ (فَيَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي خَطَرَ لَهُ) أَيْ وَرَدَ عَلَى قَلْبِهِ (خَاطِرُ الرِّيَاءِ وَ) يَتَذَكَّرُ (أَنَّهُ) أَيْ خَاطِرَ الرِّيَاءِ (يُعَرِّضُهُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ يُصَيِّرُهُ مُعَرَّضًا (لِسُخْطِ اللَّهِ) تَعَالَى وَغَضَبِهِ.

(وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ) مَعَ ذَلِكَ (لَهُ الْكَرَاهِيَةُ) فَلَا يَحْصُلُ الِانْزِجَارُ فَيَكُونُ الْوِزْرُ عَلَيْهِ آكَدُ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْأَثَرِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ إذْ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ حِينَئِذٍ حَاصِلَةٌ قُلْنَا إنْ أُرِيدَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فَلَا نُسَلِّمُهُ وَإِنْ الْمُطْلَقُ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ تَخَلُّفِهِ عَلَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَلِ مَشْرُوطٌ بِارْتِفَاعِ مَوَانِعِهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (لِشِدَّةِ شَهْوَتِهِ) أَيْ مَحَبَّتِهِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا عَمِيَ عَنْ مَعَايِبِهِ بَلْ يَرَى قَبَائِحَهُ مَحَاسِنَ كَمَا قِيلَ حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ فَإِنْ قِيلَ الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ الْكَرَاهِيَةَ وَالْمَحَبَّةُ عَدَمَهَا فَيَقْتَضِي تَسَاقُطَهُمَا فَمِنْ أَيْنَ الْحُكْمُ بِعَدَمِ الْكَرَاهِيَةِ قُلْنَا لَعَلَّ تَوْصِيفَهُ بِالشِّدَّةِ لِأَجْلِ تَرْجِيحِ هَذَا الْجَانِبِ لَكِنْ عِنْدَ التَّسَاوِي يَلْزَمُ الْحَظْرُ أَيْضًا غَايَتُهُ دُونَهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْحَرَامَ غَالِبٌ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَ الْحِلِّ كَمَا فِي الْأُصُولِ وَأَنَّ الْحَظْرَ رَاجِحٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ.

وَقَدْ عَرَفْت مِرَارًا أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ (فَيَغْلِبُ هَوَاهُ) النَّاشِئُ مِنْ شِدَّةِ الشَّهْوَةِ (عَقْلَهُ) النَّاشِئَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ (وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ لَذَّةِ الْحَالِ) الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ تِلْكَ الشَّهْوَةِ

ص: 178

الَّتِي هُوَ فِيهَا فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَهُ فَلَا تَكْلِيفَ بِنَفْيِهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِثُبُوتِهِ قُلْنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمَنْفِيَّةِ هُوَ الِامْتِنَاعُ بَلْ بِنَحْوِ أَنْ يُقَالَ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ التَّرْكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ (فَيَسْتَلِذُّ) بِسُوءِ اخْتِيَارِهِ (بِالشَّهْوَةِ) الْعَاجِلَةِ (وَيَتَسَوَّفُ بِالتَّوْبَةِ) وَقَدْ هَلَكَ الْمُتَسَوِّفُونَ (أَوْ يَتَشَاغَلُ) وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ التَّوْبَةُ (عَنْ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ) وَلَمْ يَعُدَّهُ شَيْئًا حَظْرًا (لِشِدَّةِ الشَّهْوَةِ) لَعَلَّ هَذِهِ الشِّدَّةَ فَوْقَ مَا سَبَقَ، وَالشِّدَّةُ إمَّا مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فَيُوجَدُ جَمِيعُ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْضُهَا عَلَى وَجْهِ الْقُوَّةِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْكَمُّ فَيُوجَدُ كُلُّ الثَّلَاثَةِ أَوْ أَكْثَرُهَا أَعْنِي حُبَّ الْمَدْحِ وَخَوْفَ الذَّمِّ وَاسْتِيلَاءَ الْحِرْصِ (فَكَمْ مِنْ عَالِمٍ يَحْضُرُهُ كَلَامٌ) أَيْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ (لَا يَدْعُو إلَى قَوْلِهِ) ذَلِكَ (إلَّا الرِّيَاءُ) هَذَا التَّفْرِيعُ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ (وَهُوَ) أَيْ الْعَالِمُ الْمَذْكُورُ (يَعْلَمُ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنَهُ بِالرِّيَاءِ هَذَا وَإِنْ كَانَ كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ لَكِنَّهُ قَدْ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْعِلْمِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَدَارَ الْحُكْمِ بِالْآكَدِيَّةِ كَانَ أَهَمَّ فَإِذَنْ تَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ (وَلَكِنَّهُ) مَعَ عِلْمِهِ لَا يَنْزَجِرُ بَلْ (يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ) فَلَا يَحْصُلُ الْإِبَاءُ (وَلَا يَكْرَهُهُ) فَلَا تَحْصُلُ الْكَرَاهِيَةُ فَبِالْجُمْلَةِ تُوجَدُ الْمَعْرِفَةُ وَلَا يُوجَدُ الْإِبَاءُ وَالْكَرَاهِيَةُ.

(فَتَكُونُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْعَالِمِ فِي التَّعْذِيبِ (آكَدُ) أَقْوَى (إذْ قَبِلَ) مِنْ الْقَبُولِ (دَاعِيَ الرِّيَاءِ) مِنْ الِاسْتِمْرَارِ وَعَدَمِ الْكَرَاهِيَةِ (مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَبِغَائِلَتِهِ) وَمُوجِبُ الْعِلْمِ الِانْكِفَافُ عِنْدَ عِلْمِهِ بِأَحَدِهِمَا فَكَيْفَ بِعِلْمِهِ بِهِمَا (وَقَدْ يَحْضُرُ) الْمُخْلِصَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ (الْمَعْرِفَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ مَعًا وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْإِبَاءُ) عَنْ دَاعِي الرِّيَاءِ (بَلْ يَقْبَلُ دَاعِيَ الرِّيَاءِ وَيَعْمَلُ بِهِ لِكَوْنِ الْكَرَاهِيَةِ لَهُ ضَعِيفَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالرَّغْبَةِ) وَالْحُكْمُ لِأَقْوَى الْمُتَقَابِلَيْنِ فَكَأَنَّ الْكَرَاهِيَةَ لَمْ تُوجَدْ (وَهَذَا) أَيْ ذُو الْكَرَاهِيَةِ الَّتِي لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَثَرُهَا مِنْ الْإِبَاءِ (أَيْضًا لَا يَنْتَفِعُ بِكَرَاهِيَتِهِ) كَمَا لَا يَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَتِهِ (إذْ الْغَرَضُ مِنْهَا) مِنْ الْكَرَاهِيَةِ (صَرْفُهُ عَنْ الْفِعْلِ) أَيْ الرِّيَاءِ وَلَمْ يَحْصُلْ (فَإِذًا) عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ نَفْعِ الْكَرَاهِيَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِدُونِ الْإِبَاءِ مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ مُجْتَمِعَيْنِ.

(لَا فَائِدَةَ إلَّا فِي اجْتِمَاعِ الثَّلَاثَةِ) مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْإِبَاءِ فَالْإِبَاءُ ثَمَرَةُ الْكَرَاهِيَةِ وَالْكَرَاهِيَةُ ثَمَرَةُ الْمَعْرِفَةِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهَا بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَنِسْيَانِ الْآخِرَةِ وَقِلَّةِ التَّفَكُّرِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَقِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِي آفَاتِ حُبِّ الدُّنْيَا وَعِظَمِ نِعَمِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُ ذَلِكَ يُنْتِجُ بَعْضًا وَيُثْمِرُ وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ حُبُّ الدُّنْيَا وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَنْبَعُ كُلِّ ذَنْبٍ.

(فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ) وَقَدْ يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْإِبَاءُ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ حَصَلَ الْبَرَاءَةُ مِنْ الرِّيَاءِ أَيْضًا (وَمُجَرَّدُ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ لَا يَضُرُّ (خُطُورِ الرِّيَاءِ) بِنَفْسِهِ بِلَا اخْتِيَارٍ (وَمَيْلِ الطَّبْعِ إلَيْهِ) النَّفْسَانِيِّ كَمَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى (وَحُبِّهِ لَهُ) أَيْ وَمُجَرَّدُ حُبِّهِ لَهُ كَمَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَيْضًا أَيْ الْعَارِي عَنْ الِاسْتِدَامَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَإِلَّا فَيَكُونُ مَسْبُوقًا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الِاضْطِرَارِ (وَمُنَازَعَتِهِ إيَّاهُ) فِي طَرْدِهِ وَإِخْرَاجِهِ بِأَنْ يَرِدَ خَاطِرُ الرِّيَاءِ عَقْلَ الْعَابِدِ وَيَقْبَلَهُ هَوَاهُ وَنَفْسُهُ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَذْكُرَ ذَلِكَ أَوْ يُجْعَلَ قَيْدًا لِلْأَوَّلِ.

(لَا يَضُرُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ قَبُولٌ وَرُكُونٌ بِالِاخْتِيَارِ)

ص: 179

هَذَا كَالْمُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمُلَاحَظَةِ فَائِدَةِ قَوْلِهِ وَمُجَرَّدُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا وَبَيَانًا لَهُ (إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ مَنْعُ الشَّيْطَانِ مِنْ نَزَغَاتِهِ) وَوَسَاوِسَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِوَسَاوِسِهِ وَعَدَمُ الْمُطَاوَعَةِ فِيهَا فَالرُّكُونُ وَالْقَبُولُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَالَاةِ وَالْمُطَاوَعَةِ، وَخُطُورُ الرِّيَاءِ مِنْ قَبِيلِ النَّزَغَاتِ فَلَا يَرِدُ أَنَّ خُطُورَ الرِّيَاءِ مُضِرٌّ وَالرُّكُونَ وَالْقَبُولَ لَيْسَ بِمُضِرٍّ وَحَاصِلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ النَّزْغُ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ ضَرَرِ الْقَبُولِ وَالرُّكُونِ فَتَأَمَّلْ.

(وَلَا قَمْعُ الطَّبْعِ) قَطْعُهُ (حَتَّى لَا يَمِيلَ إلَى الشَّهَوَاتِ) لِأَنَّ الْمَرْءَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَنَاهِي وَالشَّهَوَاتِ (وَلَا يَنْزِعُ) لَا يَنْجَذِبُ وَلَا يَمِيلُ (إلَيْهَا) إذْ الطَّبْعُ ضَرُورِيٌّ فِيهَا وَلَا تَكْلِيفَ فِي الِاضْطِرَارِيِّ كَالِامْتِنَاعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا (وَإِنَّمَا غَايَتُهُ) غَايَةُ وُسْعِهِ (أَنْ يُقَابِلَ شَهْوَتَهُ بِكَرَاهِيَةٍ) فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَابِلُ بِكَرَاهِيَةٍ وَقَدْ كَانَ حُبُّهُ ضَرُورِيًّا إذْ مَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا لَا يُمْكِنُ مُقَابَلَتُهُ إيَّاهُ قُلْنَا قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْحُبَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْخَاطِرُ الْأَوَّلُ وَالْمُقَابَلَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ.

(وَإِبَاءٍ وَعَدَمِ إجَابَةٍ) لِدَاعِي الطَّبْعِ أَوْ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ (اسْتَفَادَهَا) أَوْ اسْتَفَادَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ (مِنْ عِلْمِ الدِّينِ) كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي اُسْتُفِيدَ مِنْهُمَا كَالتَّصَوُّفِ وَالْأَخْلَاقِ وَالزُّهْدِ (فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ) الْمُقَابَلَةَ (فَهُوَ الْغَايَةُ فِي أَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ) فَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهِ تَكْلِيفٌ فَلَا ضَرَرَ فِي إتْيَانِهِ قِيلَ هُنَا وَالْمُخْلِصُونَ عَنْ الرِّيَاءِ فِي دَفْعِ خَوَاطِرِهِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ الْأُولَى أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّيْطَانِ فَيُكَذِّبَهُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ بَلْ يَشْتَغِلُ بِمُجَادَلَتِهِ وَيُطِيلُ الْجِدَالَ مَعَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ لِقَلْبِهِ وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ نُقْصَانٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ عَنْ مُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِهِ وَانْصَرَفَ إلَى قِتَالِ قُطَّاعٍ وَهُوَ نُقْصَانٌ فِي السُّلُوكِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْقِتَالَ وَالْجِدَالَ نُقْصَانٌ فِي السُّلُوكِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَدَفْعِهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِمُجَادَلَتِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِتَكْذِيبِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْفَةٌ فِي السُّلُوكِ وَإِنْ قُلْت بَلْ قَرَّرَ فِي ضَمِيرِهِ كَرَاهِيَةَ الرِّيَاءِ وَكَذِبَ الشَّيْطَانِ فَيَسْتَمِرُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مُسْتَصْحِبًا لِلْكَرَاهِيَةِ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُخَاصَمَةِ الرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَحْسُدُهُ عِنْدَ جَرَيَانِ أَسْبَابِ الرِّيَاءِ فَيَكُونُ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنَّهُ مَهْمَا نَزَغَ الشَّيْطَانُ زَادَ فِيمَا هُوَ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَالِاشْتِغَالِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِخْفَاءِ الْعِبَادَةِ غَيْظًا لِلشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَغِيظُ الشَّيْطَانَ وَيَقْمَعُهُ وَيُوجِبُ يَأْسَهُ وَقُنُوطَهُ حَتَّى لَا يَرْجِعَ وَمَهْمَا عَرَفَ الشَّيْطَانُ مِنْ الْعَبْدِ هَذِهِ الْعَادَةَ كَفَّ عَنْهُ خِيفَةً مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي حَسَنَاتِهِ (ثُمَّ إذَا فَرَغَ) مِنْ نِزَاعِهِ وَجِدَالِهِ لِطَبْعِهِ وَشَيْطَانِهِ وَقَدْ أَتَمَّ عِبَادَتَهُ بِالْإِخْلَاصِ (فَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ بِهِ) أَيْ لَا يُخْبِرَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا (وَلَا يُظْهِرَهُ) لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ نَوْعٌ مِنْ الرِّيَاءِ وَقَدْ أَتَمَّهُ بِأَتْعَابٍ كَثِيرَةٍ (إلَّا إذَا أَمِنَ الرِّيَاءَ وَقَصَدَ) بِإِظْهَارِهِ (اقْتِدَاءَ الْغَيْرِ بِهِ) وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ (فِي مَظِنَّتِهِ) لَا بِمُجَرَّدِهِ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاقْتِدَاءِ أَوْ كَانَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ مَظِنَّةَ مَنْ يَقْتَدِي فَلَا يُظْهِرُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لَعَلَّ مِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمُسْتَثْنَى قَصْدُ تَحْدِيثِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَصْدُ تَمْكِينِ صِيتِهِ الْحَسَنِ عَسَى أَنْ يَشْهَدُوا بِحُسْنِ حَالِهِ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ (وَ) أَنْ (يَكُونَ وَجِلًا) مُضْطَرِبًا (مِنْ عَمَلِهِ خَائِفًا أَنْ يَدْخُلَهُ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ) وَقَدْ مَرَّ (مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ) أَيْ الرِّيَاءِ الَّذِي لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ لِخَفَاءِ سَبَبِهِ (فَيَكُونُ مَرْدُودًا مَمْقُوتًا) مَبْغُوضًا (لِلَّهِ تَعَالَى) مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي (وَيَكُونُ هَذَا الْخَوْفُ فِي دَوَامِ عَمَلِهِ) فِي أَثْنَائِهِ.

(وَبَعْدَهُ لَا فِي ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ) عِنْدَ شُرُوعِهِ، لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الْأَشْبَاهِ عَنْ التتارخانية لَوْ افْتَتَحَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الرِّيَاءُ فَهُوَ عَلَى مَا افْتَتَحَ وَالرِّيَاءُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَنْ النَّاسِ لَا يُصَلِّي وَلَوْ كَانَ مَعَ النَّاسِ يُصَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ (بَلْ يَنْبَغِي

ص: 180

أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّنًا فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ مُخْلِصٌ) لِلَّهِ تَعَالَى (مَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تُوجَدَ النِّيَّةُ) تَعْلِيلٌ لِوُجُوبِ تَيَقُّنِ الْإِخْلَاصِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَمَلِ (إذْ هِيَ) أَيْ النِّيَّةُ (الْعَزْمُ الْمُصَمَّمُ) الْقَطْعِيُّ (الْبَاعِثُ) الدَّاعِي عَلَى الْعَمَلِ (فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ) لِلتَّنَافِي بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ الشَّكِّ وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَنْبَعِثُ عَنْهُ شَيْءٌ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ دَوَامِ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ مَشْكُوكًا فِي عَدَمِ الرِّيَاءِ، وَظَاهِرُ الِاجْتِهَادِ وَالْخَوْفِ يُنَافِيهِ (فَإِذَا شَرَعَ عَلَى الْيَقِينِ) يَعْنِي إذَا كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ جَازِمًا بِالْإِخْلَاصِ خَالِيًا عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ (وَمَضَتْ لَحْظَةٌ) زَمَانٌ قَلِيلٌ (يُمْكِنُ فِيهِ الْغَفْلَةُ) غَيْبَةُ الشَّيْءِ عَنْ الْخَاطِرِ وَعَدَمُ تَذَكُّرِهِ لَهُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ تَرَكَهُ إهْمَالًا وَإِعْرَاضًا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1](وَالنِّسْيَانُ) مُشْتَرَكٌ بَيْنَ تَرْكِ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ خِلَافَ الذِّكْرِ وَتَرْكِهِ عَلَى تَعَمُّدٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ - {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237](جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ شَائِبَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِجَاهِ (خَفِيَّةٍ مِنْ) بَيَانٌ لِلشَّائِبَةِ (رِيَاءٍ أَوْ عُجْبٍ) يَعْنِي بَعْدَمَا شَرَعَ بِالْإِخْلَاصِ تَتَطَرَّقُ شَائِبَةُ الرِّيَاءِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ إمَّا بِسَبَبِ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّيَقُّظِ وَالتَّدَبُّرِ حَتَّى لَا تَتَطَرَّقَ أَوْ يَدْفَعَ وَلَا يَسْتَمِرَّ الرِّيَاءُ مَثَلًا فَإِنْ قِيلَ النِّسْيَانُ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» إذْ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ فَسَّرُوهُ بِاسْمِ الْخَطَأِ قُلْنَا هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَاطَ سَبَبُهُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النِّسْيَانِ مَا فِي الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا فِي الْبَقَاءِ فَقَلَّمَا يُوجَدُ النِّسْيَانُ بَلْ إنْ وُجِدَ يَكُونُ مِنْ قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ وَعَدَمِ اهْتِمَامِهِ وَهُوَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ.

وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِمَا أَوَّلًا؛ إذْ لَا تَمْتَنِعُ الْمُؤَاخَذَةُ بِهِمَا عَقْلًا فَإِنَّ الذُّنُوبَ كَالسَّمُومِ فَكَمَا أَنَّ تَنَاوُلَهَا مُهْلِكٌ وَإِنْ خَطَأً فَكَذَا تَنَاوُلُ الذُّنُوبِ مُفْضٍ إلَى الْعِقَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزِيمَةٌ لَكِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ بِالتَّجَاوُزِ فَضْلًا وَكَرَمًا.

(وَأَمَّا أَوْلَوِيَّةُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ أَوْ الْعَكْسُ) ظَاهِرُهُ أَرَادَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الرِّيَاءِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ سَوَاءٌ بِخَوْفِ الرِّيَاءِ أَوْ لَا وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ بَحْثِ حَالِ الرَّجَاءِ أَيْضًا (فَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ فِيهَا) أَيْ الْأَوْلَوِيَّةِ.

(قَالَ بَعْضُهُمْ) قِيلَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ خِلَافُهُ حَيْثُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ فَيَعْلَمُ أَوَّلًا الطَّرِيقَ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِ ثُمَّ يَخْلُصُ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخَافُ وَيَحْذَرُ مِنْ الْآفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ صَدَقَ ذُو النُّونِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إلَّا الْعُلَمَاءَ، وَالْعُلَمَاءُ نِيَامٌ إلَّا الْعَامِلُونَ وَالْعَامِلُونَ مُغْتَرُّونَ إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ قَالَ الْعَجَبُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ رَابِعُهَا مِنْ مُخْلِصٍ غَيْرِ خَائِفٍ أَمَا يَنْظُرُ فِي مُعَامَلَاتِهِ تَعَالَى مَعَ أَصْفِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَخِدْمَتِهِ الدَّالَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَقُولَ لِأَكْرَمِ الْخَلْقِ - {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الزمر: 65]- الْآيَاتِ حَتَّى «كَانَ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ» انْتَهَى مُلَخَّصًا.

(يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الرَّجَاءُ) عَلَى الْخَوْفِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْعَابِدَ الْمَذْكُورَ (اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ دَخَلَ) فِي الْعَمَلِ (بِإِخْلَاصٍ) كَمَا هُوَ الْكَلَامُ فِيهِ (وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ) بِعُرُوضِ نَحْوِ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ (فَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ) الشَّرْعُ نَفْسُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَالْقَوَاعِدِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَوْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّازِمَةِ لِنَفْسِ الشَّرْعِ أَوْ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ (أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ) .

قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ مَبْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنَهُ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ

ص: 181

الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ثُمَّ فَصَّلَ فِي تَوْضِيحِهِ كَلَامًا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ وَأَيْضًا الْأَصْلُ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْيَقِينُ فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ بَاقٍ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْيَقِينِ وَأَيْضًا مَنْ شَكَّ هَلْ فَعَلَ أَوْ لَا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَيُعْتَبَرُ عَدَمُ الرِّيَاءِ فِي مَسْأَلَتِنَا، لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا كُلِّيَّةً حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ أَفْرَادِ مَوْضُوعِهَا كَصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الْأَمْنُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَهُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ لِعَدَمِ جَرَيَانِهَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَمَنْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ هَلْ أَتَى بِهَا أَوْ لَا أَوْ أَحْدَثَ أَوْ لَا أَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ أَوْ لَا وَكَانَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَقْبَلَ

وَمَنْ وَجَدَ فَأْرَةً مَيْتَةً وَلَمْ يَدْرِ مَتَى وَقَعَتْ وَقَدْ تَوَضَّأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَمَنْ وَجَدَ بَلَلًا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ وَمَنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّ مَوْضِعٍ أَصَابَتْهُ غَسَلَ الْكُلَّ، وَإِنْ فِيهِ خِلَافًا وَتَمَامُهُ فِي الْأَشْبَاهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ قَطْعِيَّاتٌ وَارِدَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَأَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ إنَّمَا يُنَافِي الْقَطْعَ لَا الظَّنَّ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلَبُ ظَنِّيًّا.

وَقَالَ الْمَوْلَى حَسَنٌ جَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَنْ إبْكَارِ الْأَفْكَارِ إنَّ الْكُبْرَى الْأَكْثَرِيَّةَ الَّتِي لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً مُنْتِجَةً فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَطْلَبِ ظَنِّيًّا وَأَنَّ الْمُخْرَجَ وَإِنْ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَاقِي فَالْفَرْدُ يَلْحَقُ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ثُمَّ يَشْكُلُ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَتَأَمَّلْ

بَقِيَ أَنَّ الشَّكَّ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ وَالظَّنَّ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ وَالْوَهْمَ رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَإِ وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ، وَغَالِبُ الظَّنِّ الرَّاجِحُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الْقَلْبُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَمُطْلَقُ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ هُوَ الشَّكُّ بِمَعْنَى التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا، فَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ عَلَى ظَنِّي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لِلشَّكِّ وَغَالِبُ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ أَيْضًا (فَبِذَلِكَ) بِغَلَبَةِ رَجَاءِ الْقَبُولِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِهِ لَعَلَّ الْأُولَى وَبِغَلَبَةِ بِالْوَاوِ بَدَلَ الْفَاءِ (تَعَظُّمٌ لِذَاتِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ) لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّكِّ (وَالطَّاعَاتِ) إذْ عَدَمُ قَبُولِ الْعَمَلِ يُوجِبُ الْفُتُورَ وَالْكَسْلَانَ، وَاعْتِقَادُ قَبُولِهِ يُوجِبُ النَّشَاطَ وَالِانْبِسَاطَ وَأَنَّ إطْلَاقَاتِ الْعُمُومَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُرَجِّحُ ذَلِكَ الْجَانِبَ، وَأَنَّهُ حَسَنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ.

وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ، وَظَنُّ رَجَاءِ الْقَبُولِ مُوجِبٌ لِلْقَبُولِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ» (وَخَوْفُهُ) مِنْ زَوَالِ الْإِخْلَاصِ (لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّكِّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُكَفِّرَ) يَمْحُوَ (خَاطِرَ الرِّيَاءِ إنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ عَنْهُ) بِأَنْ عَرَضَ لَهُ (وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ) لِكَوْنِهِ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ لَعَلَّ مُنَاسَبَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لِجَانِبِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَظْهَرُ مِنْ مُنَاسَبَتِهَا هُنَا إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا بَيَانُ وَجْهِ جَانِبِ الْمَغْلُوبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَجْهُ جَانِبِ الْغَالِبِيَّةِ إذْ الْمَطْلُوبُ مُرَكَّبٌ لَا بَسِيطٌ (وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ) عَلَى الرَّجَاءِ

قِيلَ هُنَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ لَمْ يَخَفْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَخَاتِمَتَهُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ يَخَافُ عَلَى

ص: 182

فَوْتِ دِينِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى» وَرُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى» كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَالسَّنُوسِيِّ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ إذْ الْخَوْفُ هُنَا خَوْفُ الرِّيَاءِ وَالْخَوْفُ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ ذَلِكَ (حَتَّى نُقِلَ عَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ) لَعَلَّهَا مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي عَدِيٍّ قَبِيلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (حِينَ قِيلَ لَهَا بِمَ تَرْتَجِينَ) بِأَيِّ شَيْءٍ تَطْلُبِينَ رَحْمَتَهُ تَعَالَى وَرِضَاهُ (أَنَّهَا قَالَتْ بِإِيَاسِي) مِنْ الْيَأْسِ (مِنْ جُلِّ عَمَلِي) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ عَظِيمِ عَمَلِي فَعَدَمُ تَعْظِيمِ الْعَمَلِ إنَّمَا يَكُونُ بِغَلَبَةِ جَانِبِ الْخَوْفِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَوْفُ مِنْ الرِّيَاءِ سِيَّمَا الْخَفِيُّ كَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَلَالَةِ الْعَمَلِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ جَلَالَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْيَأْسَ مِنْ مُطْلَقِ الْعَمَلِ الْمُسْتَلْزِمِ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ

ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ وَقَالَ (وَاَلَّذِي عِنْدِي) فَإِنْ قِيلَ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ مِنْ أَرْبَابِ الِاجْتِهَادِ وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ كَالطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ عَلَى مَا قَالُوا فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ عَنْ رَأْيِ جُمْهُورِ الْمَشَايِخِ قُلْنَا لَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَطَالِبِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بَلْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لِلْعُلَمَاءِ الْعَامِّيَّةِ فِيهَا حَظٌّ إذْ حَاصِلُهُ هُوَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمُنْقَرِضٍ عِنْدَ مُثْبِتِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِجَالِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ نَعَمْ الْأَصَحُّ عَدَمُ تَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ (اخْتِلَافُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ) فَفِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ وَفِي بَعْضِهَا غَلَبَةُ خَوْفِهَا وَفِي شَخْصٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَغْلِبُ الْخَوْفُ فِي بَعْضٍ آخَرَ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» ؛ إذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ كَيِّسٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَقِيرَةً ذَلِيلَةً، وَالْعَاجِزُ يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ وَيَرْجُو الثَّوَابَ

فَأَقُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى تَفْسِيرِ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ «مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» أَيْ حَاسَبَهَا وَاسْتَعْبَدَهَا وَأَذَلَّهَا وَقَهَرَهَا يَعْنِي يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُطِيعَةً لِأَوَامِرِ رَبِّهَا وَيَدُومُ بِهَا وَقَوْلُهُ «وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» مِنْ الْأُمْنِيَةِ أَيْ مَعَ تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَعْتَذِرُ وَلَا يَرْجِعُ بَلْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْجَنَّةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ وَقِيلَ وَقِيلَ (فَإِنَّ الْمُبْتَدِئَ) فِي السُّلُوكِ (وَمَنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ آثَارِ الْعُجْبِ وَالْأَمْنِ) أَثَرُ الْأَمْنِ لَيْسَ نَفْسَ الْأَمْنِ فَلَا مَحْذُورَ (وَالْغُرُورِ) بِمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ فِيهِ (وَالْبَطَالَةِ) عَنْ الْعَمَلِ (يَنْبَغِي لَهُمَا)

ص: 183