الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(عَلَى كَفِّ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الزِّيَادَةَ فِي الْإِنْعَامِ وَإِنْ) بَعَثَهُ (عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ) بِالشَّرِّ (دَعَا لَهُ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ الَّتِي حَسَدَهُ فِيهَا) أَيْ لِأَجْلِ هَذِهِ النِّعْمَةِ لِيَكُونَ مَا يَفْعَلهُ مَاحِيًا لِإِثْمِ مَا سَبَقَهُ.
وَهَذِهِ هِيَ أَدْوِيَةُ الْحَسَدِ وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا إلَّا أَنَّهَا مُرَّةٌ قَطْعًا وَالنَّفْعُ فِي الدَّوَاءِ الْمُرِّ فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ لَمْ يَنَلْ حَلَاوَةَ الشِّفَاءِ.
[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ أَسْبَابُ الْحَسَدِ سِتَّةٌ]
(الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ) مِنْ الْأَرْبَعَةِ (فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهِ ثُمَّ إزَالَتِهَا) فَإِنَّهَا مَوَادُّ هَذَا الْمَرَضِ وَلَا يَنْقَمِعُ الْمَرَضُ إلَّا بِقَمْعِ الْمَادَّةِ وَلَوْ انْقَمَعَ لَمْ يَظْهَرْ كَثِيرًا (وَهِيَ) أَسْبَابُ الْحَسَدِ (سِتَّةٌ) أَوَّلُهَا تَعَزُّزٌ ثَانِيهَا تَكَبُّرٌ ثَالِثُهَا خَوْفُ فَوْتِ الْمَقْصُودِ رَابِعُهَا حُبُّ الرِّيَاسَةِ خَامِسُهَا خُبْثُ النَّفْسِ سَادِسُهَا الْحِقْدُ.
(الْأَوَّلُ التَّعَزُّزُ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايَيْنِ أَيْ التَّكَلُّفُ مِنْ الْحَاسِدِ لِلتَّرَفُّعِ وَالْعِزَّةِ عَلَى الْمَحْسُودِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَهُوَ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْهِ) الْحَاسِدُ (أَنْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَفُّعِ (فَإِذَا أَصَابَ بَعْضُ أَمْثَالِهِ) وَأَقْرَانِهِ (وِلَايَةً) رِيَاسَةً كَالْجَاهِ (أَوْ عِلْمًا أَوْ مَالًا) لَا سِيَّمَا أَكْثَرُ مِنْ عِلْمِهِ وَمَالِهِ (خَافَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُطِيقُ تَكَبُّرَهُ وَلَا تَسْمَحُ) تَقْنَعُ وَتَرْضَى (نَفْسُهُ بِاحْتِمَالِ صَلَفِهِ) ادِّعَاءُ التَّكَبُّرِ فَوْقَ مَرْتَبَتِهِ (وَتَفَاخُرِهِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ غَرَضُهُ التَّكَبُّرَ عَلَيْهِ بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ) عَنْ نَفْسِهِ (وَيَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ لَهُ وَزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ) هَذَا التَّفْصِيلُ لَمْ يَقَعْ فِي الْإِحْيَاءِ بَلْ اكْتَفَى بِمَا قَبْلَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَسَدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَمَا عَقَّبَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ الْمُنْتَحَلِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ فَلَعَلَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَ مَضْمُونَ قَوْلِهِ خَافَ أَنْ يَتَكَبَّرَ إلَخْ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْهُومَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْخَارِجِيَّاتِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْكُلُّ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ فَتَأَمَّلْ.
(فَإِنْ أَرَادَ عَدَمَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ أَوْ زَوَالِهَا) إرَادَةً (مُقَيَّدَةً بِالْإِفْضَاءِ إلَى الْكِبْرِ فَلَيْسَ يُحْسَدُ لِمَا مَرَّ) فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ نَاشِئٌ مِنْ غَيْرَةِ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ لَهُ صَلَاحٌ دِينِيٌّ (وَإِنْ) أَرَادَ عَدَمَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ أَوْ زَوَالِهَا (وَإِنْ مُطْلَقًا) عَنْ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ أَعْنِي الْإِفْضَاءَ إلَى الْكِبْرِ (فَحَسَدٌ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْفَسَادِ) وَهُوَ الْإِفْضَاءُ إلَى الْكِبْرِ وَأَيْضًا اللَّازِمُ حَمْلُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الصَّلَاحِ
(وَإِمْكَانِ التَّقْيِيدِ) بِالصَّلَاحِ فَالْإِرَادَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ عَدَمِ التَّيَقُّنِ دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْحَسَدِ فِي الْقَلْبِ فَعِلَاجُهُ التَّوَاضُعُ؛ لِأَنَّ التَّعَزُّزَ أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ شَرَفًا فِي مَرْتَبَتِهَا شَرْعًا وَعُرْفًا فَإِذَا رَآهَا أَدْنَى مِنْهَا قَلِيلًا زَالَ لَا مَحَالَةَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ.
(وَالثَّانِي التَّكَبُّرُ فَإِنَّ مَنْ فِي طَبْعِهِ التَّكَبُّرَ عَلَى إنْسَانٍ) لِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ أَرْفَعَ مِنْهُ (وَاسْتِصْغَارَهُ وَاسْتِخْدَامَهُ) وَتَوَقُّعَهُ الِانْقِيَادَ لَهُ وَالْمُتَابَعَةَ فِي أَغْرَاضِهِ (فَإِذَا نَالَ) ذَلِكَ الْإِنْسَانُ (نِعْمَةً خَافَ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَمَا فِي نُسْخَةِ الْإِحْيَاءِ أَنْ لَا يَحْتَمِلَ (تَكَبُّرَهُ وَيَتَرَفَّعَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ) بَلْ رُبَّمَا يَتَشَوَّفُ إلَى مُسَاوَاتِهِ أَوْ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَيْهِ فَيَعُودَ مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ هُوَ مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ (فَيُرِيدُ زَوَالَهَا) أَيْ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِإِجْرَاءِ غَرَضِهِ.
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ وَمِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَزُّزِ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ قَالُوا كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ لَهُ رُءُوسَنَا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أَيْ كَانَ لَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لَهُ وَنَتَّبِعَهُ إنْ كَانَ عَظِيمًا (وَعِلَاجُهُ سَبَقَ) يَعْنِي أَلْزَمَ نَفْسَهُ التَّوَاضُعَ لَهُ وَالِاعْتِذَارَ إلَيْهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ وَقِيلَ يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ قَضِيَّةِ الْحَسَدِ بِالْعَمَلِ بِضِدِّهِ مُجَاهَدَةً لِنَفْسِهِ وَمُخَالَفَةً لَهَا وَلِأَنَّهُ صَارَ كِبْرًا فَعِلَاجُهُ عِلَاجُهُ.
(وَالثَّالِثُ) خَوْفُ (سَبَبِيَّةِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ) مِنْ نَحْوِ الْفَضْلِ وَالْكِمَالَاتِ دُنْيَوِيًّا أَوْ دِينِيًّا (لِفَوْتِ مَقْصُودِهِ) مِنْ نَحْوِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْإِحْسَانِ وَحُصُولِ الْأَمَانِي وَالْأَعْرَاضِ لِلْمُمَانَعَةِ بَيْنَ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ فِي الْحَاسِدِ وَفِي الْمَحْسُودِ كُلًّا أَوْ بَعْضَهُ وَحَاصِلُهُ طَلَبُ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ لِمَنْفَعَةٍ أَوْ تَرْجِيحِ نَفْعِهِ عَلَى نَفْعِ الْغَيْرِ (وَذَلِكَ) السَّبَبُ (يَخْتَصُّ بِمُتَزَاحِمِينَ) مُتَجَاذِبِينَ (عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ) يَعْنِي يَطْلُبُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ (فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ) مِنْهُمَا (يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ يَكُونُ زَوَالُهَا عَنْهُ) عَنْ صَاحِبِهَا (عَوْنًا لَهُ فِي الِانْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ) فَوُجُودُ النِّعْمَةِ فِي الْمَحْسُودِ مُنَافٍ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْحَاسِدِ كُلًّا أَوْ بَعْضَهَا (فَهَذَا الْحَسَدُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَمْثَالِ وَالْأَقْرَانِ كَالضَّرَّاتِ) سُمِّيَتْ بِالضَّرَّةِ لِطَلَبِ كُلٍّ مِنْهُمَا ضَرَرَ الْأُخْرَى أَوْ تَكُونُ فِي ضَرَرِهَا (وَالْإِخْوَةِ) وَكَذَا الْأَخَوَاتُ (يَقْصِدُونَ الْمَنْزِلَةَ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ) لِيَتَوَجَّهَ وَيُحْسِنَ إلَيْهَا دُونَ الْأُخْرَى (وَالْأَبَوَيْنِ) فَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي لِلتَّوَصُّلِ إلَى مَقَاصِدِ الْكَرَامَةِ وَالْإِحْسَانِ (وَتَلَامِذَةِ) وَالْأَوْفَقُ وَتِلْمِيذِي (أُسْتَاذٍ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْعِلْمِ وَبِالْمُهْمَلَةِ فِي الصَّنَائِعِ كَمَا فِي بَعْضِ كُتُبِ ابْنُ الْكَمَالِ وَقَدْ يُقَالُ بِالْعَكْسِ وَبِعَدَمِ الْفَرْقِ (وَاحِدٍ وَمُرِيدِي) سُمِّيَ الْمُرِيدُ مُرِيدًا لِإِرَادَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ مِنْ التَّفْرِيحِ فِي أَوْطَانِ الْغَفْلَةِ وَالرُّكُونِ إلَى أَتْبَاعِ الشَّهْوَةِ وَتَرْكِ مَا دَعَتْ إلَيْهِ الْمُنْيَةُ بِالْتِزَامِ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَحَمُّلِ الْمُكَابَدَاتِ وَالْمَصَاعِبِ وَالْمَتَاعِبِ وَمُعَالَجَةِ الْأَخْلَاقِ وَمُمَارَسَةِ الْأَشْوَاقِ وَقَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْمُرِيدِينَ التَّحَبُّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ وَالْخُلُوصُ فِي نَصِيحَةِ الْأُمَّةِ وَالْأُنْسُ بِالْخَلْوَةِ وَالصَّبْرُ عَلَى مُقَاسَاةِ الْأَحْكَامِ وَالْإِيثَارُ لِأَمْرِهِ وَالْحَيَاءُ مِنْ نَظَرِهِ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي مَحْبُوبِهِ وَالتَّعَرُّضُ لِكُلِّ سَبَبٍ يُوصِلُ إلَيْهِ وَالْقَنَاعَةُ بِالْخُمُولِ وَعَدَمُ الْقَرَارِ بِالْقَلْبِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الرَّبِّ وَفِيهَا أَيْضًا إذَا رَأَيْت الْمُرِيدَ يَشْتَغِلُ بِالرُّخْصِ وَالْكَسْبِ فَلَيْسَ يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ فَالْمُرِيدُ الْمُبْتَدِئُ وَالْمُرَادُ الْمُنْتَهَى وَالْمُرِيدُ يَسِيرُ وَالْمُرَادُ يُسَارُ بِهِ وَالْمُرِيدُ يُرَاعِي سِيَاسَةَ الْعِلْمِ وَالْمُرَادُ يَتَوَلَّاهُ رِعَايَةُ الْحَقِّ، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا (شَيْخٍ وَاحِدٍ) فِي سُلُوكِ الطَّرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ (وَنُدَمَاءِ الْمَلِكِ) جَمْعُ نَدِيمٍ بِمَعْنَى صَاحِبٍ (وَخَوَاصِّهِ) مِثْلُ وُزَرَائِهِ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ
(وَوُعَّاظِ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ) إذَا كَانَ أَغْرَاضُهُمْ جَمْعَ الْمَالِ أَوْ الْمَقْبُولِيَّةَ أَوْ حُصُولَ الْأَمَانِي (وَطُلَّابِ وِلَايَةٍ) كَوَالِي وِلَايَةٍ (وَقَضَاءٍ) مَنْصِبٍ مُعَيَّنٍ (وَتَدْرِيسِ) مَدْرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ (وَتَوْلِيَةِ أَوْقَافٍ أَوْ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهَا) أَيْ جِهَاتِ الْأَوْقَافِ يَشْكُلُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ مِنْ هَذَا السَّبَبِ وَنَحْوِهِ مُجَرَّدَ مَا فِي الْقَلْبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ ظَاهِرِ عِبَارَتِهِ فَلَيْسَ بِمُوَافِقٍ لِمُخْتَارِهِ وَأَنَّ وَافَقَ مُخْتَارَ الْغَزَالِيِّ كَمَا سَبَقَ وَإِنْ أَرَادَ الثَّمَرَةَ وَالْأَثَرَ فِي الْجَوَارِحِ فَالْوِزْرُ لَهُ لَا لِلْحَسَدِ وَالْكَلَامُ فِيمَا لِلْحَسَدِ إلَّا أَنْ يُقَالَ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْأَثَرِ فِي اللِّسَانِ أَوْ فِي الْجَوَارِحِ يَكُونُ لِمَا فِي الْقَلْبِ وِزْرُ غَيْرُ مَا فِي الْجَوَارِحِ فَتَأَمَّلْ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْحَسَدُ لِأَجْلِ حَسَدِ الْمَحْسُودِ لِلْحَاسِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَسَدًا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْإِفْضَاءِ إلَى الْحَسَدِ كَالْإِفْضَاءِ إلَى الْكِبْرِ فِي التَّعَزُّزِ لِلْمُشَارَكَةِ فِي الْعِلَّةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَرْقَ تَحَكُّمٌ. (وَمَآلُهُ) أَيْ مَآلُ السَّبَبِ الثَّالِثِ (حُبُّ الْمَالِ) فِي الْبَعْضِ (أَوْ الرِّيَاسَةِ) فِي الْآخِرَةِ فَعِلَاجُهُ عِلَاجُهُمَا وَعِلَاجُ الْأَوَّلِ سَيَأْتِي وَعِلَاجُ الثَّانِي سَبَقَ مِنْ كَوْنِهِ كَمَالًا وَهْمِيًّا وَغَيْرَ ذَلِكَ.
(وَالرَّابِعُ)(مُجَرَّدُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ) لَعَلَّ التَّقْيِيدَ بِالْمُجَرَّدِ لِلْفَرْقِ عَمَّا قَبْلَهُ فَافْهَمْ (كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنْ الْفُنُونِ) لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْفَنِّ هُنَا مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ نَوْعِ الْعُلُومِ بَلْ أَعَمُّ مِنْهُ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِالْمَعْنَى كَمَا يَشْهَدُ لَهُ مَا فِي آخِرِ الْكَلَامِ. (وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُبُّ الثَّنَاءِ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَدَلُهُ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الثَّنَاءِ فَرِحَ بِمَا يُمْدَحُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ وَحِيدُ الدَّهْرِ وَفَرِيدُ الْعَصْرِ فِي فَنِّهِ (فَإِذَا سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ) أَيْ فِي عَالَمٍ يُمْكِنُ مُزَاحَمَةُ رِيَاسَتِهِ أَوْ يُضْعِفُهَا لَا فِي غَايَةِ بُعْدٍ كَالْهِنْدِ وَالْيَمَنِ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ (سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَحَبَّ مَوْتَهُ وَ) أَحَبَّ (زَوَالَ النِّعْمَةِ الَّتِي بِهَا) أَوْ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ (يُشَارِكُهُ) أَيْ يُشَارِكُ الْحَاسِدُ الْمَحْسُودَ (فِي الْمَنْزِلَةِ مِنْ شَجَاعَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ) مِنْ الصَّنَائِعِ (أَوْ جَمَالٍ أَوْ ثَرْوَةٍ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ كَثْرَةُ مَالِهِ وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا السَّبَبِ عَدَاوَةٌ وَلَا تَعَزُّزٌ وَلَا تَكَبُّرٌ عَلَى الْمَحْسُودِ وَلَا خَوْفٌ مِنْ فَوَاتِ مَقْصُودِهِ سِوَى تَمَحُّضِ الرِّيَاسَةِ بِدَعْوَى الِانْفِرَادِ وَمِنْهُ إنْكَارُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِيفَةَ بُطْلَانِ رِيَاسَتِهِمْ. (وَالْخَامِسُ خُبْثُ النَّفْسِ وَشُحُّهَا بِالْخَيْرِ) أَيْ بُخْلُهَا مَعَ الْحِرْصِ (لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى) حَاصِلُهُ إرَادَةُ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ وَضَرَرِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَدَفْعِ مَضَرَّتِهِ بَلْ لِمُجَرَّدِ خُبْثِ نَفْسِهِ (فَإِنَّك) أَيُّهَا النَّاظِرُ الْمُمْتَحِنُ (تَجِدُ مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِرِيَاسَةٍ وَتَكَبُّرٍ وَطَلَبِ مَالٍ) مَثَلًا (إذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِ عَبْدٍ) أَيَّ عَبْدٍ كَانَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَحُسْنِ حَالِهِ عَلَاقَةٌ مُمَانِعَةٌ نَفْعَهُ وَدَفْعَ مَضَرَّتِهِ. (فِي نِعْمَةٍ يَشُقُّ) مِنْ الْمَشَقَّةِ (عَلَيْهِ ذَلِكَ) أَيْ حُسْنُ الْحَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةٍ مُقْتَضِيَةٍ لِذَلِكَ (وَإِذَا وُصِفَ لَهُ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ) كَإِصَابَةِ الْبَلْوَى وَالْمَكَارِهِ (وَإِدْبَارُهُمْ وَفَوَاتُ مَقَاصِدِهِمْ) وَعَدَمُ الْوُصُولِ إلَى مَرَامِهِمْ وَبُطْلَانُ سِعَايَتِهِمْ وَتَضْيِيقُ عَيْشِهِمْ (فَرِحَ بِهِ فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ) أَيْ إدْبَارَ النِّعَمِ (لِغَيْرِهِ وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ) كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ خِزَانَتِهِ وَمِلْكِهِ، وَيُقَالُ الْبَخِيلُ مَنْ يَبْخَلُ بِمَالِ نَفْسِهِ وَالشَّحِيحُ مَنْ يَبْخَلُ بِمَالِ غَيْرِهِ فَهَذَا يَبْخَلُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل عَلَى عِبَادِهِ (الَّذِينَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ وَلَا رَابِطَةٌ) عَلَاقَةٌ مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ بَلْ لِمُجَرَّدِ خُبْثٍ فِي النَّفْسِ وَرَذَالَةٍ فِي الطَّبْعِ كَمَا قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعْمَتِي وَعَنْ
مُعَاوِيَةَ كُلُّ إنْسَانٍ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ أُرْضِيَهُ إلَّا الْحَاسِدَ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ إلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ الْحَاسِدِ غَمٌّ دَائِمٌ وَنَفْسٌ مُتَتَابِعٌ وَقِيلَ إذَا رَأَى الْحَاسِدُ نِعْمَةً بُهِتَ وَإِذَا رَأَى عَثْرَةً شَمِتَ وَقِيلَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَلِّطَ عَلَى عَبْدٍ عَدُوًّا لَا يَرْحَمُهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ حَاسِدًا (وَهَذَا أَخْبَثُ الْحَسَدِ وَأَعْسَرُهُ إزَالَةً وَعِلَاجًا؛ لِأَنَّهُ طَبْعٌ وَجِبِلَّةٌ) بِخِلَافِ سَائِرِ أَسْبَابِ الْحَسَدِ؛ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ يُتَصَوَّرُ زَوَالُهَا فَيَطْمَعُ فِي إزَالَتِهَا، وَهَذَا خُبْثٌ جِبِلِّيٌّ فَهُوَ (يَكَادُ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ زَوَالُهُ) قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ فَتَعْسُرُ إزَالَتُهُ إذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ إزَالَتُهُ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّكَلُّفِ بِإِزَالَةِ الْحَسَدِ الْمُتَسَبَّبِ عَنْ هَذَا السَّبَبِ لِكَوْنِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ أَيْضًا وَأَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ جَوَازِ تَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ وَمُوَافِقٌ لِبَعْضِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الِامْتِنَاعِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ يَعْنِي وَإِنْ فَرَّطَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ طَبْعُهُ فَمَا هُوَ إلَّا كَطَيْفِ مَنَامٍ أَوْ بَرِيقٍ لَاحَ وَحَالُ الْمُتَطَبِّعِ كَالْجِرَاحِ يَنْدَمِلُ عَلَى فَسَادٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْبَعِثَ عَنْ فَتْقٍ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ثُمَّ قَالَ، وَهَذَا الْخَبَرُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لَا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ قُلْنَا التَّمَسُّكُ لَنَا فِي أَمْثَالِهِ إنَّمَا هُوَ بِأَقْوَالِ عُلَمَائِنَا وَاتِّخَاذِ مَذَاهِبِهِمْ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَدِيثِ تَأْوِيلٌ أَوْ تَخْصِيصٌ أَوْ مُعَارِضٌ قَوِيٌّ مَثَلًا وَلَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِمْ أَنَّهُمْ اطَّلَعُوا وَعَرَفُوا مَقْصِدَ الْحَدِيثِ وَقَدْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْخُلُقُ تَارَةً لِلْقُوَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَتَارَةً يَجْعَلُهُ اسْمًا لِلْحَالَةِ الْمُكْتَسَبَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْإِنْسَانُ خَلِيقًا أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ وَتَارَةً يُجْعَلُ الْخُلُقُ مِنْ الْخَلَاقَةِ أَيْ الْمُلَامَسَةِ فَجَعَلَ الْخُلُقَ مَرَّةً لِلْهَيْئَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّفْسِ الَّتِي يَصْدُرُ عَنْهَا الْفِعْلُ بِلَا فِكْرٍ وَمَرَّةً اسْمًا لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ عَنْهَا بِاسْمِهِ وَعَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءُ أَنْوَاعِهَا مِنْ نَحْوِ عِفَّةٍ وَعَدَالَةٍ وَشَجَاعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْهَيْئَةِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا انْتَهَى فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْقُوَّةِ الْكَيْفِيَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ قُلْنَا فَكَذَا فِي الْجَمِيعِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ. وَتَفْصِيلُ الْبَحْثِ حِينَئِذٍ إنْ أُرِيدَ مِنْ هَذَا الْحَدِّ أَصْلُ الطَّبِيعَةِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ بَلْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي أُصُولِ سَائِرِ الْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ كَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ أُرِيدَ الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا مِنْ الطَّبِيعَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فَلَا يَسْتَحِيلُ زَوَالُهُ أَقُولُ التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّانِي وَالْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ الْعَادِيَّةِ هُوَ الِاسْتِحَالَةُ بِحَسَبِ عَادَةِ النَّاسِ لَا بِحَسَبِ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى غَايَتُهُ أَنَّ زَوَالَهُ عُسْرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّائِرِ إلَيْهِ قَوْلُهُ أَعْسَرَ وَقَوْلُهُ يَكَادُ فَفِي التَّعْبِيرِ مُبَالَغَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَتَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
(وَالسَّادِسُ) وَهُوَ آخِرُ الْأَسْبَابِ (الْحِقْدُ وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) اعْلَمْ أَنَّ الْغَزَالِيَّ جَعَلَ الْأَسْبَابَ السَّبْعَةَ وَجَعَلَ أَحَدَهَا التَّعَجُّبَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] فَتَعَجَّبُوا مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ فَحَسَدُوا وَأَرَادُوا زَوَالَ نِعْمَةِ الرِّسَالَةِ عَنْهُمْ لِخَوْفِ تَفْضِيلِ مِثْلِهِمْ عَلَيْهِمْ وَأَيْضًا عَبَّرَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَدَلَ الْحِقْدِ هُنَا لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَبَرَ رُجُوعَ التَّعَجُّبِ إلَى أَحَدِ السِّتَّةِ كَالتَّعَزُّزِ وَالْحِقْدِ وَأَنَّ الْبُغْضَ أَثَرُ الْحِقْدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَأَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ اسْتِيفَاءُ مَبَاحِثِ الْحِقْدِ.
وَالْحِقْدُ خَصْلَةٌ ذَمِيمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهِ بِخِلَافِ غَرَضِ الْإِمَامِ كَمَا يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِحْيَاءِ (وَفِيهِ ثَلَاثُ مَقَالَاتٍ) فِي تَفْسِيرِهِ وَغَوَائِلِهِ وَأَسْبَابِهِ (الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِهِ وَحُكْمُهُ وَهُوَ) أَيْ تَفْسِيرُهُ (أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ اسْتِثْقَالَ أَحَدٍ وَالنِّفَارَ عَنْهُ) بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ النُّفْرَةِ
(وَالْبُغْضَ لَهُ وَإِرَادَةَ الشَّرِّ) وَزِيدَ فِي الْإِحْيَاءِ وَأَنْ يَدُومَ ذَلِكَ وَيَبْقَى (وَحُكْمُهُ) شَرْعًا (إنْ لَمْ يَكُنْ بِظُلْمٍ) فِي مَالِهِ وَبَدَنِهِ وَعِرْضِهِ (أَصَابَهُ مِنْهُ) مِنْ الْحَقُودِ عَلَيْهِ (بَلْ بِحَقٍّ وَعَدْلٍ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَحَرَامٌ) ؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ وَحِينَئِذٍ انْقِيَادُهُ وَالْإِطَاعَةُ إلَيْهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ صِيَانَةٌ وَوِقَايَةٌ مُوجِبٌ لِلْحُبِّ لَا الْحِقْدِ (وَإِنْ كَانَ بِهِ) أَيْ إنْ كَانَ الْحِقْدُ بِسَبَبِ ظُلْمٍ أَصَابَهُ مِنْهُ (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ) لِعُتُوِّ الظَّالِمِ وَرِيَاسَتِهِ وَكَوْنِ الْمَظْلُومِ مِنْ أَخِسَّاءِ النَّاسِ (فَلَهُ التَّأْخِيرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هَذَا الْإِطْلَاقُ وَإِنْ سَلِمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْعَرْضِيَّةِ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَالِيَّةِ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَفْصِيلًا
وَفِي قَاضِي خَانْ رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَمَاتَ الطَّالِبُ وَلَمْ يُؤَدِّ الْمَدْيُونُ الدَّيْنَ إلَى وَارِثِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلطَّالِبِ وَفِي الْمُنْيَةِ رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ فَمَنَعَهُ ظُلْمًا فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَالْخُصُومَةُ فِي الظُّلْمِ بِالْمَنْعِ لِلْمَيِّتِ وَفِي الدَّيْنِ لِلْوَارِثِ هُوَ الْمُخْتَارُ وَفِي الْخُلَاصَةِ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ فَمَنَعَهُ ظُلْمًا فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ لَا يَكُونُ لِلْأَوَّلِ حَقُّ الْخُصُومَةِ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَقَدْ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ وَفِي صُلْحِ النَّوَازِلِ لَوْ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ جَاحِدٌ فَالْأَجْرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَوَاءً اسْتَحْلَفَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ وَلَوْ قَضَى وَرَثَتَهُ بَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ وَفِي بَعْضِ الْفَتَاوَى إنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءٌ بِالْقَاضِي أَوْ الْوَالِي فَأَهْمَلَ وَأَخَّرَ إلَى الْآخِرَةِ فَيُنْقَلُ إلَى الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَلَا بَلْ لِلطَّالِبِ وَقِيلَ ثَوَابُ وِزْرِ الْأَذَى فِي عَدَمِ الْإِعْطَاءِ لِلطَّالِبِ وَثَوَابُ نَفْسِ الْمَالِ لِلْوَرَثَةِ وَقِيلَ هُنَا مِثْلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ بِطَرِيقِ الْحَقِّ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَإِلَّا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ فَلِلطَّالِبِ فَقَطْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ
أَقُولُ فِي دَلَالَةِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خَفَاءٌ وَلَا بُدَّ لِمَا فَصَّلَهُ مِنْ بَيَانٍ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا حَدِيثًا لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَفِي تَقْرِيبِهِ أَيْضًا خَفَاءٌ (وَ) لَهُ (الْعَفْوُ وَهُوَ أَفْضَلُ) مِنْ التَّأْخِيرِ إلَى الْآخِرَةِ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ أَخْذُ الْحَقِّ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ هُوَ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ بِالصَّدَقَةِ وَالْعَفْوُ هُوَ أَفْضَلُ وَالظُّلْمُ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّهُ هُوَ الْجَوْرُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَرَاذِلِ وَالْفَضْلُ إحْسَانُ الصِّدِّيقِينَ وَالْعَدْلُ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الصَّالِحِينَ وَسَيُشِيرُ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وَالتَّقْوَى جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ أَيْ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ كَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ بَيْنَكُمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شِفَائِهِ وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَهَذَا مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ « {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جَبْرَائِيلَ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ. ثُمَّ ذَهَبَ وَأَتَاهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك» وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَذَى إلَّا صَبْرًا وَعَلَى إسْرَافِ الْجَاهِلِ إلَّا حِلْمًا أَيْ عَفْوًا.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَدِيدًا وَقَالُوا لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ، فَقَالَ إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْت دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» اُنْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ وَغَايَةِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ إذَا لَمْ يَقْتَصِرْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ. ثُمَّ شَفِقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَدَعَا وَشَفَعَ لَهُمْ، فَقَالَ اهْدِ، ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِقَوْلِهِ قَوْمِي، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ إنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] آخِرُ الْآيَةِ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] عَنْ تَفْسِيرِ الْعُيُونِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] أَيْ لِيُعْرِضُوا عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَفْوِ فَيَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ وَلَوْ الْتِزَامًا {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] قِيلَ أَيْ إذَا عَفَوْتُمْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْآيَاتِ هُوَ الدَّالَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْعَفْوِ، وَاللَّازِمُ مِنْ بَعْضِهَا هُوَ أَصْلُ الْعَفْوِ لَا أَفْضَلِيَّتُهُ فَافْهَمْ.
(م) مُسْلِمٌ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» قَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ هَذِهِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ مَا نَقَصَتْ مَالًا وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً لَنَقَصَتْ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا نَقَصَتْ شَيْئًا مِنْ مَالٍ فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ فِيهِ وَدَفْعِ الْمُفْسِدَاتِ عَنْهُ وَالْإِخْلَافِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَجْدَى وَأَنْفَعُ وَأَكْثَرُ وَأَطْيَبُ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]- أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِإِجْزَالِ الْأَجْرِ وَتَضْعِيفِهِ أَوْ فِيهِمَا وَذَلِكَ جَابِرٌ لِأَوْصَافِ ذَلِكَ النَّقْصِ بَلْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْكُمَّلِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ نَقْصًا.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَهَا فَلَمْ تَنْقُصْ قَالَ وَأَنَا وَقَعَ لِي ذَلِكَ وَقَوْلُ الْكَلَابَاذِيِّ قَدْ يُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الْفَرْضُ وَبِإِخْرَاجِهَا لَمْ تُنْقِصْ مَالَهُ لِكَوْنِهَا دُنْيَا فِيهِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى كَذَا فِي الْفَيْضِ فَحَمْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ هُنَا عَلَى الْفَرْضِ بَعِيدٌ.
(وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ) أَيْ بِسَبَبِ عَفْوِهِ (إلَّا عِزًّا) فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَعْظُمَ ثَوَابُهُ أَوْ فِيهِمَا (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى) بِأَنْ يُثْبِتَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ بِتَوَاضُعِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَ النَّاسِ وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَرِيرِ خُلْدٍ لَا يَفْنَى وَمِنْبَرِ مُلْكٍ لَا يَبْلَى وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي تَحَمُّلِ مُؤَنِ خَلْقِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ مَا يَرْفَعُهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ مِمَّنْ دُونَهُ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ مَدْخُولَ طَاعَاتِهِ وَنَفَعَهُ بِقَلِيلِ حَسَنَاتِهِ وَزَادَ رِفْعَةَ دَرَجَاتِهِ وَحَفَظَهُ بِمُعَقِّبَاتِ رَحْمَتِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ بِالْمَالِ وَمُتَابَعَةَ السَّبُعِيَّةِ مِنْ إيثَارِ الْغَضَبِ
وَالِانْتِقَامِ وَالِاسْتِرْسَالِ بِالْكِبْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الشَّيْطَنَةِ فَأَرَادَ الشَّارِعُ أَنْ يُقْلِعَهَا فَحَثَّ أَوَّلًا عَلَى الصَّدَقَةِ لِيَتَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالْكَرَمِ. وَثَانِيًا عَلَى الْعَفْوِ لِيَتَعَزَّزَ بِالْحُكْمِ وَالْكَرَمِ. وَثَالِثًا عَلَى التَّوَاضُعِ لِيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ الْعَفْوَ سَبَبٌ لِعِزَّةِ الدَّارَيْنِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَفْضَلِيَّةُ الْعَفْوِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَالْآيَاتِ وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذْ الْمُطْلَقُ سَاكِتٌ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ وَالْعَامَّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ أَنْ يَدَّعِيَ حُصُولَ الْمُسَوَّرَةِ الْكُلِّيَّةِ مِنْهَا فَالْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ ضَمِّ صُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ أَوْ الْمَقَامُ ظَنِّيٌّ وَظَنُّ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا ظَاهِرٌ. (وَإِنْ قَدَرَ) عَلَى أَخْذِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ (فَلَهُ الْعَفْوُ أَيْضًا) كَمَا إذَا لَمْ يَقْدِرْ (وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْعَفْوِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْعَفْوِ مَعَ الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ لِعَجْزِ ذَلِكَ عَنْ الْأَخْذِ حَالًا وَأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ مُعَاذٍ عَنْ تَخْرِيجِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَصْفَحَ عَمَّنْ ظَلَمَك.
قَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ فَكَانَ أَفْضَلَ. أَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِكِلَا النَّوْعَيْنِ فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ وَقَفَ عَلَى مَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ فَتَأَمَّلْ.
قَالَ الرَّاغِبُ فَالْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَك نِهَايَةُ الْحِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَإِعْطَاءِ مَنْ حَرَمَك نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ قَابَلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِقَصْرِ وَصْفِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ ادِّعَاءً وَمُبَالَغَةً وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الْخُلُقِ صَيْرُورَةُ الْعَدُوِّ خَلِيلًا أَوْ صَيْرُورَتُهُ قَتِيلًا وَيُنَكَّلُ بِسِهَامِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَنْكِيلًا.
قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ رَأَيْت فِي الْإِنْجِيلِ قَالَ عِيسَى لَقَدْ قِيلَ لَكُمْ مِنْ قَبْلُ إنَّ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالْآنَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَقَابَلُوا الشَّرَّ بِالشَّرِّ مَنْ ضَرَبَ خَدَّك الْأَيْمَنَ فَحَوِّلْ إلَيْهِ الْأَيْسَرَ وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ إزَارَك.
(تَنْبِيهٌ)
قَالَ بَعْضُهُمْ رَأَى ابْنُ الْحَطَّابِ شَيْخُ ابْنِ عَرَبِيٍّ رَبَّهُ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا آخُذُهُ عَنْك بِلَا وَاسِطَةٍ، فَقَالَ يَا ابْنَ الْحَطَّابِ مَنْ أَحْسَنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ فَقَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ شُكْرًا وَمَنْ أَسَاءَ إلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَقَدْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَقَالَ يَا رَبِّ حَسْبِي، فَقَالَ حَسْبُك كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَ) مِنْ (الِانْتِصَارِ أَيْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ) أَيْ الِانْتِصَارُ (الْعَدْلُ الْمَفْضُولُ) وَقَدْ عَرَفْت قَرِيبًا مَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْعَدْلَ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْفَضْلَ إحْسَانُ الصِّدِّيقِينَ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (لَكِنْ قَدْ يَكُونُ) الْعَدْلُ (أَفْضَلَ مِنْ الْعَفْوِ بِعَارِضٍ) مُوجِبٍ لِذَلِكَ (مِثْلِ كَوْنِ الْعَفْوِ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ ظُلْمِهِ) لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ لِلْعَجْزِ (وَ) كَوْنُ (الِانْتِصَارِ) سَبَبًا (لِتَقْلِيلِهِ أَوْ هَدْمِهِ) إذَا كَانَ الْحَقُّ قِصَاصًا مَثَلًا (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْعَوَارِضِ مِثْلِ كَوْنِهِ عِبْرَةً لِلْغَيْرِ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا اقْتَصَّ وَرَثَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَاتِلِهِ ابْنِ مُلْجِمٍ بَعْدَمَا أَوْصَى بِالْعَفْوِ حَيْثُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ وَحُمِلَ إلَى مَنْزِلِهِ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَغَدًا مُفَارِقُكُمْ إنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَهُوَ حَسَنَةٌ لَكُمْ فَاعْفُوا {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وَاَللَّهُ مَا فَجَأَنِي مِنْ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْته وَلَا طَالِعٌ أَنْكَرْته {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198](وَإِنْ زَادَ) عَلَى حَقِّهِ.
(فَجَوْرٌ وَظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سُورَةِ الشُّورَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] أَيْ اقْتَصَّ {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] إلَى الْأُمُورِ) بِالْمُعَاتَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42]
يَبْدَءُونَهُمْ بِالْإِضْرَارِ وَيَطْلُبُونَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ تَجَبُّرًا عَلَيْهِمْ {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] أَيْ يَتَكَبَّرُونَ فِيهَا تَجَبُّرًا وَفَسَادًا {أُولَئِكَ} [الشورى: 42] الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42] عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ {وَلَمَنْ صَبَرَ} [الشورى: 43] عَلَى الْأَذَى {وَغَفَرَ} [الشورى: 43] لِمَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَنْتَصِرْ أَوْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الَّذِي ذُكِرَ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمَغْفِرَةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أَيْ مِنْ مَعْزُومَاتِهَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 8] أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ {شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 8] أَيْ شِدَّةُ بُغْضِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ {عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] أَيْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ بِالْمُثْلَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ بَلْ الْتَزِمُوا الْعَدْلَ مَعَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ. وَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ مُفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يَعْنِي لَيْسَ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ وَمِنْ قَوْلِهِ وَيَبْغُونَ إلَى آخِرِهِ وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَتَأَمَّلْ.
قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَعَزُّ عَلَيْك قَالَ الَّذِي إذَا قَدَرَ عَفَا، وَلِذَلِكَ سُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ أَعَزُّ النَّاسِ قَالَ الَّذِي يَعْفُو إذَا قَدَرَ اُعْفُوا يُعِزَّكُمْ اللَّهُ. وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمٍ فَقَدْ انْتَصَرَ.
وَعَنْ جَابِرٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إيمَانٍ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ وَزُوِّجَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ حَيْثُ شَاءَ مَنْ أَدَّى حَقًّا وَقَرَأَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] عَشْرَ مَرَّاتٍ وَعَفَا عَنْ قَاتِلِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَوْ إحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ إحْدَاهُنَّ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغْضِبَ عَبْدًا قَيَّضَ لَهُ مَنْ يَظْلِمُهُ. وَقِيلَ إنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَكِنْ أُعْطِيَ مَا أُعْطِيَ بِأَرْبَعٍ إذَا قَدَرَ عَفَا وَإِذَا وَعَدَ وَفَّى وَإِذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَلَا يَجْمَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّنْبُ عَظِيمًا ازْدَادَ الْعَفْوُ فَضْلًا. وَرُوِيَ أَنَّ زِيَادًا قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ الْخَوَارِجِ إنْ جِئْت بِأَخِيك وَإِلَّا أَضْرِبُ عُنُقَك، فَقَالَ أَرَأَيْت إنْ جِئْتُك بِكِتَابٍ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تُخَلِّي سَبِيلِي قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنْ أَتَيْتُك بِكِتَابٍ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَأُقِيمُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَتَلَا {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]{أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]-، فَقَالَ زِيَادٌ خَلُّوا سَبِيلَهُ وَقَالَ هَذَا رَجُلٌ لُقِّنَ حُجَّتَهُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ أَتَيْنَا مَنْزِلَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ لَيْلًا وَجَاءَ الْحَسَنُ وَهُوَ خَائِفٌ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ مَعَ الْحَسَنِ فَذَكَرَ الْحَسَنُ قِصَّةَ يُوسُفَ عليه السلام وَمَا فَعَلَ مَعَهُ إخْوَتُهُ مِنْ مَنْعِهِمْ لَهُ وَطَرْحِهِمْ لَهُ فِي الْجُبِّ، فَقَالَ بَاعُوا أَخَاهُمْ وَأَحْزَنُوا أَبَاهُمْ، وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ وَمِنْ الْحَبْسِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ إذَنْ لَهُ رَفَعَ ذِكْرَهُ وَأَعْلَى كَعْبَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَمَاذَا صَنَعَ حِينَ أَكْمَلَ لَهُ أَمْرَهُ وَجَمَعَ لَهُ أَهْلَهُ قَالَ {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] فَعَرَضَ بِالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ عَنْ أَصْحَابِهِ قَالَ الْحَكَمُ وَأَنَا أَقُولُ {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] .
(الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي غَوَائِلِهِ) أَيْ الْحِقْدِ (وَهِيَ إحْدَى عَشَرَ) . أَوَّلُهَا حَسَدٌ.
ثَانِيهَا: شَمَاتَةٌ.
ثَالِثُهَا: هَجْرٌ.
رَابِعُهَا: اسْتِصْغَارٌ.
خَامِسُهَا: كَذِبٌ.
سَادِسُهَا: غِيبَةٌ.
سَابِعُهَا: إفْشَاءُ سِرٍّ.
ثَامِنُهَا: اسْتِهْزَاءٌ.
تَاسِعُهَا: إيذَاءٌ.
عَاشِرُهَا: مَنْعُ حَقٍّ.
حَادِي عَشَرَ: هُنَا مَنْعُ مَغْفِرَةٍ.
(الْأَوَّلُ الْحَسَدُ وَالثَّانِي الشَّمَاتَةُ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَايَا أَيْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالضَّحِكِ بِهِ وَهِيَ) الشَّمَاتَةُ.
(السَّابِعَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (ت) التِّرْمِذِيُّ قَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ (وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ» أَيْ السُّرُورَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُصِيبَةِ «بِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى» حَيْثُ زَكَّيْت نَفْسَك وَرَفَعْت مَنْزِلَتَك وَشَمَخْت بِنَفْسِك وَشَمَتَ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» بَدَلَ «فَيُعَافِيَهُ» «وَيَبْتَلِيَكَ» ، وَهَذَا مَعْدُودٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ
(تَنْبِيهٌ)
أَخَذَ قَوْمٌ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ فِي الشَّمَاتَةِ بِالْعَدُوِّ غَايَةً فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ نَعَمْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُ لَا مَلَامَ بِالْفَرَحِ بِمَوْتِ الْعَدُوِّ وَمِنْ حَيْثُ انْقِطَاعُ شَرِّهِ عَنْهُ وَكِفَايَةُ ضَرَرِهِ كَمَا فِي الْفَيْضِ ثُمَّ إنَّهُ قِيلَ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعِ
وَالْقَزْوِينِيُّ أَيْضًا انْتَقَدَهُ عَلَى الْمَصَابِيحِ وَادَّعَى وَضْعَهُ لَكِنَّ الْعَلَائِيَّ نَازَعَهُمَا كَذَا فِي الْفَيْضِ. فَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ كَلَامُهُ سِيَّمَا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ابْتِدَاءً. (فَالْفَرَحُ بِمُصِيبَةِ الْعَدُوِّ مَذْمُومٌ جِدًّا) لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِانْعِكَاسِ الْمُصِيبَةِ عَلَيْهِ بِابْتِلَاءِ مَنْ شَمِتَ وَعَافِيَةِ مَنْ شَمِتَ عَلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (خُصُوصًا إذَا حَمَلَهَا) أَيْ تِلْكَ الْمُصِيبَةَ (عَلَى كَرَامَةِ نَفْسِهِ) يَعْنِي يَقُولُ الْحَاقِدُ إنَّ مُصِيبَةَ عَدُوِّي إنَّمَا هِيَ مِنْ كَرَامَتِي (أَوْ) عَلَى (إجَابَةِ دُعَائِهِ) كَأَنْ يَقُولَ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ عَدُوِّي مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ إنَّمَا هُوَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عُجْبٌ وَتَزْكِيَةُ نَفْسٍ وَغُرُورٌ (بَلْ) يَجِبُ (عَلَيْهِ) عَلَى الْحَاقِدِ (أَنْ يَخَافَ) مِنْ مُصِيبَةِ عَدُوِّهِ (أَنْ تَكُونَ مَكْرًا) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (لَهُ) وَاسْتِدْرَاجًا لِلْحَاقِدِ حَيْثُ ابْتَلَى عَدُوَّهُ وَعَافَاهُ (وَ) يَجِبُ عَلَى الْحَاقِدِ أَنْ (يَحْزَنَ) عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ مَكْرَ اللَّهِ تَعَالَى (وَ) يَجِبُ أَيْضًا أَنْ (يَدْعُوَ) اللَّهَ (بِإِزَالَةِ بَلَائِهِ) أَيْ الْعَدُوِّ (وَ) يَدْعُوَ (بِأَنْ يَخْلُفَهُ) أَيْ عَدُوَّهُ اللَّهُ تَعَالَى (خَيْرًا مِمَّا فَاتَ) مِنْ النِّعَم بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ فِي الْوُجُوبِ هَذَا نَظَرٌ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْوُجُوبِ مَعْنًى مَجَازِيٌّ ثُمَّ إنَّ هَذَا الدُّعَاءَ سَبَبٌ لِخَلَاصِ الْحَاقِدِ مِنْ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] .
أَخْرَجَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابَةٌ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ ذَلِكَ فَدَعْوَةُ الْمَلَكِ لَا تُرَدُّ» وَالتَّفْصِيلُ فِي الْبَيْضَاوِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ) ذَلِكَ الْعَدُوُّ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْفَرَحُ مَذْمُومٌ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ (ظَالِمًا) لِلنَّاسِ (فَأَصَابَهُ بَلَاءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ وَيَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ عِبْرَةٌ) يَعْتَبِرُونَ مِنْهُ وَيَنْزَجِرُونَ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِهِ (وَنَكَالًا) نَكَلَ بِهِ يَنْكُلُ أَصَابَهُ بِنَازِلَةٍ (فَفَرَحُهُ حِينَئِذٍ بِزَوَالِ الظُّلْمِ) لَا بِإِصَابَةِ الْبَلَاءِ وَالْمُصِيبَةِ لَهُ فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا بَلْ غَيْرَةٌ فِي الدِّينِ وَالْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ كُنْ غَيُورًا لِلَّهِ وَاحْذَرْ مِنْ الْغَيْرَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ أَنْ تُلَبِّسَ عَلَيْك نَفْسَك بِهَا وَالْمِيزَانُ أَنَّ الَّذِي يَغَارُ لِلَّهِ إنَّمَا يَغَارُ لِانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ.
(وَالثَّالِثُ) مِنْ غَوَائِلِ الْحِقْدِ (هَجْرُهُ) أَيْ الْمَحْقُودِ (وَعَدَاوَتُهُ وَهُوَ) أَيْ الْهِجْرَةُ وَالْعَدَاوَةُ.
(الثَّامِنَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ» إمَّا بِالتَّغْلِيبِ أَوْ بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ مَتْبُوعٌ لِلْإِنَاثِ فَالْحُكْمُ لِلْكُلِّ قَالُوا إنَّ عَادَةَ الشَّرْعِ فِي الْحُكْمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْأُنْثَى بِصِيغَةِ الذَّكَرِ وَفِي الْمُخْتَصِّ بِالْأُنْثَى بِصِيغَةِ الْأُنْثَى «أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا» يَتْرُكَهُ وَيُقَاطِعَ عَنْهُ لَعَلَّهُ قَيْدٌ أَكْثَرِيٌّ أَوْ الذِّمِّيُّ فِي الْمُعَامَلَاتِ تَابِعٌ لِلْمُسْلِمِ «فَوْقَ ثَلَاثٍ» لَيَالٍ لَعَلَّ الثَّلَاثَ وَمَا دُونَهَا مَعْفُوٌّ لِلْحَرَجِ أَوْ تَخْصِيصِ الْفَوْقِ لِقُوَّةِ الْإِثْمِ، أَوْ الْمَفْهُومُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا تَأَمَّلْ.
«فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ» أَيْ لَيَالٍ وَالْهَجْرُ بَاقٍ «فَلْيَلْقَهُ» أَمَرَهُ بِالْمُلَاقَاةِ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ «وَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» لِلْوَصْلِ وَالْأُنْسِ، الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ وَالْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا «فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ» أَيْ عَلَى الْبَادِئِ بِالسَّلَامِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «صِلْ مَنْ قَطَعَك وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَك وَأَحْسِنْ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْك» «فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ»
الَّذِي هُوَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ كَمَا رُوِيَ «مَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَمَنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ السَّلَامِ «وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ» أَيْ رَجَعَ «بِالْإِثْمِ» وَزَادَ) أَيْ أَبُو دَاوُد (فِي رِوَايَةٍ «فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ دَخَلَ النَّارَ» أَيْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَهَا فَلَا يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ بِالْمَشِيئَةِ وَالشَّفَاعَةِ (وَهَذَا) الْوَعِيدُ (مَحْمُولٌ عَلَى الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَأَمَّا لِأَجْلِ الْآخِرَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ فَجَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ) لِلْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَلِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ وَتَرْبِيَةٌ كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي رَأَيْت حَوْلَ الْعَرْشِ مَنَابِرَ مِنْ النُّورِ عَلَيْهَا قَوْمٌ لِبَاسُهُمْ نُورٌ وَوُجُوهُهُمْ نُورٌ لَيْسُوا أَنْبِيَاءَ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصِفُ حَالَهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ وَالْمُتَزَاوِرُونَ فِي اللَّهِ وَالْمُتَجَالِسُونَ فِي اللَّهِ» .
«وَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ هَلْ عَمِلْتَ لِي عَمَلًا قَطُّ قَالَ إلَهِي صَلَّيْت وَصُمْت لَك وَتَصَدَّقْت لَك وَذَكَرْت لَك، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الصَّلَاةَ لَك بُرْهَانٌ وَالصَّوْمَ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةَ لَك ظِلٌّ وَالذِّكْرَ لَكَ نُورٌ فَأَيُّ عَمَلٍ عَمِلْت لِي، فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ هُوَ لَك، فَقَالَ يَا مُوسَى هَلْ وَالَيْت لِي وَلِيًّا قَطُّ وَهَلْ عَادَيْت لِي عَدُوًّا قَطُّ» فَعَلِمَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ (مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ) وَقْتٍ (لِوُرُودِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَمَا هَجَرَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَخَلِّفِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِهِجْرَانِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا كَمَا فِي ابْنِ مَالِكٍ وَأَنَّهُ هَجَرَ زَوْجَاتِهِ مَرَّةً شَهْرًا لِلتَّأْدِيبِ وَمَرَّةً شَهْرَيْنِ وَنِصْفًا لِبَعْضِهِنَّ وَكَذَا يَجُوزُ لِلْوَالِدِ أَنْ يَغْضَبَ عَلَى وَلَدِهِ وَلِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَالسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قِيلَ عَنْ الْفَيْضِ وَمِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا جَاءَ مِنْ هَجْرِ بَعْضِ السَّلَفِ لِبَعْضٍ فَقَدْ هَجَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَطَاوُوسٌ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ وَالْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ إلَى أَنْ مَاتُوا وَهَجَرَ ابْنُ الْمُصِيبِ أَبَاهُ وَكَانَ زَيَّاتًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُ إلَى أَنْ مَاتَ وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَعَلَّمُ مِنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ثُمَّ هَجَرَهُ فَمَاتَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَلَمْ يَشْهَدْ جِنَازَتَهُ وَهَجَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمَّهُ وَأَوْلَادَهُ لِقَبُولِهِمْ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ (وَ) عَنْ (الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمَا فَعَلَهُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ وَأَصْحَابُهُ وَخِيَارُ أُمَّتِهِ.
(وَالرَّابِعُ) مِنْ غَوَائِلِ الْحِقْدِ (اسْتِصْغَارُهُ) أَيْ الْمَحْقُودِ عَلَيْهِ (وَهُوَ التَّكَبُّرُ وَقَدْ مَرَّ.
وَالْخَامِسُ إفْضَاؤُهُ) أَيْ الْحِقْدِ (إلَى الْكَذِبِ) وَالْبُهْتَانِ (عَلَيْهِ) بَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ زُورًا (وَالسَّادِسُ) إفْضَاؤُهُ (إلَى غِيبَتِهِ. وَالسَّابِعُ: إفْشَاءُ سِرِّهِ. وَالثَّامِنُ: إلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ) وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ. (وَالتَّاسِعُ إلَى إيذَائِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (أَوْ) إيذَائِهِ (بِأَكْثَرَ مِنْهُ) أَيْ
أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ.
(وَالْعَاشِرُ إلَى مَنْعِ حَقِّهِ مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ وَرَدِّ مَظْلَمَةٍ) بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالِاسْتِحْلَالِ إنْ كَانَ مَظْلُومًا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ.
(وَالْحَادِيَ عَشَرَ مَنْعُهُ) أَيْ الْحِقْدِ (عَنْ مَغْفِرَةِ صَاحِبِهِ) أَيْ صَاحِبِ الْحِقْدِ وَهُوَ الْحَاقِدُ (طكط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ» خِصَالٌ مَذْمُومَةٌ «مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ» تَعَالَى «يَغْفِرُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ» يَشْكُلُ بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ إنْ أَدَّتْ إلَى الْكُفْرِ فَكَلَامُنَا فِي حِقْدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكُفْرٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ إلَيْهِ فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَفْهُومِ فَافْهَمْ فَانْظُرْ «مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ» تَعَالَى (شَيْئًا) وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ سَاحِرًا مِنْ السَّحَرَةِ» كُفْرٌ إنْ رَأَى التَّأْثِيرَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَبِيرَةٌ إنْ رَأَى بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ أُرِيدَ مِنْ الشِّرْكِ مُطْلَقُ الْكُفْرِ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ فَيَكُنْ مِنْ قَبِيلِ كَوْنِ قَسِيمِ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ أَوْ لَا يَغْفِرُ غَيْرَ شِرْكٍ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ كَمَا عَرَفْت آنِفًا وَإِنْ أُرِيدَ الشِّرْكُ الْمَخْصُوصُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَغْفِرَ الْكُفْرَ غَيْرَ شِرْكٍ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ أَيْضًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا قُوبِلَ الْخَاصُّ بِالْعَامِّ يُرَادُ بِالْعَامِّ مَا عَدَا الْخَاصَّ فَانْظُرْ أَيْضًا. «وَمَنْ لَمْ يَحْقِدْ عَلَى أَخِيهِ» فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الْحِقْدَ شُؤْمٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ مَا لَا يُحْصَى وَهُوَ مِنْ الْبَلَايَا الَّتِي اُبْتُلِيَ بِهَا الْمُنَاظِرُونَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا يَكَادُ الْمُنَاظِرُ يَنْفَكُّ عَنْهُ إذْ لَا تَرَى مُنَاظِرًا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا يُضْمِرَ الْحِقْدَ عَلَى مَنْ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ عِنْدَ كَلَامِ خَصْمِهِ وَيَتَوَقَّفُ فِي كَلَامِهِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِحُسْنِ إصْغَاءٍ بَلْ يُضْمِرُ الْحِقْدَ وَيُرَتِّبُهُ فِي النَّفْسِ وَغَايَةُ تَمَسُّكِهِ الْإِخْفَاءُ بِالنِّفَاقِ ثُمَّ إنَّ وَجْهَ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِلْحَاقِدِ كَمَا لَا يَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِ وَالسَّاحِرِ فَيُرَدَّانِ، أُرِيدَ مِنْ الْحِقْدِ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَبَعْدَ تَسْلِيمِ ذَاتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَكُونُ كُفْرًا وَإِلَّا فَيُنَافِي أَيْضًا الْآيَةَ السَّابِقَةَ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ كَمَا عَرَفْت بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلِمَةَ مَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] لَيْسَ بِعَامٍّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَا الْمَوْصُولَةُ أَوْ الْمَوْصُوفَةُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي الْعُمُومِ بَلْ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَإِنْ سَلِمَ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ عَفْوُهُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ غَيْرَ الشِّرْكِ لَعَلَّ الْجَوَابَ أَنَّ السِّحْرَ وَالْحِقْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كُفْرًا وَجَازَ عَفْوُهُمَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ أَوْ كَعَدَمِ الْوَاقِعِ لِكَمَالِ قِلَّتِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُجْعَلَ الْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْ الْبَعْضِ وَالْمُخَصِّصُ هَذَا الْحَدِيثُ فَلْيُتَأَمَّلْ جِدًّا (طط) الطَّبَرَانِيُّ وَفِي الْأَوْسَطِ (عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تُعْرَضُ) وَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ مَلَكٌ يُوَكِّلُهُ جَمِيعَ صُحُفِ الْأَعْمَالِ وَضَبْطُهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ لَكِنْ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُعْرَضُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بَيَاضًا وَإِشْرَاقًا فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُمْ» فَالْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأُصُولُ إذْ النُّصُوصُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا آخَرَ أَوْ بِقَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَافْهَمْ.
( «الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرَ لَهُ وَهَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيُتَابَ عَلَيْهِ وَيُرَدُّ أَهْلُ الضَّغَائِنِ» بِالْمُعْجَمَتَيْنِ جَمْعُ ضَغِينَةٍ مِنْ ضَغِنَ صَدْرُهُ ضَغَنًا مِنْ بَابِ تَعِبَ حَقَدَ «بِضَغَائِنِهِمْ» أَيْ بِسَبَبِهَا
«حَتَّى يَتُوبُوا» مِنْ الضَّغَائِنِ فَمَا لَمْ يَتُبْ مِنْ الْحِقْدِ لَا يُغْفَرُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ (طط. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَطَّلِعُ» أَيْ يَنْظُرُ «اللَّهُ تَعَالَى إلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ» بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ «لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» قِيلَ هُنَا عَنْ الْقَامُوسِ وَالْمُشَاحِنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَقْرِيبَ حِينَئِذٍ وَالْأَقْرَبُ مَا نُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ شَحِنْت عَلَيْهِ شَحَنًا مِنْ بَابِ تَعِبَ حَقَدْت.
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِإِيهَامِهَا التَّنَافِيَ فَافْهَمْ (وَفِي رِوَايَةٍ. هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «وَيُؤَخَّرُ أَهْلُ الْحِقْدِ كَمَا هُمْ» عَلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ بِلَا مَغْفِرَةٍ.
(الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ فِي سَبَبِ الْحِقْدِ وَهُوَ الْغَضَبُ فَإِنَّهُ) أَيْ الْحَاقِدَ (إذَا لَزِمَ كَظْمَهُ) أَيْ كَظْمَ الْغَضَبِ (بِعَجْزِهِ عَنْ التَّشَفِّي) عَنْ الِانْتِقَامِ مِنْهُ (فِي الْحَالِ رَجَعَ) الْغَضَبُ (إلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ) احْتَبَسَ (فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا) بَعْدَ أَنْ كَانَ غَضَبًا (وَفِيهِ) أَيْ فِي الْغَضَبِ (خَمْسَةُ مَقَامَاتٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ الْغَضَبِ وَأَقْسَامِهِ) .
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ.
الثَّالِثُ فِي عِلَاجِهِ بَعْدَ هَيَجَانِهِ.
الرَّابِعُ فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ.
الْخَامِسُ: فِي الْحِلْمِ (اعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ وَهُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ) وَالْقَلْبُ جِسْمٌ صَنَوْبَرِيٌّ تَحْتَ الثَّدْيِ الْيَسَارِ أَيْ حَرَكَةُ الدَّمِ الرَّقِيقِ فِي الْقَلْبِ دَفْعَةً (لِدَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَلِطَلَبِ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَالِ بَعْدَ وُصُولِهَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ) فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا (بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ بِهِ يَحْفَظُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَمِنْهُ) أَيْ الِانْتِقَامُ (الشَّجَاعَةُ الْمَمْدُوحَةُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا) .
قِيلَ الشَّجَاعَةُ هَيْئَةٌ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِهَا يُقْدِمُ عَلَى أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ كَالْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِخْلَاصِ مُسْلِمٍ مِنْ يَدِ مُتَعَدِّدٍ (وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ طَرَفَاهُ تَفْرِيطُهُ وَضَعْفُهُ الْمُسَمَّى بِالْجُبْنِ وَهُوَ التَّاسِعَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَفُسِّرَ الْجُبْنُ بِأَنَّهُ ضِدُّ الْغَضَبِ أَعْنِي سُكُونَ النَّفْسِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّك مِنْهُ وَمَبْدَؤُهُ بُطْلَانُ شَهْوَةِ الِانْتِقَامِ (وَذَلِكَ مَذْمُومٌ جِدًّا) وَمَرَضٌ رَدِيءٌ غَايَةَ الرَّدَاءَةِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ (لِأَنَّهُ يُثْمِرُ عَدَمَ الْغَيْرَةِ) وَالْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ (أَوْ قِلَّةَ الْحَمِيَّةِ) أَيْ الْأَنَفَةَ وَالِاحْتِفَاظَ (عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَقْرِبَاءِ وَ) يُثْمِرُ أَيْضًا (خِسَّةَ النَّفْسِ وَاحْتِمَالَ الذُّلِّ وَالضَّيْمِ) أَيْ الظُّلْمِ
(فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ) الْمَشْرُوعِ (وَالْخَوَرِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ الضَّعْفِ (وَالسُّكُوتِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمُنْكَرَاتِ) وَيُورِثُ أَيْضًا سُوءَ الْعَيْشِ وَطَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ فِي مَالِهِ وَقِلَّةَ الثَّبَاتِ فِي الْأُمُورِ وَارْتِكَابَ مَا يُوجِبُ التَّوْبِيخَ وَالتَّعَطُّلَ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْحَيَاءِ الْمَمْدُوحِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ مُحَرِّضًا عَلَى الشَّجَاعَةِ {وَلْيَجِدُوا} [التوبة: 123] أَيْ الْكُفَّارُ {فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] أَيْ شِدَّةً فِي الْقِتَالِ وَصَبْرًا.
وَفِي سُورَةِ النُّورِ - {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا} [النور: 2] أَيْ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ {رَأْفَةٌ} [النور: 2] شَفَقَةٌ وَمَرْحَمَةٌ {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فِي طَاعَتِهِ وَإِقَامَةِ حَدِّهِ فَتُعَطِّلُوهُ أَوْ تُسَامِحُوا فِيهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ سَرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْت يَدَهَا» . وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] أَيْ أَصْحَابُهُ عليه الصلاة والسلام يَعْنِي يُظْهِرُونَ الشِّدَّةَ وَالْمَهَابَةَ وَالصَّلَابَةَ لِمَنْ خَالَفَ دِينَهُمْ. لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَذَاهِبَ عِنْدَنَا كَوْنُ الِاعْتِبَارِ بِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَلَا يَبْعُدُ الْمُقَايَسَةُ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ. وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى لِحَبِيبِهِ عليه الصلاة والسلام {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]- أَيْ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةُ هِيَ الشِّدَّةُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ الْحَمِيَّةِ وَهُوَ الْغَضَبُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُ أُمَّتِي أَحِدَّاؤُهَا» أَيْ مَنْ كَانَ كَالْحَدِيدِ فِي الصَّلَابَةِ فِيمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَسَعَى فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحِدَّةُ تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي وَفُسِّرَ هُنَا بِالصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ وَفِيهِ أَيْضًا الْحِدَّةُ لَا تَكُونُ أَلَا فِي صَالِحِي أُمَّتِي وَأَبْرَارِهَا الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ أَيْضًا «خِيَارُ أُمَّتِي أَحِدَّاؤُهُمْ إذَا غَضِبُوا رَجَعُوا» (وَقَدْ مَرَّ مَا وَرَدَ فِي الْغَيْرَةِ فَيَنْبَغِي) لِلْجَبَانِ (أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ) لِتَنْفِرَ عَنْهَا (بِإِيقَاعِهِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِإِيقَاعِهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ (فِيمَا يَخَافُ وَيَفِرُّ مِنْهُ) مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَعَارِكِ، وَذَكَرَ وُجُوبَ الْمَوْتِ وَعَدَمَ نَفْعِ الْحَذَرِ عِنْدَ نُزُولِ الْقَدَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ إيقَاعِ التَّهْلُكَةِ كَالْمُرُورِ مُنْفَرِدًا فِي الطَّرِيقِ الْمُهْلِكَةِ وَكَذَا الْبَيْتُوتَةُ. (بِتَكَلُّفٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى) حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا يُسَوِّغُ الشَّرْعُ الْإِقْدَامَ (وَإِسْمَاعِهَا) أَيْ نَفْسَهُ (غَوَائِلَ الْجُبْنِ) لِتَنْفِرَ مِنْهُ (وَفَوَائِدَ الشَّجَاعَةِ) لِتَتَشَوَّقَ إلَيْهَا (وَتَذْكِيرِهَا كِرَارًا أَوْ مِرَارًا) مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى الْأَوْلَى وَتَذَكُّرِهَا (حَتَّى يَزُولَ) جُبْنُهُ (وَيَقْوَى غَضَبُهُ) الْمَرْغُوبُ (وَإِفْرَاطِهِ) أَيْ إفْرَاطِ الْغَضَبِ عَطْفٌ عَلَى تَفْرِيطِهِ (وَزِيَادَتِهِ وَغَلَبَتِهِ وَسُرْعَتِهِ وَشِدَّتِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّهَوُّرِ وَهُوَ) أَيْ التَّهَوُّرُ (الْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ وَيُثْمِرُ الْحِدَّةَ وَالْعُنْفَ (وَضِدُّهُ) أَيْ التَّهَوُّرُ (الْحِلْمُ وَهُوَ مَلَكَةُ الطُّمَأْنِينَةِ) أَيْ كَيْفِيَّةٌ رَاسِخَةٌ فِي النَّفْسِ بَاعِثَةٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسُّكُونِ
(عِنْدَ) تَحَقُّقِ (مُحَرِّكَاتِ الْغَضَبِ) أَيْ سَبَبِ حَرَكَةِ الْغَضَبِ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ وَالْمُنْفَرِدَاتِ (وَعَدَمِ هَيَجَانِهِ إلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ وَتَمَكُّنٍ) مَصْدَرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الطُّمَأْنِينَةِ (دَفْعُهُ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْهَيَجَانِ (بِلَا تَعَبٍ) وَالتَّمَكُّنُ مَعَ التَّعَبِ لَيْسَ بِحِلْمٍ بَلْ تَحَلُّمٍ (وَيُثْمِرُ اللِّينَ وَالرِّفْقَ وَالتَّهَوُّرُ مَرَضٌ عَظِيمُ الضَّرَرِ) ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْجُبْنِ فَإِنَّهُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ وَمِنْ أَعْظَمِ ضَرَرِ التَّهَوُّرِ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَوْذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ (صَعْبُ الْعِلَاجِ فَلَا بُدَّ مِنْ شِدَّةِ الْمُجَاهَدَةِ وَالتَّشَمُّرِ وَالسَّعْيِ فِيهِ) أَيْ فِي إزَالَتِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ.
(وَعِلَاجُهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ) أَيْ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ (وَالْعَمَلِ) أَيْ الْعَمَلِيِّ (وَإِزَالَةِ السَّبَبِ) أَيْ الْعِلَاجُ بِإِزَالَةِ السَّبَبِ (وَتَحْصِيلِ الضِّدِّ فَلْنُبَيِّنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُقَامُ عَلَى حِدَةٍ. الْمَقَامُ الثَّانِي) مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْغَضَبِ (فِي الْعِلَاجِ الْعِلْمِيِّ وَهُوَ نَافِعٌ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ التَّهَوُّرِ (وَحِينَ الْهَيَجَانِ بِالتَّذَكُّرِ) بِنَفْسِهِ (أَوْ التَّذْكِيرِ) أَيْ تَذْكِيرِ الْغَيْرِ لَهُ آفَاتِ التَّهَوُّرِ وَفَوَائِدَ الْكَظْمِ (إنْ لَمْ يَشْتَدَّ جِدًّا وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ اشْتَدَّ فَلَا يُفِيدُ شَيْءٌ مِنْ التَّذَكُّرِ وَالتَّذْكِيرِ (بَلْ قَدْ يَضُرُّ وَيَكُونُ) لِغَلَبَةِ غَضَبِهِ وَشِدَّةِ لَهَبِهِ (كَالْوَقُودِ) يَزِيدُ تَلَهُّبَ النَّارِ لِيَسْتُرَ الْعَقْلَ بِدُخَانِهِ الْمُظْلِمِ فَإِنَّ مَعْدِنَ الْفِكْرِ الدِّمَاغُ وَيَتَصَاعَدُ عِنْدَ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ دُخَانُ الدِّمَاغِ الْمُظْلِمِ فَيَسْتَوْلِي عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ وَرُبَّمَا يَتَعَدَّى عَلَى مَعَادِنِ الْحِسِّ فَيُظْلِمُ عَيْنَهُ حَتَّى لَا يَرَى شَيْئًا وَتَسْوَدُّ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا (وَهُوَ) أَيْ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ (مَعْرِفَةُ آفَاتِهِ) آفَاتِ التَّهَوُّرِ (وَفَوَائِدِ كَظْمِ الْغَيْظِ) مَعَ الْقَدَرِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ.
(أَمَّا آفَاتُهُ) أَيْ التَّهَوُّرِ (فَأَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ إفْسَادُ رَأْسِ الطَّاعَاتِ) وَهُوَ الْإِيمَانُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (طك) وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ بَهْزٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وَبِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ (ابْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْغَضَبُ» أَيْ التَّهَوُّرُ «يُفْسِدُ الْإِيمَانَ» أَيْ شَأْنُهُ إفْسَادُ الْإِيمَانِ «كَمَا يُفْسِدُ الصَّبِرُ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الدَّوَاءُ الْمُرُّ نَبْتٌ يُرَادُ عِنْدَ إطْلَاقِ عُصَارَتِهِ «الْعَسَلَ» الْمُرَادُ الْغَضَبُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي) شَرْعًا أَوْ عَقْلًا (أَوْ صُدُورُهُ فِيمَا يَنْبَغِي) مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْرُوعِ بِهَا (أَكْثَرَ أَوْ أَشَدَّ مِمَّا يَنْبَغِي فَهُوَ) أَيْ الْغَضَبُ الْمَوْصُوفُ بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ (التَّهَوُّرُ وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْغَضَبُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى التَّهَوُّرِ مِنْ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ (لَا) عَلَى (أَصْلِ الْغَضَبِ) الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ (لِمَا مَرَّ أَنَّهُ) أَيْ أَصْلَهُ (أَمْرٌ لَازِمٌ) قِيلَ فَمِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ (وَقَدْ صَدَرَ) أَيْ هَذَا الْغَضَبُ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا عِنْدَ مَحَلِّهِ) وَهُوَ الْغَضَبُ عِنْدَ
انْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ تَعَالَى قُوَّةً وَضَعْفًا فَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ مُفْسِدًا لَمَا صَدَرَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ «فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَغْضَبُ حَتَّى تَحْمَرَّ وَجْنَتَاهُ وَيَقُولُ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ لَعَنْته أَوْ ضَرَبْته فَاجْعَلْهُمَا مِنِّي صَلَاةً عَلَيْهِ وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَكَانَ يَقُولُ «الْغَضَبُ لَا يُخْرِجْنِي عَنْ الْحَقِّ وَعَنْ نَثْرِ الْعِطْرِ» لِلْيَافِعِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا أَنَّهُ «دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ» الْحَدِيثَ. وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْضَبُ لِلدُّنْيَا فَإِذَا غَضِبَ لِلْحَقِّ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ» فَكَانَ يَغْضَبُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ. (وَوَجْهُ إفْسَادِهِ الْإِيمَانَ) الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ (أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَصْدُرُ عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُوجِبُ الْكُفْرَ) إذْ عِنْدَهُ يَزُولُ الْعَقْلُ، وَلِذَا أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَهُ.
(وَالثَّانِي) مِنْ آفَاتِ التَّهَوُّرِ (خَوْفُ الْمُكَافَأَةِ) أَيْ الْمُجَازَاةِ لَهُ عَلَى تَهَوُّرِهِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْك أَعْظَمُ مِنْ قُدْرَتِك عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ) وَكَذَا ذَنْبُك أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِهِ عَلَيْك (فَلَوْ أَمْضَيْت غَضَبَك عَلَيْهِ) وَعَلِمْت بِمُقْتَضَاهُ (لَمْ تَأْمَنْ مِنْ أَنْ يُمْضِيَ اللَّهُ غَضَبَهُ عَلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حِينَ اشْتَدَّ احْتِيَاجُك إلَى الْعَفْوِ وَقَدْ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْكُتُبِ يَا ابْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك حِينَ أَغْضَبُ فَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ أَمْحَقُ» .
(وَالثَّالِثُ حُصُولُ الْعَدَاوَةِ) بَيْنَك وَبَيْنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ (فَيَتَشَمَّرُ) يَجْتَهِدُ (الْعَدُوُّ لِمُقَابَلَتِك وَالسَّعْيِ فِي هَدْمِ أَغْرَاضِك وَالشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِك) أَيْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَا أَصَابَك مِنْ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ وَأَنْتَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمَصَائِبِ فَخَفْ أَنْتَ عَوَاقِبَ الْغَضَبِ فِي الدُّنْيَا إنْ كُنْت لَا تَخَافُ فِي الْآخِرَةِ (فَيُشَوِّشُ) ذَلِكَ الْعَدُوُّ (عَلَيْك مَعَاشَك) بِمَا يُخْشَى مِنْ سُوءِ مُعَامَلَتِهِ مَعَك (وَمَعَادَك) أَيْ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ (فَلَا تَتَفَرَّغُ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ) وَمَا يَعْنِيك فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ مَحْرُومًا مِنْ الثَّوَابِ وَمُعَرَّضًا لِلْعِقَابِ.
(وَالرَّابِعُ قُبْحُ صُورَتِك عِنْدَ الْغَضَبِ) وَقُبْحُ بَاطِنِك أَعْظَمُ مِنْ قُبْحِ ظَاهِرِك فَإِنَّ الظَّاهِرَ عِنْوَانُ الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا قَبُحَتْ صُورَةُ الْبَاطِنِ أَوَّلًا ثُمَّ انْتَشَرَ قُبْحُهَا إلَى الظَّاهِرِ فَتَغَيُّرُ الظَّاهِرِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ الْبَاطِنِ فَقِسْ الْمُثْمِرَ عَلَى الثَّمَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ تُنْبِئُ عَنْ الشَّجَرَةِ (وَمُشَابَهَتُك لِلْكَلْبِ الضَّارِي) الْمُجْتَرِئِ عَلَى أَذَى النَّاسِ الْحَرِيصِ عَلَى الْعَضِّ الْمُعْتَادِ لَهُ (وَالسَّبُعِ الْعَادِي) مِنْ الْعَدَاوَةِ.
(وَأَمَّا فَوَائِدُ كَظْمِ الْغَيْظِ) وَهُوَ الثَّانِي مِنْ طُرُقِ الْعِلَاجِ (فَسَبْعَةٌ) قِيلَ الْأَوْلَى فَسَبْعٌ لَعَلَّهُ لِلْمُطَابَقَةِ لِلْفَائِدَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الثَّانِي أَوْ الْعِلَاجِ نَعَمْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَسَبْعٌ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ (الْأَوَّلُ اعْتِدَادُ الْجَنَّةِ لَهُ) بِجَعْلِ صَاحِبِهِ مُعَدًّا وَمُهَيِّئًا لِلْجَنَّةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] أَيْ الْمُمْسِكِينَ غَيْظَهُمْ مَعَ الْقُدْرَةِ لِمُجَرَّدِ رِضَاهُ تَعَالَى مِنْ كَظَمْت الْقِرْبَةَ إذَا مَلَأْتهَا وَشَدَدْت رَأْسَهَا
آخِرُهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] أَيْ التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ اسْتَحَقُّوا عُقُوبَتَهُ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هِيَ بِمُلَاحَظَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَعْنِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 133 - 134]- الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ مَيْمُونٍ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ بِمَرَقَةٍ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتْ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يَضْرِبَهَا، فَقَالَتْ يَا مَوْلَايَ اسْتَعْمِلْ قَوْلَهُ عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] قَالَ فَعَلْت، فَقَالَتْ اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قَالَ عَفَوْت، فَقَالَتْ الْجَارِيَةُ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] قَالَ مَيْمُونٌ أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ
إذَا اعْتَذَرَ الصَّدِيقُ إلَيْك عُذْرًا
…
تَجَاوَزْ عَنْ مَعَاصِيهِ الْكَثِيرَهْ
فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى حَدِيثًا
…
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُغِيرَهْ
بِأَنْ قَالَ الرَّسُولُ يَقْبَلُ رَبِّي
…
بِعُذْرٍ وَاحِدٍ أَلْفَيْ خَطِيرَهْ
لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْكَظْمِ لَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلْجَنَّةِ بَلْ بِانْضِمَامِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَعْنِي الْعَفْوَ وَالْإِنْفَاقَ إذْ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ وَخَاصٌّ بِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِعْدَادِ مُطْلَقُهُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهِ مَدْخَلٌ سِيَّمَا بِالْجُزْئِيَّةِ وَحَمْلُ الْوَاوَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَوْ صَرْفٌ عَنْ الظَّاهِرِ، وَالنُّصُوصُ عِنْدَنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ بِلَا صَارِفٍ قَطْعِيٍّ.
(وَالثَّانِي) مِنْ الْفَوَائِدِ (التَّخْيِيرُ فِي الْحُورِ الْعِينِ) فِي الْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَيَحْتَمِلُ فِي الْمِقْدَارِ وَالْعَدَدِ (د) أَبُو دَاوُد (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا» أَيْ أَمْسَكَ وَكَفَّ عَنْ إمْضَائِهِ «وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ» أَيْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ «دَعَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ» ؛ لِأَنَّهُ قَهَرَ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ فِي مِثْلِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْإِسَاءَةِ، وَلِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمِنْ ثَمَّةَ «خَدَمَ أَنَسٌ الْمُصْطَفَى عَشْرَ سِنِينَ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ فِي شَيْءٍ فَعَلَهُ لِمَ فَعَلْته وَلَا فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ لِمَ تَرَكْته» «حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» فَيَخْتَارُ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ تَدَبَّرْ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ «حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» وَفِيهِ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إنْفَاذِهِ زَوَّجَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ تَرَكَ ثَوْبَ جَمَالٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى لُبْسِهِ كَسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى رِدَاءَ الْإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَنْكَحَ عَبْدًا وَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِهِ تَاجَ الْمُلْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَذَا فِي الْفَيْضِ.
(وَالثَّالِثُ دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى)(طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَفَعَ غَضَبَهُ» حَالَ الِاسْتِطَاعَةِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ «دَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَذَابَهُ» مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى كَظْمِ غَيْظِهِ وَقَهْرِ نَفْسِهِ قَالَ فِي الْفَيْضِ ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ عَبْدُ السَّلَامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ دَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَفْعُ الْغَضَبِ عَيْنَ كَظْمِ الْغَيْظِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لَهُ.
(وَالرَّابِعُ عِظَمُ الْأَجْرِ)(مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّنْفِيذِ شَبَّهَ جَرْعَ غَيْظِهِ وَرَدَّهُ إلَى بَاطِنِهِ بِتَجَرُّعِ الْمَاءِ وَهِيَ أَحَبُّ جَرْعَةً يَتَجَرَّعُهَا الْعَبْدُ وَأَعْظَمُهَا ثَوَابًا وَأَرْفَعُهَا
دَرَجَةً لِحَبْسِ نَفْسِهِ عَنْ التَّشَفِّي وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْعِظَمُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَبِكَفِّ غَضَبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى (ابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى) .
(وَالْخَامِسُ حِفْظُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ) مِنْ الْمِحَنِ وَالْخِزْيِ وَالْبَلْوَى فِي الدُّنْيَا وَمِنْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
(وَالسَّادِسُ رَحْمَتُهُ لَهُ وَالسَّابِعُ مَحَبَّتُهُ إيَّاهُ) دَلِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا خَرَّجَ (حك) الْحَاكِمُ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ» خِصَالٍ «مَنْ كُنَّ فِيهِ» أَيْ وُجِدْنَ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى «آوَاهُ» أَسْكَنَهُ «اللَّهُ تَعَالَى فِي كَنَفِهِ» بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ أَيْ أَدْخَلَهُ فِي حِمَايَتِهِ وَحِفْظِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «وَسَتَرَ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي مَحَبَّتِهِ» جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ «مَنْ إذَا أُعْطِيَ» لَهُ نِعْمَةً «شَكَرَ» بِلِسَانِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ أَوْ بِأَرْكَانِهِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ «وَإِذَا قَدَرَ» عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَضَبِهِ أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَأَسَاءَ إلَيْهِ «غَفَرَ» أَيْ عَفَا كَمَا فِي حَدِيثِ «وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَك» «وَإِذَا غَضِبَ فَتَرَ» مِنْ الْفُتُورِ وَالضَّعْفِ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِزَالَةِ هَذِهِ السَّبْعُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ وَإِلَّا فَمِنْ فَوَائِدِهِ مِلْءُ الْجَوْفِ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إيمَانًا وَمَلَأَ الْقَلْبَ بِالْأَمْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» وَسَتَرَ الْعَوْرَةَ كَمَا فِيهِ أَيْضًا «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ» . وَالْأَجْمَلِيَّةُ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَأَجْمَلُكُمْ مَنْ غَفَرَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَمَلَأَ الْقَلْبَ بِالرِّضَا» كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا» وَتَقْوَى اللَّه تَعَالَى فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَتَشَفَّ غَيْظَهُ وَمَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُرِيدُ.
قَالَ الْمُحَشِّي هُنَا اعْلَمْ أَنَّ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ الْحِلْمُ أَيْ عَدَمُ الْغَضَبِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهِ ثُمَّ الْعَفْوُ مَعَ الْكَظْمِ ثُمَّ الْكَظْمُ بِدُونِ الْعَفْوِ أَيْ عَدَمُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْغَضَبِ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ سَاعَةٍ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ انْتَهَى.
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ الْحِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِالْعِلْمِ وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى وَجَمِّلْنِي بِالْعَافِيَةِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «ابْتَغُوا الرِّفْقَ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تَصِلُ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ مَنَعَك وَتَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْك» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ لِيُدْرِكَ بِالْحِلْمِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَعَنْ عَطَاءٍ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أَيْ حِلْمًا وَعَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَكَهْلًا أَيْ مُنْتَهَى الْحِلْمِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَرُّوا كِرَامًا أَيْ إذَا أُوذُوا صَفَحُوا وَفِي حَدِيثِ أَبُو عَبَّاسٍ «ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ تَقْوَى تَحْجُرُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَحِلْمٌ يَكُفُّ بِهِ السَّفِيهَ وَخُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُومُ نَاسٌ يَسِيرُونَ فَيَنْطَلِقُونَ سِرَاعًا إلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَتَقُولُ لَهُمْ مَا لَنَا نَرَاكُمْ سِرَاعًا فَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُولُونَ مَا كَانَ فَضْلُكُمْ فَيَقُولُونَ كُنَّا إذَا ظُلِمْنَا صَبَرْنَا وَإِذَا أُسِيءَ إلَيْنَا غَفَرْنَا وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْنَا حَلُمْنَا فَيَقُولُونَ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ أَوَّلَ مَا عُوِّضَ الْحَلِيمُ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَعْوَانُهُ عَلَى الْجَاهِلِ وَقَالَ أَنَسٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] إلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٍ} [فصلت: 35]- قَالَ هُوَ الَّذِي يَشْتُمُهُ أَخُوهُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كُنْت كَاذِبًا غَفَرَ اللَّهُ لَك وَإِنْ كُنْت صَادِقًا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَسَبَّ رَجُلٌ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ فَتَقْضِيَهَا فَنَكَسَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَاسْتَحْيَا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ سَبَّهُ رَجُلٌ فَرَمَى إلَيْهِ قَمِيصَهُ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَرَّ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالُوا لَهُ شَرًّا، فَقَالَهُمْ خَيْرًا فَقِيلَ لَهُ إنَّهُمْ يَقُولُونَ شَرًّا وَأَنْتَ تَقُولُ خَيْرًا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ يُنْفِقُ مِمَّا عِنْدَهُ. وَفِي الْحِلْمِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ السُّرُورُ فِي نَفْسِهِ وَالْمَحْمَدَةُ عِنْدَ النَّاسِ وَالثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (هَذِهِ الْفَوَائِدُ) السَّبْعُ لِكَظْمِ الْغَيْظِ (لِمُجَرَّدِ الْكَظْمِ) بِلَا انْضِمَامِ الْعَفْوِ (وَأَمَّا إذَا عَفَا مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْكَظْمِ (فَأَكْثَرُ) فَوَائِدَ (وَأَعْظَمُ) عَوَائِدَ لَا يَخْفَى أَنَّ إطْلَاقَهُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ يَظْهَرُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآيَةِ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى كَمَا فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ فَتَأَمَّلْ. وَبِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ «إنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُحْسِنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْك» وَغَيْرِهِ (فَإِنَّك إذَا عَفَوْت مَعَ عَجْزِك) لَيْسَ هَذَا الْعَجْزُ مَا يُقَابِلُ عَفْوَ الْقَادِرِ كَمَا سَبَقَ بَلْ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ الْحَقِيقِيِّ (وَاحْتِيَاجِك) هَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ فِي عَفْوِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ وَالْعَرْضِيَّةُ فَلَا إلَّا بِتَحَمُّلٍ وَاتِّسَاعٍ (فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ يَعْفُوَ) عَنْك (مَعَ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةُ وَالْأَعْظَمِيَّةُ بِتَطْبِيقِ أَدِلَّةِ الْعَفْوِ وَالْكَظْمِ بَلْ الْأَكْثَرِيَّةُ فِي جَانِبِ الْكَظْمِ كَمَا يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَطْلَبِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالنَّقْلِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ إثْبَاتَ الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ بِالْعَقْلِ كَالْعَكْسِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَقِيَاسِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إجْرَاءُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي كَظْمِ الْغَيْطِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ. فِي أَدِلَّةِ الْعَفْوِ ثُبُوتًا وَدَلَالَةً حَقَّ التَّأَمُّلِ حَتَّى تَظْهَرَ حَقِيقَةُ مَطْلُوبِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِغَرَضِ الْمُصَنِّفِ فَافْهَمْ (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعَظَمِ (قَوْله تَعَالَى - {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] هَذَا كَمَا تَرَى فَافْهَمْ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهَا فَضَائِلُ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَالْأَوَّلُ أَيْضًا أَنْ يُكْتَفَى بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ فَإِنَّك إذَا عَفَوْت إذْ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْعَفْوُ مَعَ الْكَظْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَظْمِ وَالدَّلِيلُ كَمَا تَرَى.
(الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعَمَلِيِّ) لِلْغَضَبِ (بَعْدَ الْهَيَجَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ التَّوَضُّؤُ)(د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ» مِنْ وَسْوَسَتِهِ «وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ» كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وَقَالَ - {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]- وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ الْجَانِّ. وَعَنْ وَهْبٍ تَزَوَّجَ مَارِجٌ مَارِجَةً فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْجِنُّ فَمِنْهُ تَفَرَّعَ قَبَائِلُ الْجِنِّ وَمِنْهُمْ إبْلِيسُ فَتَكْثُرُوا عَدَدَ الرَّمْلِ وَكَذَا تَكْثُرُ أَوْلَادُ إبْلِيسَ إلَى أَنْ امْتَلَأَتْ الْأَقْطَارُ فَأُسْكِنَ الْجَانُّ فِي الْهَوَاءِ وَإِبْلِيسُ مَعَ أَوْلَادِهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَافْتَخَرَتْ السَّمَاءُ بِرِفْعَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْعِبَادِ فَشَكَتْ الْأَرْضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا بِأَنَّى خَالِقٌ مِنْك صُورَةً أَرْزُقُهَا الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَاللِّسَانَ، وَأُنْزِلَ إلَيْهَا الْقُرْآنُ فَاسْتَقَرَّتْ الْأَرْضُ فَهِيَ حِينَئِذٍ بَيَاضٌ كَالْفِضَّةِ فَأُنْزِلَ الْجَانُّ عَلَى الْأَرْضِ لِطَلَبِهَا بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ فَنَزَلُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أُخِذُوا بِالْمَعَاصِي وَاسْتَغَاثَتْ الْأَرْضُ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا أَنْ اُسْكُتِي فَأَنَا بَاعِثٌ إلَيْهِمْ رُسُلًا فَبَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِمِائَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْجِنِّ فِي ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ وَأَنْزَلَهُ مَعَ الْجِنِّ فَتَقَاتَلُوا مَعَ الْجَانِّ فَهَرَبُوا إلَى بُقْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ سَكَنَ إبْلِيسُ فِي الْأَرْضِ وَعَبَدَ اللَّهَ إلَى أَنْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَكَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ اُبْتُلِيَ مِنْ كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ بِمَا اُبْتُلِيَ الْعِيَاذُ بِهِ تَعَالَى.
«وَإِنَّمَا تُطْفَأُ» أَيْ تَخْمَدُ «النَّارُ بِالْمَاءِ» ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا؛ لِأَنَّ طَبْعَ النَّارِ حَارٌّ
يَابِسٌ وَالْمَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ «فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» قِيلَ نَدْبًا مُؤَكِّدًا وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَصَوَّرَ حَالَةَ الْغَضَبِ وَمَنْشَأَهُ ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى تَسْكِينِهِ فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ هَذَا الْمَخْرَجَ لِيَكُونَ أَجْمَعَ وَأَنْفَعَ وَلِلْمَوَانِعِ أَزْجَرَ وَأَرْدَعَ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ لَا يَمْنَعُ مِنْ إجْرَائِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ الْغَضَبِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَنْ اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ جَبَّارٌ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْغَضَبِ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَمَعْنَاهَا غَلَيَانُ دَمِهِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ فَمَنْ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى انْعَدَمَ الْعَقْلُ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ ضَعُفَ أَوْ أَفْرَطَ حَتَّى جَاوَزَ حَدَّهَا الشَّرْعِيَّ ذُمَّ ذَمًّا شَدِيدًا وَمَحَلُّ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ وَالْحَدِيثُ الثَّانِي وَسَبَبُ ذَمِّ الْأَوَّلِ اسْتِلْزَامُهُ انْعِدَامَ الْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ مِمَّا يُؤْنَفُ مِنْهُ.
(وَالثَّانِي الْجُلُوسُ) إنْ كَانَ قَائِمًا (وَالِاضْطِجَاعُ) إنْ قَاعِدًا (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ) قَالَ (قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ» نَدْبًا «فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ» فَذَاكَ أَوْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ «وَإِلَّا» فَإِنْ اسْتَمَرَّ «فَلْيَضْطَجِعْ» عَلَى جَنْبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ مُتَأَهِّبٌ لِلِانْتِقَامِ وَالْقَاعِدَ دُونَهُ وَالْمُضْطَجِعَ دُونَهُمَا، وَالْقَصْدُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْ هَيْئَةِ الْوُثُوبِ وَالْمُبَادَرَةِ لِلْبَطْشِ مَا أَمْكَنَ حَسْبَمَا لِمَادَّةِ الْمُبَادَرَةِ وَحَمَلَ الطِّيبِيُّ الِاضْطِجَاعَ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالْخَفْضِ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ مَنْشَؤُهُ الْكِبْرُ صُرِفَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْغَضَبُ لِلَّهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ الدِّينِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ فِي الْحَقِّ فَبِالْغَضَبِ قُوتِلَ الْكُفَّارُ وَأُقِيمَتْ الْحُدُودُ وَذَهَبَتْ الرَّحْمَةُ عَنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْقُلُوبِ.
(وَالثَّالِثُ الِاسْتِعَاذَةُ. خ م. عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَبَّ» أَيْ تَسَابَّا «رَجُلَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَبَيْنَمَا يَسُبُّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ مُغْضَبًا» بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ «قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ» حَالٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ مُتَدَاخِلَةٌ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً» الْمُرَادُ كَلِمَةُ التَّعَوُّذِ الْآتِي «وَلَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ» مِنْ الْغَضَبِ وَبَيَّنَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِقَوْلِهِ «وَلَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» وَفِيهِ دَلَالَةُ أَنَّ الْغَضَبَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ يَسْكُنُ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا غَضِبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ. قَالَ شَارِحُهُ لِمَا يَأْتِي أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ أَيْ مِنْ إغْوَائِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أَقْوَى سِلَاحِ الْمُؤْمِنِ عَلَى دَفْعِ كَيْدِ اللَّعِينِ إبْلِيسَ وَمَكْرِهِ وَإِذَا تَأَمَّلَ مَعْنَى الِاسْتِعَاذَةِ وَهُوَ الِالْتِجَاءُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِصَامُ بِهِ وَضَمَّ لَهُ التَّفْكِيرَ فِيمَا وَرَدَ فِي كَظْمِهِ وَثَوَابِهِ وَاسْتِحْضَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْظَمُ قُدْرَةً مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ سَكَنَ غَضَبُهُ لَا مَحَالَةَ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ وَسِيلَةُ الْمُقَرَّبِينَ وَاعْتِصَامُ الْخَائِفِينَ وَمُبَاسَطَةُ الْمُحِبِّينَ وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(وَالرَّابِعُ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ) لِدَفْعِهِ (سِنِي) ابْنُ السُّنِّيِّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -)
وَعَنْ أَبَوَيْهَا «أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَأَنَا غَضْبَى» عَلَى وَزْنِ عَطْشَى «فَأَخَذَ بِطَرَفِ الْمِفْصَلِ» بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ «مِنْ أَنْفِي فَفَرَكَهُ» أَيْ دَلَكَهُ «ثُمَّ قَالَ يَا عُوَيْشُ» تَصْغِيرُ عَائِشَةَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ لِلتَّعَطُّفِ «قُولِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي وَآجِرْنِي» خَلِّصْنِي «مِنْ الشَّيْطَانِ» .
(الْمَقَامُ الرَّابِعُ فِي الْعِلَاجِ الْقَلَعِيِّ وَهُوَ بِإِزَالَةِ السَّبَبِ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الْجَاهِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ وَصَاحِبُ أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ) الْأَدْوَاءِ (يَغْضَبُ بِأَدْنَى شَيْءٍ يُوهِمُ نَقْصًا فِيهِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (مِمَّا لَا يَغْضَبُ بِهِ غَيْرُهُ عَادَةً) وَيَغْضَبُ بِأَدْنَى شَيْءٍ لِكَمَالِهِ وَعَدَمِ النَّقْصِ فِيهِ (وَعِلَاجُهَا) أَيْ عِلَاجُ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الثَّلَاثَةِ (سَبَقَ وَالْمِزَاحُ) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْعُجْبِ أَوْ الْحِرْصِ (وَالْهَزْلُ) ضِدُّ الْجِدِّ (وَالْهُزُؤُ) أَيْ السُّخْرِيَةُ (وَالتَّعْيِيرُ) أَيْ التَّعَيُّبُ وَالتَّوْبِيخُ (وَالْمُمَارَاةُ) أَيْ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ (وَالْمُضَادَّةُ) أَيْ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُعَانَدَةُ (وَالظُّلْمُ) أَيْ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ (بِالْقَوْلِ كَالْكَذِبِ عَلَيْهِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالشَّتْمِ أَوْ) الظُّلْمِ (بِالْفِعْلِ كَالضَّرْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ) ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (وَمَنْعُ حَقِّهِ) بِوَجْهٍ مَا (وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُورِثُ الْغَضَبَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ فَعَلَيْك الِاجْتِنَابَ مِنْهَا) ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا خُلُقٌ مَذْمُومٌ فِي نَفْسِهَا مَعَ أَنَّهَا سَبَبٌ لِلْغَضَبِ وَبَعْضُهَا وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ مُؤَدٍّ إلَيْهِ فَيَكُونُ مَذْمُومًا بِاعْتِبَارِهِ (إلَّا أَنْ يُتَيَقَّنَ تَحَمُّلُهُ وَحِلْمُهُ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ التَّحَمُّلِ وَالْحِلْمِ. (بِمَا حَلَّ مِنْهَا قَلِيلًا) مِثْلُ الْمِزَاحِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَلِيلِ الْمُمَازَحَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَيَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا هَذَا فِيمَا إذَا صَدَرَتْ مِنْك لِغَيْرِك (وَأَمَّا إذَا صَدَرَتْ) هَذِهِ الْأُمُورُ (مِنْ غَيْرِك فِيك فَعَلَيْك الْحِلْمُ وَالْعَفْوُ) لِمَا سَبَقَ (فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ) عَلَى الْحِلْمِ وَالْعَفْوِ لِكَوْنِ طَبْعِك بِخِلَافِهِ (فَعَلَيْك الصَّبْرُ وَالْكَظْمُ) فِي الْحَالِ (وَالِانْتِصَارُ) بَعْدَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ بِقَدْرِ الظُّلَامَةِ (وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِمَا) أَيْ الْكَظْمِ وَالصَّبْرِ (فَلَا تَذْهَبْ وَلَا تَجْلِسْ فِي مَظَانِّهَا) أَيْ مَكَان يُظَنُّ فِيهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ (فَإِنْ وَقَعْتَ) أَنْتَ فِيهَا (بَغْتَةً) فَجْأَةً (فَفِرَّ) مِنْهَا (فِرَارَك) أَيْ مِثْلَ فِرَارِك (مِنْ الْأَسَدِ) فَإِنَّ ضَرَرَهَا أَشَدُّ مِنْهُ (وَأَحْوَالُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ) فِي تَفْسِيرِهَا وَأَحْكَامِهَا فِي الشَّرْعِ (سَتَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي آفَاتِ اللِّسَانِ.
(وَمِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِ الْغَضَبِ) وَالتَّهَوُّرِ (عِنْدَ الْجَاهِلِ) ظَرْفُ الْبَوَاعِثِ (تَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهُ) الْغَضَبَ وَالتَّهَوُّرَ (شَجَاعَةً وَرُجُولِيَّةً وَعِزَّةَ نَفْسٍ وَكِبَرَ هِمَّةٍ وَغَيْرَةً وَحَمِيَّةً) أَيْ تَلْقِيبُهُ بِالْأَلْقَابِ الْمَحْمُودَةِ غَبَاوَةً وَجَهْلًا (حَتَّى تَمِيلَ النَّفْسُ إلَيْهِ وَتَسْتَحْسِنُهُ) وَتَتَشَوَّقُ إلَى تَحْصِيلِهِ ظَنًّا مِنْهَا أَنَّهُ أَمْرٌ مَحْمُودٌ فِي نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ (وَقَدْ يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ)
أَيْ مَيْلُ النَّفْسِ (بِحِكَايَةِ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ الْأَكَابِرِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ) بِالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهَا (وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْأَكَابِرِ) فَيَهِيجُ الْغَضَبُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِهِ (وَهَذَا) الْمَذْكُورُ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَدْحِ بِشِدَّةِ الْغَضَبِ (خَطَأٌ وَجَهْلٌ بَلْ هُوَ مَرَضُ قَلْبٍ وَنُقْصَانُ عَقْلٍ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَسْرَعُ غَضَبًا مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَالشَّيْخُ مِنْ الْكَهْلِ) لِضَعْفِ قُوَاهُ وَالْكَهْلُ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يَبْلُغُ ثَلَاثِينَ إلَى خَمْسِينَ فَشَيْخٌ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ.
(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) الْمَعْرُوفُ مَا عُرِفَ شَرْعًا مِنْ وَاجِبٍ وَنَدْبٍ وَالْمُنْكَرُ حَرَامٌ وَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا (خُصُوصًا إذَا كَانَ بِالْحِدَّةِ وَالْعُنْفِ وَعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّارِعِ وَ) خُصُوصًا (فِي الْمَلَأِ) فُسِّرَ بِأَكَابِرِ الْقَوْمِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ جَهْرًا فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ (فَيَظُنُّ الْمُخَاطَبُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا) مِنْ عِنْدِ (الشَّارِعِ وَأَنَّهُ) أَيْ الْآمِرَ (يُرِيدُ بِهِ) بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (اللَّمْزَ وَالطَّعْنَ لَا النُّصْحَ فَيَغْضَبُ لِجَهْلِهِ) بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ الْعَالِمُ يَعْرِفُهُ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى الشَّارِعِ وَيَعْرِفُ أَنَّهُ النُّصْحُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِي حَقِّهِ فَلَا غَضَبَ (وَعِلَاجُهُ) عِلَاجُ هَذَا السَّبَبِ وَالْبَاعِثِ (التَّكَلُّمُ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ) وَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْحِسْبَةِ. قِيلَ وَعَظَ الْمَأْمُونُ وَاعِظٌ فَعَنَّفَ، فَقَالَ يَا رَجُلُ أَرْفِقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ، فَقَالَ تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] الْآيَةَ. وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا رضي الله عنهما خَرَجَا إلَى الصَّحْرَاءِ فَرَأَيَا شَيْخًا يَتَوَضَّأُ وَلَا يُحْسِنُ الْوُضُوءَ، فَقَالَا مَعَ أَنْفُسِهِمَا إنَّهُ شَيْخٌ فَكَيْفَ نَقُولُ لَهُ إنَّك لَا تَعْلَمُ الْوُضُوءَ لَعَلَّهُ يَغْضَبُ فَاتَّفَقَا أَنْ يَجِيئَا إلَيْهِ فَيُعَلِّمَاهُ الْوُضُوءَ فَدَنَوْا مِنْهُ وَقَالَا يَا شَيْخُ اُنْظُرْ إلَيْنَا أَيُّنَا أَحْسَنُ عِلْمًا بِالْوُضُوءِ فَتَوَضَّآ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ إنَّكُمَا تُحْسِنَانِ الْوُضُوءَ وَلَكِنَّنِي لَا أُحْسِنُهُ فَتَعَلَّمْت مِنْكُمَا هَذَا لِلْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْ الْآمِرِ وَإِنْ وَكَانَ مِثْلَهُ فَيُشْفِقُ وَيَرْفُقُ بِهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ وَإِنْ أَصْغَرَ يُضَيِّفُهُ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ حُكِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَضَافَ مِائَتَيْ مَجُوسِيٍّ فَلَمَّا أَكَلُوا الطَّعَامَ قَالُوا لَهُ مَا تَأْمُرُنَا يَا إبْرَاهِيمُ قَالَ إنَّ لِي إلَيْكُمْ حَاجَةً، فَقَالُوا مَا حَاجَتُك، فَقَالَ اُسْجُدُوا لِرَبِّي مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَشَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا إنَّ هَذَا الرَّجُلَ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا كَثِيرًا فَلَوْ سَجَدْنَا لِرَبِّهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى آلِهَتِنَا لَا تَضُرُّ تِلْكَ السَّجْدَةُ فَسَجَدُوا جَمِيعًا فَلَمَّا وَضَعُوا رُءُوسَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ نَاجَى رَبَّهُ، فَقَالَ رَبِّ إنِّي جَهَدْت جَهْدِي حَتَّى حَمَلْتهمْ عَلَى هَذَا وَلَا طَاقَةَ لِي فَوْقَ هَذَا، وَإِنَّمَا التَّوْفِيقُ بِيَدِك اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا (وَالْإِضَافَةُ إلَى الشَّارِعِ وَفِي السِّرِّ إنْ أَمْكَنَ) بِأَنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلٍ مُنْكَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا إذَا بَاشَرَ بِالْفِعْلِ فَلَا يُمْكِنُ التَّكَلُّمُ حِينَئِذٍ سِرًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّكَلُّمِ جَهْرًا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ قَالَ فِي النِّصَابِ يَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَ فِي السِّرِّ إنْ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ فِي السِّرِّ فَقَدْ زَانَهُ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوْعِظَةُ فِي السِّرِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَلَانِيَةِ (وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعِ) عَطْفٌ عَلَى التَّكَلُّمِ لِيَزُولَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ (وَأَمَّا إذَا غَضِبَ مَعَ الْعِلْمِ) بِالشَّرَائِعِ (فَمِنْ الرِّيَاءِ أَوْ الْكِبْرِ أَوْ الْعُجْبِ وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (الظَّنُّ الْخَطَأُ) لِعَدَمِ مُطَابَقَته لِلْوَاقِعِ
(وَعَدَمُ فَهْمِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ) مِنْ كَلَامِهِ بِأَنْ يُرِيدَ مِنْ كَلَامِهِ مَعْنًى مَجَازِيًّا وَهُوَ يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ لِخَفَاءِ قَرِينَتِهِ أَوْ مَعْنًى حَقِيقِيًّا وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الْمَجَازِيِّ أَوْ مُشْتَرَكٌ بِتَزَاحُمِ الْمَعَانِي (فَعَلَى الْمُتَكَلِّمِ التَّبْيِينُ وَالتَّفْسِيرُ) بِشَرَائِطِ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ ابْتِدَاءً بِكَلَامٍ يُوهِمُ الْمُخَاطَبَ غَيْرَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِجْمَالِ فِي كَلَامِهِ) الظَّاهِرُ لَيْسَ مَا فِي مُصْطَلَحِ الْأُصُولِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ بَلْ مَا يَشْمَلُ الْكُلَّ بَلْ الْمُشْتَرَكُ أَيْضًا وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَلَا يَقَعُ فِي كَلَامِ غَيْرِ الشَّارِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِبَاسِ أَوْ بِلَفْظِ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ شَامِلَةٍ لِلْمُتَشَابِهِ كَمَا فِي كَلِّمْ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ وَاتَّقُوا مَوَاضِعَ التُّهَمِ فِي كَلَامِهِ (وَاحْتِمَالُ الْأَذَى) مِنْ جَانِبِ الْمُخَاطَبِ قَالَ فِي الشِّرْعَةِ وَشَرَائِطُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ثَلَاثَةٌ صِحَّةُ النِّيَّةِ مِنْ إعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ وَكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ الْحُجَّةِ، وَالثَّالِثُ الصَّبْرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ. قَالَ فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ وَيَجِبُ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: رِفْقٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]- فَإِنَّ الْغِلْظَةَ لَا تَزِيدُ إلَّا فَسَادًا، وَحِلْمٌ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُقَالُ لَهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَفِقْهٌ لِئَلَّا يَصِيرَ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ مُنْكَرًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ فِيمَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ كَمَا سَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَمُجَانَبَةُ التَّجَسُّسِ وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَعُسُّ لَيْلَةً مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما فَاطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ بَابٍ فَإِذَا شَيْخٌ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَابٌ وَقَيْنَةٌ تُغَنِّيهِ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَا أَقْبَحُ شَيْخًا مِثْلَك يَكُونُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ فَقَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ وَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْشُدُك اللَّهَ إلَّا مَا أَنْصَفْتنِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ قَالَ قُلْ قَالَ إنْ كُنْت عَصَيْت اللَّهَ وَاحِدَةً فَقَدْ عَصَيْت أَنْتَ فِي ثَلَاثٍ قَالَ مَا هُنَّ قَالَ تَجَسَّسْت وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وَتَسَوَّرْت وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عز وجل {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إلَى {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]- وَدَخَلْت بِغَيْرِ إذْنٍ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه صَدَقْت فَهَلْ أَنْتَ عَافٍ لِي، فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك فَخَرَجَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَيْلٌ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ يَجِدُ الرَّجُلَ يَخْتَفِي بِهَذَا عَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَالْآنَ يَقُولُ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَتَجَسَّسَ وَلَا يَتَسَوَّرَ وَلَا يَدْخُلَ بَيْتًا بِلَا إذْنٍ (وَعَلَى السَّامِعِ التَّثَبُّتُ) أَيْ الثَّبَاتُ (وَالتَّأَمُّلُ) فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُجُرَاتِ - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] . أَيْ بِخَبَرٍ كَذِبٍ. {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]- (وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ) فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى وَجْهٍ قَبِيحٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَا تَظُنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجْت مِنْ فِي أَخِيك سُوءًا وَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا ثُمَّ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ لَكِنْ قَالَ فِي الْفَيْضِ بِصُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حَدِيثٍ حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ وَقَالَ يَعْنِي اعْتِقَادُ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عِبَادَةٌ. وَقَدْ قِيلَ أَسْوَأُ النَّاسِ حَالًا مَنْ لَا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنِّهِ وَلَا يَثِقُ بِهِ أَحَدٌ لِسُوءِ فِعْلِهِ وَقَدْ بَلَغَ حُسْنُ الظَّنِّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إلَى أَنْ يَجِدَ الْجَلَّادَ الَّذِي يَضْرِبُ الرِّقَابَ وَيُعَذِّبُ أَخَفَّ حِسَابًا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَ إلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ (وَإِنْ اشْتَبَهَ) مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ يَعْنِي يَجْتَهِدُ أَوَّلًا لِتَأْوِيلِ كَلَامِهِ بِمَحْمَلٍ حَسَنٍ وَلَوْ بِاحْتِمَالٍ ضَعِيفٍ أَوْ قَلِيلٍ مِنْ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ أَوْ حَقِيقَةٍ مُقَابَلَةِ مَجَازٍ مَشْهُورٍ وَنَحْوِهَا (فَعَلَيْهِ الِاسْتِفْسَارُ) أَيْ يَسْأَلُهُ عَنْ مُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ (لَا الْعَجَلَةُ وَسُوءُ الظَّنِّ) فَإِنَّهُ مَذْمُومٌ فَلَعَلَّ لَهُ مَحْمَلًا صَحِيحًا وَأَنْتَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ قَالَ فِي الدُّرَرِ وَالْبَزَّازِيَّةِ إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ الْإِكْفَارَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ يَمِيلُ الْعَالِمُ إلَى مَا يَمْنَعُهُ وَلَا يُرَجَّحُ الْوُجُوهُ عَلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا
…
وَآفَتُهُ مِنْ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
قَالَ فِي تَبْيِينِ الْمَحَارِمِ إنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ فِي الْقَلْبِ سُوءُ الظَّنِّ وَهُوَ حَرَامٌ لِآيَةِ - {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]- الْآيَةَ وَلِحَدِيثِ «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَفِي الْإِحْيَاءِ وَكَمَا يَجِبُ
عَلَيْكَ السُّكُوتُ بِلِسَانِك عَنْ مَسَاوِيهِ يَجِبُ عَلَيْك بِقَلْبِك بِتَرْكِ إسَاءَةِ الظَّنِّ فَسُوءُ الظَّنِّ غِيبَةُ الْقَلْبِ وَأَمَّا إنْ انْكَشَفَ بِيَقِينٍ وَمُشَاهَدَةٍ فَلَا يُمْكِنُك أَنْ تَحْمِلَ بِمَحْمَلٍ حَسَنٍ فَعَلَيْك أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى سَهْوٍ وَنِسْيَانٍ وَخَطَأٍ مَا أَمْكَنَ.
(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْأَشَدِّ الْمَذْكُورِ (الْفِعْلُ الضَّارُّ الصَّادِرُ خَطَأً كَمَنْ يَرْمِي إلَى صَيْدٍ فَيَقَعُ إلَى إنْسَانٍ أَوْ مَالِهِ فَيَتْلَفُ) ذَلِكَ الْإِنْسَانُ أَوْ مَالُهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَأُ بَاعِثًا شَدِيدًا إلَى الْغَضَبِ وَالْغَضَبُ وَصْفٌ (فَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْطِئِ (التَّثَبُّتُ وَالِاحْتِيَاطُ) فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْ الْخَطَأِ (وَعَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْعَفْوُ) فَإِنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ كَمَا مَرَّ (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) عَلَى الْعَفْوِ يَشْكُلُ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالِامْتِنَاعِ وَلَوْ بِالْغَيْرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَفْوَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ بَلْ هُوَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مُطْلَقًا (فَالتَّضْمِينُ) مَا أَتْلَفَهُ نَفْسًا أَوْ مَالًا (عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ) بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَأَنَّ الْجَرِيمَةَ عَلَى قَدْرِ الْجُرْمِ (لَا التَّهَوُّرُ) وَالْغَضَبُ.
(وَمِنْهُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الدُّنْيَا (فَإِنَّ الرَّجُلَ) الْفَقِيرَ (قَدْ يَسْأَلُ مِنْ غَنِيٍّ شَيْئًا) مِنْ أَمْتِعَةِ الدُّنْيَا (فَلَا يُعْطِيهِ) ذَلِكَ الْغَنِيُّ (فَيَغْضَبَانِ) أَيْ السَّائِلُ وَالْمَسْئُولُ أَمَّا السَّائِلُ فَلِمَنْعِهِ وَأَمَّا الْمَسْئُولُ فَلِسُؤَالِ السَّائِلِ مَا هُوَ شَقِيقُ نَفْسِهِ وَرُوحِهِ أَوْ لِغَضَبِ السَّائِلِ (وَسَيَجِيءُ عِلَاجُهُ) أَيْ عِلَاجُ حُبِّ الدُّنْيَا (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ غَضَبُهُ) غَضَبُ السَّائِلِ (لِمُجَرَّدِ رَدِّ كَلَامِهِ وَعَدَمِ إجَابَتِهِ) لَا لِكَوْنِ الْغَنِيِّ مَانِعًا لِلْمَالِ عَنْهُ (فَمِنْ التَّكَبُّرِ أَوْ الْعُجْبِ) لَا مِنْ الْمَحَبَّةِ (كَمَنْ يَغْضَبُ عِنْدَ رَدِّ شَفَاعَتِهِ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ) كَالشَّفَاعَةِ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ (أَوْ حَرَامٍ) كَالشَّفَاعَةِ لِأَجْلِ عَمَلِ الْفِسْقِ وَأَمَّا الْغَضَبُ لِرَدِّ شَفَاعَتِهِ فِي أَمْرٍ وَاجِبٍ كَالشَّفَاعَةِ فِي إعْطَاءِ الْمَدْيُونِ دَيْنَهُ لِلدَّائِنِ فَإِنَّ لِمُجَرَّدِ رَدِّ كَلَامِهِ فَمِنْ التَّكَبُّرِ أَوْ الْعُجْبِ وَأَنَّ لِفِعْلِهِ أَمْرًا مُنْكَرًا وَتَرْكُهُ وَاجِبًا فَغَضَبٌ فِي اللَّهِ.
(وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدّ بَوَاعِث الْغَضَب (الْغَدْرُ وَهُوَ نَقْضُ الْعَهْد) قِيلَ الْعَهْدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَانِبٍ فَوَعْدٌ وَنَقْضُهُ خُلْفُ وَعْدٍ (وَالْمِيثَاقِ) كَعَطْفِ تَفْسِيرٍ أَوْ مَا يَكُونُ عَلَى التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَثَاقَةِ (بِلَا إيذَانٍ) أَيْ بِلَا إعْلَامٍ بِالنَّقْضِ مَثَلًا إذَا عَاهَدَ الْإِمَامُ مَعَ الْكُفَّارِ وَرَأَى نَقْضَ الْعَهْدِ خَيْرًا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِيذَانِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُهُودِ (وَهُوَ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ)(م) مُسْلِمٌ (عَنْ) أَبِي سَعِيدٍ (الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ» وَهُوَ الْعَلَمُ دُونَ الرَّايَةِ وَالْجَمْعُ أَوْلَوِيَّةٌ كَذَا عَنْ الْمِصْبَاحِ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ لِوَاءٌ لِإِظْهَارِ غَدْرِهِ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ فَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِالْفَضَاحَةِ وَالْمَلُومِيَّةِ وَقِيلَ الْغَادِرُ الَّذِي يَقُولُ قَوْلًا وَلَا يَفِي فَشَمِلَ مَنْ لَمْ يَفِ إذَا نَذَرَ وَبِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ «عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قِيلَ وَالِاسْتُ الْعَجُزُ وَيُرَادُ بِهِ حَلْقَةُ الدُّبُرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللِّوَاءُ مُمْسِكًا لَهُ مِنْ عِنْدِ دُبُرِهِ بِيَدِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ إشَارَةً إلَى إدْبَارِهِ وَتَنْكِيسِ حَالِهِ وَقَبِيحِ أَمْرِهِ وَقِيلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُلْصَقُ بِهِ وَيُدْنَى مِنْهُ دُنُوًّا لَا يَكُونُ مَعَهُ اشْتِبَاهٌ لِيَزْدَادَ فَضِيحَةً وَتَضَاعُفَ اسْتِهَانَةٍ.
وَعَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ يُرِيدُ الشُّهْرَةَ بِهِ وَهِيَ عَظِيمَةٌ فِي النُّفُوسِ كَبِيرَةٌ عَلَى الْقُلُوبِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ وُجُودِهَا مِنْ الْأَلَمِ فِي النُّفُوسِ مَا شَاءَ عَلَى قَدْرِهَا إنَّمَا كَانَ عِنْدَ اسْتِهِ لِتَكُونَ الصُّورَتَانِ مَكْشُوفَتَيْنِ الظَّاهِرَةُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْبَاطِنَةُ فِي الْخُلُقِ انْتَهَى «يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ» فَمَنْ عَظُمَ غَدْرُهُ رُفِعَ لِوَاؤُهُ أَكْثَرَ وَمَنْ كَانَ غَدْرُهُ أَدْنَى رُفِعَ لِوَاؤُهُ كَذَلِكَ وَقِيلَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاء عَلَامَةٌ يُشْهَرُ بِهَا فِي النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ اللِّوَاءِ الشُّهْرَةُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ لِوَاءَ غَدْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (وَهُوَ حَرَامٌ) لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ مِنْ التَّقْبِيحِ وَالتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ بِالْوَعِيدِ سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ مُتَعَدٍّ وَقِيلَ نَهَى الرَّعِيَّةُ الْإِمَامَ عَنْ الْغَدْرِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ لَكِنْ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ خَفَاءٌ وَإِنْ كَانَ دَلَالَةُ الْمَتْنِ قَطْعِيَّةً إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْحُرْمَةِ الْكَرَاهَةُ فَتَأَمَّلْ. (وَضِدُّهُ وَاجِبٌ) وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ
(وَهُوَ حِفْظُ الْعَهْدِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى نَقْضِهِ) أَيْ إبْطَالِ الْعَهْدِ (وَجَبَ إيذَانُهُ) أَيْ إعْلَامُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ اطْرَحْ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ الْعَهْدِ فَيَكُونَ خِيَانَةً {اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] تَعْلِيلٌ لِنَبْذِ الْعَهْدِ وَعَدَمِ مُفَاجَأَةِ الْقِتَالِ بِلَا إعْلَامٍ.
قِيلَ هُنَا وَمِنْ حِفْظِ الْعُهُودِ الْوَاجِبَةِ حِفْظُ عُهُودِ الْمَشَايِخِ فَمَنْ عَاهَدَ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ اللَّهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَهْدِهِ. وَفِي الْفَيْضِ إذَا ظَهَرَ لِلْمُرِيدِ أَنَّ الشَّيْخَ الْآخَرَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ لَا كَمَا لَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ بَيْنَ رَسُولَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الشَّرَائِعِ وَالْمَرْأَةُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُرِيدَ تَرْبِيَةٍ فَإِنْ كَانَ مُرِيدَ صُحْبَةِ الْبَرَكَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ حُكْمِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ يَنْبَغِي لِمَنْ يَخْدُمُ كَبِيرًا كَامِلًا ثُمَّ فَقَدَهُ أَنْ لَا يَصْحَبَ إلَّا مَنْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَإِلَّا جَعَلَ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ كَمَا قِيلَ كُنْ مَعَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ كُنْ مَعَ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] لَعَلَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ إذْنِ الشَّيْخِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ عُهُودِ الْمَشَايِخِ بِمُتَارَكَتِهِمْ وَإِيذَائِهِ إلَيْهِمْ بَلْ إلَى مَنْ يُنْسَب إلَيْهِمْ وَتَحْرِيكُ خَاطِرِهِ بِسُوءٍ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَإِنَّهُ غَدْرٌ.
(وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ الْبَوَاعِثِ (الْخِيَانَةُ وَهُوَ) أَيْ الْخِيَانَةُ قِيلَ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الدَّاءِ وَالْأَوْجَهُ بِمَعْنَى فِعْلِ الْخِيَانَةِ بَلْ بِمَعْنَى السَّبَبِ مِنْ أَسْبَابِ الْغَضَبِ وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ.
(الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ) كَالْغَدْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ كَمَا فِي حَدِيثِ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إلَى أَنْ قَالَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ (وَضِدُّهُ) أَيْ ضِدُّ هَذَا الْأَمْرِ (وَهُوَ الْأَمَانَةُ وَاجِبٌ) كَمَا فِي حَدِيثِ «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» (حَدّ) أَحْمَدُ (ز) الْبَزَّارُ (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَنَسِ) بْنِ مَالِكٍ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَلَّمَا» قِيلَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةُ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا الدَّاخِلَةُ كَافَّةً عَنْ الْعَمَلِ فَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ. أَقُولُ الْمَقَامُ يَقْتَضِي النَّفْيَ لَكِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ وَمَا كَافَّةٌ عَنْ طَلَبِ الْفَاعِلِ فَلَا فَاعِلَ لَهُ وَكَذَا طَالَ وَكَثُرَ نَحْوُ قَلَّمَا يَبْرَحُ زَيْدٌ وَطَالَمَا صَحِبْتُك وَكَثُرَ مَا قُلْت كَذَا.
«خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَالَ لَا إيمَانَ» كَامِلٌ لَا نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَّا بِأَنْ يُرَادَ الِاسْتِحْلَالُ «لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ أَمَّنَهُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَمَنْ خَانَ وَجَارَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ «وَلَا دِينَ» هُوَ الْخُضُوعُ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ وَأَمَانَتِهِ وَالْعَهْدِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَوْمَ إقْرَارِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ «لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» قِيلَ عَنْ التَّيْسِيرِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ وَعِيدٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بَلْ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَنَفْيُ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ قَالَ الْحَكِيمُ وَالْعَهْدُ هُوَ تَذْكِرَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ فَنَسِيَهُ الْأَعْدَاءُ وَحَفِظَهُ الْمُوَحِّدُونَ لَكِنْ يَعْتَرِيهِمْ الْغَفْلَةُ فَأَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْ الْحِفْظِ أَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْ الذِّكْرِ انْتَهَى قَالَ الْمُظْهِرُ هَذَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ إذَا غَدَرَ مَعَ الْحَرْبِيِّ لِمَصْلَحَةٍ فَجَائِزٌ. أَقُولُ إطْلَاقُهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَمَا مَرَّ قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْحَدِيثِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ لِمَفْهُومٍ وَاحِدٍ فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَعْنًى. وَجَوَابُهُ أَنَّهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا لَفْظًا فَقَدْ اتَّفَقَا هُنَا مَعْنًى فَإِنَّ الْأَمَانَةَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّكْلِيفَاتِ فَلَازِمُ الْوُجُودِ كَالْأَمَانَةِ فِي لُزُومِ الْأَدَاءِ وَأَنَّ مَعَ الْخَلْقَ فَظَاهِرٌ وَالْعَهْدُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ فَاثْنَانِ مَا أَخَذَهُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَمَا أَخَذَهُ عِنْدَ هُبُوطِ آدَمَ مِنْ
مُتَابَعَةِ هَدْيِ اللَّهِ بِالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رُسُلِهِ وَأَنَّ مَعَ الْخَلْقِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ تَرْجِعُ الْأَمَانَةُ وَالْعَهْدُ إلَى طَاعَتِهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ فَكَأَنَّهُ لَا إيمَانَ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا يَفِي بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مِيثَاقِهِ وَلَا يُؤَدِّي أَمَانَتَهُ بَعْدَ حَمْلِهَا وَهِيَ التَّكَالِيفُ انْتَهَى مُوجَزًا - ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الْهَيْثَمِيِّ ضَعْفُ الْحَدِيثِ لَكِنَّ الْغَيْرَ وَثَّقَهُ وَفِي الْجَامِعِ «لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طَهُورَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ وَمَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» (وَتَجْرِي الْأَمَانَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي الْقَوْلِ أَيْضًا) كَجَرَيَانِهَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَشَارُ) الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ (مُؤْتَمَنٌ) أَيْ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنْ الْأُمُورِ فَلَا يَكْتُمُ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْتَشِيرِ فَإِنْ كَتَمَ فَقَدْ ضَرَّهُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُشِيرَ إلَّا بِمَا يَرَاهُ صَوَابًا فَإِنَّهُ كَالْأَمَانَةِ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ عَلَى إيدَاعِ مَالِهِ إلَّا ثِقَةً وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الدِّينِ وَهُوَ النُّصْحُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِهِ يَحْصُلُ التَّحَابُبُ وَالِائْتِلَافُ.
وَفِي الْجَامِعِ زِيدَ هُنَا قَوْلُهُ فَإِذَا اُسْتُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ كَمَا تَقَرَّرَ، وَأَقْصَى مُوجِبَاتِ الْبُخْلِ أَنْ لَا يَرَى الْإِنْسَانُ لِأَخِيهِ مَا يَرَاهُ لِنَفْسِهِ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَفِيهِ إيمَاءٌ بِطَلَبِ الِاسْتِشَارَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَقِيلَ الْمُشَاوَرَةُ حِصْنٌ مِنْ النَّدَامَةِ وَأَمْنٌ وَسَلَامَةٌ وَنِعْمَ الْعَوْنُ الْمُشَاوَرَةَ.
(تَنْبِيهٌ)
قَالَ بَعْضُ الْكَامِلِينَ يَحْتَاجُ النَّاصِحُ وَالْمُشِيرُ إلَى عِلْمٍ كَبِيرٍ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْعِلْمُ الْعَامُّ الْمُتَضَمِّنُ لِأَحْوَالِ النَّاسِ وَعِلْمِ الزَّمَانِ وَعِلْمِ الْمَكَانِ وَعِلْمِ التَّرْجِيحِ فَيَفْعَلُ بِحَسَبِ الْأَرْجَحِ عِنْدَهُ وَإِذَا عُرِفَ مِنْ أَحْوَالِ إنْسَانِ الْمُخَالَفَةُ وَأَنَّهُ إذَا أَرْشَدَهُ بِشَيْءٍ فَعَلَ ضِدَّهُ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي، وَهَذَا يُسَمَّى عِلْمَ السِّيَاسَةِ فَلِذَا قَالُوا الْمُشِيرُ وَالنَّاصِحُ يَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرَوِيَّةٍ حَسَنَةٍ وَاعْتِدَالِ مِزَاجٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَأَنٍّ فَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الْخِصَالَ فَخَطَؤُهُ أَسْرَعُ مِنْ إصَابَتِهِ، كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَوْ عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِ كَانَ الْإِثْمُ عَلَى الْمُفْتِي، أَمَّا لَوْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي بَلْ إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ (كَانَ أَثِمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) إذَا كَانَ ثِقَةً فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَغَيْرَ مَطْعُونٍ مِنْ جِهَةِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ أَوْ أَفْتَى بِالْقَوْلِ الْمَهْجُورِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْأَثِمُ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا إذَا اجْتَهَدَ الثِّقَةُ فَأَخْطَأَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْحَقِّ بَيِّنًا وَلَا عَلَى الْمُسْتَفْتِي بَلْ لِلْعَالِمِ أَجْرُ نَقْلٍ عَنْ الْمَوَاهِبِ لَعَلَّ هَذَا فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ. وَفِي الْجَامِعِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ تَارِيخِ ابْنِ عَسَاكِرَ مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ) قِيلَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ (بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ) أَقُولُ فِي الْجَامِعِ هَذَانِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ لَكِنْ بِالزِّيَادَةِ الْمُشَارَةِ آنِفًا، وَالثَّانِي مِنْ أَفْتَى إلَخْ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ لَكِنْ لَمْ أَرَهُ فِي الْمُنَاوِيِّ عَلَى شَرْحِ الْجَامِعِ.
(وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (خُلْفُ الْوَعْدِ) إذَا قَدَرَ عَلَى إنْجَازِهِ، وَأَمَّا خُلْفُ الْوَعِيدِ فَقِيلَ كَرَمٌ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالْوَعْدِ
الْأَوَّلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالثَّانِي مِنْ جَانِبٍ وَنَقْضُ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ عُذْرٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا بِلَا إيذَانٍ وَالثَّانِي خُلْفُ وَعْدٍ حَرَامٌ بِنِيَّةِ الْخُلْفِ، لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَمْدٌ وَالْإِنْجَازُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ نَهْيُ مُنْكَرٍ فَبِتَرْكِهِ يُضَاعَفُ الْإِثْمُ وَبِفِعْلِهِ يَرْتَفِعُ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَمَنْ يَفْعَلْ الذَّنْبَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَوَّلِ الْفَسْخُ وَفِي الثَّانِي التَّوْبَةُ فَإِذَا فَسَخَا الْعَقْدَ وَتَابَا ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَإِلَّا فَيَصِيرُ مُضَاعِفًا إثْمَ نَفْسِ الْعَهْدِ وَالذَّنْبِ وَإِثْمَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَتَرْكَ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْفَسْخُ وَالتَّوْبَةُ وَجَائِزٌ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ ثُمَّ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ لَيْسَ بِعَمْدٍ حَرَامٌ فَلَا يَلْزَمُ رَفْعُهُ وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ الصِّدْقُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ (وَهُوَ) خُلْفُ الْوَعْدِ.
(الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَضِدُّهُ إنْجَازُ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]- رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} [الصف: 4] فَوَلَّوْا يَوْمَ أُحُدٍ فَنَزَلَتْ " لِمَ " مُرَكَّبَةً مِنْ لَامَ الْجَرِّ وَمَا الِاسْتِفْهَامِيَّة، وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ أَلِفِهَا مَعَ حَرْفِ الْجَرِّ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمَا مَعًا وَإِغْنَائِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ (كَبُرَ مَقْتًا) أَشَدَّ الْبُغْضِ نَصَبَهُ لِلتَّمْيِيزِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مَقْتٌ خَالِصٌ كَبِيرٌ عِنْدَ مَنْ يَحْقِرُ دُونَهُ كُلُّ عَظِيمٍ مُبَالَغَةً فِي الْمَنْعِ عَنْهُ (عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا) فَاعِلُ كَبُرَ (مَا تَفْعَلُونَ)(م) مُسْلِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آيَةُ» عَلَامَةُ «الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ» قِيلَ لَا يُنَافِي زِيَادَتُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا مَفْهُومَ لَهُ لَا يَخْفَى أَنَّ مَدَارَ الْإِشْكَالِ مِنْ إضَافَةِ الْآيَةِ إلَى الْمُحَلَّى بِاللَّامِ وَلَا عَهْدَ وَلَا دَلِيلَ لِلْجِنْسِ فَالْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلَا دَخْلَ فِي الْجَوَابِ لِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ وَعَدَمِهِ فَتَأَمَّلْ. «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى» وَهُمَا مِنْ عِظَامِ مَا بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُمَا الْفَرْضُ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ الْعُمُومَ بِالنَّقْلِ «وَزَعَمَ» اعْتَقَدَ «أَنَّهُ مُسْلِمٌ» يَعْنِي لَا يُفِيدُ عَامَّةُ أَعْمَالِهِ وَاعْتِقَادُ إسْلَامِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ صَاحِبُ هَذِهِ الْخِصَالِ وَلَوْ مَجْمُوعُهَا فَالْمُرَادُ الِاسْتِحْلَالُ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَوْ يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَوْ عَلَى عَدَمِ نَفْعِ الْإِيمَانِ فِي الِانْزِجَارِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ كَمَا قِيلَ أَوْ عَلَى سَلْبِ الْمَدْحِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَالْفَاسِقُونَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْمُنَافِقِ مُطْلَقُ الْفَاسِقِ عَلَى الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ أَوْ شَبِيهُ الْمُنَافِقِ، وَمِثْلُهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَوْ يَتَجَوَّزُ فِي لَفْظِ الْآيَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ عَلَى الْأَمَارَةِ وَالْأَمَارَةُ مِمَّا يَتَخَلَّفُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ زَنَى نَزَعَ اللَّهُ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ» . وَقِيلَ لَمَّا اسْتَحَالَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ قِيلَ الْمُرَادُ نِفَاقُ الْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ النِّفَاقِ أَيْ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الْفِعْلِيَّةِ. وَقِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ وَلَمْ يُبَالِ تَهَاوُنًا بِأَمْرِهَا فَيَكُونُ مُنَافِقًا خَالِصًا. وَقِيلَ إنَّ تِلْكَ الْخِصَالَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهَا آيَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي زَمَانِهِ لِاجْتِنَابِ أَصْحَابِهِ عَنْ تِلْكَ الْخِصَالِ وَلَا تُوجَدُ إلَّا فِي الْمُنَافِقِينَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - «إذَا حَدَّثَ» مِمَّا فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا «كَذَبَ» عَمْدًا وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِي جُوِّزَ فِيهَا الْكَذِبُ فَبِآثَارٍ أُخَرَ فَهَذَا مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى إتْيَانِهِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ وَسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ مُمْتَنِعٌ
«وَإِذَا اُؤْتُمِنَ» بِالْمَفْعُولِ وُضِعَ عِنْده أَمَانَةٌ أَمْوَالًا وَأَقْوَالًا لَا سِيَّمَا أَسْرَارًا «خَانَ» . خ م. عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا» أَيْ شَدِيدَ الشَّبَهِ بِالْمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِصَالِ لِغَلَبَتِهَا عَلَيْهِ وَمَصِيرِهَا خُلُقًا وَعَادَةً وَدَيْدَنًا لَهُ قِيلَ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ أَرْبَعٌ مُبْتَدَأٌ بِتَقْدِيرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ وَإِلَّا فَهُوَ نَكِرَةٌ صِرْفَةٌ وَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرُهُ وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ الشَّرْطِيَّةِ صِفَةً وَإِذَا حَدَّثَ خَبَرُهُ. وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ أَرْبَعٌ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ قَالَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ أَرْبَعٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا وَمَنْ مُبْتَدَأُ الْخَبَرِ «وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا» يَتْرُكَهَا. عَنْ ابْنِ حَجَرٍ النِّفَاقُ لُغَةً مُخَالَفَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ فَإِنْ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ، فَنِفَاقُ الْكُفْرِ وَإِلَّا فَنِفَاقُ الْعَمَلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ «إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ» أَخْبَرَ عَنْ مَاضِي الْأَحْوَالِ «كَذَبَ» لِتَمْهِيدِ مَعْذِرَتِهِ فِي التَّقْصِيرِ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَلَمْ يَفِ «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» نَقَضَ الْعَهْدَ وَتَرَكَ الْوَفَاءَ بِهِ «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» مَالَ فِي الْخُصُومَةِ عَنْ الْحَقِّ وَقَالَ الْبَاطِلَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُ هَذَا بِأَبْنَاءِ زَمَانِهِ لِعِلْمِهِ بِنُورِ الْوَحْيِ بَوَاطِنَ أَحْوَالِهِمْ وَمَيْزَ الْمُخْلِصِ وَالْمُنَافِقِ بِمَا يَخُصُّ الْمُنَافِقَ فِي زَمَانِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَسْمَائِهِمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ وَلِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ أَوْقَعُ فِي النَّصِيحَةِ وَأَجْلَبُ لِلدَّعْوَةِ وَأَبْعَدُ عَنْ النُّفُورِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ لِلتَّأْكِيدِ فِي الزَّجْرِ إيذَانًا بِأَنَّهَا طَلَائِعُ النِّفَاقِ الَّتِي هِيَ أَسْمَجُ الْقَبَائِحِ فَإِنَّهُ كُفْرٌ مُمَوَّهٌ بِاسْتِهْزَاءٍ وَخِدَاعٍ مَعَ رَبِّ الْأَرْبَابِ فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ بَالَغَ سبحانه وتعالى فِي شَأْنِهِمْ وَنَعَى عَلَيْهِمْ بِالْخِصَالِ الشَّنِيعَةِ وَمَثَّلَهُمْ بِالْأَمْثَالِ الْقَبِيحَةِ وَجَعَلَهُمْ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأَعَدَّ لَهُمْ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنْ النَّارِ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَوْلَى الْأُمُورِ وَأَحَقُّهَا بِأَنْ يُهَاجَرَ عَنْهَا وَلَا يُؤْتَى مَرَاتِعُهَا فَإِنَّ مَنْ رَتَعَ حَوْلَ حِمَى النِّفَاقِ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ النِّفَاقِ الْعُرْفِيِّ مِنْ مُخَالَفَةِ السِّرِّ الْعَلَنَ مُطْلَقًا فَيُرَاعِي أُمُورَ الدِّينِ عَلَنًا وَيَتْرُكُ مُحَافَظَتَهَا وَالنِّفَاقُ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ الَّذِي لَهُ طَرِيقَانِ وَعَنْ الطِّيبِيِّ أَقْبَحُهَا الْكَذِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]- وَعَنْ الْغَزَالِيِّ وَالْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ قَبِيحٌ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَعِدَ بِشَيْءٍ إلَّا وَتَفِيَ بِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إحْسَانُك لِلنَّاسِ فِعْلًا بِلَا قَوْلٍ فَإِنْ اُضْطُرِرْت إلَى الْوَعْدِ فَاحْذَرْ أَنْ تُخْلِفَ إلَّا بِعَجْزٍ أَوْ ضَرُورَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ وَخَبَائِثِ الْأَخْلَاقِ (فَالْوَعْدُ بِنِيَّةِ الْخُلْفِ كَذِبٌ عَمْدٌ حَرَامٌ) فَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ كَالْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالتَّوْبَةِ لِلْمُذْنِبِ وَإِذَا وَفَّى ارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَإِلَّا يُضَاعَفُ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَسَيَأْتِي جَوَازُ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ مَثَلًا.
(وَأَمَّا بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ فَجَائِزٌ) بَلْ مَطْلُوبٌ إذَا كَانَ فِيهِ إدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى الْمُؤْمِنِ (ثُمَّ إنَّهُ) أَيْ الْوَفَاءَ عَلَى تَقْدِيرِ نِيَّتِهِ (لَا يَجِبُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) وَعِنْدَ غَيْرِ الْأَكْثَرِ وَاجِبٌ كَمَا يَأْتِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مَعَ أَنَّهُ كَذِبٌ لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ آنِفًا كَذِبٌ عَمْدٌ فَمَا لَا عَمْدَ فِيهِ لَا وُجُوبَ فِيهِ (بَلْ يُسْتَحَبُّ فَيَكُونُ خُلْفُهُ) بِعَدَمِ الْوَفَاءِ (مَكْرُوهًا تَنْزِيهًا) وَنُقِلَ عَنْ الْعَيْنِيِّ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِالْهِبَةِ وَغَيْرِهَا اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا وَيُكْرَهُ إخْلَافُهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْقِبَ الْوَعْدَ بِالْمَشِيئَةِ لِيَخْرُجَ عَنْ صُورَةِ الْكَذِبِ وَيُسْتَحَبُّ إخْلَافُ الْوَعِيدِ إذَا كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ انْتَهَى وَفِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ لِابْنِ نَجِيمٍ عِنْدَ عَدِّ الصَّغَائِرِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ قَاصِدًا لَهُ (بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ» أَخَاهُ بِمَا يُسَوَّغُ شَرْعًا «وَنَوَى أَنْ يَفِيَ» لَهُ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا (فَلَمْ يَفِ بِهِ) قِيلَ لِعُذْرِ مَنْعِهِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ) لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا لَا تَقْرِيبَ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ إنْ لِعُذْرٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَحَبًّا وَلَا الْخُلْفُ مَكْرُوهًا بَلْ قَوْلُهُ فَلَا جُنَاحَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا نَعَمْ قَدْ يَجْتَمِعُ الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَا جُنَاحَ فِي مَعْنَى لَا بَأْسَ، وَمِنْ مَعَانِي لَا بَأْسَ مَا هُوَ تَرْكُهُ أَوْلَى لَكِنَّ هَذَا التَّرْكَ غَيْرُ كَرَاهَةٍ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شُمُولَ الْكَرَاهَةِ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ خَمْسَةٌ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَانْعَدَمَ الْحَصْرُ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مُلَامٌ بَلْ الْتَزَمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ تَأْثِيمَهُ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَيُؤَوَّلُ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ حَيْثُ كَانَ الْوَعْدُ لَازِمًا لَهُ بِذَاتِهِ لَا لِلْوَعْدِ وَمَنَعَهُ عُذْرٌ.
قَالَ فِي شَرْحِ الرِّعَايَةِ وَالْوَعْدُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كُلُّ مَا يَدْخُلُ الشَّخْصُ فِيهِ بِسَبَبِ مُوَاعَدَتِك فِي مَضَرَّةٍ أَوْ كُلْفَةٍ وَمِنْهُ مَا لَوْ تَكَلَّفَ طَعَامًا وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ مَوْعِدَك انْتَهَى فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ ت د عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْحَدِيثُ بِهَذَيْنِ الْمَخْرَجَيْنِ عَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَعَ فِي الْجَامِعِ هَكَذَا «إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» ثُمَّ قَالَ فِي الْفَيْضِ الْحَدِيث غَرِيبٌ وَسَنَدُهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ قَالَ الذَّهَبِيُّ وَفِيهِ أَبُو نُعْمَانَ مَجْهُولٌ كَشَيْخِهِ أَبِي الْوَقَّاصِ.
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ اشْتَمَلَ سَنَدُهُ عَلَى مَجْهُولَيْنِ انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَمَا فَهِمْت مِنْ السَّابِق (وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْوَفَاءُ وَاجِبٌ) فَتَارِكُهُ آثِمٌ (وَالْخُلْفُ) بِلَا عُذْرٍ (حَرَامٌ مُطْلَقًا) عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ أَوْ لَا (فَفِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ وَآيَةُ النِّفَاقِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْخِلَافَ مِنْ غَيْرِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ هُنَا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْفَتْوَى إلَّا أَنْ يُرَادَ طَرِيقُ التَّقْوَى كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَشَأْنُ السَّالِكِ) إلَى اللَّهِ (الِاجْتِنَابُ مِنْ الْخِلَافِ) فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ خِلَافَ كُلِّ الْأَئِمَّةِ، إذْ خِلَافُ غَيْرِ مَنْ قَلَّدَهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ خَطِئَ فِي اعْتِقَادِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ كَقَوْلِنَا إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ صَوَابٌ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَمَذْهَبَ غَيْرِهِ خَطَأٌ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ، وَالْمُتَوَرِّعُ التَّقِيُّ يَحْتَرِزُ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَهْمَا قَدَرَ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَآيَةُ النِّفَاقِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ وَلَوْ ظَنًّا فَافْهَمْ (وَالْأَخْذُ بِالْوِفَاقِ) .
قَالَ الْبِسْطَامِيُّ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ وَيَجِبُ عَلَى الصُّوفِيِّ أَنْ يُحَصِّلَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصِحُّ بِهِ عَمَلُهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ عَلَى الِاتِّفَاقِ
بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَالصُّوفِيُّ إذَا كَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ مَثَلًا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فَإِنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ الْجَمْعُ يَأْخُذُوا بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْلَى، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْك إنْ لَمْ تَتَوَضَّأْ فِي الْقُلَّتَيْنِ وَأَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْك إذَا تَوَضَّأْت لِمَسِّ الذَّكَرِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُحِبَّ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَيَدْعُوَا بِالْخَيْرِ لِجَمِيعِهِمْ وَلَا يَتَعَصَّبَ أَصْلًا. وَأَمَّا الرُّخَصُ فَيَجِبُ تَرْكُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ اتِّفَاقًا انْتَهَى هَذَا فِي التَّقْوَى فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخَصِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَتْوَى جَائِزٌ، أَمَّا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلُهُ وَمَحَبَّتُهُ الرُّخَصَ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّرِيعَةِ أَوْ قَبْلَ إعْلَامِ لُزُومِ الْعَزِيمَةِ. قِيلَ قَالَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ مَا لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُ مُدْرِكِهِ أَوْ يُصَادِمُ سُنَّةً صَحِيحَةً أَوْ يُوقِعُ الْخُرُوجَ مِنْهُ فِي خِلَافٍ آخَرَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ. وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْبَلَ رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ مَغْفِرَةَ رَبِّهِ» .
(وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (التَّكَلُّمُ وَعَرْضُ الْحَاجَةِ لِمَشْغُولٍ بِمُهِمٍّ أَوْ مَهْمُومٍ) لِأَمْرٍ مُسْتَقِلٍّ (أَوْ مَغْمُومٍ) لِمَا فَاتَهُ فِي الْمَاضِي (أَوْ مَحْزُونٍ) لِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ فِي الْحَالِ (وَمِنْهُ مَا صَدَرَ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ حَيَوَانٍ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ كَبُكَاءٍ كَثِيرٍ) لِلصَّبِيِّ (وَشَتْمٍ) مِنْ الْمَجْنُونِ (وَعِثَارٍ) مِنْ الْحَيَوَانِ (فَيَغْضَبُ) مِنْهُ (وَرُبَّمَا يَشْتُمُ وَيَلْعَنُ وَيَضْرِبُ) يَجُوزُ ضَرْبُ الْحَيَوَانِ إلَّا وَجْهَهُ (وَهَذَا) النَّوْعُ (مِنْ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْغَضَبِ وَمَنْشَؤُهُ خُبْثُ الطَّبْعِ) وَرَدَاءَةُ النَّفْسِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَمَّلُ أَذَاهُمْ وَيَتَمَشَّى عَلَى هَوَاهُمْ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَوَجَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِبُكَائِهِ» فَإِنَّهُ أَوْجَزَ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَغْضَبْ وَإِنْ اشْتَغَلَ قَلْبُهُ بِهِ (وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا) الْغَضَبِ (مَنْ يَغْضَبُ عَلَى جَمَادٍ) كَحَجَرٍ وَشَجَرٍ (بِسُقُوطِهِ) عَلَيْهِ (أَوْ عَدَمِ قَرَارِهِ) فِي مَكَانِهِ عِنْدَ الْوَضْعِ فَمَا رُوِيَ مِنْ غَضَبِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام عَلَى حَجَرٍ وَضَعَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ فَفَرَّ الْحَجَرُ مَعَ الثَّوْبِ عِنْدَ إرَادَةِ أَخْذِهِ الثَّوْبَ.
فَقِيلَ؛ لِأَنَّ الْحَجَرَ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ الْعُقَلَاءِ (أَوْ عَدَمِ انْقِطَاعِهِ أَوْ) عَدَمِ (انْكِسَارِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَيَغْضَبُ) لِتَخَلُّفِهِ عَنْ مُرَادِهِ (وَيَشْتُمُ بَلْ رُبَّمَا يَضْرِبُهُ وَيُتْلِفُهُ) كَالْكَسْرِ وَالْإِحْرَاقِ وَالْبَيْعِ فَيَدْخُلُ فِي الْمُبَذِّرِينَ (مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا شُعُورَ وَلَا تَأَذِّي) مِنْ ضَرْبِهِ وَشَتْمِهِ (وَ) غَضِبَ (مَنْ يَغْضَبُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ كَالْعِثَارِ) فِي الْمَشْيِ (وَعَدَمِ إحْسَانِ شَيْءٍ) مِنْ أَعْمَالِهِ مِمَّا أَرَادَهُ (فَيَسُبُّ نَفْسَهُ وَيَلْعَنُهُ وَيَضْرِبُهُ) وَرُبَّمَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ أَوْ يُلْقِيهَا مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ (بِخِلَافِ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ بِعِصْيَانِهِ لِلَّهِ تَعَالَى) بِتَرْكِ أَوَامِرِهِ وَارْتِكَابِ مَنَاهِيهِ (أَوْ كَسَلِهِ) عَنْ بَعْضِ الطَّاعَاتِ (أَوْ تَرْكِهِ بَعْضَ النَّوَافِلِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهِ أُمُورًا شَاقَّةً) حَتَّى يَنْقَادَ لِمَا دُونَهَا وَالْأَوْلَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا وَلَعَلَّهُ مِنْ النَّاسِخِ (وَرُبَّمَا يَحْلِفُ أَوْ يَنْذُرُ) بِالْأُمُورِ الشَّاقَّةِ كَالنَّذْرِ بِالصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ التَّصَدُّقِ (وَهَذَا حَسَنٌ وَغَيْرَةٌ) حَمِيَّةٌ (دِينِيَّةٌ) يُثَابُ بِهَا (وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا) الْمَذْكُورِ
(كُلِّهِ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ أَوْ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُنَّتِهِ) ؛ لِأَنَّ هَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ (وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا) الْغَضَبُ (بَعْدَ الْغَضَبِ عَلَى شَيْءٍ وَ) بَعْدَ (قَوْلِ غَيْرِهِ لَهُ هَذَا أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَهْيُهُ أَوْ سُنَّةُ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَيَغْضَبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَبِيبِهِ عليه الصلاة والسلام وَيَكْفُرُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ وَيَكُونُ قَوْلُ الْغَيْرِ وَقُودًا لِغَضَبِهِ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي أَشَدِّ الْمَهَالِكِ.
(فَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَضَبُ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ) الظَّاهِرُ مِنْ الْغَضَبِ الِاسْتِغْرَاقُ فَيَقْتَضِي أَنْ يُفْسِدَ كُلُّ غَضَبٍ الْإِيمَانَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ فَلِذَا إشَارَةٌ إلَى الْغَضَبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْفَاءِ وَلَوْ أُرِيدَ الْعَهْدُ لَزِمَ إثْبَاتُ الْقَرِينَةِ وَهِيَ صَعْبَةٌ وَلَوْ أُوِّلَ فَسَادُ الْإِيمَانِ لَاضْمَحَلَّ الِاسْتِدْلَال إلَّا أَنْ يُرَادَ عُمُومُ الْمَجَازِ (فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا (وَأَمَّا الْغَضَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ فَمَحْمُودٌ، لِأَنَّهُ غَضَبٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى وَحَمِيَّةٌ لِلدِّينِ) صِيَانَةً (وَلَكِنْ بِشَرْطِ الِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقَوْلِ كَيَا كَافِرُ وَيَا مُنَافِقُ وَيَا زَانِي وَيَا لُوطِيُّ وَيَا سَارِقُ فَإِنَّ كُلَّهَا) أَيْ كُلَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ (حَرَامٌ فَيَكُونُ تَهَوُّرًا) خُرُوجًا عَنْ حَدِّ الشَّرْعِ، وَلِذَا يَجِبُ التَّعْزِيرُ وَلَوْ أَتَى مُتَأَوِّلًا، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ التَّعْزِيرُ لَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ (بَلْ يُكْتَفَى بِنَحْوِ يَا جَاهِلُ)، لِأَنَّهُ إمَّا جَاهِلٌ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَالِمٌ لَمْ يَتَمَشَّ عَلَى نَهْجِ عِلْمِهِ وَالْعَالِمُ الْغَيْرُ الْعَامِلِ مُلْحَقٌ بِالْجَاهِلِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] (وَيَا أَحْمَقُ) أَيْ نَاقِصَ الْعَقْلِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحْمَقَ لَمْ يَقْرَبْ الْمُنْكَرَ (إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ) كَالْمُعَانَدَةِ وَالْإِصْرَارِ فِي الْإِظْهَارِ.
فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْتِيَ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ يَرْفُقُ وَيَلِينُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ وَيَنْبَغِي اللِّينُ وَالشَّفَقَةُ وَلَا يَكُونُ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ - {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44]- وَوَعَظَ الْمَأْمُونُ الْخَلِيفَةَ وَاعِظٌ بِعُنْفٍ، فَقَالَ يَا رَجُلُ اُرْفُقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْك إلَى شَرٍّ مِنِّي فَأَمَرَ بِالرِّفْقِ، فَقَالَ {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] فَيَعِظُ بِرِفْقِ وَلِينٍ لَا بِعُنْفٍ وَتَرَفُّعٍ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ دَاعِيَةَ الْمَعْصِيَةِ وَيَحْمِلُ الْعَاصِي عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَالْإِيذَاءِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُهُ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ (وَفِي الْفِعْلِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَوْلِ (كَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ) لَعَلَّ التَّجَاوُزَ فِي الشِّدَّةِ لَا فِي أَصْلِ الضَّرْبِ كَمَا فِي حَدِيثِ «إذَا رَأَيْتُمْ مُنْكَرًا فَلْتُغَيِّرُوا بِيَدِكُمْ» الْحَدِيثَ.
قَالَ فِي النِّصَاب قَدْ يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِالصَّفْحِ وَبِتَعْرِيكِ الْأُذُنِ وَبِالْكَلَامِ الْعَنِيفِ وَبِالضَّرْبِ وَبِأَخْذِ الْمَالِ وَفِي الْفَتَاوَى يُقِيمُ التَّعْزِيرَ كُلُّ أَحَدٍ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ حُدَّ أَوْ عُزِّرَ فَمَاتَ هُدِرَ دَمُهُ وَيَكُونُ بِالْقَتْلِ ابْتِدَاءً وَبِهَدْمِ بَيْتِهِ وَبِالنَّفْيِ عَنْ الْبَلَدِ عَلَى حَسَبِ جِنَايَتِهِ وَرَأْيِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي (وَالْجَارِحِ وَالْمُتْلِفِ بَلْ يُكْتَفَى) فِي الْغَضَبِ بِالْفِعْلِ (بِنَحْوِ الْجَذْبِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ) الَّتِي غَضِبَ لِأَجْلِهَا (إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ بِدُونِ الضَّرْبِ) الشَّدِيدِ فَيَأْتِي بِهِ لِلضَّرُورَةِ (فَيَقْتَصِرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ)
وَلَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.
(وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحْتَسِبِينَ) أَيْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لِلِاحْتِسَابِ ذَلِكَ (يُخْطِئُونَ فِي هَذَا) فَيَضْرِبُونَ فَوْقَ حَاجَةِ الضَّرْبِ (فَيُفَرِّطُونَ) يَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ (فِي الْحِسْبَةِ) هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَشْرُوعٍ وَفِي الْعُرْفِ اُخْتُصَّ بِأُمُورٍ كَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَكَسْرِ الْمَعَازِفِ وَإِصْلَاحِ الشَّوَارِعِ وَالتَّفْصِيلِ فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ (فَلَا يَفِي خَيْرُهُمْ) فِي الِاحْتِسَابِ (شَرَّهُمْ) كَالضَّرْبِ بِغَيْرِ مُبِيحٍ شَرْعِيٍّ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ. وَفِي النِّصَابِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعُسُّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَاطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ بَابٍ فَإِذَا شَيْخٌ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَابٌ وَمُغَنِّيَةٌ تُغَنِّيهِ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَا أَقْبَحَ شَيْخًا مِثْلَك، فَقَالَ الرَّجُلُ إنْ عَصَيْت وَاحِدَةً فَقَدْ عَصَيْت فِي ثَلَاثٍ تَجَسَّسْت وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]- وَتَسَوَّرْت وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وَدَخَلْت بِغَيْرِ إذْنٍ وَقَالَ {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] ، فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْت فَهَلْ أَنْتَ غَافِرٌ لِي، فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك فَخَرَجَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَيْلٌ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَفِي آخِرِ شَرْحِ الْعَضُدِ لِلْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ وَقَعَتْ الْقِصَّةُ بِنَحْوٍ آخَرَ.
(الْمَقَامُ الْخَامِسُ) مِنْ مَقَامَاتِ الْغَضَبِ (فِي الْحِلْمِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ كَظْمَ الْغَيْظِ (تَحَلُّمٌ) تَكَلُّفٌ لِلْحِلْمِ (بَعْدَ هَيَجَانِ الْغَضَبِ مُحْتَاجٌ إلَى مُجَاهِدَةٍ كَثِيرَةٍ) لِقِيَامِ الْغَضَبِ وَلَكِنْ إذَا تَعَوَّدَ ذَلِكَ مُدَّةً صَارَ ذَلِكَ اعْتِيَادًا فَلَا يَكُونُ فِي كَظْمِهِ تَعَبٌ، وَهَذَا طَرِيقُ اكْتِسَابِ الْحِلْمِ كَمَا سَيَجِيءُ (وَالْحِلْمُ) وَهُوَ (عَدَمُ الْهَيَجَانِ) عِنْدَ وُجُودِ مُحَرِّكَاتِ الْغَضَبِ (وَهُوَ) أَيْ الْحِلْمُ (دَالٌّ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ) لِعَدَمِ غَضَبِهِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ لِكَثْرَةِ إدْرَاكِهِ وَشِدَّةِ تَأَنِّيه فِي اسْتِقْبَالِ الْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ وَاصْطِبَارِهِ عَلَيْهَا (وَ) دَالٌّ عَلَى (انْكِسَارِ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَخُضُوعِهِ) أَيْ الْغَضَبِ يَعْنِي تَذَلُّلَهُ وَانْقِيَادَهُ (لِلْعَقْلِ) وَلَكِنْ ابْتِدَاؤُهُ التَّحَلُّمُ وَكَظْمُ الْغَيْظِ لِمَا بَيَّنَّا (وَفِيهِ) فِي الْحِلْمِ (ثَلَاثَةُ مَقَاصِدَ) : فِي فَوَائِدِ الْحِلْمِ وَفِي فَوَائِدِ ثَمَرَاتِهِ وَفِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْحِلْمِ.
(الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ فِي فَوَائِدِ الْحِلْمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى)
أَيْ رِضَاهُ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِهِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَجَبَتْ» صَارَتْ كَالْوَاجِبِ فِي عَدَمِ التَّخَلُّفِ أَوْ وُجُوبًا عَادِيًّا «مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أُغْضِبَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «فَحَلُمَ» فَلَمْ يُؤَاخِذْ مَنْ أَغْضَبَهُ، وَهَذَا فِي الْغَضَبِ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي أَسَانِيدِهِ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ قَدْ وَثَّقَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ كَذَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ سَاقَ مِنْ أَكَاذِيبِهِ هَذَا الْخَبَرَ وَقَالَ فِي اللِّسَانِ ابْنُ طَاهِرٍ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
(طب)
الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَمِنْ مَنَاقِبِهَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - سُئِلَتْ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام قَالَتْ فَاطِمَةُ قِيلَ وَمِنْ الرِّجَالِ قَالَتْ زَوْجُهَا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَقَالَ لَهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا بُنَيَّةُ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنَّك سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ قَالَتْ يَا أَبَتِ فَأَيْنَ مَرْيَمُ قَالَ تِلْكَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا وَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِك أَمَا وَاَللَّهِ زَوَّجْتُك سَيِّدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَإِنْ قِيلَ قُرْبُهَا لِلنَّبِيِّ يَقْتَضِي كَثْرَةَ رِوَايَتِهَا كَعَائِشَةَ وَالْحَالُ أَنَّ أَحَادِيثَهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ قُلْنَا لِعَدَمِ كَثْرَةِ عُمُرِهَا بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام إذْ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِنْتُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَنِصْفٍ فِي رَمَضَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَصَلَّى عَلَى أَبِيهَا وَسَلَّمَ ( «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْحَيِيَّ» صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ الْحَيَاءِ أَيْ الْعَبْدُ صَاحِبُ الْحَيَاءِ الدَّاعِي لِلْجَمِيلِ الْوَادِعِ لِلرَّذَالَةِ ( «الْحَلِيمَ الْمُتَعَفِّفَ» الْمُتَحَرِّزَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ زُهْدًا وَقَنَاعَةً بِلَا ضَرُورَةٍ ( «وَيُبْغِضُ الْبَذِيءَ» مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالسُّوءِ وَقَدْ يُفَسَّرُ بِالسَّفِيهِ «الْفَاحِشَ» الْمُتَكَلِّمَ بِالْفَوَاحِشِ وَالْقَبَائِحِ وَالْعُيُوبِ ( «السَّائِلَ الْمُلْحِفَ» الْمُلِحَّ الْمُجِدَّ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ الْحِلْمَ كَالْحَيَاءِ وَالْعِفَّةِ (وَ) الْمَطْلُوبُ (الثَّانِي كَوْنُهُ) أَيْ الْحِلْمِ (زِينَةً وَمَطْلُوبًا لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)(دِينًا عَنْ) سُفْيَانَ (بْنِ عُيَيْنَةَ) عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ (أَنَّهُ قَالَ «كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِالْعِلْمِ» الْمُرَادُ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَهُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَالْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ التَّعَبُّدِ لَهُ وَالتَّأَدُّبِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي بُسِطَ فِي الصَّدْرِ شُعَاعُهُ فَيَتَّسِعُ وَيَنْشَرِحُ لِلْإِسْلَامِ وَقِيلَ الْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَيَلْزَمُهُ الْمَخَافَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ كُلُّ عِلْمٍ لَا يُورِثُ صَاحِبَهُ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ وَالنَّصِيحَةَ لِلْخَلْقِ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى حُسْنِ مُعَامَلَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَوَامِ مُوَافَقَتِهِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَمُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَصِيَانَةِ الشَّهَوَاتِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام مِنْهُ بِقَوْلِهِ «أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» وَعَنْ الْجُنَيْدِ الْعِلْمُ النَّافِعُ مَا يَدُلُّ صَاحِبَهُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَدَوَامِ الْمُجَاهَدَةِ وَرِعَايَةِ السُّرُورِ وَمُرَاقَبَةِ الظَّاهِرِ وَالْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَعَنْ طَالِبِهَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَمُجَانَبَةِ أَبْوَابِ أَرْبَابِهَا وَتَرْكِ مَا فِيهَا عَلَى مَنْ فِيهَا وَالنَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَهُمْ وَمُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَتَعْظِيمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَقَالَ الْفُضَيْلُ الْعَالِمُ طَبِيبُ الدِّينِ وَدَوَاءُ الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ الطَّبِيبُ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ فَمَتَى يُبْرِئُ غَيْرَهُ قَالَ الشَّاعِرُ
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى
…
طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضٌ
فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ بِهَذَا الْمَحَلِّ مِنْ الدِّينِ كَانَ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَيَهْتَدِي بِنُورِهِ كُلُّ مَنْ صَحِبَهُ وَيَسْتَضِيءُ بِعِلْمِهِ كُلُّ مَنْ تَبِعَهُ وَيَكُونُ حُجَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَبَرَكَةً فِي بِلَادِهِ كَذَا فِي شَرْحِ الْحَكَمِ «وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ» أَيْ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَالتَّجَاوُزِ بَلْ الْإِحْسَانُ وَالْإِكْرَاهُ وَتَحَمُّلُ الْأَذَى وَتَرْكُ الِانْتِقَامِ، وَلِذَا «عِنْدَ كَسْرِ رُبَاعِيَّتِهِ وَشَجِّ وَجْهِهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالُوا لَوْ دَعَوْت اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْت دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ «اغْفِرْ لِقَوْمِي» قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ اُنْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ غَايَةِ الْحِلْمِ إذْ لَمْ يَقْتَصِرْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ ثُمَّ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَدَعَا وَشَفَعَ لَهُمْ، فَقَالَ اغْفِرْ أَوْ اهْدِ ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ لِقَوْمِي ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَالتَّفْصِيلُ فِي الشِّفَاءِ لِعِيَاضٍ كَمَا مَرَّ. «وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى» فَإِنَّهُ لَا أَكْرَمَ مِنْهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] «وَجَمِّلْنِي بِالْعَافِيَةِ» قَبْلَ الْعَافِيَةِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ثُمَّ إنَّ الْعَافِيَةَ هَلْ هِيَ سَلَامَةُ الدِّينِ
مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْعَمَلُ مِنْ الْآفَةِ وَالنَّفْسُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْقَلْبُ مِنْ الْمَنِيَّةِ أَوْ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الدِّينِ وَمُصَاحَبَةُ الصَّالِحِينَ وَزِيَادَةُ الطَّاعَاتِ عَلَى مَمَرِّ السَّاعَاتِ أَوْ قَرَارُ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَحْظَةً أَوْ نَفْسٌ بِلَا بَلَاءٍ وَرِزْقٌ بِلَا عَنَاءٍ وَعَمَلٌ بِلَا رِيَاءٍ أَوْ أَنْ لَا يَكِلَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى غَيْرِهِ أَوْ دِينٌ قَوِيمٌ وَبَدَنٌ غَيْرُ سَقِيمٍ وَقَلْبٌ سَلِيمٌ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ أَوْ الْخَتْمُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْبَعْثُ فِي زُمْرَةِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ وَالْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ بِالسَّلَامَةِ ثُمَّ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَوْ هِيَ عَشْرٌ خَمْسٌ فِي الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْإِخْلَاصُ وَالشُّكْرُ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَخَمْسٌ فِي الْآخِرَةِ بَيَاضُ الْوَجْهِ وَرُجْحَانُ الْمِيزَانِ بِالْحَسَنَاتِ وَالْجَوَازُ عَلَى الصِّرَاطِ وَالنَّجَاةُ مِنْ النِّيرَانِ وَالدُّخُولُ فِي الْجِنَانِ هَذِهِ أَقْوَالٌ فِي الْعَافِيَةِ وَحِينَ «سُئِلَ عليه الصلاة والسلام عَنْ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ قَالَ سَلُوا اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ (وَالثَّالِثُ) مِنْ فَوَائِدِ الْحِلْمِ (كَوْنُهُ قَرِينَ الْعِلْمِ وَمَأْمُورًا بِهِ)(سِنِي) ابْنُ السُّنِّيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُطْلُبُوا الْعِلْمَ» الْأَمْرُ لِمُطْلَقِ الْوُجُوبِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً «وَاطْلُبُوا مَعَ الْعِلْمِ السَّكِينَةَ» قِيلَ الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ وَالسَّكِينَةُ الْوَقَارُ «وَالْحِلْمَ لِيَنُوا» اجْعَلُوا أَخْلَاقَكُمْ لَيِّنَةً «لِمَنْ تُعَلِّمُونَ» مِنْ التَّلَامِذَةِ «وَلِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ» الْأَسَاتِذَةِ «وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ» مِنْ التَّجَبُّرِ وَهُوَ التَّكَبُّرُ «فَيَغْلِبُ جَهْلُكُمْ حِلْمَكُمْ) » . وَالرَّابِعُ (رَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَشَرَفُ الْبُنْيَانِ) فِي الْجِنَانِ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أُنَبِّئُكُمْ» أُخْبِرُكُمْ «بِمَا يُشَرِّفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْبُنْيَانَ» التَّفَعُّلُ لِلتَّصْيِيرِ أَيْ يُصَيِّرُهُ شَرِيفًا «وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تَحْلُمُ» بِضَمٍّ «عَلَى مَنْ جَهِلَ» بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ غَضِبَ «عَلَيْك وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَك» كَمَا فِي حَدِيثِ «أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَصْفَحُ عَمَّنْ ظَلَمَك» وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «أَلَا أُعَلِّمُك خَصْلَاتٍ يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِنَّ عَلَيْك بِالْعِلْمِ فَإِنَّ الْعِلْمَ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ وَالْحِلْمُ وَزِيرُهُ وَالْعَقْلُ دَلِيلُهُ وَالْعَمَلُ قَيِّمُهُ وَالرِّفْقُ أَبُوهُ وَاللِّينُ أَخُوهُ وَالصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنَّمَا كَانَ الْحِلْمُ وَزِيرًا؛ لِأَنَّهُ سَعَةُ الصَّدْرِ وَطِيبُ النَّفْسِ فَإِذَا اتَّسَعَ الصَّدْرُ وَانْشَرَحَ بِالنُّورِ أَبْصَرَتْ النَّفْسُ رُشْدَهَا مِنْ غَيِّهَا وَعَوَاقِبَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَطَابَتْ وَإِنَّمَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِسَعَةِ الصَّدْرِ وَإِنَّمَا يَتَّسِعُ بِوُلُوجِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ فَإِذَا أَشْرَقَ نُورُ الْيَقِينِ ذَهَبَتْ الْحِيرَةُ وَزَالَتْ الْمَخَاوِفُ وَاسْتَرَاحَ الْقَلْبُ وَهِيَ صِفَةُ الْحِلْمِ فَهُوَ وَزِيرُ الْمُؤْمِنِ يُوَازِرُهُ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعِلْمُ فَإِذَا فُقِدَ الْحِلْمُ ضَاقَتْ النَّفْسُ وَانْفَرَدَتْ بِلَا وَزِيرٍ وَفِي حَدِيثٍ أَيْضًا «الْحَلِيمُ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَظَهَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فَائِدَةَ الْحِلْمِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ إذْ مِنْ فَوَائِدِهِ الْوِزَارَةُ وَالسِّيَادَةُ.
(الْمَقْصِدُ الثَّانِي)
مِنْ مَقَاصِدِ الْحِلْمِ (فِي فَوَائِدِ ثَمَرَاتِهِ) أَيْ نَتَائِجِ نَتِيجَتِهِ (أَعْنِي) بِهَا (اللِّينَ وَالرِّفْقَ) ضِدُّ الْعُنْفِ وَهُوَ لَطَافَةُ الْفِعْلِ وَلِينُ الْجَانِبِ (وَهِيَ) أَيْ الْفَوَائِدُ (خَمْسَةٌ الْأَوَّلُ حُرْمَةُ النَّارِ عَلَيْهِ) فَمَنْ
كَانَ حَالُهُ الرِّفْقَ وَاللِّينَ فِي كُلِّ مَنْ يُصَاحِبُهُ فَيُحَرِّمُ عَلَيْهِ النَّارَ (ت عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ» - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قِيلَ عَنْ الْهَيْثَمِيِّ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ ضَعِيفٌ وَقِيلَ عَنْ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ وَبِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ» لَا تَصِلُ النَّارُ إلَيْهِ «عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ» إلَى النَّاسِ فِي الْمَجَالِسِ وَالتَّلَطُّفِ وَالتَّوَاضُعِ ( «هَيِّنٍ» مِنْ الْهَوْنِ وَهُوَ السُّهُولَةُ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ «سَهْلٍ» يَقْضِي حَوَائِجَهُمْ وَيَخْدُمُهُمْ وَيَنْقَادُ لِلشَّرْعِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ بَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ وَيُحَرِّمُهُ عَلَى النَّارِ فَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ سَهْلَ الْعَرِيكَةِ لَيِّنَ الْجَانِبِ طَلْقَ الْوَجْهِ قَلِيلَ النُّفُورِ طَيِّبَ الْكَلِمَةِ.
(وَالثَّانِي الْيُمْنُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ ضِدُّ الشُّؤْمِ (طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرِّفْقُ يُمْنٌ» سَبَبٌ لِلْيُمْنِ وَالْيُمْنُ الْبَرَكَةُ «وَالْخُرْقُ» بِضَمٍّ فَسُكُونٍ «شُؤْمٌ» الْحُمْقُ وَالْجَهْلُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَقِيلَ قِلَّةُ التَّنَبُّهِ لِطَرِيقِ الْحَقِّ حُمْقٌ وَالْجَهْلُ بِالْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ خُرْقٌ بِأَنْ يَفْعَلَ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ أَوْ أَقَلَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ مَحْمُودٍ.
وَفِي الْجَامِعِ عَلَى رِوَايَةِ جَرِيرٍ الرِّفْقُ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالْبَرَكَةُ وَمَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ وَفِيهِ أَيْضًا الرِّفْقُ فِي الْمَعِيشَةِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ التِّجَارَةِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَةٍ» وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ جَرِيرٍ الرِّفْقُ رَأْسُ الْحِكْمَةِ فَإِنَّ بِهِ تَنْتَظِمُ الْأُمُورُ وَيَصْلُحُ حَالُ الْجُمْهُورِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَتَدْرُونَ مَا الرِّفْقُ هُوَ أَنْ تَضَعَ الْأُمُورَ مَوَاضِعَهَا، الشِّدَّةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَاللِّينَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالسَّيْفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَالسَّوْطَ فِي مَوْضِعِهِ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ الْأُمُورِ أُمُورٌ لَا يَصْلُحُ فِيهَا إلَّا الشِّدَّةُ كَالْجُرْحِ يُعَالَجُ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الْحَدِيدِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ بِالشِّدَّةِ شَيْئًا إلَّا أَعْطَوْا بِاللِّينِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَالَ بَرْزُجُمَهْرٍ كُنْ شَدِيدًا بَعْدَ رِفْقٍ لَا رَفِيقًا بَعْدَ شِدَّةٍ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ بَعْدَ الرِّفْقِ عِزٌّ وَالرِّفْقَ بَعْدَ الشِّدَّةِ ذُلٌّ (وَالثَّالِثُ عَدَمُ الْحِرْمَانِ عَنْ الْخَيْرِ)(د) أَبُو دَاوُد (عَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ كُلَّهُ» أَيْ صَارَ مَحْرُومًا مِنْ الْخَيْرِ وَفِيهِ فَضْلُ الرِّفْقِ وَشَرَفُهُ وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الرِّفْقُ فِي الْأُمُورِ كَالْمِسْكِ فِي الْعُطُورِ.
(وَالرَّابِعُ زَيْنُ صَاحِبِهِ. وَالْخَامِسُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ)(م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) قِيلَ فِيهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (إنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ» مِنْ الزَّيْنِ أَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ «الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ بَابَ الرِّفْقِ» فَإِنَّ الرِّفْقَ إلَخْ كَمَا فِي الْجَامِعِ «وَلَا يُنْزَعُ عَنْ شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» مِنْ الشَّيْنِ ضِدُّ الزَّيْن، وَلِذَا كَثُرَ ثَنَاءُ الشَّرْعِ فِي جَانِبِ الرِّفْقِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما مَا الرِّفْقُ قَالَ أَنْ تَكُونَ ذَا أَنَاةٍ وَتَلَايُنٍ وَالْخَرَقُ مُعَادَاةٌ مَنْ أَمَامَك وَمُنَاوَأَةُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ضُرِّك (وَفِي رِوَايَةٍ) عَنْهَا «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ» مِنْ الْأَجْرِ «مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»
أَيْ عَلَى غَيْرِ الرِّفْقِ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي عَبْدَهُ عَلَى الرِّفْقِ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الشِّدَّةِ وَالصَّلَابَةِ.
(الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ فِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْحِلْمِ وَهُوَ)
أَيْ الطَّرِيقُ (التَّحَلُّمُ) أَيْ تَكَلُّفُ الْحِلْمِ (أَعْنِي حَمْلَ النَّفْسِ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ) وَإِنْ كَانَ حَمْلُهُ شَاقًّا عَلَيْهَا (مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِالتَّكَلُّفِ) بِالْمَشَقَّةِ (حَتَّى يَكُونَ مَلَكَةً وَطَبْعًا) كَالْمَلَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الْغَرِيزِيَّةِ (مُسَمًّى بِالْحِلْمِ) ؛ لِأَنَّ الْخُلُقَ عِبَارَةٌ عَنْ هَيْئَةٍ فِي النَّفْسِ يَصْدُرُ عَنْهَا الْفِعْلُ بِسُهُولَةٍ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَتَكَلُّفٍ وَلَكِنْ كَوْنُ التَّكَلُّفِ طَرِيقَ تَحْصِيلٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَجْبُولًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ جِدًّا يَشْكُلُ أَنَّ الْحِلْمَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْفِعْلِ حَتَّى يُمْكِنَ تَحْصِيلُهُ وَاكْتِسَابُهُ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْكَيْفِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إذْ الْكَيْفِيَّاتُ النَّفْسَانِيَّةُ طَبِيعَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْصَالُهَا بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
قَالَ الْمُحَشِّي هَذَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَجْبُولًا عَلَى الْحِلْمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ (طب قُطْن) الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ» هَذَا لَيْسَ بِحَصْرٍ إضَافِيٍّ أَوْ أَكْثَرِيٍّ كَمَا تُوُهِّمَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَبَرَ لَيْسَ إلَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَوَرَثَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَلُّمِ وَتَعَلُّمُهُ طَلَبُهُ مِنْ أَهْلِهِ حَيْثُ كَانُوا فَلَا عِلْمَ إلَّا بِتَعْلِيمِ الشَّارِعِ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ وَمَا تُفِيدُهُ الْعِبَادَةُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ وَالرِّيَاضَةُ إنَّمَا هُوَ فَهْمٌ يُوَافِقُ الْأُصُولَ وَيَشْرَحُ الصُّدُورَ وَيُوَسِّعُ الْعُقُولَ ثُمَّ هُوَ يَنْقَسِمُ لِمَا يَدْخُلُ تَحْتَ دَائِرَةِ الْأَحْكَامِ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ دَائِرَةِ الْعِبَارَةِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِشَارَةُ وَمَا لَا تَفْهَمُهُ الضَّمَائِرُ وَإِنْ أَشَارَتْ إلَيْهِ الْحَقَائِقُ فِي وُضُوحِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ وَتَحَقُّقِهِ عِنْدَ مُتَلَقِّيهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ تَعَلَّمُوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ مَا سَبَقَنَا ابْنِ هِشَامٍ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ يَشُدُّ ثَوْبَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ وَيَسْأَلُ وَكُنَّا تَمْنَعُنَا الْحَدَاثَةُ عَنْهُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُتَكَبِّرٌ وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ بِمَ نِلْت هَذَا الْعِلْمَ قَالَ بِلِسَانٍ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ كَذَا فِي الْفَيْضِ «وَ» إنَّمَا «الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ» أَيْ بِبَسْطِ النَّفْسِ وَتَنْشِيطِهَا لَهُ قَالَ الرَّاغِبُ الْحِلْمُ إمْسَاكُ النَّفْسِ عَنْ هَيَجَانِ الْغَضَبِ وَالتَّحَلُّمُ إمْسَاكُهَا عَنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ إذَا هَاجَ الْغَضَبُ «وَمَنْ تَحَرَّى الْخَيْرَ» أَيْ طَلَبَهُ وَقَصَدَهُ أَوْ مَنْ يَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ الْخَيْرِ «يُعْطَهُ» أَيْ يُعْطِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ «وَمَنْ يَتَّقِ» وَفِي رِوَايَةٍ يَتَوَقَّ «الشَّرَّ» مِثْلَ الْجَهْلِ وَالْغَضَبِ «يُوقَهُ» ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِيَدِهِ وَلَا مَانِعَ لِمَا يُعْطِيهِ.
(تَنْبِيهٌ)
قَالَ بَعْضُهُمْ وَيُحَصَّلُ الْعِلْمُ بِالْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ لَكِنَّهُ نَادِرٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَلِذَا تَمَّمَ الْكَلَامَ نَحْوَ الْغَالِبِ.
قَالَ الرَّاغِبُ الْفَضَائِلُ ضَرْبَانِ نَظَرِيٌّ وَعَمَلِيٌّ وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ بِتَعَلُّمِ بَشَرِيٍّ يَحْتَاجُ إلَى زَمَانٍ وَتَدَرُّبٍ وَمُمَارَسَةٍ وَيَتَقَوَّى الْإِنْسَانُ فِيهِ دَرَجَةً فَدَرَجَةً وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْفِي فِيهِ أَدْنَى مُمَارَسَةٍ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَلَادَةِ وَالثَّانِي بِفَيْضٍ إلَهِيٍّ نَحْوُ أَنْ يُولَدَ إنْسَانٌ عَالِمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ كَعِيسَى وَيَحْيَى عليهما السلام وَقَدْ يَكُونُ بِالطَّبْعِ كَصَبِيٍّ صَادِقِ اللَّهْجَةِ وَالسَّخَاءِ وَآخَرَ بِعَكْسِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْعَادَةِ فَمَنْ صَارَ فَاضِلًا طَبْعًا وَعَادَةً وَتَعَلُّمًا فَهُوَ كَامِلُ الْفَضِيلَةِ وَمَنْ كَانَ رَاذِلًا فَهُوَ كَامِلُ الرَّذِيلَةِ (وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رحمهم الله) تَعَالَى قِيلَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ (إنِّي حَصَّلْت الْحِلْمَ) حَتَّى صِرْت حَلِيمًا (بِمُسَاكَنَةِ مُتَهَوِّرٍ) فِي الْأَفْعَالِ