الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ]
(الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) مِنْ الْخَمْسَةِ (فِي أَسْبَابِ الْكِبْرِ) فِي النَّفْسِ أَوْ الْحَاصِلِ فِي نَفْسِهِ (وَالتَّكَبُّرِ) إظْهَارِهِ لِلْغَيْرِ أَوْ الْحَاصِلِ بِالتَّكَلُّفِ (أَعْنِي مَا بِهِ الْكِبْرُ وَالتَّكَبُّرُ، وَالْعِلَاجِ التَّفْصِيلِيِّ، وَهِيَ) أَيْ الْأَسْبَابُ (سَبْعَةٌ) الْأَوَّلُ عِلْمٌ الثَّانِي عِبَادَةٌ الثَّالِثُ نَسَبٌ الرَّابِعُ جَمَالٌ الْخَامِسُ قُوَّةٌ السَّادِسُ مَالٌ السَّابِعُ أَتْبَاعٌ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَذِهِ أَسْبَابَ الْكِبْرِ (بِاعْتِبَارِ الْجَهْلِ الْمُقَارَنِ بِهَا) بِالْبِنَاءِ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ نَعْتٌ لِلْجَهْلِ (لِأَنَّهَا) الْأَسْبَابَ (فِي أَنْفُسِهَا أَسْبَابٌ تَامَّةٌ وَعِلَلٌ مُوجِبَةٌ) بَلْ جُزْءُ سَبَبٍ وَعِلَّةٌ نَاقِصَةٌ فَمُحْتَاجَةٌ إلَى ضَمِّ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهَا فَبِمُجَرَّدِهَا لَا تَكُونُ كِبْرًا وَلَا تَكَبُّرًا (فَسَبَبِيَّتُهَا) أَيْ الْأَسْبَابُ (فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إلَى الْجَهْلِ) فَيَنْشَأُ مِنْهُ الْأَسْبَابُ (فَعِلَاجُهُ) أَيْ الْجَهْلِ (إزَالَتُهُ) بِالتَّعَلُّمِ (وَسَنُبَيِّنُهُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ الْعِلْمُ) الرَّسْمِيُّ (وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ) الْمُوصِلَةِ إلَى الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ النَّافِعُ فَلَا بَلْ مِنْ الْمُعَالَجَاتِ وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الضَّعَةِ وَالتَّوَاضُعِ فَالْفَضْلُ وَالشَّرَفُ الْوَارِدُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ لَهُ لَا لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ وِزْرٌ وَوَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَكَفَاهُ كَوْنُ ثَمَرَتِهِ وَنَتِيجَتِهِ نَحْوُ كِبْرٍ وَتَكَبُّرٍ (وَأَشَدُّهَا وَأَصْعَبُهَا عِلَاجًا؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْعِلْمِ) فِي نَفْسِهِ (عَظِيمٌ) مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُتَعَلَّقِهِ (عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ النَّاسِ) أَيْضًا فَيَرَى نَفْسَهُ أَعْلَى وَأَشْرَفَ مِنْ الْغَيْرِ فَيَخَافُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لِغَيْرِهِ وَيَنْظُرُ إلَى الْغَيْرِ نَظَرَ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ فَهَذَا أَلْيَقُ بِأَنْ يُسَمَّى جَهْلًا، بَلْ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ مَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ فَيَزِيدُ خَوْفُهُ وَتَوَاضُعُهُ وَخُشُوعُهُ وَيُفْضِي إلَى أَنْ يَرَى كُلَّ النَّاسِ أَوْلَى مِنْهُ لِعِظَمِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَمُقْتَضَاهُ، فَإِذَا كَانَ قَدْرُ الْعِلْمِ عَظِيمًا مُطْلَقًا فَكَانَ الْعِلَاجُ صَعْبًا فَإِنَّ زَوَالَ الْمُسَبَّبِ بِزَوَالِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ شَرِيفًا مُطْلَقًا كَانَ شَرَفُهُ ذَاتِيًّا فَلَا يَزُولُ فَيَصْعُبُ زَوَالُ الْمُسَبَّبِ فَافْهَمْ.
(وَقَدْ سَمِعْت) فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْبَابِ الثَّانِي (مَا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَكَوْنِهِ فَرْضًا) عَيْنًا وَكِفَايَةً، لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مَا يَكُونُ سَبَبَ الْكِبْرِ هُوَ الرَّسْمِيُّ وَمَا ذُكِرَ لَيْسَ بِرَسْمِيٍّ بَلْ عِلْمٌ نَافِعٌ فَلَا تَقْرِيبَ وَأَنَّ مَا لَهُ فَضْلٌ وَوُجُوبٌ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي جُعِلَ آلَةَ الْعَمَلِ عَلَى الْخُلُوصِ وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَبِهِ يُعْلَمُ حَالُ قَوْلِهِ (فَلَا مَجَالَ لِقَلْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ وَتَرْكِ تَعَلُّمِهِ) فَتَأَمَّلْ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فَضْلُهُ كَذَا وَحُكْمُهُ كَذَا يَمْتَنِعُ مُتَارَكَتُهُ هَكَذَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ إتْيَانَ أَصْلِ هَذَا الْعِلْمِ وَاجِبٌ وَمَا دَعَاهُ مِنْ نَحْوِ الْكِبْرِ الْمُحَرَّمِ عَرْضِيٌّ وَمِنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَنَّ الْأَمْرَ الذَّاتِيَّ لَا يَزُولُ بِالْعَوَارِضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ الْعَارِضُ فِي نَفْسِهِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى جِنْسِ مَا يَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ هُنَا قُلْنَا وَمِنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَيْضًا دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ فَإِذَا تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ قُدِّمَ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ أَشَدُّ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ»
وَرُوِيَ فِي الْكَشْفِ حَدِيثُ: «لَتَرْكُ ذَرَّةٍ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» ، وَمِنْ ثَمَّةَ تَرْكُ الْوَاجِبِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ وَلَمْ يُسَامِحْ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ خُصُوصًا الْكَبَائِرَ، كَذَا فِي الْأَشْبَاهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إنْ امْتَنَعَ الطَّرِيقُ بِالْكُلِّيَّةِ فَعِنْدَ إمْكَانِهِ كَمَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا.
(فَإِنَّمَا عِلَاجُهُ) أَيْ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْكِبْرِ (بِمَعْرِفَتَيْنِ) إحْدَاهُمَا مَعْرِفَةُ أَنَّ فَضْلَهُ (إنَّمَا هُوَ بِمُقَارَنَةِ
النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ) فِي ابْتِدَائِهِ وَأَثْنَائِهِ بِأَنْ يَقْصِدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيصَ نَفْسِهِ مِنْ الْجَهْلِ وَمَضَرَّةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَلَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْوَظَائِفِ وَالْمَدَارِسِ وَالْجَاهِ وَالرِّفْعَةِ وَسَوْقِ الدُّنْيَا وَإِلَّا لَانْقَلَبَتْ الْقَضِيَّةُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ (وَالْعَمَلُ بِهِ وَنَشْرُهُ) كَالتَّدْرِيسِ (لِلَّهِ تَعَالَى بِلَا طَمَعِ نَفْعٍ مِنْ النَّاسِ وَأَخْذِ مَالٍ عَلَيْهِ وَإِلَّا) إنْ لَمْ يُقَارَنْ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ وَالنَّشْرِ وَلَمْ يَخْلُ عَنْ الطَّمَعِ وَأَخْذِ الْمَالِ (فَيَنْقَلِبُ عَلَيْهِ) الْأَمْرُ (فَيَصِيرُ أَخَسَّ مَرْتَبَةً مِنْ الْجَاهِلِ وَأَشَدَّ عَذَابًا مِنْهُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ) وَعِنْدَ بَعْضٍ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ تَرَكَ فَرْضَيْنِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ وَالْفَاسِقَ تَرَكَ الْعَمَلَ فَقَطْ. وَأُجِيبَ أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْضَ وَإِنْ وَاحِدًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ عَنْ عِلْمٍ كَانَ أَقْبَحَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ لَيْسَ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» لَعَلَّ أَصْلَ هَذَا الْجَوَابِ مَا ذُكِرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَنَا كَكَثْرَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ وَإِنْ رَجَحَتْ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ وَكَذَا كَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ وَالْفَرْقُ أَنَّ نَيْطَ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، فَلَا تَرْجِيحَ وَإِنْ بِالْمَجْمُوعِ فَنَعَمْ أَقُولُ لَعَلَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَيْسَ الْجَهْلَ الصِّرْفَ وَإِلَّا فَكُفْرٌ، بَلْ فِيمَا وَرَاءَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ الْعِلْمَ الْفَرْضَ غَايَتُهُ تَرْكُ تَفْصِيلِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَدَقَائِقِهِ فَلَا يَصِلُ رُتْبَةَ الْفَرْضِ (فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَالِمِ) الَّذِي انْقَلَبَ عِلْمُهُ عَلَيْهِ وِزْرًا وَوَبَالًا لِقَلْبِهِ الْمَوْضُوعَ وَعَكْسِهِ الْمَعْقُولَ (أَنْ يَتَكَبَّرَ بِهِ) بِعِلْمِهِ ذَلِكَ (عَلَيْهِ) عَلَى الْجَاهِلِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ رُتْبَةً (وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ فَضِيلَةً مَشْرُوطٌ بِمُقَارَنَةِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَكَوْنُ عَذَابِ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ أَشَدَّ مِنْ الْجَاهِلِ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ مِنْ (مَا خُرِّجَ) لَكِنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى وَإِنْ دَلَّ بَعْضُهُ عَلَى التَّمَامِ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ» لِلتَّوَصُّلِ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَاهِ وَالْمَالِ وَالْأَمَانِيِّ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدُّنْيَا كَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْحُكَّامِ «أَوْ» لَمْ يَتَعَلَّمْ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِهِ «أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى» كَمَا ذُكِرَ «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَلْيَتَّخِذْ فِيهَا نُزُلًا فَإِنَّهَا دَارُهُ وَقَرَارُهُ وَفِي الْخَبَرِ «مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ لِاكْتِسَابِ الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةِ فِيهَا كَمَنْ رَفَعَ الْعَذِرَةَ بِمِلْعَقَةٍ مِنْ يَاقُوتٍ» فَمَا أَشْرَفَ الْوَسِيلَةَ وَمَا أَخَسَّ الْمُتَوَسَّلَ إلَيْهِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى دَاوُد عَلَيَّ نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَك عَالِمًا مَفْتُونًا فَيَصُدَّك عَنْ مَحَبَّتِي، أُولَئِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ عَلَى عِبَادِي وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ شَهِدَ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَعَّالُ وَأَنَّهُ لَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إلَّا هُوَ وَأَنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بِيَدِهِ وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا قُسِمَ لَهُ كَيْفَ يَقْصِدُ بِعِلْمِهِ غَيْرَهُ تَعَالَى فَمَا فِي الْفَيْضِ (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى» قَالَ الْمُحَشِّي يَعْنِي الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْأُصُولَيْنِ وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَجَائِزٌ تَعَلُّمُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَبَعْضُهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ «لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ غَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا» بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ الْمُهْمَلَةِ أَيْ الْمَتَاعَ وَقِيلَ عِوَضًا بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ فَالْوَاوُ «لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا» مِنْ الرَّاوِي، وَفِي الْحَدِيثِ «وَإِنَّ عَرْفَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسَافَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» فَإِمَّا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ أَصْلًا إنْ أَوْصَلَهُ إلَى الْكُفْرِ أَوْ أَوَّلًا فَكَامِلُ الْإِيمَانِ لَا يَفْعَلُ مِثْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ، وَحَدِيثُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَشْكُلُ بِهِ فِي مَقَامِنَا هَذَا فَافْهَمْ (طك) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلَانِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ» بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْإِفْتَاءِ وَالْقَضَاءِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَشْمَلَ الْبَذْلَ بِإِظْهَارِ الْعَمَلِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي الْعَمَلِ «وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا» فِي مُقَابَلَةِ تَعْلِيمِهِ أَجْرًا، بَلْ طَلَبَ أَجْرَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا أُجْرَةُ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَأَخْذُ وَظَائِفِ الدَّرْسِ وَالْمَدْرَسَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ وَنَحْوِهَا فَقَدْ عُرِفَ مِنْ مَحَلِّهَا «وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا» يَعْنِي لَمْ يَبِعْهُ بِثَمَنٍ مِنْ أَثْمَانِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، بَلْ طَلَبَ الْجَزَاءَ مِنْ رَبِّ الْجَزَاءِ «فَذَلِكَ» الرَّجُلُ «يَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيتَانُ» جَمْعُ حُوتٍ «الْبَحْرِ» وَكَذَا النَّهْرُ وَالْغَدِيرُ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً إمَّا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْهَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَمَضْمُونُهُ وَاقِعٌ وَأَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مَا لَمْ يَصْرِفْ صَارِفٌ قَطْعِيٌّ كَمَا مَرَّ وَقَدْ قَالَ {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحشر: 1] ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ، وَحِكْمَةُ تَسْبِيحِهِمْ لِتَنْفَعَهُمْ بِالْعِلْمِ إذْ بِالْعِلْمِ يُدْرَى أَنَّ الطَّيْرَ لَا يُؤْذَى وَلَا يُقْتَلُ وَلَا يُذْبَحُ إلَّا فِيمَا شُرِعَ وَلَا يُعَذَّبُ بِجُوعٍ وَظَمَإٍ وَحَبْسٍ فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ لَا يُطِيقُهُ وَلَا يَجُوزُ الصَّيْدُ لِلتَّلَهِّي كَمَا فِي الْفَيْضِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ نُزُولَ الرَّحْمَةِ إنَّمَا هُوَ بِصَلَاحِ الْعَالِمِ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَإِمَّا مَجَازٌ بِمَعْنَى أَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْأَرْضِيَّةِ اسْتِغْفَارَةً مُسْتَجَابَةً حَكَاهُ عَنْ الْحَلِيمِيِّ فِي الْفَيْضِ أَيْضًا لَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ الْعَادِيِّ وَعَلَى تَأْوِيلِ النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ فِي إمْكَانِ ذَلِكَ «وَدَوَابُّ الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ» مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِوُصُولِ بَرَكَةِ الْعِلْمِ إلَيْهِمْ أَوْ تَعْظِيمًا لَهُمْ، وَقِيلَ إنَّ الْحَالَ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ» تَعَالَى «عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمْ يُعَلِّمْ وَلَمْ يُدَرِّسْ وَلَمْ يُصَنِّفْ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ وَالْإِمْكَانِ «وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَشَرَى بِهِ ثَمَنًا» وَلَوْ قَلِيلًا؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّقْلِيلِ حُكِيَ عَنْ تَاجِ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيِّ، أَمَّا عِلْمٌ يَكُونُ مَعَهُ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّمَلُّقُ لِأَرْبَابِهَا وَصَرْفُ الْهِمَّةِ إلَى اكْتِسَابِهَا وَالْجَمْعُ وَالِادِّخَارُ وَالْمُبَاهَاةُ وَالِاسْتِكْثَارُ وَطُولُ الْأَمَلِ وَنِسْيَانُ الْآخِرَةِ فَمَا أَبْعَدَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ عِلْمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلْ يَنْتَقِلُ الشَّيْءُ الْمَوْرُوثُ إلَى الْوَارِثِ إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا عِنْدَ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ، وَمَثَلُ مَنْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ أَوْصَافُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَثَلِ الشَّمْعَةِ تُضِيءُ عَلَى غَيْرِهَا وَهِيَ تُحْرِقُ نَفْسَهَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ الْعَالِمِ الَّذِي عِلْمُهُ
مَنْ هَذَا وَصِفَتُهُ هَكَذَا حُجَّةً عَلَيْهِ وَسَبَبًا فِي تَكْثِيرِ الْعُقُوبَةِ لَدَيْهِ «فَذَلِكَ يُلْجَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إذْ كُلُّ أَمْرٍ مُمْكِنٍ أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ إذْ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْجُرْمِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَانِ الْوُجُوبِ كَالْإِفْتَاءِ عِنْدَ الِاسْتِفْتَاءِ وَالْإِرْشَادِ لَدَى الِاسْتِرْشَادِ وَتَعْلِيمِ عِلْمِ الْحَالِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ «وَيُنَادِي مُنَادٍ هَذَا» لِلتَّحْقِيرِ «الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ» بِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى «عِلْمًا» يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ «فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَشَرَى بِهِ ثَمَنًا وَذَلِكَ» أَيْ الْإِلْجَامُ «حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْحِسَابِ» مِنْ حِسَابِهِ أَوْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ فَيُؤْمَرُ بِهِ بِمَنْزِلِهِ
(خ م) الشَّيْخَانِ (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) مُحِبِّ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنِ مُحِبِّهِ وَزَيْدٍ الَّذِي اتَّخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَهُ ابْنًا (أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى» يُرْمَى ( «فِي النَّارِ فَيَنْدَلِقُ» يَخْرُجُ سَرِيعًا ( «أَقْتَابُ بَطْنِهِ» أَمْعَاؤُهُ «فَيَدُورُ بِهَا» أَيْ الْأَقْتَابِ ( «كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى» حَوْلَ الطَّاحُونِ لِإِدَارَتِهِ «فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ» وَهُمْ فِي عَذَابٍ «فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَك» حَتَّى نَزَلْت هَذَا الْمَنْزِلَ الْمُهَابَ «أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ» إمَّا لِرَابِطَةٍ عَقْلِيَّةٍ بَيْنَ الْعَذَابِ وَالْعَمَلِ أَوْ لِلْقَرَائِنِ «فَيَقُولُ» ذَلِكَ الرَّجُلُ «بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ» وَلَكِنْ لَا أَعْمَلُ فِي نَفْسِي بِمَا أَمَرْت بِهِ الْغَيْرَ «وَلَا آتِيهِ» لَا أَفْعَلُ أَنَا «وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ» لَكِنْ أَيْضًا لَمْ أَنْتَهِ عَنْهُ، بَلْ «وَآتِيهِ»
قَالَ تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، لَكِنْ وَإِنْ كَانَ الْإِثْمُ عَظِيمًا عِنْدَ تِلْكَ الْحَالِ لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِعَدَمِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الْعَمَلُ فَيَأْمُرُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَعَلَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ الْعَمَلِ يَشْتَدُّ الْعَذَابُ (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ) أَيْ أُسَامَةُ (وَإِنِّي سَمِعْته عليه الصلاة والسلام يَقُولُ «مَرَرْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي» إلَى السَّمَاءِ «بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جَبْرَائِيلُ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك» أَيْ وُعَّاظُهُمْ «الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» أَيْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قِيلَ أَمِيرٌ بِلَا عَدْلٍ كَسَحَابٍ بِلَا غَيْثٍ وَغَنِيٌّ بِلَا سَخَاوَةٍ كَشَجَرٍ بِلَا ثَمَرٍ وَعَالِمٌ بِلَا عَمَلٍ كَسِرَاجٍ بِلَا ضَوْءٍ
(طِبّ) الطَّبَرَانِيُّ (نَعَمْ) وَأَبُو نُعَيْمٍ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ
«الزَّبَانِيَةُ أَسْرَعُ إلَى فَسَقَةِ الْقُرَّاءِ» أَيْ فَسَقَةِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ كَمَا وَقَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ هَذَا الْمَخْرَجِ «مِنْهُمْ إلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ» الظَّرْفَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِاسْمِ التَّفْضِيلِ وَالْوَثَنُ بِفَتْحَتَيْنِ الصَّنَمُ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ «فَيَقُولُونَ» أَيْ الْفَسَقَةُ لِلزَّبَانِيَةِ وَالْقَوْلُ لِبَعْضِهِمْ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ إلَخْ «أَيُبْدَأُ بِنَا قَبْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ» تَعَجُّبًا وَإِنْكَارًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَإِنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَاذِيَ الْكَفَرَةَ فِي الْعَذَابِ فَضْلًا عَنْ السَّبْقِ لَهُمْ «فَيُقَالُ لَهُمْ» مِنْ جَانِبِ الزَّبَانِيَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ قِيلَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ أَنْ يَعْلَمُوا وَجْهَ الِابْتِدَاءِ بِهِمْ قُلْنَا مُطْلَقُ الْعِلْمِ لَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ رُبَّ عَالِمٍ لَا يَعْلَمُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً سِيَّمَا الْأَشْيَاءُ الَّتِي خَفِيَ وَجْهُهَا وَدَقَّ فَهْمُهَا لِعَارِضٍ كَمَا أُشِيرَ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَذْهَلَ عَنْهُ لِكَمَالِ دَهْشَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ «لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ» فَإِنَّ الذَّنْبَ وَالْمُخَالَفَةَ تَعْظُمُ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمُخَالِفِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِلتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْنَاقِكُمْ مِنْ الشَّعْرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُوبِقَاتِ إذْ كَانَتْ مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمَّ فَكَانَ الصَّغَائِرُ عِنْدَهُمْ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ كَبَائِرَ، فَبِهَذَا السَّبَبِ يَعْظُمُ مِنْ الْعَالِمِ مَا لَا يَعْظُمُ مِنْ الْجَاهِلِ وَيُتَجَاوَزُ لَهُ مِنْ الْمَعَاصِي مَا لَا يُتَجَاوَزُ لِلْعَالِمِ
فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَشَدِّيَّةَ عَذَابِ الْمُسْلِمِ الْفَاسِقِ مِنْ الْكَافِرِ سِيَّمَا الْمُشْرِكُ الْعَابِدُ لِلْوَثَنِ وَالْإِجْمَاعُ وَصَرِيحُ النُّصُوصِ عَلَى خِلَافِهِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنَّ كَوْنَ الْأَشَدِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَقَطْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَشَدِّيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِفَسَقَةِ الْقُرَّاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ بِنَحْوٍ مِنْ التَّجَوُّزِ وَالْعَلَاقَةُ ظَاهِرَةٌ وَالسَّوْقُ قَرِينَةٌ أَوْ يُرَادُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ جِنْسُ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِنَحْوٍ مِنْ التَّمَحُّلِ أَيْضًا وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْمُخَالِفُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ أَوْ الْإِجْمَاعُ مُنْكَرٌ أَوْ مَوْضُوعٌ وَقَدْ قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ ابْنِ حِبَّانَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ مَوْضُوعٌ وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ غَرِيبٌ وَقِيلَ عَنْ الذَّهَبِيِّ مُنْكَرٌ وَأَيْضًا فِي الْمِيزَانِ كَذَلِكَ لَكِنْ فِي الْفَيْضِ أَيْضًا عَنْ الْمُنْذِرِيِّ لَهُ مَعَ غَرَابَتِهِ شَوَاهِدُ صَحِيحَةٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي ذَاتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ مَعَ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِ لِلْقِيَاسِ كَمَا عَرَفْت وَأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَاتُ الشَّيْءِ بَاطِلًا فَهَلْ يَصِحُّ بِالْوَصْفِ الْعَرْضِيِّ فَافْهَمْ
(حَكَّ) الْحَاكِمُ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام) هَكَذَا فِي النُّسَخِ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى الْعِبَادِ» لِحِفْظِهِمْ الشَّرِيعَةَ مِنْ تَحْرِيفِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ فَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ وَالتَّعْوِيلُ فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ، وَالْأُمَنَاءُ جَمْعُ أَمِينٍ وَهُوَ الثِّقَةُ الْحَافِظُ لِمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ سُؤَالَهُمْ حَيْثُ قَالَ - {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]- قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَإِذَا كَانُوا أُمَنَاءَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَكَفَّلَ كُلُّ عَالِمٍ بِإِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ أَوْ مَسْجِدٍ بِتَعْلِيمِ أَهْلِهَا دِينَهُمْ وَتَمْيِيزِ مَا يَضُرُّهُمْ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يُشْقِيهِمْ مِمَّا يُسْعِدُهُمْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ إلَى أَنْ يُسْأَلَ، بَلْ يَتَصَدَّى لِدَعْوَةِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا النَّاسَ عَلَى جَهْلِهِمْ، بَلْ كَانُوا يُنَادُونَهُمْ فِي الْمَجَامِعِ وَيَدُورُونَ عَلَى دُورِهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَطْلُبُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيُرْشِدُونَهُمْ فَإِنَّ مَرْضَى الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ مَرَضَهُمْ كَمَا أَنَّ مَنْ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِهِ بَرَصٌ لَا يَعْرِفُ بَرَصَهُ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَعَلَى السَّلَاطِينِ أَنْ يُرَتِّبُوا فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ مَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ الْمَرْضَى إذْ لَيْسَ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ إلَّا مَيِّتٌ وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا إلَّا سَقِيمٌ وَمَرَضُ الْقُلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَضِ الْأَبْدَانِ وَالْعُلَمَاءُ أَطِبَّاءُ وَالسَّلَاطِينُ قُوَّامُ دِيَارِ الْمَرْضَى فَكُلُّ مَرِيضٍ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ بِمُدَاوَاةِ الْعَالِمِ سُلِّمَ لِلسُّلْطَانِ لِيَكُفَّ شَرَّهُ عَنْ النَّاسِ كَمَا يُسَلِّمُ الطَّبِيبُ الْمَرِيضَ لِمَنْ يُحِبُّهُ.
وَأَيْضًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ أُمَّتِي» قَالَ الْفَيْضُ فِي شَرْحِهِ قَالَ الْخَطِيبُ
هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ثُمَّ أَطَالَ بِكَلَامٍ لَطِيفٍ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» فَإِنَّ الرُّسُلَ اسْتَوْدَعُوهُمْ الشَّرَائِعَ الَّتِي جَاءُوا بِهَا وَهِيَ الْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَكَلَّفُوا الْخَلْقَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ فَهُمْ أُمَنَاءُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ وَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ وَوَافَقَ سِرُّهُ عَلَنَهُ كَانَ جَارِيًا عَلَى سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الْأَمِينُ وَمَنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ فَهُوَ الْخَائِنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ فَلِذَلِكَ قَالَ «مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ» بِلَا مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ ضَرُورِيَّةٍ وَإِلَّا فَقَدْ يَجِبُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ «وَيَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا» لِأَنَّهُمْ إذَا دَخَلُوا فِيهَا تَلَطَّخُوا بِأَقْذَارِهَا وَتَدَنَّسُوا بِأَدْنَاسِهَا.
«فَإِذَا دَخَلُوا فِي الدُّنْيَا» الَّتِي حُبُّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ «وَخَالَطُوا السُّلْطَانَ» الَّذِي لَا تَخْلُو خُلْطَتُهُ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ وَالْخَوْضِ فِي الثَّنَاءِ وَالْإِطْرَاءِ فِي الْمَدْحِ وَفِيهِ هَلَاكُ الدِّينِ إذْ بِهِ يَهْتَزُّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ «فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاعْتَزِلُوهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَاحْذَرُوهُمْ» أَيْ خَافُوا مِنْهُمْ وَاسْتَعِدُّوا وَتَأَهَّبُوا لِمَا يَبْدُو مِنْهُمْ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّ تَقَرُّبَهُمْ بِاسْتِمَالَةِ قَلْبِهِ وَتَحْسِينِ قَبِيحِ فِعْلِهِ وَمَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَإِنْ أَخْبَرُوهُ بِمَا فِيهِ نَجَاتُهُ اسْتَثْقَلَهُمْ وَأَبْعَدَهُمْ وَالْعُلَمَاءُ سَادَاتُ النَّاسِ، وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ بِلَا الْتِبَاسٍ مَا لَمْ يَتَنَجَّسُوا بِحُطَامِ الدُّنْيَا فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ سَقَطُوا مِنْ مَرَاتِبِهِمْ الْعَلِيَّةِ وَهَانُوا عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «تَعَرَّضْت أَوْ تَصَدَّيْت) شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي (لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْت لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ غُفْرًا» أَسْأَلُك مَغْفِرَةً «سَلْ عَنْ الْخَيْرِ» لِأَنَّهُ الْأَحَبُّ الْحَرِيُّ أَنْ يُسْأَلَ يَعْنِي سَلْ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خَيْرًا «وَلَا تَسْأَلْ عَنْ الشَّرِّ» أَيْ عَنْ النَّاسِ لَا عَنْ نَفْسِ الشَّرِّ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْهُ مَمْدُوحٌ وَإِنْ تُوُهِّمَ.
ثُمَّ أَجَابَ بِقَوْلِهِ «شِرَارُ النَّاسِ» إنَّمَا أَجَابَ عَنْهُ بَعْدَ مَنْعِ سُؤَالِهِ؛ لِأَنَّ فِي جَوَابِهِ فَوَائِدَ مُهِمَّةً وَمَقَاصِدَ جَمَّةً، وَالْأَقْرَبُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْمَنْعَ الْأَصْلِيَّ بَلْ بَيَانٌ لِلْأَوْلَى وَالْأَحْرَى «شِرَارُ الْعُلَمَاءِ» لِأَنَّهُمْ عَصَوْا رَبَّهُمْ عَنْ عِلْمٍ، وَالْمَعْصِيَةُ مَعَ الْعِلْمِ أَقْبَحُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ قَالَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام مَثَلُ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ مَثَلُ صَخْرَةٍ وَقَعَتْ عَلَى فَمِ النَّهْرِ لَا تَشْرَبُ وَلَا تَتْرُكُ الْمَاءَ يَخْلُصُ إلَى الزَّرْعِ وَمَثَلُ قَنَاةِ الْبَالُوعَةِ ظَاهِرُهَا جَصٌّ وَبَاطِنُهَا نَتْنٌ وَمَثَلُ الْقُبُورِ ظَاهِرُهَا عَامِرٌ وَبَاطِنُهَا عِظَامُ الْمَوْتَى، وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ هَذَا الْمَخْرَجِ «شِرَارُ أُمَّتِي شِرَارُ الْعُلَمَاءِ فِي النَّاسِ» .
(طص) الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ» لِأَنَّ عِصْيَانَهُ
عَنْ إدْرَاكٍ وَلِذَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ لِكَوْنِهِمْ جَحَدُوا بَعْدَ الْعِلْمِ وَكَانَ الْيَهُودُ شَرًّا مِنْ النَّصَارَى لِكَوْنِهِمْ أَنْكَرُوا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْظَمَهُمْ ثَوَابًا عَالِمٌ يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَالْعِلْمُ لَا يُهْمِلُ الْعَالِمَ بَلْ يُهْلِكُهُ هَلَاكَ الْأَبَدِ أَوْ يُحْيِيهِ حَيَاةَ الْأَبَدِ فَمَنْ لَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ لَا يَنْجُو مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ فَهَيْهَاتَ خَطَرُهُ عَظِيمٌ وَطَالِبُهُ طَالِبُ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْعَذَابُ السَّرْمَدُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمِلْكِ أَوْ الْهَلَكِ فَهُوَ كَطَالِبِ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الْإِصَابَةُ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّلَامَةِ وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ إنَّمَا كَانَ عَذَابُهُ أَشَدَّ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَعْلَمُ لَذَّةَ الْوُصُولِ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَيَزِيدُ عَذَابُ الْعَالِمِ بِعَذَابِ عَدَمِ الْوُصُولِ عَلَى عَذَابِ الْجَاهِلِ بِالْعَذَابِ الْحِسِّيِّ وَقَدْ قَالُوا الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ أَبْلَغُ مِنْ الْجُسْمَانِيِّ ثُمَّ قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالذَّهَبِيِّ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ غَرِيبٌ سَنَدًا وَمَتْنًا وَعَنْ الْغَيْرِ مَتْرُوكٌ، وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ مِقْسَمٍ وَعَامَّةُ حَدِيثِهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ إسْنَادًا وَمَتْنًا فَالِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِإِتْيَانِهِ مُجَرَّدُ التَّأْيِيدِ لَا الدَّلِيلُ مُسْتَقِلًّا، نَعَمْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ أَصِيلٌ إذْ فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ مَرْفُوعًا «أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ وَالْمُصَوِّرُونَ وَعَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» ، ثُمَّ قَالَ فَلَوْ عَزَاهُ الْمُؤَلِّفُ كَانَ أَحْسَنَ
وَأَنَا أَقُولُ فَلَوْ عَزَاهُ هَذَا الْمُؤَلِّفُ أَيْضًا لَكَانَ أَقْوَمَ مِنْهُ فِي الْحُسْنِ لِكَوْنِ هَذَا الْمَقَامِ مَقَامَ الِاحْتِجَاجِ وَإِثْبَاتُ الْمُدَّعَى دُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (حَدّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ) قِيلَ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ (أَنَّهُ قَالَ «نُبِّئْت» أَيْ أُخْبِرْت يَعْنِي أَخْبَرَنِي بَعْضٌ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَإِلَّا فَجِنْسُ مِثْلِ هَذَا الْمَطْلَبِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالرَّأْيِ وَالدِّرَايَةِ، بَلْ مِنْ النَّقْلِيَّةِ «أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ» الْمُنْتِنِ «فَيُقَالُ لَهُ» أَيْ مِنْ الْمُجَاوِرِ لَهُ فِي الْعَذَابِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الظَّاهِرُ عُصَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ أَمْكَنَ الْإِطْلَاقُ سِيَّمَا بِنَحْوِ بَعْضِ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ «وَيْلَك مَا كُنْت تَعْمَلُ» فِي الدُّنْيَا «أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ» مِنْ الْعَذَابِ «حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتْنِ رِيحِك، فَيَقُولُ كُنْت عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي» لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ وَيْلَك مَعَ قَوْلِهِ أَمَا يَكْفِينَا إلَى آخِرِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الِاسْتِفْهَامِ لِنَحْوِ التَّوْبِيخِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَإِرَادَتُهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ فَائِدَةَ السُّؤَالَ إنَّمَا تَكُونُ لِنَحْوِ الِانْزِجَارِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْ لِإِخْطَارِ الْمَضَرَّةِ لِئَلَّا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي تِلْكَ الدَّارِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ السُّؤَالُ الْحَقِيقِيُّ وَالتَّوْبِيخُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ، بَلْ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ تَفْضِيحِ هَذَا الْعَالِمِ وَتَخْجِيلِهِ وَلِزِيَادَةِ عَذَابٍ عَلَى عَذَابِهِ لَا يُنَاسِبُ كَوْنَ السَّائِلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ هَذَا النَّتْنِ تَعْذِيبٌ لَهُمْ بِمَا اسْتَحَقُّوا مِنْ مَعَاصِيهِمْ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَالِاحْتِجَاجُ بِمُطْلَقِ الْمُرْسَلِ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَكَلَامٌ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ لَا يَكُونُ الْمَرْءُ عَالِمًا) مُعْتَدًّا بِهِ مَرْضِيًّا بِعِلْمِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ (حَتَّى يَكُونَ بِعِلْمِهِ عَامِلًا) فَالْعِلْمُ إنَّمَا يَنْفَعُ بِالْعَمَلِ كَإِبْلِيسَ عَالِمٌ بِدَقَائِقِ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ لِعَدَمِ عَمَلِهِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ أَيُّهَا الْوَلَدُ لَا تَكُنْ مِنْ الْأَعْمَالِ مُفْلِسًا وَمِنْ الْأَحْوَالِ خَالِيًا تَيَقَّنْ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُجَرَّدَ لَا يَأْخُذُ الْيَدَ مِثَالُهُ لَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ فِي بَرِّيَّةٍ عَشَرَةُ أَسْيَافِ
هِنْدٍ مَعَ أَسْلِحَةٍ أُخْرَى وَكَانَ الرَّجُلُ شُجَاعًا وَأَهْلَ حَرْبٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَسَدٌ مَهِيبٌ مَا ظَنُّك هَلْ تَدْفَعُ الْأَسْلِحَةُ شَرَّهُ بِلَا اسْتِعْمَالِهَا وَضَرْبِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَا تَدْفَعُ إلَّا بِالتَّحْرِيكِ وَالضَّرْبِ فَكَذَا لَوْ قَرَأَ مِائَةَ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَتَعَلَّمَهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا لَا تُفِيدُهُ إلَّا بِالْعَمَلِ وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَرَارَةٌ وَمَرَضٌ صَفْرَاوِيٌّ يَكُونُ عِلَاجُهُ بِالسَّكَنْجَبِينِ وَالْكُشْكَابِ فَلَا يَحْصُلُ الْبُرْءُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِهِمَا كيرم وهزار جام مي بيمابي تامي نخوري بشدت شيدابي وَلَوْ قَرَأْت الْعِلْمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَجَمَعْت أَلْفَ كِتَابٍ لَا تَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْعَمَلِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ (حك) حَاكِمٌ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِبَادٌ» جَمْعُ عَابِدٍ «جُهَّالٌ» جَمْعُ جَاهِلٍ يَعْنِي يُكْثِرُونَ الْعِبَادَةَ لَكِنْ مَعَ جَهْلِ أَحْوَالِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ «وَعُلَمَاءُ فُسَّاقٌ» يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الْفِسْقِ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الْعِلْمِ الِامْتِنَاعُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَصَمَ رَجُلَانِ ظَهْرَيْ عَالِمٍ مُتَهَتِّكٍ وَجَاهِلٍ مُتَنَسِّكٍ
وَعَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ:
فَسَادٌ كَبِيرٌ عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ
…
وَأَكْبَرُ مِنْهُ جَاهِلٌ مُتَنَسِّكُ
. هُمَا فِتْنَةٌ فِي الْعَالَمِينَ عَظِيمَةٌ
…
لِمَنْ بِهِمَا فِي دِينِهِ يَتَمَسَّكُ
وَمِنْ جُمْلَةِ فِسْقِهِمْ اخْتِلَاطُهُمْ بِعَوَامِّ النَّاسِ قَالَ سُفْيَانُ فِي جَهَنَّمَ وَادٍ لَا يَسْكُنُ فِيهِ إلَّا الْقُرَّاءُ الزَّائِرُونَ لِلْمُلُوكِ وَعَنْهُ أَيْضًا كُنْت تَكَلَّمْت فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَجْهًا فَأَكَلْت لُقْمَةً مِنْ يَدِ السُّلْطَانِ فَنَسِيت ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ شُؤْمِ تِلْكَ اللُّقْمَةِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الذُّبَابُ عَلَى الْعَذِرَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَارِئٍ عَلَى بَابِ هَؤُلَاءِ (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا» سَوَاءٌ عَمَّنْ طَلَبَهُ أَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَكِنْ اقْتَضَى الْحَالُ تَعْلِيمَهُ «مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ فِي الدِّينِ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» جَزَاءً وِفَاقًا الْمُرَادُ هُوَ الْعِلْمُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الشَّرْعِ أَوْ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ تَوَقُّفَ وُجُودٍ كَعِلْمِ الْكَلَامِ أَوْ كَمَالٍ كَالنَّحْوِ وَالْمَنْطِقِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عَنْ أَهْلِهِ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَامًا مِنْ نَارٍ» هُوَ الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ يُفَسِّرُ بَعْضَهَا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ كَالْحَلِيمِيِّ لَا الْمُطْلَقُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُطْلَقٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ، وَالْحَدِيثِ نَصَّ فِي تَحْرِيمِ الْكَتْمِ وَإِنْ خَصَّهُ بَعْضٌ بِمَا يَلْزَمُهُ أَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ عَنْ أَهْلِهِ مَنْ كَتَمَهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَمَطْلُوبٌ، بَلْ وَاجِبٌ
فَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ وَلَمْ يُجِبْ، فَقَالَ السَّائِلُ أَمَا سَمِعْت خَبَرَ «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا عَنْ أَهْلِهِ» إلَخْ اُتْرُكْ اللِّجَامَ وَاذْهَبْ فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَفْقَهُهُ فَكَتَمْته فَيُلْجِمُنِي وقَوْله تَعَالَى - {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]- تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الْعِلْمِ عَمَّنْ يُفْسِدُهُ أَوْ يَضُرُّ بِهِ أَوْلَى وَلَيْسَ الظُّلْمُ فِي إعْطَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ بِأَقَلَّ مِنْ الظُّلْمِ فِي مَنْعِ الْمُسْتَحِقِّ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ حَبْسَ كُتُبِ الْعِلْمِ فِي صُورَةِ الْكَتْمِ سِيَّمَا إنْ عَزَّتْ نُسْخَتُهُ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ إيَّاكَ وَغُلُولَ الْكُتُبِ، قِيلَ وَمَا غُلُولُهَا قَالَ حَبْسُهَا، كَذَا فِي الْفَيْضِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ:
فَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ
…
وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ.
(ز) الْبَزَّارُ (طط) طَبَرَانِيٌّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَظْهَرُ» يَغْلِبُ «الْإِسْلَامُ» عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ «حَتَّى يَخْتَلِفَ» يَجْرِيَ «التُّجَّارُ فِي الْبَحْرِ» سَلِيمًا وَأَمِينًا «وَحَتَّى يَخُوضَ» يَشْرَعَ «الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ» يُرَاءُونَ، ن وَيَتَكَبَّرُونَ
«يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَقُولُونَ مَنْ أَقْرَأُ مِنَّا مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا» كُلُّ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِنْكَارِ «أُولَئِكَ» الْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ «مِنْكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ «وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ» الْوَقُودُ مَا يُوقَدُ بِهِ النَّارُ (طب) الطَّبَرَانِيُّ (عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ) أَيْ الْحَدِيثَ الْآتِي (إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ قَالَ إنِّي عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ» لِأَنَّ الْعَالِمَ لَا يَدَّعِي الْعِلْمَ وَمُدَّعِي الْعِلْمِ لَا يَكُونُ عَالِمًا.
وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَنْ رَأَيْته مُجِيبًا عَنْ كُلِّ مَا سُئِلَ وَمُعَبِّرًا لِكُلِّ مَا شَهِدَ وَذَاكِرًا لِكُلِّ مَا عَلِمَ فَاسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَهْلِهِ، وَدَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَالِمِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ عِلْمِهِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت صُدُورَ لَا أَدْرِي مَنْ أَفْضَلُ الْبَشَرِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ، وَجَبْرَائِيلُ أَيْضًا حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُ حَتَّى سُئِلَ مِنْ اللَّهِ فَأَجَابَ بِالْمَسَاجِدِ وَفِي شِفَاءِ عِيَاضٍ «حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] سَأَلَ جَبْرَائِيلُ عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ ثُمَّ ذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك، وَقَالَ لَهُ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] » انْتَهَى وَأَيْضًا حِينَ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ أَمَّا تَسْتَحْيِي وَأَنْتَ مُفْتِي الْعِرَاقِيِّينَ، فَقَالَ إنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا {لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] فَكَيْفَ أَنَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا لَا أَدْرِي فَقِيلَ أَنْتَ تَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَذَا فَكَيْفَ تَقُولُ لَا أَدْرِي فَقَالَ آكُلُ عَلَى قَدْرِ عِلْمِي وَلَوْ أَكَلْت عَلَى قَدْرِ جَهْلِي مَا كَفَانِي مَالُ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، وَمِثْلُهَا عَنْ عِيَاضٍ وَعَنْ الْغَيْرِ وَلَعَلَّك سَمِعْته مَعَ زِيَادَةٍ فَارْجِعْ وَنُقِلَ عَنْ الْحِكَمِ الْعَطَائِيَّةِ لَأَنْ تَصْحَبَ جَاهِلًا لَا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ عَالِمًا يَرْضَى عَنْ نَفْسِهِ لَعَلَّ الْمَنْعَ عِنْدَ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالتَّكَبُّرِ وَنَحْوِهِمَا وَإِلَّا فَعِنْدَ الْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ فَيَجُوزُ.
قَالَ الْمُصَنِّف رحمه الله (وَلَا أَدْرِي عَالِمًا مُنْصِفًا) فَإِنَّ غَيْرَ الْمُنْصِفِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ (إذَا نَظَرَ وَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ أَنَّهَا بَرِيئَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ) الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَخْبَارِ (بَلْ الظَّنُّ) الْغَالِبُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَقِينِ (أَنْ يَحْكُمَ) ذَلِكَ الْعَالِمُ (عَلَيْهَا) عَلَى نَفْسِهِ (بِهَا) بِهَذِهِ الْآفَاتِ الْمُهْلِكَاتِ (أَوْ بِبَعْضِهَا) كَمَا قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ أَيُّهَا الْعَالِمُ قَالَ لَسْت بِعَالِمٍ إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ الْعِلْمُ لَا يُبْعِدُ عَنْ الْمَعَاصِي وَلَا يَحْمِلُ عَلَى الطَّاعَةِ وَلَنْ يُبْعِدَ غَدًا عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ (فَتَكَبُّرُهُ بِالْعِلْمِ جَهْلٌ مَحْضٌ) لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُعْتَدَّ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ آلَةً لِلتَّوَاضُعِ لَا لِلْكِبْرِ قِيلَ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ عَرَفَ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ وَسَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ قَوْلِهِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» كَيْفَ يُعَظِّمُ نَفْسَهُ وَيَتَكَبَّرُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي النَّارِ، وَالْعَظِيمُ مَنْ خَلَا مِنْ النَّارِ.
وَثَانِيَةُ الْمَعْرِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتْ أُولَاهُمَا مَعْرِفَةَ فَضْلِ الْعَالِمِ يَعْنِي الثَّانِي فِي عِلَاجِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْكِبْرِ (أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْكِبْرَ مِنْ الْعِبَادِ حَرَامٌ وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ تَعَالَى)
كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي» وَقَالَ «إنَّ لَك عِنْدِي قَدْرًا مَا لَمْ تَرَ لِنَفْسِك قَدْرًا فَإِنْ رَأَيْت لِنَفْسِك قَدْرًا فَلَا قَدْرَ لَك» وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا مِنْ الدِّينِ فَاسْمُ الْعَالِمِ عَلَيْهِ كَذِبٌ وَمَنْ عَلِمَهُ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ وَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ قَدْرًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ مَا يُحِبُّ مَوْلَاهُ (وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْعَالِمَ بَرِيءٌ مِنْ الْآفَاتِ الْمَذْكُورَةِ) كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَطَبْعَهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بِأَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْخُلُوصِ وَالنَّشْرِ كَذَلِكَ (وَأَنَّ لِعِلْمِهِ فَضْلًا) أَيْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ لِعِلْمِهِ فَضْلًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ آفَاتِهِ (فَعِلْمُهُ يُورِثُ خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] اقْتِبَاسٌ وَدَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ (وَ) يُورِثُ (تَوَاضُعًا لَا جَرَاءَةً عَلَى) مَعْصِيَةِ (اللَّهِ) تَعَالَى (وَأَمْنًا مِنْهُ) فِيهِ كَلَامٌ فَتَأَمَّلْ (وَكِبْرًا عَلَى عِبَادِهِ وَعُجْبًا) لِنَفْسِهِ ذِكْرُ الْعُجْبِ هُنَا تَطَفُّلِيٌّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ اسْتِلْزَامَ الْكِبْرِيَاءِ أَوْ عَكْسَهُ (فَلِذَا) أَيْ لِأَجْلِ إيرَاثِ الْعِلْمِ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ (صَارَ الْأَنْبِيَاءُ مُتَوَاضِعِينَ) لِعِبَادِهِ تَعَالَى (خَاشِعِينَ) مِنْ جَنَابِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ ازْدَادَتْ الْخَشْيَةُ وَالتَّوَاضُعُ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ (لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كِبْرٌ وَلَا عُجْبٌ) أَصْلًا فَلَوْ كَانَ الْكِبْرُ جَائِزًا لِغَيْرِهِ تَعَالَى لَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ أَكْثَرَ كِبْرًا فَإِذَا كَانَ حَرَامًا لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ تَعَالَى (فَحَقُّ الْعَبْدِ) يَبْتَهِلُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ (أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ) مِنْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْفُجَّارِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُصَنِّفِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ فَإِنَّ «التَّكَبُّرَ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ» .
(فَإِنْ نَظَرَ) الْعَالِمُ (إلَى جَاهِلِ) تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ عَدَمِ التَّكَبُّرِ عَلَى أَحَدٍ (يَقُولُ هَذَا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى بِجَهْلٍ وَأَنَا عَصَيْته بِعِلْمٍ) لِأَنَّ الْكَيِّسَ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا يَقْضِ مِنْ أَمْرِهِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّهُ التَّسْلِيمُ الْمَذْكُورُ آنِفًا (فَهَذَا) أَيْ هَذَا الْجَاهِلُ (أَعْذَرُ مِنِّي) أَقْرَبُ إلَى كَوْنِهِ مَعْذُورًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ مَعَ الْعِلْمِ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ مِنْهُ مَعَ الْجَهْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجَهْلُ عُذْرًا (وَإِنْ نُظِرَ إلَى عَالِمٍ يَقُولُ هَذَا عِلْمُ مَا لَمْ أَعْلَمْ) مِنْ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ (فَكَيْفَ أَكُونُ مِثْلَهُ) وَأَيْضًا يَقُولُ هَذَا يُؤَدِّي حَقَّ عِلْمِهِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْخُلُوصِ وَأَنَا لَسْت كَذَلِكَ لَكِنْ لِكَوْنِ الْكَلَامِ مَعَ نَفْسِ الْعِلْمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ إلَى جِهَةِ عَمَلِهِ لَكِنْ إنْ كَانَ سَابِقِيَّةُ عِلْمِ النَّاظِرِ أَوْضَحَ وَأَظْهَرَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ كَالْمُدَاهَنَةِ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ (وَإِنْ نَظَرَ إلَى أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا يَقُولُ إنَّهُ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلِي وَإِنْ نَظَرَ إلَى أَصْغَرَ) سِنًّا مِنْهُ (يَقُولُ إنِّي عَصَيْت اللَّهَ قَبْلَهُ)
فَيَكُونُ جُرْمِي أَكْثَرَ مِنْهُ فَكَيْفَ أَكُونُ مِثْلَهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَإِنْ نَظَرَ إلَى مُسَاوِيهِ سِنًّا يَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِحَالِي وَلَا أَعْلَمُ، وَالْمَعْلُومُ أَوْلَى بِالتَّحْقِيرِ مِنْ الْمَجْهُولِ) .
نُقِلَ هُنَا عَنْ رِعَايَةِ الْمُحَاسِبِيِّ مَا حَاصِلُهُ النَّاسُ عِنْدَك إمَّا مَسْتُورٌ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْك عِنْدَك لِتَيَقُّنِك مَكْرُوهَك دُونَهُ وَإِمَّا قَلِيلُ الذَّنْبِ مِنْ ذُنُوبِك فِي طُولِ عُمُرِك فَأَفْضَلُ مِنْك عِنْدَك وَإِمَّا كَثِيرُ الذَّنْبِ عِنْدَك مِنْك وَلَا شَكَّ أَنَّك تُفَارِقُهُ فِي عُمُرِك وَلَا تُفَارِقُ عَنْ نَفْسِك فَيَجُوزُ عَدَمُ عِصْيَانِهِ عِنْدَ عَدَمِ وُقُوفِك عَلَى حَالِهِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ نَفْسَك أَنَّك لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ مَعْصِيَةٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِك وَلَسْت بِمُطَّلِعٍ عَلَى ضَمِيرِهِ فَذُنُوبُك عِنْدَك فِي الْحَقِيقَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَأَمَّا عِظَمُ الذُّنُوبِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ الْغَيْرِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ وَالْخَمْرِ مَعَ عَدَمِهَا مِنْك فَذَلِكَ الْغَيْرُ إمَّا لَيْسَ بِعَالِمٍ فَالْخَوْفُ عَلَيْك مَعَ عِلْمِك لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِك أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ لِجَوَازِ الْعُذْرِ بِالْجَهْلِ فَلَا كِبْرَ بِذَلِكَ أَوْ عَالِمٌ فَاللَّازِمُ عَلَيْك هُوَ الشُّكْرُ لَهُ تَعَالَى عَلَى عِصْمَتِك مِنْ مِثْلِهَا مَعَ إمْكَانِ صُدُورِهَا مِنْك وَعَلَيْك الْبُغْضُ فِي اللَّهِ وَعَلَيْك الْخَوْفُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ هُوَ عَلَيْهِ وَمِمَّا يُحْتَمُ عَلَيْك وَالْحَالُ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَمَ هُوَ بِخَيْرٍ وَأَنْتَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْتَ إنَّمَا مُوَكَّلٌ عَلَى نَفْسِك دُونَهُ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقْبَلَ صَالِحُ أَعْمَالِك وَيُقْبَلَ صَالِحُ عَمَلِهِ مِنْهُ فَيُغْفَرُ لَهُ دُونَك عَلَى أَنَّك لَا تَأْمَنُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي مُفْسِدِ الْأَعْمَالِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ حَالَك فِي عِلْمِهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَقِيًّا عِنْدَهُ وَهُوَ سَعِيدٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْك الْخَوْفُ مِنْ ذَنْبِ غَيْرِك، بَلْ ذَنْبُك {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] فَأَنْتَ عَلَى الْخَوْفِ عَلَى الْغَيْرِ وَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ وَلَمْ يَرْضَ عَنْك وَكَمْ مِنْ رَاحِمٍ لِلْغَيْرِ لِعِصْيَانِهِ قَدْ رَجَعَ إلَى الْمَعَاصِي حَتَّى مَاتَ عَلَيْهَا وَتَابَ الْمَرْحُومُ وَمَاتَ عَلَيْهَا فَالْخَوْفُ عَلَى نَفْسِك أَوْلَى بِك مِنْ الْخَوْفِ عَلَى غَيْرِك وَإِذَا نَظَرْت إلَى الْغَيْرِ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ عَلَى ظَنِّ خَيْرِيَّتِك مِنْهُ ذَاهِلًا عَمَّا سَلَفَ مِنْ فَرَطَاتِك وَجَاهِلًا حَالَك عِنْدَ خِتَامِك فَقَدْ جَمَعْت بَيْنَ غَضَبِ اللَّهِ وَالْكِبْرِ.
(وَإِنْ نَظَرَ) ذَلِكَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ (إلَى مُبْتَدِعٍ) كَصَاحِبِ الْهَوَى (أَوْ كَافِرٍ) لَا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَ (يَقُولُ مَا يُدْرِينِي) أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُنِي دَارِيًا وَعَالِمًا بَكَوْنِي خَيْرًا مِنْهُ (لَعَلَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ وَيُخْتَمُ لِي بِمَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ) مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْكُفْرِ، فَلَيْسَ دَوَامُ الْهِدَايَةِ إلَيَّ كَمَا لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاؤُهَا إلَيَّ وَلَيْسَ لَهُ دَوَامُ الشَّقَاوَةِ كَذَلِكَ فَبِمُلَاحَظَةِ الْخَاتِمَةِ يُنْفَى الْكِبْرُ وَعَنْ رِعَايَةِ الْمُحَاسِبِيِّ مَا حَاصِلُهُ وَعُصَارَتُهُ فَإِنْ قُلْت إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ خُصَمَاءُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِمَّتُهُمْ إطْفَاءُ أَنْوَارِ السُّنَّةِ وَإِحْيَاءُ أَسَاسِ الضَّلَالَةِ وَمَذَلَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالِافْتِرَاءُ بِالتَّأْوِيلِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا بُغْضُهُمْ وَنَحْنُ نَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْعِصْمَةِ مِنْ التَّدَيُّنِ بِمِثْلِ أَدْيَانِهِمْ قُلْت نَعَمْ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قَلْبُك نَاسِيًا لِمَا فَرَّطْت مِنْ الذُّنُوبِ وَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّك مِنْ عِلْمِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ بِالشَّقَاوَةِ أَوْ السَّعَادَةِ أَوْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ فَلَا قَطْعَ لَك أَنَّك خَيْرٌ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّك نَاجٍ وَأَنَّهُمْ الْهَالِكُونَ وَعِلْمُهُ تَعَالَى غَيْبٌ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَمُوتَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ مَيِّتُونَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِك مَا هُمْ عَلَيْهِ عِيَاذًا بِهِ تَعَالَى فَاسْتِصْغَارُهُمْ وَظَنُّ النَّجَاةِ فِي نَفْسِك تَكَبُّرٌ فِي نَفْسِك وَاغْتِرَارٌ بِرَأْيِك.
ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قُلْت إنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ، لَكِنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمَحْضُ فَلَا يَمْتَنِعُ قَلْبِي أَنْ أَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ لِلْقَطْعِ فِي إيمَانِي مَعَ الْقَطْعِ فِي كُفْرِهِ وَأَنَا فِي احْتِمَالِ الْمَآلِ وَإِنْ كُنْت مُتَسَاوِيًا مَعَهُ لَكِنْ فِي اعْتِبَارِ الْحَالِ لَا ارْتِيَابَ فِي فَضْلِي عَلَيْهِ قُلْت نَعَمْ لَكِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَيَمُوتَ وَهُوَ أَعْبَدُ أَهْلِ زَمَانِهِ وَتَمُوتَ أَنْتَ أَكْفَرُ أَهْلِ زَمَانِك وَالْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ مُمْتَنِعٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ كَوْنِ نَحْوِ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى الْأَيْمَانِ يَنْظُرُونَ إلَى نَحْوِ عُمَرَ وَيَعْرِفُونَهُ ضَالًّا وَكَافِرًا وَلَا يَدْرُونَ بِمَا يُخْتَمُ لَهُ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْإِيمَانِ فَاقَ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَعْلَمُونَ إكْرَامَهُ تَعَالَى إيَّاهُ وَكَانَ هُوَ كَافِرًا وَقَدْ ارْتَدَّ قَوْمٌ أَسْلَمُوا عَلَى عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُتِلُوا وَمَاتُوا كُفَّارًا وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ كَافِرًا وَهُوَ مُؤْمِنُونَ وَقُتِلُوا شُهَدَاءَ وَمَاتُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنْ خِفْت الْخَاتِمَةَ وَالْعَاقِبَةَ فَلَنْ يَغْلِبَ عَلَى
قَلْبِك نَجَاتُك وَقَدْ اُحْتُمِلَ مَوْتُك عَلَى الْكُفْرِ وَهُمْ مَيِّتُونَ عَلَى الْإِيمَانِ فَلَا جَرَمَ بَعْدَ مِثْلِ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةِ تَنْفِي الْكِبْرَ وَالِاغْتِرَارَ.
(وَإِنْ نَظَرَ) ذَلِكَ الصَّالِحُ (إلَى كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ نَحْوِهَا) مِمَّا يُرَى شَرًّا مَحْضًا وَمُؤْذِيًا وَمُضِرًّا أَقُولُ بَعْدَمَا ذُكِرَ قِيلَ لَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ إذْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِمَّا قَبْلَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَالْأَوْلَى إمَّا أَنْ لَا يَذْكُرَ أَوْ يَذْكُرَ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَلَّ الْمَقَامَ لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ لَمْ يَكْتَفِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، بَلْ اعْتَنَى بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَالصَّرَاحَةِ (يَقُولُ هَذَا لَمْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا عِتَابَ وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَنَا عَصَيْته فَأَنَا مُسْتَحِقٌّ لَهُمَا) الْعِتَابِ وَالْعَذَابِ (فَيَكُونُ مَصْرُوفَ الْهَمِّ إلَى نَفْسِهِ مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِعَيْبِهِ لِخَوْفِهِ لِعَاقِبَتِهِ) مُعْرِضًا (عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ) .
(فَإِنْ قُلْت كَيْفَ أَبْغُضُ الْمُبْتَدِعَ وَالْفَاسِقَ فِي اللَّهِ تَعَالَى) مُتَعَلِّقٌ بِأَبْغَضُ (وَ) الْحَالُ أَنِّي (قَدْ أُمِرْت بِهِ) بِبُغْضِهِمَا (فَكَيْفَ أَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ رُؤْيَةِ نَفْسِي دُونَهُمَا) وَجَمْعُهُمَا تَنَافٍ وَأَيْضًا كُفْرُ الْكَافِرِ حَالًا ثَابِتٌ قَطْعًا وَإِيمَانُ الْمُؤْمِنِ حَالًا ثَابِتٌ أَيْضًا قَطْعًا بَعْدَ فَرْضِ تَسْلِيمِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْخَاتِمَةِ يَعْنِي اسْتِوَاءَ احْتِمَالِ خِتَامِ الْكَافِرِ عَلَى الْإِيمَانِ وَخِتَامِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يُخْتَمَ كُلُّ مَا هُوَ عَلَيْهِ حَالًا وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَالِيِّ (قُلْت تُبْغِضُ وَتَنْهَى) عَمَّا هُمَا عَلَيْهِ لَا لِتَعَلِّيكَ وَتَرَفُّعِكَ عَلَيْهِ، بَلْ (لِمَوْلَاك إذْ أَمَرَك بِهِمَا) بِالْبُغْضِ وَالنَّهْيِ (لَا لِنَفْسِك وَ) الْحَالُ (أَنْتَ فِيهِمَا لَا تَرَى نَفْسَك نَاجِيًا وَصَاحِبَك هَالِكًا) فِي الْبُغْضِ وَالنَّهْيِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَمَلَ نَفْسِهِ وَانْتِهَاءَهُ وَإِنْ تَمَّ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهُمَا لَكِنْ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَصَحَّ هُوَ الثَّانِي وَلَوْ عِنْدَ بَعْضٍ (بَلْ يَكُونُ خَوْفُك عَلَى نَفْسِك بِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خَفَايَا ذُنُوبِك) كَالرِّيَاءِ الْخَفِيِّ (أَكْثَرَ مِنْ خَوْفِك عَلَيْهِمَا) عَلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْكَافِرِ لَا يَخْفَى أَنَّ خَفَايَا الذُّنُوبِ احْتِمَالٌ وَالْبِدْعَةُ وَالْكُفْرُ قَطْعِيٌّ وَالِاحْتِمَالُ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
وَأَيْضًا قَوْلُهُ (مَعَ الْجَهْلِ بِالْخَاتِمَةِ) أَمْرٌ احْتِمَالِيٌّ وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَإِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ مِنْ قَبِيلِ الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ وَمِنْ قَوَاعِدِهِ أَيْضًا الْأَصْلُ الْعَدَمُ فِي الصِّفَاتِ الْعَارِضَةِ وَمِنْهَا أَيْضًا اسْتِدَامَةُ الشَّيْءِ تُعْتَبَرُ بِأَصْلِهِ فَالْأَصْلُ دَوَامُ الْحَالَةِ الْأُولَى مِنْ الْإِيمَانِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكُفْرِ فِي الْكَافِرِ فَالْغَالِبُ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ مَا هُمَا عَلَيْهِ حَالًا فَلَعَلَّ الْجَوَابَ الْحَاسِمَ لِمَوَادِّ الْإِشْكَالِ جَمِيعًا أَنْ يُقَالَ إنَّ حُرْمَةَ الْكِبْرِ إنَّمَا هِيَ لِكَوْنِهِ صِفَةً مُخْتَصَّةً بِهِ تَعَالَى لَا لِنَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ صُدُورَ مِثْلِ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لَيْسَ الْعَبْدُ فِيهِ مُسْتَقِلًّا، بَلْ إنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقِهِ تَعَالَى مَحْضًا وَأَنَّ التَّكَبُّرَ بِجِنْسِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ إنَّمَا هُوَ رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَأَنَّ النُّصُوصَ لَيْسَتْ بِمُعَلَّلَةٍ وَلَوْ عِنْدَ بَعْضٍ وَقَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ لَهُ عِلَّةٌ وَوَجْهٌ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ أَنْ لَا يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ كَافِرًا
ثُمَّ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ مِثَالًا جُزْئِيًّا لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ لَا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ الْمَعْقُولِ عَلَى الْمَحْسُوسِ عَلَى أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ فِي الْمَقَامِ الْخَطَابِيِّ بِضَعِيفٍ كُلَّ الضَّعْفِ، فَقَالَ (فَتَكُونُ كَغُلَامٍ مَلَكَ أَمْرَهُ) أَيْ الْمَلِكُ أَمَرَ غُلَامَهُ (بِمُرَاقَبَةِ) مُحَافَظَةِ (وَلَدِهِ) الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ مَكَانَةٌ رَفِيعَةٌ سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغُلَامِ (وَ) أَمْرُهُ بِ (الْغَضَبِ عَلَيْهِ) فَالْعَطْفُ عَلَى الْمَجْرُورِ (وَضَرْبِهِ مَهْمَا أَسَاءَ) مِنْ السُّوءِ (فَيَغْضَبُ)(الْغُلَامُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَلَدِ