الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُؤَدِّي إلَيْهِ (وَأَقْبَحُ الطَّمَعِ الطَّمَعُ مِنْ النَّاسِ) قِيلَ: لِمَا أَنَّ طَبْعَ النَّاسِ إهَانَةُ مَنْ عَلِمُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَمُقَابَلَتُهُمْ لَهُ بِأَنْوَاعِ الْمُكَافَحَةِ وَالْإِعْرَاضِ (وَهُوَ) أَيْ الطَّمَعُ (ذُلٌّ يَنْشَأُ مِنْ الْحِرْصِ) عَلَى الدُّنْيَا (وَالْبَطَالَةِ) وَهُوَ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَكَسْبٍ (وَالْجَهْلِ بِحِكْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْحَاجَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْحِكْمَةِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا (إلَى التَّعَاوُنِ) بِأَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَأَبْدَانِ الْفُقَرَاءِ فَلَوْ غَنِيَ الْكُلُّ لَبَطَلَتْ الْحِكْمَةُ وَاخْتَلَّ النِّظَامُ.
(وَضِدُّ الطَّمَعِ التَّفْوِيضُ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَهُوَ إرَادَةُ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْك مَصَالِحَك) الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا فِيك وَيَنْتَظِمُ بِهَا مَعَاشُك وَمَعَادُك (فِيمَا لَا تَأْمَنُ) مُتَعَلِّقٌ بِأَنْ يَحْفَظَ (فِيهِ الْخَطَرَ) أَيْ الْإِشْرَافَ عَلَى الْهَلَاكِ وَخَوْفَ التَّلَفِ (أَعْنِي النَّوَافِلَ) فَالْخَطَرُ فِيهَا بِالرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ (وَالْمُبَاحَاتِ) وَهُوَ الْجَرُّ وَالتَّأَدِّي إلَى الشُّرُورِ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ) أَيْ فِيمَا لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَرُ (صَلَاحُك) بِحِفْظِك مِنْ ذَلِكَ (يَسُرُّك) بِسَبَبِ التَّفْوِيضِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ (وَإِلَّا مَنَعَك) بِخَلْقِ الْمَوَانِعِ وَعَدَمِ الْمُيُولَاتِ كَمَا هُوَ مَضْمُونُ دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ الْمَعْهُودَةِ (قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً) عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: عَنْ مُوسَى عليه السلام {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] لِيَعْصِمَنِي مِنْ كُلِّ سُوءٍ {إِنَّ اللَّهَ} [غافر: 44] تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] فَيَحْرُسُهُمْ وَيُعْطِيهِمْ مَا يُرِيدُ، قِيلَ: قَالَهُ حِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ لِأَجْلِ دَعْوَتِهِ إيَّاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَبَعَثَ فِرْعَوْنُ لِطَلَبِهِ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] آلُ فِرْعَوْنَ، وَالْمَكْرُ الْخَدِيعَةُ أَيْ شَرُّ مَا أَرَادُوا بِهِ (اُنْظُرْ) أَيُّهَا السَّالِكُ الْمُتَفَطِّنُ (كَيْفَ عَقَّبَ) اللَّهُ (التَّفْوِيضَ) بَلْ فَرَّعَ عَلَيْهِ (بِالْوِقَايَةِ) بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ بَلْ التَّرْتِيبِ (وَهُوَ) أَيْ التَّفْوِيضُ (مَقَامٌ شَرِيفٌ) لِصَاحِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ إلَى خَالِقِهِ (يَدُلُّ عَلَى حُسْنِهِ) النَّقْلُ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَ (الْعَقْلُ أَيْضًا) فَإِنَّ الْعَبْدَ الْعَاجِزَ عَنْ التَّأْثِيرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا يَلِيقُ لَهُ أَمْرٌ سِوَى التَّفْوِيضِ إلَى مَنْ بِيَدِهِ تَصَرُّفُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدْرِي عَاقِبَةَ أَمْرِهِ صَلَاحِهِ وَفَسَادِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ فَلَا يَلِيقُ لَهُ أَمْرٌ سِوَى التَّسْلِيمِ إلَى الْحَكِيمِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ.
[الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ]
(الْمَبْحَثُ السَّادِسُ مِنْ السَّبْعَةِ)
(فِي أُمُورٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَوْ) بَيْنَ الرِّيَاءِ وَ (الْحَيَاءِ) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (يَدْخُلُ فِي كِلَا الْجَانِبَيْنِ) أَيْ الرِّيَاءِ وَمُقَابِلُهُ (تَلْبِيسُ إبْلِيسٍ) فَلْيَكُنْ السَّالِكُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَتَيَقُّظٍ (فَلْنَقْدَمْ) عَلَى بَيَانِ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ (مُقَدَّمَةٌ فِي) أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ بَيَانُ (دَفْعِ) وَسْوَسَةِ (الشَّيْطَانِ) وَدَعْوَتِهِ (وَ)
الثَّانِي بَيَانُ طَرِيقِ دَفْعِ (حِيَلِهِ الَّتِي تَشْتَدُّ إلَيْهَا) إلَى مَعْرِفَتِهَا مَعَ طُرُقِ دَفْعِهَا (الْحَاجَةُ فِي التَّقْوَى) لِيَدْفَعَ عَنْهُ كَيْدَ الْعَدُوِّ وَيَتَخَلَّصَ مِنْ أَمْرِهِ (فِي جَمِيعِ مَجَارِيهَا) فِعْلًا كَانَ أَوْ تَرْكًا (خُصُوصًا فِي الْإِخْلَاصِ) الَّذِي هُوَ رُوحُ الْعَمَلِ وَسَبَبُ قِوَامِهِ (فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ) لِصُعُوبَةِ الْمَبْحَثِ وَقُوَّةِ خَفَائِهِ خَصَّهُ بِتَصْرِيحِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ مُحْتَاجًا إلَى التَّوْفِيقِ اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ دَفْعِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ الِاسْتِعَاذَةُ بِاَللَّهِ فَقَطْ، وَالْمُحَارَبَةُ فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ فَقَطْ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَلِذَا قَالَ (الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِعَاذَةِ وَالْمُحَارَبَةِ) الظَّاهِرُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ بَلْ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ أَوْ الْأَوْقَاتِ وَلَوْ بِالنَّظَرِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ (فَنَسْتَعِيذُ) نَعْتَصِمُ (بِاَللَّهِ - تَعَالَى - أَوَّلًا مِنْ شَرِّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ) بِقَوْلِهِ - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]- (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَلْبٌ سُلِّطَ عَلَيْنَا) لِلِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَلِتَكْثِيرِ أُجُورِنَا بِمُجَاهَدَتِهِ (فَعَلَيْنَا الرُّجُوعُ إلَى رَبِّهِ) صَاحِبِهِ الَّذِي أَمْرُهُ بِيَدِهِ (لِيَصْرِفَهُ عَنَّا) أَيْ وَسَاوِسَهُ وَغَوَائِلَهُ، فَإِنَّ رَبَّ الْكَلْبِ أَدْفَعُ فَإِنْ قِيلَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْكَلْبِ مُسَلِّطًا إيَّاهُ فَإِنْ كَانَ التَّسْلِيطُ مِنْ قِبَلِ الصَّاحِبِ كَيْفَ يُفِيدُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ قُلْنَا إنْ كَانَ تَسْلِيطُهُ لِمُجَرَّدِ الِاخْتِبَارِ فَالْفَائِدَةُ ظَاهِرَةٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّسْلِيطُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ الشَّيْطَانِ - {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22]- قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْ السُّلْطَانِ الْقَهْرُ وَالْجَبْرُ، وَالْوَسْوَسَةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ الْمُرَادُ هُوَ الْحُجَّةُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ مِنْ حُجَّةٍ بَلْ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ أَوْ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ بِنَحْوِ الْمُيُولَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِالْجُمْلَةِ التَّدْبِيرُ فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ الِالْتِجَاءُ أَوَّلًا إلَى الرَّحْمَنِ فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِدَفْعِهِ ابْتِدَاءً تَعَبٌ وَتَضْيِيعُ عُمُرٍ وَوَقْتٍ بَلْ رُبَّمَا لَا يُؤْمَنُ مِنْ غَلَبَتِهِ وَجُرْحِهِ وَسِهَامِهِ فَالْأَوْلَى الرُّجُوعُ إلَى صَاحِبِهِ كَكَلْبٍ عَقُورٍ لَا يَنْدَفِعُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالْمُعَالَجَاتِ الصَّعْبَةِ بَلْ قَدْ يَغْلِبُ وَيَفْتَرِسُ وَيَنْدَفِعُ بِزَجْرَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ.
(ثُمَّ نَسْتَخِفُّ) أَيْ نَتَهَاوَنُ (بِدَعْوَتِهِ) وَلَا نَلْتَفِتُ بِاشْتِغَالِ رَدِّهِ (وَنَنْفِيهَا) نَحْنُ مِنْ خَاطِرِنَا وَنَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ (كُلَّمَا وَرَدَتْ وَلَا نَشْتَغِلُ بِالْمُحَارَبَةِ) مَعَهُ؛ لِأَنَّ كَيْدَهُ وَسْوَسَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَشَيْءٌ ضَعِيفٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ أَنَّ بَعْضَ الشَّبَهِ لِغَايَةِ ضَعْفِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ وَفِي الْأُصُولِيِّينَ الشُّبْهَةُ الَّتِي لَا تَنْشَأُ مِنْ الدَّلِيلِ لَا تُنَافِي الْقَطْعَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ فَإِنَّهُ) أَيْ الشَّيْطَانَ (بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ النَّابِحِ) مِنْ النُّبَاحِ وَهُوَ صَوْتُ الْكِلَابِ (كُلَّمَا أَقْبَلْت عَلَيْهِ) لِتَزْجُرَهُ (وَلِعَ) حَرَصَ (بِك وَلَجَّ) بَالَغَ فِي طَلَبِك فَيَغْلِبُ عَلَيْك قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ الشَّيْطَانُ فَارِغٌ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ وَالشَّيْطَانُ يَرَاك وَأَنْتَ لَا تَرَاهُ وَأَنْتَ تَنْسَاهُ وَهُوَ لَا يَنْسَاك وَمِنْ نَفْسِك لِلشَّيْطَانِ عَوْنٌ
عَلَيْك (وَإِنْ أَعْرَضْت) وَلَمْ تَلْتَفِتْ إلَى نُبَاحِهِ بِأَنْ تَشْتَغِلَ بِخِدْمَةِ مَوْلَاك أَوْ بِالِاتِّجَاءِ إلَى صَاحِبِهِ تَعَالَى (سَكَتَ) غَالِبًا أَوْ مِنْ شَأْنِهِ السُّكُوتُ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكَلَامِ.
(فَإِنْ لَمْ يَسْكُت) بِمُجَرَّدِ الِاسْتِعَاذَةِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إمَّا لِعَدَمِ الْقُوَّةِ فِي الِاسْتِعَاذَةِ أَوْ لِقُوَّةِ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَوْ لِحِكْمَةٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (بَلْ تَغَلَّبَ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنْ التَّكَلُّفِ إمَّا لِكَوْنِ غَلَبَتِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ بِمَشَاقَّ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ لِلْكَمَالِ فِي الْغَلَبَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِالْمَشَقَّةِ غَالِبًا يَكُونُ أَكْمَلَ (عَلَيْنَا) يَعْنِي لَمْ يُزِلْ وَسْوَسَتَهُ عَنَّا لَا بِمَعْنَى أَجْبَرَ وَحَكَمَ كَمَا عَرَفْت (عَلِمْنَا أَنَّهُ) أَيْ تَغَلُّبَهُ (ابْتِلَاءٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) مُعَامَلَةُ اخْتِبَارٍ مِنْهُ - تَعَالَى - وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى (لِيُرِيَ) يُظْهِرَ إلَى مَلَائِكَتِهِ (صِدْقَ مُجَاهَدَتِنَا) مَعَهُ وَقُوَّةَ دَفْعِنَا وَسْوَسَتَهُ وَحِيَلَهُ لَعَلَّ فَائِدَةَ الْإِرَادَةِ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَدُعَاؤُهُمْ وَشَفَاعَتُهُمْ إيَّاهُ (وَ) أَيْضًا اخْتِبَارُ (قُوَّتِنَا) فِي أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَصَبْرِنَا (كَمَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَلَّطَ عَلَيْنَا) عَلَى نَوْعِنَا (الْكُفَّارَ) جِنْسَهُمْ (مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى كِفَايَةِ أَمْرِهِمْ) سِيَّمَا عَلَى أَفْضَلِ خَلْقِهِ حَبِيبِهِ عليه الصلاة والسلام لِيَكُونَ لَنَا حَظٌّ مِنْ الْجِهَادِ (وَ) كِفَايَةِ (شَرِّهِمْ) أَيْ كَفِّهِ (لِيَكُونَ لَنَا حَظٌّ) أَجْرٌ وَثَوَابٌ (مِنْ الْجِهَادِ) بَدَنًا أَوْ مَالًا أَوْ بِهِمَا مَعًا.
وَالْجِهَادُ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْأَمْرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ (وَالصَّبْرِ) إلَى الْمَشَاقِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]- وَلِذَا كَانَ أَجْرُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ مَحْسُوبًا دُونَ أَجْرِ الصَّبْرِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وَكَذَا أَجْرُ الشَّهَادَةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ} [آل عمران: 142] لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَأَمْ بِمَعْنَى بَلْ قِيلَ الْخِطَابُ لِلَّذِينَ انْهَزَمُوا يَوْمَ أُحُدٍ {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ شِدَّةٌ فِي دِينِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} [آل عمران: 142] الْوَاوُ لِلْحَالِ وَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ لَكِنْ النَّفْيُ فِي لَمَّا آكَدُ وَمُتَّصِلٌ بِالْحَالِ {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ جِهَادُ الْمُجَاهِدِينَ {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] لَعَلَّ حَاصِلَ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا تَظُنُّوا دُخُولَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْكُمْ الْجِهَادُ وَالصَّبْرُ لَكِنَّ التَّعْبِيرَ بِالْعِلْمِ لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ وَتَحَقُّقِهِ، فَإِنَّ مَا عَلِمَهُ - تَعَالَى - وَاقِعٌ أَلْبَتَّةَ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ اللَّهُ عَالِمٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَقَدْ عَرَفْت فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ أَنَّ الْعِلْمَ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ قِدَمُ عِلْمِهِ - تَعَالَى - وَلَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّك قَدْ عَرَفْت أَيْضًا أَنَّ لِلْعِلْمِ تَعَلُّقَاتٍ حَادِثَةً فَمَا وُجِدَ فِي الْحَالِ غَيْرَ مَا وُجِدَ فِي الْأَزَلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حُدُوثِ هَذَا التَّعَلُّقِ حُدُوثُ الْعِلْمِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَهْلُ قَبْلَ ذَلِكَ فَافْهَمْ وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ مَشْهُورٌ يُقَالُ هَذَا عِلْمُ فُلَانٍ وَالْمُرَادُ مَعْلُومُهُ.
وَقِيلَ كُلُّ آيَةٍ يُشْعِرُ ظَاهِرُهَا بِتَجَدُّدِ الْعِلْمِ فَالْمُرَادُ تَجَدُّدُ الْمَعْلُومِ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقِيسِ يَعْنِي الْمُشَبَّهَ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْإِشَارَةِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا سَبَقَ وَأَيْضًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى - {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140]، وَقَالَ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16]
(وَأَيْضًا قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْنَا خَاطِرٌ لَا نَدْرِي أَنَّهُ شَرٌّ مِنْ الشَّيْطَانِ) فَنَجْتَنِبُهُ (أَوْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ) كَاَللَّهِ سبحانه وتعالى أَوْ الْمَلَكِ فَنَتَسَارَعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَوَاطِرِ لِيُتَصَوَّرَ نَفْيُ مَا كَانَ شَرًّا وَإِثْبَاتُ مَا كَانَ خَيْرًا (فَعَلَيْنَا الْمُحَارَبَةُ) فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَفِيمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا (وَالْقَهْرُ) بِنَحْوِ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ وَالشُّغْلِ (وَالدَّوَامُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) فَلَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «إنَّ ذِكْرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَنْبِ الشَّيْطَانِ كَالْآكِلَةِ فِي جَنْبِ ابْنِ آدَمَ» ، وَفِي الْحِصْنِ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا لِقَلْبِهِ بَيْتَانِ فِي أَحَدِهِمَا الْمَلَكُ وَفِي الْآخَرِ الشَّيْطَانُ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ - تَعَالَى - وَضَعَ الشَّيْطَانُ مِنْقَارَهُ فِي قَلْبِهِ وَوَسْوَسَ لَهُ» وَفِيهِ أَيْضًا «وَإِنْ خَافَ شَيْطَانًا أَوْ غَيْرَهُ قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ اللَّاتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ» . وَأَيْضًا فِيهِ «لِهَرَبِ الشَّيْطَانِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَكَذَا الْأَذَانُ» .
(بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ) يَعْنِي بِمُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ اللِّسَانَ عِنْدَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ لَا بِاللِّسَانِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ لَهُ أَصْلًا سِيَّمَا فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ قَالَ أَحْمَدُ الْغَزَالِيُّ فِي رِسَالَتِهِ التَّجْرِيدِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ ذَرَّةً وَلَا يَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَأَنَّ الْأَصَحَّ الْمُوَافِقَ لِمَا فِي الْفَتَاوَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مِنْ السُّكُوتِ وَالِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِ نِيَّتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَقَطْ فَهُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ تَرْجِيحَ اجْتِمَاعِهِمَا لِتَكْثِيرِ الْعَمَلِ وَلِجَمْعِ الْعَزِيمَتَيْنِ لَكِنْ هَذَا عَسِرٌ وَوُجُودُهُ صَعْبٌ إذْ عِنْدَ شُغْلِ اللِّسَانِ قَلَّمَا يَخْلُو الْقَلْبُ عَنْ الْغَيْرِ وَيَتَجَرَّدُ لِلذِّكْرِ وَأَمَّا عِنْدَ تَمَحُّضِهِ بِالذِّكْرِ يَسْهُلُ تَجَرُّدُهُ لَهُ كَمَا تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ وَالْوِجْدَانُ فَافْهَمْ (وَ) عَلَيْنَا (مَعْرِفَةُ وَسَاوِسِهِ وَمَكَائِدِهِ) جَمْعُ كَيْدٍ حَتَّى نَحْتَرِزَ عَنْهَا وَأَنَّهُ عِنْدَ الْمَعْرِفَةِ لَا يَتَجَاسَرُ كَاللِّصِّ إذَا عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ أَحَسَّ بِهِ فَرَّ
فَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ (مَعْرِفَةِ مَنْشَأِ الْخَوَاطِرِ) مِنْ أَيْنَ تَنْشَأُ وَتَتَحَصَّلُ، قِيلَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَوَاطِرِ وَمَنْشَئِهَا (وَ) مِنْ (تَمَيُّزِ خَيْرِهَا مِنْ شَرِّهَا فَهِيَ) أَيْ الْخَوَاطِرُ (آثَارٌ) اخْتِلَاجَاتٌ وَدَوَاعٍ (يُحْدِثُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَبْعَثُهُ) تَكُونُ بَاعِثَةً لِلْعَبْدِ (عَلَى الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ) قِيلَ هُنَا فَمَبْدَأُهُمَا الْخَوَاطِرُ ثُمَّ الْخَوَاطِرُ تُحَرِّكُ الرَّغْبَةَ وَالرَّغْبَةُ تُحَرِّكُ الْعَزْمَ وَالنِّيَّةُ تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ (إمَّا ابْتِدَاءً) خَلْقًا ابْتِدَائِيًّا بِلَا وَاسِطَةِ شَيْءٍ (فَيُقَالُ لَهُ الْخَاطِرُ فَقَطْ) لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُهُ مِنْ خَطَرَ إذَا مَرَّ بِسُرْعَةٍ وَانْقَضَى (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ عَلَامَةُ كَوْنِ الْخَاطِرِ مُحْدَثًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (كَوْنُهُ قَوِيًّا مُصَمَّمًا) مُحْكَمًا بِلَا تَرَدُّدٍ.
(وَ) فِي (الْأُصُولِ) مُطْلَقُ الِاعْتِقَادِيَّاتِ أَوْ أُمَّهَاتِهَا كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ (وَ) فِي (الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ) مِنْ نَحْوِ الْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ وَالْحَمِيدَةِ (وَأَنْ يَكُونَ خَيْرًا عَقِيبَ اجْتِهَادٍ) بَذْلُ جُهْدٍ وَصَرْفُ طَاقَةٍ (وَطَاعَةٍ إكْرَامًا) مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (فَيُسَمَّى) الْخَاطِرُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ (هِدَايَةً وَتَوْفِيقًا وَلُطْفًا وَعِنَايَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت: 69] بَذَلُوا جَهْدَهُمْ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِنَا وَاجْتِنَابِ نَوَاهِينَا
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] طُرُقَنَا الْمُوَصِّلَةَ إلَيْنَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} [محمد: 17] بِإِتْيَانِ الْعِبَادَاتِ {زَادَهُمْ} [محمد: 17] اللَّهُ {هُدًى} [محمد: 17] بِخَوَاطِرَ تَدُلُّهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ الْوُصُولِ إلَيْهِ سبحانه وتعالى (أَوْ) أَنْ يَكُونَ (شَرًّا عَقِيبَ ذَنْبٍ) كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ (إهَانَةً) لِذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِشُؤْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] فَيُؤَدِّي الذَّنْبُ إلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ أَوَّلُهَا خَاطِرٌ ثُمَّ يُؤَدِّي إلَى الْقَسْوَةِ وَالرَّيْنِ (وَعُقُوبَةً) عَاجِلَةٌ فِي الدُّنْيَا (فَيُسَمَّى) الْخَاطِرُ (خِذْلَانًا) هُوَ تَرْكُ الْعَوْنِ وَضِدُّ التَّوْفِيقِ (وَإِضْلَالًا) قِيلَ أَيْ إضَاعَةً وَتَحْيِيرًا وَقِيلَ هَذَا إذَا أَبْقَى لِلْعَبْدِ فِي الْجُمْلَةِ اخْتِيَارًا.
وَأَمَّا إذَا اشْتَدَّ حَتَّى سَلَبَ الِاخْتِيَارَ مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُسَمَّى خَتْمًا وَطَبْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُتَصَوَّرُ الْعِلَاجُ (وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إمَّا ابْتِدَاءً (مُوَكَّلٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى ابْنِ آدَمَ جَاثِمٍ) مُكِبٍّ وَمُلَازِمٍ (عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْيُمْنَى) يُلْهِمُهُ (يُقَالُ لَهُ الْمُلْهِمُ وَلِدَعْوَتِهِ الْإِلْهَامَ وَلَا تَكُونُ) هَذِهِ الدَّعْوَةُ (إلَّا إلَى خَيْرٍ) قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةٌ بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةٌ» يَعْنِي نَزْلَةٌ بِالدَّعْوَةِ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ.
وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فَمَنْ وَجَدَ هَذِهِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ» .
قَالَ عَبْدُ الرَّءُوفِ الْمُنَاوِيُّ الْإِيعَادُ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ الْفَرْقُ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ اللَّمَّتَيْنِ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَالْخَوَاطِرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَذْرِ فَمِنْهَا مَا هُوَ بَذْرُ السَّعَادَةِ وَمِنْهَا مَا هُوَ بَذْرُ الشَّقَاوَةِ.
وَسَبَبُ اشْتِبَاهِ الْخَوَاطِرِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ لَا خَامِسَ لَهَا ضَعْفُ الْيَقِينِ أَوْ قِلَّةُ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا أَوْ مُتَابَعَةُ الْهَوَى بِخَرْمِ قَوَاعِدِ التَّقْوَى أَوْ مَحَبَّةُ الدُّنْيَا مَالِهَا وَجَاهِهَا، وَطَلَبُ الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ عِنْدَ النَّاسِ فَمَنْ عُصِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَرَّقَ بَيْنَ لَمَّةِ الْمَلَكِ وَلَمَّةِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِهَا لَمْ يُفَرِّقْ، وَانْكِشَافُ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ دُونَ بَعْضٍ لِوُجُودِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ بَعْضٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِلْهَامِ.
(وَعَلَامَتُهُ) أَيْ خَاطِرِ الْمَلَكِ (كَوْنُهُ مُتَرَدِّدًا) إذْ الْمَلَكُ بِمَنْزِلَةِ نَاصِحٍ يَدْخُلُ مَعَك مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيَعْرِضُ عَلَيْك كُلَّ نُصْحٍ رَجَاءَ إجَابَتِك وَرَغْبَتِك فِي الْخَيْرِ (وَفِي الْفُرُوعِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ) فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ فِي أَكْثَرِهِمْ كَمَا فِي الْمِنْهَاجِ فَالْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِحَسَنٍ (وَبِلَا سَبْقِ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فِي الْأَغْلَبِ) هَذَا مُخَالِفٌ أَيْضًا لِمَا فِي الْمِنْهَاجِ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ أَيْ خَاطِرُ الْخَيْرِ مُبْتَدَأً فَمِنْ الْمَلَكِ فِي الْأَغْلَبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ أَيْضًا مَعْرِفَةُ خَاطِرِ الْخَيْرِ مِنْ اللَّهِ أَوْ مِنْ الْمَلَكِ بِثَلَاثَةٍ إنْ قَوِيَا فَمِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ مُتَرَدِّدًا فَمِنْ الْمَلَكِ وَإِنْ عَقِيبَ اجْتِهَادٍ وَطَاعَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ ابْتِدَاءً فَمِنْ الْمَلَكِ فِي الْأَغْلَبِ وَإِنْ فِي الْأُصُولِ فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ فِي الْفُرُوعِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَمِنْ الْمَلَكِ فِي الْأَكْثَرِ فَقَدْ عَرَفْت زِيَادَةَ قَوْلِهِ أَوْ مَعْصِيَةٌ فَافْهَمْ (أَوْ بِوَاسِطَةِ) الظَّاهِرُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ أَوْ عَلَى قَوْلِهِ إمَّا ابْتِدَاءً فَالْأَوْلَى وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ (طَبِيعَةٍ مَائِلَةٍ إلَى الشَّهَوَاتِ) وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ كَيْفَ كَانَتْ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ (يُقَالُ لَهَا النَّفْسُ) لَعَلَّ هِيَ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ الَّتِي تَمِيلُ إلَى الطَّبِيعَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَتَأْمُرُ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَتَجْذِبُ الْقَلْبَ إلَى الْجِهَةِ السُّفْلِيَّةِ فَهِيَ مَأْوَى الشَّرِّ وَمَنْبَعُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ (وَ) يُقَالُ أَيْ يُسَمَّى (لِدَعْوَتِهَا هَوًى) .
وَفُسِّرَ أَيْضًا بِمَيْلِ النَّفْسِ إلَى مُقْتَضَيَاتِ الطَّبْعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْجِهَةِ الْعُلْوِيَّةِ
إلَى السُّفْلِيَّةِ (وَلَا تَكُونُ) تِلْكَ الدَّعْوَةُ (إلَّا إلَى الشَّرِّ) وَلَا يُتَصَوَّرُ رُجُوعُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَمُبْعِدَةٌ عَنْ الرَّحْمَنِ وَقَدْ عَرَفْت مَاهِيَّتَهَا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ مِنْ النَّفْسِ (كَوْنُهُ مُصَمَّمًا رَاتِبًا) ثَابِتًا وَقِيلَ مُتَكَرِّرًا بِالْأَمْثَالِ (عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) فَإِنَّهَا لَا تَزُولُ عَنْ الْإِقْدَامِ إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى مُرَادِهَا وَتُحَصِّلَ مَقْصُودَهَا (وَأَنْ لَا يَضْعُفَ وَلَا يَقِلَّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) وَلَا يَزُولُ قِيلَ إلَّا بِصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ الْهَوَى كَالنَّمِرِ إذَا حَارَبَ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا بِقَمْعٍ بَالِغٍ وَقَهْرٍ ظَاهِرٍ أَوْ مِثْلُ الْخَارِجِيِّ الَّذِي يُقَاتِلُ تَدَيُّنًا لَا يَكَادُ يَرْجِعُ حَتَّى يُقْتَلَ، وَمَثَلُ الشَّيْطَانِ كَالذِّئْبِ إذَا طَرَدْته مِنْ جَانِبٍ دَخَلَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ أَوْ إطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ نَزَّلَ مَا يَصْعُبُ زَوَالُهُ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَزُولُ وَبِالْجُمْلَةِ الْخَاطِرُ الشَّرُّ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ يُعْرَفُ بِأَمْرَيْنِ التَّصْمِيمِ عَلَى وَاحِدَةٍ وَعَدَمِ الزَّوَالِ بِذِكْرِهِ، هَذَا وَإِنْ طَابَقَ لِمَأْخَذِهِ مِنْهَاجَ الْعَابِدِينَ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ أَوَّلَهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِآخِرِهِمَا (أَوْ بِوَاسِطَةِ) أَيْ وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ (شَيْطَانٍ مُسَلَّطٍ) مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - لِحِكْمَةٍ كَالِاخْتِيَارِ وَتَكْثِيرِ الْأَجْرِ بِمُجَاهَدَتِهِ (عَلَى ابْنِ آدَمَ جَاثِمٍ عَلَى أُذُنِ قَلْبِهِ الْيُسْرَى) صِفَةُ أُذُنٍ (يُقَالُ لَهُ الْوَسْوَاسُ) الْمُوَسْوِسُ فَالتَّسْمِيَةُ لِلْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّهَا دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ (الْخَنَّاسُ) الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَخْنِسَ أَيْ يَتَأَخَّرَ إذَا ذَكَرَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِهِ (وَلِدَعْوَتِهِ الْوَسْوَسَةَ وَعَلَامَتُهُ) أَيْ مِنْ الشَّيْطَانِ (كَوْنُهُ مُتَرَدِّدًا أَوْ مُضْطَرِبًا) إذْ لَا يُصِرُّ عَلَى شَيْءٍ فَإِنْ لَمْ يُجِبْ الْعَبْدُ دَعْوَتَهُ لِشَيْءٍ يَنْقُلُهُ إلَى آخَرَ إذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ الْخَاصَّةِ بَلْ مُرَادُهُ الْإِضْلَالُ كَيْفَ مَا كَانَ.
(وَبِلَا سَبْقِ ذَنْبٍ) مِنْهُ (فِي الْأَكْثَرِ) أَيْ أَكْثَرِ الْأَشْخَاصِ أَوْ أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ أَوْ أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَوْلَى فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِدَعْوَةِ الشَّرِّ وَيَطْلُبُ الْإِغْوَاءَ بِكُلِّ حَالٍ (وَأَنْ يَقِلَّ وَيَضْعُفَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّ عَادَتَهُ أَنْ يَخْنِسَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى - {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4]- فَافْهَمْ، فَالْأَوْفَقُ أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ ضَعِيفًا أَوْ زَائِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلِهَذِهِ الْعَلَامَةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ التَّرَدُّدُ وَعَدَمُ السَّبْقِ وَالضَّعْفُ عِنْدَ الذِّكْرِ، فَالْأَوَّلُ مَعَ الثَّالِثِ كَالْمُتَقَارِبِ لَكِنَّهُ قَصَدَ زِيَادَةَ تَوْضِيحٍ وَأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْغَزَالِيِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
(وَيَكُونُ) خَاطِرُ الشَّيْطَانِ (شَرًّا فِي الْأَغْلَبِ وَقَدْ يَكُونُ) خَاطِرُ الشَّيْطَانِ (خَيْرًا مَفْضُولًا) لَا لِذَاتِهِ بَلْ (لَأَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ) الْخَيْرِ (الْفَاضِلِ) فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَبِالْآخِرَةِ يَرْضَى عَلَى ذَلِكَ (أَوْ يَجُرُّهُ) أَيْ الْعَبْدُ بِذَلِكَ الْخَيْرِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ الْمَفْضُولُ لَكِنْ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ الْخَيْرُ مُطْلَقًا وَلَوْ فَاضِلًا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْمِنْهَاجِ الشَّيْطَانُ رُبَّمَا يَدْعُو إلَى الْخَيْرِ لِقَصْدِ الشَّرِّ كَالدَّعْوَةِ إلَى الْمَفْضُولِ لِلْمَنْعِ عَنْ الْفَاضِلِ أَوْ الدَّعْوَةِ إلَى الْخَيْرِ لِيَجُرَّهُ إلَى ذَنْبٍ عَظِيمٍ لَا يَفِي خَيْرُهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ عَجَبٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ (إلَى ذَنْبٍ عَظِيمٍ) ضَرَرًا مِنْ نَفْعِ الْخَيْرِ كَالنَّفْعِ الْجُزْئِيِّ لِلضَّرَرِ الْكُلِّيِّ، وَالْحَظْرُ رَاجِحٌ عَلَى مُطْلَقِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْحُرْمَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ (وَعَلَامَتُهُ) مِنْ الشَّيْطَانِ لِلْمَنْعِ وَالْإِفْضَاءِ الْمَذْكُورَيْنِ (أَنْ يَكُونَ قَلْبُك فِيهِ) فِي ذَلِكَ الْخَيْرِ (مَعَ نَشَاطٍ) وَسُرُورٍ (لَا مَعَ خَشْيَةٍ) وَخُضُوعٍ (وَمَعَ عَجَلَةٍ لَا مَعَ تَأَنٍّ) لِأَنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَالتَّأَنِّي مِنْ الرَّحْمَنِ وَفِي الْمِنْهَاجِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا فِي خَمْسَةٍ تَزْوِيجِ الْبِكْرِ إذَا أَدْرَكَتْ، وَقَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ، وَتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إذَا مَاتَ، وَقِرَى الضَّيْفِ إذَا نَزَلَ، وَالتَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ إذَا أَذْنَبَ»
(وَمَعَ أَمْنٍ لَا مَعَ
خَوْفٍ وَمَعَ عَمَى الْعَاقِبَةِ لَا مَعَ بَصِيرَةٍ) قِيلَ مِنْ الْخَوَاطِرِ مَا يَعْرِضُ مِنْ جِهَةِ الْمِزَاجِ مُمِيلًا إلَى مَا يُوَافِقُ فَهَذَا إذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ شَهْوَةً وَضِدُّهُ نُفْرَةٌ وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ لِنَيْلِ رُتْبَةٍ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ هِمَّةً وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ بَاعِثًا عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِيحِ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ سَيِّئَةً وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ بِاسْتِعْجَالِ اللِّقَاءِ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ شَوْقًا وَمِنْهُ مَا يَعْرِضُ بِتَثْبِيتِ حُكْمٍ أَوْ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا تَمَكَّنَ سُمِّيَ عِلْمًا وَإِنْ مُتَرَدِّدًا سُمِّيَ شَكًّا فَإِنْ عَرَضَ بِذِكْرِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الثَّبَاتِ سُمِّيَ جَهْلًا وَلِجَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْخِصَالِ خَوَاطِرُ مَتَى تَمَكَّنَتْ سُمِّيَتْ بِأَسْمَاءٍ تَخُصُّهَا
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مِنْ الْخَاطِرِ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَلَكِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ مَا خَرَّجَ (س ت) النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «فِي الْقَلْبِ لَمَّتَانِ» تَثْنِيَةُ لَمَّةٍ بِالْفَتْحِ مِنْ الْإِلْمَامِ وَهُوَ الْقُرْبُ وَقِيلَ بِمَعْنَى الْمَسِّ «لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ بِإِيعَادٍ» عَلَى زِنَةِ إفْعَالٍ «بِالْخَيْرِ» فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي وَإِنْ اخْتَصَّ بِالشَّرِّ عُرْفًا يُقَالُ أَوْعَدَهُ إذَا وَعَدَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشَاكَلَةِ لِمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِمَا قَبْلَهَا وَإِنْ كَثُرَ فِيهِ أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ بِذِكْرِ الْخَيْرِ «وَتَصْدِيقٍ بِالْحَقِّ» فَإِنَّ الْمَلَكَ وَالشَّيْطَانَ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى الْقَلْبِ تَعَاقُبَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ لَيْلُهُ أَطْوَلَ مِنْ نَهَارِهِ وَآخَرُ بِضِدِّهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ زَمَنُهُ نَهَارًا كُلَّهُ وَآخَرُ بِضِدِّهِ «وَلَمَّةٌ مِنْ الْعَدُوِّ» أَيْ الشَّيْطَانِ «بِإِيعَادٍ بِالشَّرِّ» مِمَّا يُؤَدِّي إلَى كُلِّ مَا فِيهِ خَطَرٌ إلَى تَرْكِ الْفَاضِلِ بِإِرَاءَةِ الْمَفْضُولِ «وَتَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَنَهْيٍ عَنْ الْخَيْرِ» كَعَقَائِدِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
قَالَ فِي الْفَيْضِ الْمَلَكُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ شَأْنُهُ إفَاضَةُ الْخَيْرِ وَإِفَادَةُ الْعِلْمِ وَكَشْفُ الْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَالشَّيْطَانُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقٍ شَأْنُهُ الْوَعِيدُ بِالشَّرِّ وَالْأَمْرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْقَلْبُ مُتَجَاذَبٌ بَيْنَ الشَّيْطَانِ وَالْمَلَكِ فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً وَقَفَ عِنْدَ هَمِّهِ فَمَا كَانَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَمْضَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ عَدُوِّهِ جَاهَدَهُ وَالْقَلْبُ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ صَالِحٌ لِقَبُولِ آثَارِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ مُتَسَاوِيًا لَكِنْ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْإِكْبَابِ عَلَى الشَّهَوَاتِ أَوْ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَمُخَالَفَتِهَا (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه) قِيلَ عَنْ التَّيْمِيِّ فِيهِ عَدِيُّ بْنُ عَمَّارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ضَعْفَهُ لَا يَضُرُّ بِاحْتِجَاجِنَا هُنَا (أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ» كَزُنْبُورِ الْأَنْفِ أَوْ مُقَدَّمِهِ أَوْ مَا ضَمَمْت عَلَيْهِ الْحَنَكَيْنِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ هَذَا الْمَخْرَجِ وَاضِعٌ خَطْمَهُ وَفُسِّرَ أَيْ فَمُهُ وَأَنْفُهُ وَالْخَطْمُ مِنْ الطَّيْرِ مِنْقَارُهُ وَمِنْ الدَّابَّةِ مُقَدَّمُ أَنْفِهَا وَفَمِهَا «عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِذَا ( «ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى خَنَسَ» تَأَخَّرَ وَانْقَبَضَ ( «وَإِنْ نَسِيَ اللَّهَ تَعَالَى الْتَقَمَ قَلْبَهُ» يَجْعَلُ قَلْبَهُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ.
قَالَ فِي الْفَيْضِ فَبُعْدُ الشَّيْطَانِ مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى قَدْرِ ذِكْرِهِ وَالنَّاسُ فِيهِ يَتَفَاوَتُونَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ رَأَيْت إبْلِيسَ فَأَخَذَ عَنِّي نَاحِيَةً، فَقُلْت تَعَالَ، فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَعْمَلُ بِكُمْ لَزِمْتُمْ الذِّكْرَ وَطَرَحْتُمْ مَا أُخَادِعُ بِهِ قُلْت مَا هُوَ قَالَ الدُّنْيَا فَوَلَّى ثُمَّ الْتَفَتَ وَقَالَ بَقِيَ لِي فِيكُمْ لَطِيفَةٌ هِيَ السَّمَاعُ وَصُحْبَةُ الْأَشْرَارِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ مَهْمَا غَلَبَ عَلَى الْقَلْبِ ذِكْرُ الدُّنْيَا وَمُقْتَضَيَاتُ الْهَوَى وَجَدَ الشَّيْطَانُ مَجَالًا فَوَسْوَسَ وَمَهْمَا انْصَرَفَ الْقَلْبُ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ارْتَحَلَ الشَّيْطَانُ وَضَاقَ مَجَالُهُ وَقَالَ الْحَكِيمُ قَدْ أُعْطِيَ الشَّيْطَانُ وَجُنْدُهُ السَّبِيلَ إلَى فِتْنَةِ الْآدَمِيِّ وَتَزْيِينِ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُ طَمَعًا فِي غَوَايَةٍ فَهُوَ يُهَيِّجُ النُّفُوسَ إلَى تِلْكَ الزِّينَةِ تَهْيِيجًا يُزَعْزِعُ أَرْكَانَ الْبَدَنِ وَيَسْتَفِزُّ الْقَلْبَ حَتَّى يُزْعِجَهُ عَنْ مَقَرِّهِ وَلَا يَعْتَصِمُ بِشَيْءٍ أَوْثَقَ مِنْ الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَاجَ الذِّكْرُ مِنْ الْقَلْبِ هَاجَتْ الْأَنْوَارُ فَاشْتَعَلَ الصَّدْرُ بِنَارِ
الْأَنْوَارِ وَهَيَّجَ الْعَدُوُّ نَارَ الشَّهَوَاتِ وَإِذَا رَأَى الْعَدُوُّ هَيَجَانَ الذِّكْرِ مِنْ الْقَلْبِ وَلَّى هَارِبًا وَخَمَدَتْ نَارُ الشَّهَوَاتِ وَامْتَلَأَ الصَّدْرُ نُورًا فَبَطَلَ كَيْدُهُ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِ الْآدَمِيِّ فَرَأَى فِي الْمَنَامِ جَسَدَ رَجُلٍ يُشْبِهُ الْبَلُّورَ يُرَى دَاخِلُهُ مِنْ خَارِجِهِ وَالشَّيْطَانُ بِصُورَةِ ضِفْدِعٍ قَاعِدٍ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ لَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ أَدْخَلَهُ فِي مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ إلَى قَلْبِهِ يُوَسْوِسُ إلَيْهِ فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يُشَاهَدُ فِي الْيَقَظَةِ وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ الْمُكَاشِفِينَ بِصُورَةِ كَلْبٍ جَاثِمٍ عَلَى جِيفَةٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا وَالْقَصْدُ أَنْ يُصَدَّقَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْكَشِفُ لِأَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَكَذَا الْمَلَكُ انْتَهَى.
(وَ) أَمَّا (عَلَامَةُ خَاطِرِ الشَّرِّ مُطْلَقًا) سَوَاءٌ مِنْ اللَّهِ أَوْ الشَّيْطَانِ أَوْ النَّفْسِ (وَعَلَامَةُ خَاطِرِ الْخَيْرِ كَذَلِكَ) مُطْلَقًا سِوَى النَّفْسِ (فَلِمُعْرِفَتِهِمَا أَرْبَعَةُ مَوَازِينَ) جَمْعُ مِيزَانٍ (مَرْتَبَةٌ) لَا يَعْدِلُ إلَى ثَانِيهَا بِدُونِ تَعَثُّرٍ أَوَّلُهَا فِي الْكُلِّ (الْأَوَّلُ عَرْضُهُ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ وَافَقَ) الْخَاطِرُ (جِنْسَهُ) فِعْلًا أَوْ تَرْكًا يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مُوَافَقَةُ شَخْصِهِ إذْ رُبَّمَا لَا يُوجَدُ نَصٌّ عَلَى أَعْيَانِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ بَلْ يُوجَدُ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ، وَكَذَا الْأَحْكَامُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنْ الْمُجْتَهِدِ بِالنَّظَرِ إلَيْنَا بَلْ تَحْتَ قَوَاعِدِهِمْ الْكُلِّيَّةِ (فَخُيِّرَ وَإِنْ) وَافَقَ (ضِدُّهُ) ضِدَّ جِنْسِ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ عَيْنُهُ ثَابِتًا بِنَصٍّ وَلَا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ شَرْعٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْكُلِّيَّاتِ (فَشَرٌّ) قِيلَ فَإِنْ كَانَ نَفْلًا أَوْ فَرْضًا يُمْضِيهِ وَإِنْ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا يَنْفِيهِ وَإِنْ اسْتَوَى الْخَاطِرُ أَنْ يَنْفُذَ أَقَرَّ بِهِمَا إلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ وَهَذَا الْمِيزَانُ لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ لَا لِكُلِّ، أَحَدٍ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ فَلَيْسَ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ دُخُولَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِنْسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ هُوَ الْإِبَاحَةُ فَتَأَمَّلْ.
(وَ) الْمِيزَانُ (الثَّانِي عَرْضُهُ) أَيْ الْخَاطِرِ (عَلَى عَالِمٍ) لَا مُطْلَقًا بَلْ (مِنْ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ) الْمُتَشَرِّعَةِ وَالْمُتَسَنِّنَةِ وَالْمُتَوَرِّعَةِ احْتِرَازٌ عَنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا الَّذِينَ يَجْعَلُونَ عُلُومَهُمْ آلَةً لِجَمْعِ الدُّنْيَا وَجَلْبِ الْأَمْوَالِ وَوُصُولِ الْمَنَاصِبِ وَالتَّرَفُّعِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى عُلُومِهِمْ وَلَا يَحْتَاطُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَجْتَنِبُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ، بَلْ يَرْتَكِبُونَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادُوا عِلْمًا ازْدَادُوا مَقْتًا وَسُخْطًا وَإِنَّ عَمَلَهُمْ رِيَاءٌ وَعُجْبٌ وَنَحْوُهُمَا، فَهُمْ أَظْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لَا يَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بَلْ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَالْفِرَارُ مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] (وَ) عَلَى (مُرْشِدٍ كَامِلٍ) فِي صِفَةِ الْإِرْشَادِ بِأَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَحُبِّ الْجَاهِ وَقَدْ كَانَ تَابِعٌ لِشَخْصٍ بَصِيرٍ تَتَسَلْسَلُ مُتَابَعَتُهُ إلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مُحْسِنًا لِرِيَاضَةِ نَفْسِهِ مِنْ قِلَّةِ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ وَكَانَ بِمُتَابَعَةِ الشَّيْخِ الْبَصِيرِ جَاعِلًا مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ لَهُ سِيرَةً كَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْيَقِينِ وَالْخَسَارَةِ وَالْقَنَاعَةِ وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْحَيَاءِ وَالْوَفَاءِ وَالْوَقَارِ وَالتَّأَنِّي وَأَمْثَالِهَا، فَهُوَ إذَنْ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام يَصْلُحُ لِلِاقْتِدَاءِ لَكِنْ وُجُودُ مِثْلِهِ نَادِرٌ أَعَزُّ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي نَصَائِحِهِ الْوَلَدِيَّةِ (إنْ وُجِدَ قِيلَ) أَيْ إنْ ظَفِرَ وَإِلَّا فَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَخْلُو الْبِلَادُ عَنْهُ.
(فَإِنْ قَالَ) هُوَ (خَيْرٌ فَخَيْرٌ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (وَإِنْ) قَالَ هُوَ (شَرٌّ فَشَرٌّ) عِنْدَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَمَانَةٍ فَإِنَّهُ صَاحِبُ تَصَرُّفٍ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ (وَالثَّالِثُ عَرْضُهُ عَلَى الصَّالِحِينَ) الْقَائِمِينَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ الْمُنْتَهِينَ عَنْ جَمِيعِ مَا نَهَى اللَّهُ الَّذِينَ صَرَفُوا رَيْعَانَ أَعْمَارِهِمْ بِمُجَاهَدَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَفَرَّغُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ وَجَعَلُوا عَزَائِمَ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَالْوَاجِبِ وَرُخَصَهَا كَالْمُحَرَّمِ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَسْكُتَ عَنْ قَوْلِهِ وَمُرْشِدٌ كَامِلٌ فِي السَّابِقِ وَيَزِيدُ هُنَا أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ فَقَدْ ثَلَّثَ الْأَقْسَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَرْضَ عَلَى الْعَالِمِ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِالصَّالِحِينَ مَا يَشْمَلُ
الْقِسْمَيْنِ أَوْ طَرِيقَ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَالْمُصَنِّفُ أَرَادَ زِيَادَةَ تَوْضِيحٍ (فَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ اقْتِدَاءٌ بِهِمْ فَخَيْرٌ وَإِنْ بِالطَّالِحِينَ) الْفَاسِقِينَ ضِدُّ الصَّالِحِ (فَشَرٌّ وَالرَّابِعُ عَرْضُهُ عَلَى النَّفْسِ وَالْهَوَى) الَّذِي شَأْنُهُ الْمَيْلُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَالْحَظِّ الْعَاجِلِ (فَإِنْ تَنْفِرُ عَنْهُ نَفْرَةَ طَبْعٍ) أَيْ هَوَى وَشَهْوَةٍ لَا نَفْرَةَ خَشْيَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (فَخَيْرٌ) لِأَنَّهَا إذَا خُلِّيَتْ وَطَبْعُهَا تَمِيلُ إلَى الشُّرُورِ وَتَنْفِرُ عَنْ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمَنَاهِيَ مَحْبُوبَةٌ فِي الْقُلُوبِ (وَإِنْ مَالَتْ إلَيْهِ مَيْلَ طَبْعٍ لَا مَيْلَ رَجَاءٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فَشَرٌّ إذْ النَّفْسُ إذَا خَلَتْ) عَنْ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ (وَطَبْعُهَا) مَعَ طَبْعِهَا (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ الْعُلَمَاءِ مَعْرِفَةُ خَاطِرِ الْخَيْرِ مِنْ الشَّرِّ بِثَلَاثَةٍ عَرْضُهُ عَلَى الشَّرْعِ فَإِنْ وَافَقَ جِنْسَهُ فَخَيْرٌ وَإِنْ بِالضِّدِّ بِرُخْصَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَشَرٌّ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَبِاقْتِدَاءِ الصَّالِحِينَ أَوْ الطَّالِحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْرَةِ الْهَوَى وَمَيْلِهِ فَبِالتَّثْلِيثِ وَالتَّرْتِيبِ وَالْمُصَنِّفُ بِالتَّرْبِيعِ وَالْإِطْلَاقِ لَعَلَّ الظَّاهِرَ التَّخْيِيرُ لَا التَّرْتِيبُ.
(وَأَمَّا حِيَلُ الشَّيْطَانِ) الْمُوَكَّلِ عَلَى ابْنِ آدَمَ؛ لِأَنَّ الْمَعَادَ الْمُعَرَّفَ عَيْنُ الْأَوَّلِ (وَمُخَادَعَاتُهُ) الْخُدْعَةُ الْحِيلَةُ أَيْضًا وَالْمَنْعُ (فِي الطَّاعَةِ فَمِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ) بِاسْتِقْرَاءِ الْمَشَايِخِ (أَوَّلُهَا أَنْ يَنْهَاهُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الطَّاعَةِ بِالْمُيُولَاتِ وَالتَّلَذُّذَاتِ وَبِإِرَاءَةِ التَّشَهِّيَاتِ قِيلَ وَسَنَدُ نَهْيِهِ فِي الْغَالِبِ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَتِك فَقُلْ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] .
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَغْفِرُ لَك وَيُدْخِلُك الْجَنَّةَ بِلَا عَمَلٍ فَقُلْ {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ عِبَادَتَك مَعِيبَةٌ مَشُوبَةٌ بِالرِّيَاءِ وَنَحْوِهِ وَإِنَّك لَسْت بِمُتَّقٍ فَلَا تُقْبَلُ مِنْك، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] فَسَعْيُك ضَائِعٌ وَتَعْذِيبُ حَيَوَانٍ بِلَا فَائِدَةٍ فَقُلْ مُرَادِي دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَإِذَنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ عَلَى اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ إذْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لَا يَخْفَى إنْ صَحَّ كَوْنُهُ مَا ذَكَرَ أَسَانِيدَ هَذَا النَّهْيِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ جَوَابُهَا إلَى جَوَابِ الْمُصَنِّفِ، وَدَعْوَى الْإِرْجَاعِ بَعِيدٌ سِيَّمَا فِي الْبَعْضِ لَعَلَّ أَقْوَى الْأَسَانِيدِ الْمِرَاءُ لَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ بَلْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ - تَعَالَى - إذْ رُبَّ عَابِدٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَرُبَّ فَاسِقٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ حَفِظَهُ
(رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ) قَوْلًا مَعْقُولًا لَا مَلْفُوظًا وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا لِلشَّيْطَانِ (إنِّي مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ) الطَّاعَةِ وَلَوْ اسْتِحْبَابًا (جِدًّا) احْتِيَاجًا قَطْعِيًّا إذْ الْفَرَائِضُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ وِزْرِ تُرُوكِهَا وَلِثَوَابِهَا أَيْضًا، وَنَحْوُ الِاسْتِحْبَابِ لِثَوَابِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ رحمه الله طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» أَيْ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ (إذْ لَا بُدَّ مِنْ التَّزَوُّدِ) أَخْذِ الزَّادِ سِيَّمَا بِخَيْرِ الزَّادِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُسَافِرٍ سِيَّمَا إلَى سَفَرٍ بَعِيدٍ مِنْ الزَّادِ، وَزَادُ الْمُسَافِرِ لِلسَّيْرِ إلَى اللَّهِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] وَ {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ) السَّرِيعَةِ الزَّوَالِ (لِلْآخِرَةِ الَّتِي لَا انْقِضَاءَ لَهَا) وَلَا انْقِطَاعَ.
قَالَ فِي النَّصَائِحِ الْوَلَدِيَّةِ لِلْغَزَالِيِّ إنَّ رَجُلًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَبَدَ اللَّهَ سَبْعِينَ سَنَةً فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مَلَكًا يُخْبِرُهُ أَنَّهُ مَعَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ لَا يَلِيقُ بِهِ فَلَمَّا بَلَغَهُ قَالَ الْعَابِدُ نَحْنُ خُلِقْنَا لِلْعِبَادَةِ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْمَلَكُ قَالَ إلَهِي أَنْتَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ فَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - إذًا هُوَ لَمْ يُعْرِضْ عَنْ عِبَادَتِنَا فَنَحْنُ مَعَ الْكَرَمِ لَا نُعْرِضُ عَنْهُ اشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِدُونِ الْجَهْدِ يُحَصِّلُ فَهُوَ مُتَمَنٍّ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ بِبَذْلِ الْجَهْدِ يَصِلُ فَهُوَ مُتَعَنٍّ، وَأَمَّا إذَا عَادَ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَوْ أَوْجَبَ الْعَمَلُ النَّفْعَ لَا تَنْفَعُ نَحْوُ بِرْصِيصَ وَبَلْعَامَ وَلَوْ أَخَّرَ تَرْكَ الْعَمَلِ لَتَضَرَّرَ نَحْوُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ فَسَنَدْفَعُ مِنْ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ انْدَفَعَ أَيْضًا بِمَا ذُكِرَ آنِفًا.
(ثُمَّ) إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَيَنْتَقِلُ إلَى آخَرَ (يَأْمُرُهُ) أَيْ يَأْمُرُ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ (بِالتَّسْوِيفِ) أَيْ بِتَأْخِيرِ الْعَمَلِ إمَّا أَوَانَ الشَّيْبِ أَوْ إلَى فَرَاغِ عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا أَوْ إلَى وَقْتٍ مُبَارَكٍ أَوْ مَكَان مُبَارَكٍ (فَإِنْ) لِلشَّرْطِ (عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ) أَرَادَ عِصْمَتَهُ، الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّ أَجْوِبَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا هِيَ بِعِصْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَطْ وَلَا دَخْلَ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ جَبْرٌ مَحْضٌ مُخِلٌّ لِقَاعِدَةِ التَّكْلِيفِ وَسَتَعْلَمُ مِنْ قَاعِدَةِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إلَّا وَفِيهِ قَدَمٌ رَاسِخٌ مِنْ الْجَبْرِ، كَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُ لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَهُمَا (بِأَنْ قَالَ لَيْسَ أَجَلِي بِيَدِي) بَلْ بِيَدِ اللَّهِ فَلَا يُمْكِنُ إطَالَتُهُ وَلَا أَعْلَمُ وَقْتَهُ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ فِي كُلِّ نَفَسٍ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ وَظِيفَةُ طَاعَةٍ وَلَوْ أَخَّرْت طَاعَةَ هَذَا الْوَقْتِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ فَمَا أَفْعَلُ بِوَظِيفَةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ (عَلَى أَنِّي إنْ سَوَّفْت) مِنْ سَوْفَ بِمَعْنَى التَّأْخِيرِ (عَمَلَ الْيَوْمِ إلَى غَدٍ فَعَمَلُ الْغَدِ مَتَى أَعْمَلُهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلًا) مَخْصُوصًا بِهِ لَا يُتَدَارَكُ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مَشْغُولٍ بِوَظِيفَتِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلَكَ الْمُسَوِّفُونَ» وَلَوْ فُرِضَ وِصَالَهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي سَوَّفَهُ لَا قَاطِعَ لَهُ بِتَدَارُكِهِ بَلْ أَوْلَى أَنْ
يُعَطِّلَهُ لِكَوْنِهِ مَطْبُوعًا فِي الْأَوْقَاتِ الْخَالِيَةِ بِالتَّرْكِ وَلَوْ سَلِمَ تَدَارُكُ هَذَا الْوَقْتِ بِالطَّاعَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَكُونُ فَقِيرًا مُفْلِسًا مَغْبُونًا.
قَالَ الْحَسَنُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِعِبَادِهِ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَاقْتَسِمُوهَا بِقَدْرِ أَعْمَالِكُمْ.
(ثُمَّ) إذَا أُفْحِمَ مِنْ هَذَا (يَأْمُرُهُ بِالْعَجَلَةِ فَيَقُولُ لَهُ عَجِّلْ) فِي طَاعَتِك بِتَخْفِيفِ أَرْكَانِهَا وَأَفْعَالِهَا (لِتَتَفَرَّغَ لِكَذَا وَكَذَا) مِنْ طَاعَةٍ أُخْرَى أَوْ لِنَحْوِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَرْضَى بِالْخَلَلِ فِي أَوْصَافِ الْعِبَادَةِ لِيُنْقِصَ أَجْرَهُ، أَوْ لَأَنْ يُؤَدِّيَ إلَى أَعْظَمَ مِنْهُ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى التَّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ قَلِيلُ الْعَمَلِ مَعَ التَّمَامِ) فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ (خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِهِ مَعَ النُّقْصَانِ) إذْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا التَّامَّ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ إتْيَانَ بَعْضِ الْفَرَائِضِ بِالتَّمَامِ مَعَ تَرْكِ الْآخَرِ خَيْرٌ مِنْ إتْيَانِ الْكُلِّ مَعَ النُّقْصَانِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ» أَيْ مُوَدِّعٍ لِهَوَاهُ مُوَدِّعٍ لِعُمُرِهِ وَسَائِرٍ إلَى مَوْلَاهُ.
(ثُمَّ) إذَا لَمْ يَنْتَفِعْ مِنْ ذَلِكَ (يَأْمُرُهُ بِإِتْمَامِ الْعَمَلِ) بِشَرَائِطِهِ وَآدَابِهِ مَعَ جَمِيعِ مُكَمِّلَاتِهِ وَلَكِنْ (مَعَ الْمُرَاءَاةِ فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ النَّاسُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعٍ وَضَرَرٍ) عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [الفرقان: 3] فَلَأَنْ لَا يَمْلِكُوا لِغَيْرِهِمْ أَوْلَى يَعْنِي: أَنَّ الرِّيَاءَ إمَّا لِجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِهِ - تَعَالَى - أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا فَعَبَثٌ وَسَعْيٌ بَاطِلٌ (أَفَلَا يَكْفِينِي رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى النَّافِعِ الضَّارِّ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَوَابُ تَحْقِيقٍ لَا إلْزَامِيٌّ إذْ حِيلَةُ الشَّيْطَانِ بِالرِّيَاءِ إنَّمَا هِيَ الْأَسْبَابُ الْعَادِيَّةُ وَالْجَوَابُ لَيْسَ بِهَا بَلْ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مَقَامُ الْخَوَاصِّ فَتَأَمَّلْ.
(ثُمَّ) إذَا أَيِسَ مِنْ إيقَاعِ خَلَلٍ فِي طَاعَتِهِ (يُوقِعُهُ فِي الْعُجْبِ فَيَقُولُ مَا أَيْقَظَك) مَا قُوَّةَ يَقَظَتِك وَشِدَّةَ فَطَانَتِك (وَ) مَا (أَعْقَلَك) كَثْرَةَ عَقْلِك حَيْثُ (تَنَبَّهْت) مِنْ الْغَفْلَةِ (لِمَا لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ غَيْرُك) وَارْتَقَيْت مَا لَمْ يَرْتَقُوا إلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَرَضِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ الْمَقْبُولَةِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ الْمِنَّةُ) النِّعْمَةُ (لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ) التَّيَقُّظِ وَالتَّعَقُّلِ (دُونِي) أَيْ لَيْسَ مِنِّي إذْ هُوَ بِمَحْضِ خَلْقِهِ وَتَأْثِيرِهِ فَلَفْظُ دُونِي مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَةِ دُونَ وَيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فَدُونَ بِمَعْنَى غَيْرٍ وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ مَعْنَاهُ أَدْنَى مَكَان مِنْ الشَّيْءِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ نَحْوُ: زَيْدٌ دُونَ عَمْرٍو أَيْ فِي الشَّرَفِ وَاتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي تَجَاوُزِ حَدٍّ إلَى حَدٍّ نَحْوُ - {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]- أَيْ لَا يَتَجَاوَزُوا وِلَايَةَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ (فَهُوَ الَّذِي خَصَّنِي بِتَوْفِيقِهِ) فِي صَرْفٍ وَسَعْيٍ إلَى الْعَمَلِ بِإِخْطَارِ الْمُيُولَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَمَلِ وَخَلْقِهِ عِنْدَ صَرْفِ إرَادَتِي إلَيْهِ (وَجَعَلَ لِعَمَلِي قِيمَةً عَظِيمَةً) لَا اسْتِحْقَاقِيَّةً بَلْ (بِفَضْلِهِ) وَكَرَمِهِ (وَلَوْلَا فَضْلُهُ لَمَا كَانَ لَهُ) لِعَمَلِي (قِيمَةٌ فِي جَنْبِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]
(وَجَنْبِ مَعْصِيَتِي لَهُ) وَلَا يُكَافِئُ عَمَلِي أَقَلَّ قَلِيلٍ مِنْ نِعَمِهِ فَكَيْفَ أُعْجَبُ وَأَيْضًا رَدُّهُ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ طَاعَاتِ الْمُتَوَرِّعِينَ وَعِبَادَاتِ الْمُتَّقِينَ وَكَيْفِيَّةَ وَرَعِهِمْ فَيَسْتَحْقِرَ طَاعَتَهُ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ الشَّيْطَانُ وَقَالَ الْأَعْقَلِيَّةُ بِاعْتِبَارِ مَدْخَلِيَّةِ كَسْبِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عَادَتَهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِ الطَّاعَةِ إنَّمَا هِيَ بِصَرْفِ الْعَبْدِ إرَادَتَهُ الْجُزْئِيَّةَ سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بِمَجْمُوعِ قُدْرَتَيْ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ عَلَى أَنْ تُؤَثِّرَا فِي أَصْلِ الْفِعْلِ كَمَذْهَبِ الْأُسْتَاذِ وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فَلَعَلَّ الْجَوَابَ وَالرَّدَّ بَعْدَ عَمَلِهِ حَقِيرًا لِمُقَارَنَتِهِ بِالْعُيُوبِ وَالْقُصُورِ فِي الْجِنَانِ وَالْأَرْكَانِ لِعَدَمِ الْخُضُوعِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَالْخَشْيَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَأَيْضًا بُعْدُهُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَعْمَالِ الْأَسْلَافِ وَالْمَشَايِخِ الْكَامِلِينَ، فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّدَّ بِنَحْوِهِ ابْتِدَاءً.
(ثُمَّ) إذَا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ يَأْتِيهِ مِنْ وَجْهٍ سَادِسٍ وَ (يَقُولُ اجْتَهِدْ أَنْتَ فِي السِّرِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُظْهِرُهُ) إلَى خَلْقِهِ (وَيَجْعَلُك شَرِيفًا خَطِيرًا) ذَا رِفْعَةٍ وَهَيْبَةٍ وَرِيَاسَةٍ (بَيْنَ النَّاسِ) بِسَبَبِ اجْتِهَادِك فِي السِّرِّ. أَقُولُ هَذِهِ الْحِيلَةُ مِنْ جَانِبِ الشَّيْطَانِ مُنْدَفِعَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعٍ وَضُرٍّ إلَى آخِرِهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَأَرَادَ بِذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ) فِي كَوْنِهِ مِنْ بَابِ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ خَفَاءً إذْ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَمَلُهُ لِنَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ مَحْضٍ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِمَا تَقَدَّمَ فَضْلًا عَنْ جَعْلِهِ أَمْرًا مُؤَخَّرًا مِنْهُ فَافْهَمْ لَكِنْ هَذَا الْمَقَامُ بِعَيْنِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمِنْهَاجِ فَكَأَنَّهُ تَبِعَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ مُغَايَرَةِ الْخَاصِّ لِلْعَامِّ مُغَايَرَةً مَا وَلَوْ اعْتِبَارًا فَتَأَمَّلْ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ) يَا مَلْعُونُ إلَى الْآنَ كُنْت تَأْتِينِي مِنْ وَجْهِ إفْسَادِ عَمَلِي وَالْآنَ تَأْتِينِي مِنْ وَجْهِ إخْلَاصِهِ لِتُفْسِدَهُ (إنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ سَيِّدِي) صِحَّةُ إطْلَاقِ السَّيِّدِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى كَوْنِ أَسْمَائِهِ تَوْقِيفِيَّةً كَالْأَشَاعِرَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إلَّا أَنْ يُبْنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ الصِّفَةِ وَلَمْ يُوهِمْ شَيْئًا لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا بَلْ أَشْعَرَ تَعْظِيمًا كَمَا مَرَّ.
وَيَدَّعِي كَوْنَ هَذَا مِنْهُ (إنْ شَاءَ أَظْهَرَ) عَمَلِي لَكِنْ إنْ تَعَلَّقَتْ الْمَشِيئَةُ بِالْإِظْهَارِ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَحْذُورُ مِنْ الشَّرَفِ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الرَّدِّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ تَمَامَ الرَّدِّ بِقَوْلِهِ فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ (وَإِنْ شَاءَ أَخْفَى) كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَوْلَى فِي عَبِيدِهِ (وَإِنْ شَاءَ جَعَلَنِي خَطِيرًا وَإِنْ شَاءَ حَقِيرًا وَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْإِظْهَارِ وَالْإِخْفَاءِ وَالْجُعْلَيْنِ مَوْكُولٌ (إلَيْهِ تَعَالَى) إذْ أُمُورُ الْعَبِيدِ وَتَصَرُّفُهُمْ إلَى مَوْلَاهُمْ (وَلَا أُبَالِي إنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ أَوْ لَمْ يُظْهِرْهُ) فَالْإِظْهَارُ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ عِنْدِي (فَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ) نَحْوُ الشَّرَفِ عِنْدَ الظُّهُورِ فَلَا يَخْفَى رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِ أَفَلَا يَكْفِينِي رُؤْيَةُ اللَّهِ النَّافِعِ الضَّارِّ إلَّا أَنْ يُقَالَ وَلَئِنْ سُلِّمَ الرُّجُوعُ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ فَأَصْلُ الْمُغَايَرَةِ كَافٍ لَكِنْ إنْ عَادَ اللَّعِينُ، وَقَالَ إنَّ عَادَتَهُ - تَعَالَى - جَارِيَةٌ فِي جَعْلِهِ خَطِيرًا بِإِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لِلنَّاسِ فَبِالْآخِرَةِ يُضْطَرُّ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ بَلْ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - لَكِنْ إنْ عَادَ وَقَالَ إنْ أُرِيدَ النَّفْعُ الصُّورِيُّ أَوْ الْعَادِيُّ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ كَوْنِهِ مِنْ النَّاسِ وَإِنْ الْحَقِيقِيُّ فَنُسَلِّمُ ذَلِكَ لَكِنْ
مَقْصُودُك حَاصِلٌ فِي الصُّورِيِّ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ فِي الرَّدِّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الِاغْتِرَارَ عَلَى الصُّورِيِّ ضَلَالٌ وَوَبَالٌ إذْ هُوَ مَجَازِيٌّ سَرِيعُ الزَّوَالِ وَمُوجِبٌ لِكُلِّ خُسْرَانٍ وَبَاعِثٌ لِفَوْتِ فُرْصَةِ ذَخَائِرِ الْجِنَانِ.
(ثُمَّ) يَأْتِيهِ مِنْ وَجْهٍ سَابِعٍ (يَقُولُ آخَرُ) بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْ جَمِيعِ الْحِيَلِ وَالْمُخَادَعَةِ (لَا حَاجَةَ لَك إلَى هَذَا الْعَمَلِ؛ لِأَنَّك إنْ خُلِقْت سَعِيدًا) فِي الْأَزَلِ فِي الْحُكْمِ الْقَدِيمِ وَحَضْرَةِ عِلْمِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ أَوْ فِي اللَّوْحِ أَوْ عِنْدَ نَفْخِ الْمَلَكِ الرُّوحَ فِي بَطْنِ الْأُمِّ (لَمْ يَضُرَّك تَرْكُ الْعَمَلِ) لِأَنَّ مَصِيرَك الْجَنَّةُ عَمِلْت أَوْ لَمْ تَعْمَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ مُرَادُهُ عَنْ إرَادَتِهِ وَلَا يَتَبَدَّلُ حُكْمُهُ تَعَالَى (وَإِنْ خُلِقْت شَقِيًّا) فِي الْأَزَلِ كَذَلِكَ (لَمْ يَنْفَعْك الْعَمَلُ) لِأَنَّ مَصِيرَك النَّارُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَإِنْ كَثُرَ لَا يَدْفَعُ الشَّقَاوَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْحُكْمِ الْقَدِيمِ وَالْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ (فَفِيمَ) أَصْلُهُ فِيمَا كَمَا فِي عَمَّ فَحُذِفَتْ أَلْفُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّة لِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ عَلَيْهَا (تَجْتَهِدُ) وَتُتْعِبُ نَفْسَك فِي أَمْرٍ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ نَفْعٌ بِتَعَبِك (وَتَتْرُكُ رَاحَتَك وَتَضُرُّ نَفْسَك) بِتَحْمِيلِ مَشَاقِّ الطَّاعَاتِ وَتَكَلُّفَاتِ الْعِبَادَاتِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُبْطِلُ قَاعِدَةَ التَّكْلِيفِ وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمَ فَائِدَةِ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَوَضْعِ الشَّرَائِعِ (فَإِنْ عَصَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - رَدَّهُ بِأَنْ قَالَ إنَّمَا أَنَا عَبْدٌ وَ) الْوَاجِبُ (عَلَى الْعَبْدِ امْتِثَالُ أَمْرِ سَيِّدِهِ) فِعْلًا أَوْ كَفًّا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبِ اللَّعِينِ إنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا يَتَأَتَّى عِنْدَ خَوْفِ الْعِقَابِ بِالْمُخَالَفَةِ وَالثَّوَابِ بِالِامْتِثَالِ وَلَيْسَ حِينَئِذٍ فَلَيْسَ إذْ الْوُجُوبُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِمَا فِي مُتَارَكَتِهِ عِقَابٌ كَمَا فِي الْأُصُولِ (وَالرَّبُّ أَعْلَمُ بِرُبُوبِيَّتِهِ) أَيْ بِسَبَبِ رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ بِأَحْوَالِ تَرْبِيَتِهِ عِبَادَهُ فَانْتَظِرْ قَرِيبًا (فَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ) مِنْ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ (وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ إنَّ إبْلِيسَ ظَهَرَ لِعِيسَى عليه الصلاة والسلام فَقَالَ أَلَسْت تَقُولُ إنَّهُ لَنْ يُصِيبَك إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَك، قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَارْمِ نَفْسَك مِنْ ذُرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ فَإِنَّهُ إنْ يُقَدِّرْ لَك السَّلَامَةَ سَلِمْت، قَالَ يَا مَلْعُونُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَبِرَ رَبَّهُ ثُمَّ إنْ قَالَ اللَّعِينُ إنْ كَانَ حُكْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ فِيك هُوَ السَّعَادَةُ فَلَا تَضُرُّك الْمَعْصِيَةُ وَإِنْ الشَّقَاوَةَ فَلَا تَنْفَعُك الْعِبَادَةُ فَلَا تُفِيدُ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ نَفْعًا فِي دَفْعِ شُبْهَةِ الشَّيْطَانِ بَلْ تُقَوِّيَانِهَا فَالْأَوْلَى عَدَمُ ذِكْرِهِمَا هُنَا وَإِنْ وَقَعَ، كَذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمِنْهَاجِ بَلْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ إنَّمَا تَنْفَعَانِ إنْ كَانَتْ الشُّبْهَةُ لِمَ جَعَلَ الْبَعْضَ سَعِيدًا فِي الْأَزَلِ وَالْآخَرَ شَقِيًّا وَالْكُلُّ مُتَسَاوٍ فِي النِّسْبَةِ (وَلِأَنِّي يَنْفَعُنِي الْعَمَلُ كَيْفَ مَا كُنْت) وَأَيْضًا يَضُرُّنِي تَرْكُهُ لَعَلَّ الْجَوَابَ الْمُتَقَدِّمَ تَسْلِيمِي وَمَدَارُهُ مَا أُشِيرَ آنِفًا وَهَذَا الْجَوَابُ مَنْعِي يَعْنِي يَنْفَعنِي الْعَمَلُ سَوَاءٌ كُنْت شَقِيًّا فِي الْأَزَلِ أَوْ سَعِيدًا وَفِي آخِرِ عُمُرِي قِيلَ هُنَا عَنْ الْمُنَاوِيِّ مِنْهُمْ مَنْ رَاعَى جَانِبَ الْحُكْمِ السَّابِقِ وَجَعَلَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَمِنْهُمْ جَانِبُ الْخَاتِمَةِ كَذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إذْ الْخَاتِمَةُ تَابِعَةٌ إلَيْهِ وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَشَقَاوَتُهَا تَابِعَةٌ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ (إنْ كُنْت سَعِيدًا) فِي الْأَزَلِ (احْتَجْت) لَعَلَّ الْأَوْلَى أَحْتَاجُ (إلَيْهِ) إلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ (لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ) وَرِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ، قَالَ الْحَسَنُ يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِفَضْلِي وَاقْتَسِمُوهَا بِقَدْرِ أَعْمَالِكُمْ وَقَالَ طَلَبُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَثُوبَاتِ الْمَزِيدَةَ وَالدَّرَجَاتِ كَنَفْسِ السَّعَادَةِ دَاخِلَةٌ فِي الْقَضَاءِ الْإِلَهِيِّ وَالْحُكْمِ الْأَزَلِيِّ حِينَئِذٍ وَلَا قَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَإِنْ كُنْت شَقِيًّا فَكَذَلِكَ) أَيْ احْتَجْت إلَيْهِ (لِئَلَّا أَلُومَ) أَنَا مِنْ اللَّوْمِ (نَفْسِي) بِتَرْكِ الْعَمَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَيْضًا فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يَقْتَضِي الْجَبْرَ لِكُلٍّ فِي عَمَلِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اللَّوْمُ عَلَى التَّرْكِ لَعَلَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ عَلَى طَرِيقِ التَّسْلِيمِ (عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُنِي عَلَى) فِعْلِ (الطَّاعَةِ بِكُلِّ حَالٍ) سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ؛ لِأَنَّهُ
حَكِيمٌ وَكُلُّ فِعْلِهِ عَلَى حِكْمَةٍ وَلَيْسَ مِنْ الْحِكْمَةِ عِقَابُ مَنْ أَطَاعَهُ بَلْ سَفَهٌ وَنَقْصٌ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْهُ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ عَدَمُ نَفْعِ إتْعَابِ النَّفْسِ لِلطَّاعَةِ عَلَى الشَّقَاوَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ أَخْذُ الْأَمْرَيْنِ هُنَا لَازِمٌ إمَّا نَفْيُ الشَّقَاوَةِ الْأَزَلِيَّةِ أَوْ نَفْيُ نَفْعِ الطَّاعَةِ (وَلَا يَضُرُّنِي) الطَّاعَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشُّبْهَةَ لَيْسَتْ فِي ضُرِّهَا بَلْ فِي نَفْعِهَا وَقِيلَ وَأَمَّا تَرْكُهَا فَيَضُرُّنِي لَا مَحَالَةَ يَرِدُ عَلَيْهِ عَلَى السَّعَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ كَيْفَ يَضُرُّ وَقِيلَ يَعْنِي أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَضُرُّنِي كَتَرْكِهِ فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي عَدَمِ النَّفْعِ وَعَدَمِ الضُّرِّ فَكَيْفَ أَخْتَارُ التَّرْكَ وَلَا مُخَاطَرَةَ فِي الْفِعْلِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي التَّرْكِ، وَالْعَاقِلُ يَتْرُكُ مَا فِيهِ الْمُخَاطَرَةُ وَيَأْتِي بِمَا فِيهِ عَدَمُ الْمُخَاطَرَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَيْضًا مَا فِيهِ وَلَعَلَّ أَيْضًا لِكُلِّ مَا ذُكِرَ قَالَ تَسْلِيمًا (عَلَى أَنِّي إنْ دَخَلْت النَّارَ وَأَنَا مُطِيعٌ) لِلَّهِ تَعَالَى (أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَدْخُلَهَا وَأَنَا عَاصٍ) إمَّا لِخِفَّةِ مُقَاسَاةِ النَّارِ وَشِدَّتِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ اللَّوْمِ عَلَى النَّفْسِ وَالتَّقْصِيرِ مِنْهَا، لِأَدَاءِ لَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يَرِدُ إنْ وُجِدَ الدُّخُولُ فَلَا أَحَبِّيَّةَ فِي أَحَدِهِمَا.
لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ دُخُولَ النَّارِ مَعَ الطَّاعَةِ أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ دُخُولِهَا بِعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ السِّعَايَاتِ لِلطَّاعَاتِ وَعَدَمَ فَرْقِ طَاعَتِهِ مِنْ الْعِصْيَانِ يَعْظُمُ عَلَى النَّفْسِ (فَكَيْفَ) يُتَصَوَّرُ دُخُولُ النَّارِ سِيَّمَا خُلُودُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الطَّاعَةِ (وَ) الْحَالُ أَنَّ (وَعْدَهُ) تَعَالَى (حَقٌّ) لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ بَلْ يُنْجِزُهُ (وَقَوْلُهُ صَدَقَ) لِأَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ نَقْصٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} [النساء: 122](وَقَدْ وَعَدَ) فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى (عَلَى الطَّاعَاتِ بِالثَّوَابِ فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَلْبَتَّةَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ) لِعَدَمِ تَبْدِيلِ الْقَوْلِ لَدَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ فِي امْتِنَاعِ خُلْفِ وَعْدِهِ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي خُلْفِ وَعِيدِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ وَعْدَهُ مُقَيَّدٌ بِبَقَاءِ الْإِيمَانِ كَمَا حُرِّرَ فِي الْكَلَامِ فَمَا قِيلَ هُنَا وَإِنْ كَانَ ذَهَابُ الْإِيمَانِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ أَمْرًا مُمْكِنًا وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ وَاقِعًا وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالْيَقِينُ الْمُحَقَّقُ الْآنَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ فَكَلَامٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا حَاصِلَ هَذَا
ثُمَّ يَرِدُ أَنَّ الْوَعْدَ الْإِلَهِيَّ يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالشَّقَاوَةَ الْأَزَلِيَّةَ تُوجِبُ عَدَمَهَا بَلْ النَّارُ وَلَيْسَ لِمَا ذُكِرَ مُرَجِّحٌ بَلْ الْأَفَاعِيلُ الْأَزَلِيَّةُ تَابِعَةٌ لِلْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذُكِرَ وَكَيْفَ يَدْفَعُ حِيلَةَ الشَّيْطَانِ أَقُولُ التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ الصَّعْبَةِ أَنْ يَأْتِيَ أَوَامِرَهُ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَيَجْعَلَ أَحْكَامَ الْحُكْمِ الْأَزَلِيِّ وَتَفْصِيلَهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهَاتِ لِقُصُورِ فَهْمِ الْإِنْسَانِ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَتِهَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ (وَلِذَا) أَيْ لِصِدْقِ وَعْدِهِ (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] فِي الدُّنْيَا بِالْجَنَّةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ (وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ وَعَدَ (مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ) جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ (وَقَدْ جَرَى عَادَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلَى رَبْطِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْبَابٍ ظَاهِرَةٍ كَالْغَيْثِ) أَيْ الْمَطَرِ (لِلنَّبَاتِ وَالْجِمَاعِ لِلْوَلَدِ) وَلَا يَضُرُّ النَّقْصُ فِي الْقِلَّةِ كَعِيسَى عليه السلام (وَكَالصَّيْفِ لِيَنْعِ الثِّمَارِ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَبِالْمُهْمَلَةِ هُوَ النُّضْجُ وَالْإِدْرَاكُ (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سَبَبِيَّةِ الْأَعْمَالِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]
مِنْ الصَّالِحَاتِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ هَذَا وَإِنْ وَافَقَ لِمَا فِي الْأُصُولِيَّةِ كَالتَّلْوِيحِ مِنْ أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ الْوَسِيلَةُ فَمُخَالِفٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ» وَلِمَا فِي الْكَلَامِيَّةِ إنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ باستحقاقية بَلْ تَفْضِيلِيَّةٌ.
قَالَ الْمَوْلَى حَسَنٌ حَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ التَّلْوِيحِ بَاءُ الْآيَةِ لِلْمُقَابَلَةِ وَبَاءُ الْحَدِيثِ لِلسَّبَبِيَّةِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فَارْجِعْ تَجِدْ تَفْصِيلَهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] لِأَنَّ لِلْمُتَّقِينَ شَأْنًا عَلِيًّا عِنْدَنَا دُونَ الْفُجَّارِ فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَسْوِيَةَ الطَّائِفَتَيْنِ.
(فَإِنْ لَمْ تَزُلْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ) إمَّا لِمَا أُشِيرَ مِنْ الْإِشْكَالِ أَوْ لِغُمُوضَةِ الْأَجْوِبَةِ لَا يَصِلُ إلَيْهَا أَوْ أَنَّهَا تَحْقِيقِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا أَوْ لِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ وَإِنْ فُهِمَ فَتَأَمَّلْ (وَيَعُودُ) اللَّعِينُ الْوَسْوَاسُ وَيَقُولُ (بِأَنَّ الْأَعْمَالَ أَيْضًا) كَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ (مُقَدَّرَةٌ) بِالتَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ (فَلَا تَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَةِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ (فَإِنْ قَدَّرَ لَنَا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ) وَحَكَمَ بِصُدُورِهَا مِنَّا (وَالسَّعْيَ لَهَا وَالْقَصْدَ إلَيْهَا حَصَلَتْ) تِلْكَ الْأَعْمَالُ (لَا مَحَالَةَ) لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْإِرَادَةِ عَنْ الْمُرَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعَجْزِ (وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ) اللَّهُ تِلْكَ الْأَعْمَالَ (اسْتَحَالَ وُجُودُهَا) إذْ لَا خَالِقَ سِوَاهُ وَلَا مُوجِدَ غَيْرُهُ وَلَوْ قَالَ وَإِنْ قُدِّرَ عَدَمُهَا لَكَانَ أَوْفَقَ لِمَا قَبْلَهُ وَأَظْهَرَ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ مَا اخْتَارَهُ أَشْمَلُ وَلَوْ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ فَالنَّفْعُ أَوْفَرُ لَكِنْ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ (فَنَحْنُ مَجْبُورُونَ) عَلَى الْأَوَّلِ أَظْهَرُ (عَلَى الْعَمَلِ) إنْ كَانَ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ (وَالتَّرْكُ) إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يُحَصِّلَ الْعَمَلَ إنْ تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِهِ وَكَذَا عَكْسُهُ (فَلَا يُفِيدُ الْقِيلُ وَالْقَالُ) عَنْ الْقَامُوسِ الْقِيلُ فِي الْخَيْرِ وَالْقَالُ فِي الشَّرِّ، وَعَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُمَا اُسْتُعْمِلَا اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ وَتُرِكَا عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ الْبِنَاءِ وَفُسِّرَ بِكَثْرَةِ الْمَقَالِ يَعْنِي بِأَنْوَاعِ الْأَجْوِبَةِ وَأَقُولُ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ لَيْسَتْ مُغَايِرَةً فِي الْحَقِيقَةِ لِلسَّعَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَشَقَاوَتِهَا بَلْ نَوْعٌ مِنْهَا إذْ مِنْ جُمْلَةِ السَّعَادَةِ التَّوْفِيقُ لِلْأَعْمَالِ كَالشَّقَاوَةِ لِعَدَمِهَا لَعَلَّ لِهَذَا اكْتَفَى الْغَزَالِيُّ بِمَا ذَكَرَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ قِيلَ وَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ عَدَمِ انْدِفَاعِ الشُّبَهِ الْمَذْكُورَةِ سِيَّمَا السَّابِعَةُ لَا يُفِيدُ هَذَا الدَّفْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ اكْتِسَابُ الْأَعْمَالِ مَا لَمْ يُدْفَعْ الْإِشْكَالُ السَّابِعُ (فَقُلْ) لِلَّعِينِ فِي دَفْعِ وَسْوَسَتِهِ بِذَلِكَ (إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا) خَيْرًا وَشَرًّا نَفْعًا وَضُرًّا (وَغَيْرَهَا) كَالْعِبَادِ أَنْفُسِهِمْ وَجَمِيعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مُجَرَّدًا أَوْ مَادِّيًّا (لَا خَالِقَ غَيْرُهُ لَكِنْ لِلْعِبَادِ) وَلَوْ حَيَوَانًا غَيْرَ إنْسَانٍ لَكِنْ الْمُرَادُ هُنَا هُوَ الْمُكَلَّفُ (اخْتِيَارَاتٌ) إرَادَاتٌ (جُزْئِيَّةٌ) بِالتَّعَلُّقِ عَلَى فِعْلِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ فَهَذِهِ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً بَلْ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ خَالِقَهَا لِعَدَمِ وُجُودِهَا فِي الْخَارِجِ وَالْمَخْلُوقُ مَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ لِمَا يُفَصِّلُهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا ذُكِرَ هَا هُنَا فَلَا يُنَافِي لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْكُلِّيَّةِ فِي الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً أَوْ الْقَيْدُ وُقُوعِيٌّ لِاقْتِضَاءِ الْحَادِثَةِ وَالْوَاقِعَةِ إيَّاهُ كَيْفَ، بَلْ الْجُزْئِيَّةُ مُتَفَرِّعَةٌ مِنْ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ بِلَا صُنْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ هِيَ الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الْمُجْمَلَةُ الْقَابِلَةُ لِلتَّعَلُّقِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَالْكُلِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَادِّ بِالْقُوَّةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَبْدِ، وَالْجُزْئِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ عِنْدَنَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رحمه الله هُنَا (وَإِرَادَاتٌ قَلْبِيَّةٌ) إمَّا عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوْ إرَادَةٌ كُلِّيَّةٌ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَقَرَّهَا هُوَ الْقَلْبُ وَالْإِرَادَةُ مَعَ الِاخْتِيَارِ إمَّا مُتَسَاوِيَانِ أَوْ لَا فَرْقَ مُعْتَدًّا بِهِ نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْهَامِشِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ قَوْله تَعَالَى
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] أَيْ إرَادَاتٍ مُلَابِسَةً بِأَنْفُسِهِمْ وقَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] وقَوْله تَعَالَى - {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39]- الْآيَةَ، إذْ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْبُورًا لَمَا صَحَّ هَذِهِ الْبُغْيَةُ وَالتَّوْبِيخُ وَلَمَا صَحَّ لَوْمُ النَّفْسِ وَتَعْيِيرُهَا وَهُوَ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ حَتَّى أَقْسَمَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ - {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]- وَلَمَا كَانَ لِلْخَتْمِ وَالطَّبْعِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى خَلْقِ الْمَشِيئَةِ وَلَمَا كَانَتْ النَّفْسُ بِالطَّبْعِ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُعِينَةً لَهَا وَلَمَا كَانَ الْغَالِبُ اخْتِيَارَ الشَّرِّ لَوْلَا التَّوْفِيقُ وَالْعِنَايَةُ فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] وَهَذَا مِمَّا أَلْهَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَى.
(قَابِلَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ) أَعْنِي (الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِيَ) فَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَبْرُ اعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّعَلُّقَ بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ لَيْسَ الِاخْتِيَارَ الْجُزْئِيَّ بَلْ مَبْدَأَهُ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْعَبْدِ إذْ قَدْ عَرَفْت فِيمَا سَبَقَ أَنَّ هُنَا أَرْبَعَةَ أُمُورٍ، الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الصَّالِحَةُ لِتَعَلُّقِ كُلِّ مَقْدُورٍ ثُمَّ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صَرْفُ الْعَبْدِ هَذِهِ الْإِرَادَةَ عَلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ جُزْئِيٍّ، ثُمَّ الِاسْتِطَاعَةُ التَّامَّةُ إلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ قَابِلَةٌ قَيْدٌ لِلْإِرَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَأُرِيدَ بِهَا الْإِشَارَةُ الْكُلِّيَّةُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا لَكِنْ يُنَافِي قَوْلَهُ (وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ) إذْ الْكُلِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ أَلْبَتَّةَ وَإِرْجَاعُ الضَّمِيرِ إلَى الِاخْتِيَارَاتِ الْجُزْئِيَّةِ فَقَطْ مَعَ كَوْنِهِ تَعْقِيدًا يُوجِبُ كَوْنَ قَوْلِهِ وَإِرَادَاتٌ قَلْبِيَّةٌ مُسْتَدْرَكًا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِعَدَمِ نَفْعِهِ فِي الْجَوَابِ لَعَلَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ هِيَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ بِأَنَّهُ كَيْفَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ بَلْ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَدِهِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ فَلَوْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ لَأَوْجَبَهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ مَجْبُورًا فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَخْلُوقًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ كَأَصْلِهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُتَّجَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ إنْ مِنْ اللَّهِ فَالْمَحْذُورُ بَاقٍ وَإِنْ مِنْ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ خَالِقَهَا فَأَجَابَ أَنَّهُ مِنْ الْعَبْدِ وَلَيْسَ بِخَالِقٍ إيَّاهَا؛ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ وَالْخَلْقُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَا لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ
فَإِنْ قِيلَ فَيُنَافِي حِينَئِذٍ قَوْلَهُ لِلْعِبَادِ اخْتِيَارَاتٌ إذْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً قُلْنَا الْمُثْبَتُ الْوُجُودُ بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْمَنْفِيُّ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْخَارِجَ ظَرْفٌ لِلِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ نَفْسِهِ لَا لِوُجُودِهِ وَالنَّفْيُ رَاجِعٌ إلَى هَذَا الْقَيْدِ لَا الْمُقَيَّدِ يَعْنِي مُطْلَقَ الْوُجُودِ سَالِمٌ عَنْ النَّفْيِ فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَمَعْدُومًا فِي الْخَارِجِ وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا فِي الْأَطْوَلِ لِلْعِصَامِ أَنَّ مِنْ بَيْنِ كَوْنِ الْخَارِجِ طَرَفًا لِنَفْسِ الشَّيْءِ وَكَوْنِهِ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ فَرْقًا، فَإِنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ جُعِلَ فِيهِ الْخَارِجُ ظَرْفًا لِنَفْسِ الْوُجُودِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَظْرُوفِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُودَ مَا جُعِلَ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ فَالْمَوْجُودُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ زَيْدٌ لَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ فِي قَوْلِنَا زَيْدٌ قَائِمٌ فِي الْخَارِجِ جُعِلَ ظَرْفًا لِنَفْسِ ثُبُوتِ الْقِيَامِ فَاللَّازِمُ كَوْنُ الْقَائِمِ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ بِثُبُوتِ غَيْرِهِ لَا الثُّبُوتُ، وَنَحْنُ نَقُولُ الْخَارِجُ اسْمٌ لِلْأَمْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ كَالذِّهْنِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْأَمْرِ الْمَوْجُودِ فِي الذِّهْنِ فَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وَالْأَعْيَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَفِي عِدَادِهَا فَظَرْفِيَّةُ الْخَارِجِ لِلْوُجُودِ مُسَامَحَةٌ إذْ الْوُجُودُ لَيْسَ فِي عِدَادِ الْأَعْيَانِ وَمَعْنَى زَيْدٌ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَنَّ وُجُودَهُ فِي وُجُودِ الْخَارِجِ وَفِي عِدَادِ وُجُودَاتِهِ، فَلَيْسَ الْخَارِجُ إلَّا ظَرْفًا لِنَفْسِ الشَّيْءِ لَكِنَّهُ إذَا جُعِلَ ظَرْفًا لَهُ حَقِيقَةً اقْتَضَى وُجُودَهُ وَإِذَا جُعِلَ ظَرْفًا لِوُجُودِهِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ انْتَهَى
ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ الْجُزْئِيَّةَ إنَّمَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الصَّرْفِ وَهُوَ تَعَلُّقٌ مَحْضٌ فَأَمْرٌ نِسْبِيٌّ فَلَا وُجُودَ لَهُ خَارِجِيٌّ بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا قُوَّةٌ مَوْجُودَةٌ فِي النَّفْسِ كَمَا عَرَفْت فَيَنْدَفِعُ أَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُصَنِّفِ (حَتَّى يَحْتَاجَ) أَيْ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ (إلَى الْخَلْقِ وَيَتَعَلَّقَ) الْخَلْقُ (بِهَا) بِهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقَهَا
(إذْ الْخَلْقُ إيجَادُ الْمَعْدُومِ) أَيْ إخْرَاجُهُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ (فَمَا لَا يُوجَدُ) فِي الْخَارِجِ (لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا) لِعَدَمِ صِدْقِ مَعْنَى الْخَلْقِ عَلَيْهِ (فَلَا يَكُونُ مُرِيدُهَا خَالِقَهَا) فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ خَالِقَهَا بِإِرَادَتِهَا وَلَا يُنَافِي حَصْرَ قَوْلِنَا لَا خَالِقَ غَيْرُهُ
ثُمَّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ صُدُورُ الْأَفْعَالِ بِهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتِ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُ التَّفْوِيضُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ أَجَابَ (وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ تِلْكَ الِاخْتِيَارَاتِ (شَرْطًا عَادِيًّا) لَا عَقْلِيًّا؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى إيجَادِهَا فِي الْعَبْدِ اسْتِقْلَالًا بِلَا تَوَقُّفُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ (لِخَلْقِهِ) تَعَالَى (أَفْعَالَ الْعِبَادِ) فَلَا يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الْعِبَادِ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ كَالْمُعْجِزَةِ لِنَبِيٍّ أَوْ الْكَرَامَةِ لِوَلِيٍّ فَلَا يُوجَدُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارَاتِ الْعِبَادِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّفْوِيضُ وَلَا بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِ - تَعَالَى - حَتَّى يَلْزَمَ الْجَبْرُ بَلْ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى لَكِنْ بِشَرْطِ تَعَلُّقِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ أَعْنِي صَرْفَ قُدْرَتِهِ إلَى الْعَمَلِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَقَامِ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ إنْ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَتَفْوِيضٌ وَإِنْ بِمُجَرَّدِ قُدْرَةِ اللَّهِ فَجَبْرٌ وَإِنْ بِهِمَا إنْ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فَتَوَارُدٌ وَإِنْ نَاقِصَتَيْنِ فَاحْتِيَاجٌ لَهُ - تَعَالَى - وَقُصُورٌ لِإِرَادَتِهِ وَاسْتَلْزَمَ كَوْنَهُ مُسْتَكْمَلًا بِالْغَيْرِ إذْ الِاحْتِيَاجُ وَالْقُصُورُ إنَّمَا يُتَصَوَّرَانِ إنْ لَمْ يَكُونَا بِجَعْلِهِ تَعَالَى وَعَادَتِهِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَتَحْرِيرُ الْمَقَامِ أَنَّ حَاصِلَ شُبْهَةِ الشَّيْطَانِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا يَكُونُ بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى فَحُصُولُهُ مِنْ الْعَبْدِ بِالْجَبْرِ وَمَا يَكُونُ حُصُولُهُ بِالْجَبْرِ فَسَعْيُ الْعَبْدِ فِيهِ عَبَثٌ فَيَنْتِجُ سَعْيُ الْعَبْدِ لِلْأَعْمَالِ عَبَثٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ إنْ أَرَدْت أَنَّهَا بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى فَقَطْ فَالصُّغْرَى مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ إرَادَاتٍ جُزْئِيَّةً فِي أَفْعَالِهِ قَابِلَةً لِتَعَلُّقِ الضِّدَّيْنِ وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهَا بِتَقْدِيرِهِ تَعَالَى مَعَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَالصُّغْرَى مُسَلَّمَةٌ لَكِنْ الْكُبْرَى مَمْنُوعَةٌ إذْ مَا صَدَرَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَلَوْ عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ جَبْرًا ثُمَّ لِمَا وَرَدَ عَلَى السَّنَدِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْإِرَادَاتُ صَادِرَةً مِنْ الْعَبْدِ يَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ خَالِقَهَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ. أَجَابَ بِأَنَّ تِلْكَ الْإِرَادَاتِ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ وَمَا يَكُونُ مَخْلُوقًا فَمَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ فَالْإِرَادَاتُ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً فَلَا يَكُونُ مُرِيدُهَا يَعْنِي الْعَبْدَ خَالِقَهَا وَقَدْ عَرَفْت فَوَائِدَ الْمُقَدِّمَاتِ إلَّا أَنَّك لَاحَظْت مَضْمُونَ قَوْلِهِ وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ إلَى آخِرِهِ فِي مَضْمُونِ أَوَّلِ الْكَلَامِ وَلَا جَبْرَ فِيهِ وَإِنْ شِئْت قَرَّرْت الْجَوَابَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَكِنْ الْمُنَاقَضَةُ هِيَ الْوَظِيفَةُ الْأَوَّلِيَّةُ لِلسَّائِلِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ وَزُبْدَتَهُ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَإِنْ صَدَرَتْ بِقُدْرَتِهِ - تَعَالَى - لَكِنَّهُ بِشَرْطِ إرَادَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيُوجَدُ الْمَشْرُوطُ وَإِلَّا فَلَا، فَلَا جَبْرَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَا تَفْوِيضَ لِعَدَمِ صُدُورِهِ مِنْ إرَادَةِ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً بَلْ شَرْطًا.
ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَوَابُ حَاسِمًا لِمَادَّةِ الْإِشْكَالِ فِي الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ بِالْقُدْرَةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْجَوَابُ بِكَيْفِيَّةِ صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ قَالَ دَفْعًا لِذَلِكَ (وَكَوْنُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَكَتْبِهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ صُدُورِهَا مِنْ الْعِبَادِ بِالْجَبْرِ) وَظَاهِرُ الْأَمْرِ أَنَّهَا تَسْتَلْزِمُهُ إذْ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا وَإِرَادَتُهُ كَانَتْ مُتَخَلِّفَةً عَنْ مُرَادِهِ وَيُنْتَقَضُ حُكْمُهُ وَيَكْذِبُ كَتْبُهُ وَلَيْسَ مِثْلُهَا يُرَى كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ (كَمَا إذَا عَلِمَ زَيْدٌ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ عَمْرٌو يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ فَأَرَادَهُ) أَيْ زَيْدٌ (وَكَتَبَهُ فِي قِرْطَاسٍ فَهَلْ يَكُونُ عَمْرٌو فِي فِعْلِهِ مَجْبُورًا مِنْ) جَانِبِ (زَيْدٍ وَهَلْ يَكُونُ لَهُ) أَيْ لِعَمْرٍو (أَنْ يَقُولَ لِزَيْدٍ
فَعَلْت مَا فَعَلْت لِعِلْمِك وَإِرَادَتِك وَكَتْبِك إيَّاهُ) فَظَاهِرٌ فِيهِ عَدَمُ الْجَبْرِ (فَإِنَّ عَمْرًا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ) لِذَلِكَ الْفِعْلِ (لَا لِأَجْلِ عِلْمِ زَيْدٍ وَإِرَادَتِهِ وَكَتْبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْجَبْرُ) فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ الْجَبْرُ فِي عَمْرٍو (فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ) مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ فَلَا يُجْعَلُ عِلْمُهُ تَعَالَى بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَكَتْبِهِ الْعَبْدَ مَجْبُورًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَقَامِ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ أَنْ يُقَالَ إنَّ كَتْبَهُ تَعَالَى تَابِعٌ لِتَقْدِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهُمَا تَابِعَانِ لِعِلْمِهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ تَعَالَى تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ أَعْنِي فِعْلَ الْعَبْدِ، وَفِعْلُ الْعَبْدِ كَمَا عَرَفْت حَاصِلٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ بِحَيْثُ إنْ تَعَلَّقَتْ إرَادَةُ الْعَبْدِ بِفِعْلٍ تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى وَإِلَّا فَلَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ تَعَالَى فَلَا يُتَصَوَّرُ الْجَبْرُ أَصْلًا (فَتَدَبَّرْ) فَإِنَّ الْمَقَامَ صَعْبٌ وَالزَّالُّونَ كَثِيرُونَ وَالْفَهْمُ خَفِيٌّ فَإِنْ تَدَبَّرْت تَصِلُ إلَى مُرَادِ الْمَقَامِ وَتُزِيلُ غَوَائِلَ الشَّيْطَانِ وَتَتَنَعَّمُ بِوُصُولِ لَذَّةِ الْمَرَامِ (وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ) فَإِنَّ الشُّكْرَ عَلَى حَسَبِ النِّعْمَةِ قِيلَ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَكَافِئُوهُ بِالدُّعَاءِ» وَعَنْ ابْنِ عِرَاقٍ: إذَا أَفَادَك إنْسَانٌ بِفَائِدَةٍ فَجَدِّدْ الذِّكْرَ عَنْهُ دَائِمًا أَبَدَا قِيلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ قِيَاسُ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ مَعَ أَنَّهُ مَعَ الْفَارِقِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِهِ بِشَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ إرَادَتِهِ، وَإِرَادَتُهُ تَسْتَلْزِمُ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِهِ وَأَمَّا عِلْمُ زَيْدٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي التَّشْبِيهِ، بَلْ الشَّرْطُ الِاشْتِرَاكُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ هُنَا سَلْبُ الْجَبْرِ، وَالْعِلَّةُ كَوْنُ الْعِلْمِ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِيهِ أَقُولُ الْعُمْدَةُ فِي الْكَلَامِ هِيَ الْإِرَادَةُ، بَلْ الظَّاهِرُ هِيَ مُرَادِفَةُ الْقُدْرَةِ فَكُلٌّ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ مَنْظُورٌ فِيهِ بَلْ الْإِشْكَالُ إرَادَتُهُ تَعَالَى مَوْجُودَةٌ مُؤَثِّرَةٌ وَإِرَادَةُ زَيْدٍ لَيْسَتْ بِمُؤَثِّرَةٍ وَمَعْدُومَةٍ فَالْقِيَاسُ مَعَ كَوْنِهِ قِيَاسَ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ مَعَ فَارِقٍ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ بَلْ تَنْظِيرٌ وَتَوْضِيحٌ لِبَعْضِ مَا يُذْكَرُ مَعَ السَّنَدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسِ غَائِبٍ عَلَى شَاهِدٍ بَلْ الْإِرَادَتَانِ وَحَالُهُمَا لَيْسَتَا بِشَاهِدَتَيْنِ وَأَنَّهُ بَعْدَمَا اسْتَيْقَنَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَبَعِيَّةِ إرَادَتِهِ تَعَالَى إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ وَلَوْ شَرْطًا لَا يَكُونُ مَعَ فَارِقٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقْصُودِ الْمَقَامِ (وَهَذَا الْجَوَابُ) مِنْ تَبَعِيَّةِ إرَادَتِهِ تَعَالَى إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ (هُوَ الْحَاسِمُ) الْقَاطِعُ (لِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ) الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إنْ قُدِّرَ لَك طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ تَحْصُلُ أَلْبَتَّةَ وَلَا حَاجَةَ إلَى سَعْيِك، وَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ إرَادَتُك بِفِعْلٍ مَا لَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ تَعَالَى بِهَذَا الْفِعْلِ عَلَى عَادَتِهِ وَحِكْمَتِهِ (وَ) هَذَا (مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ) مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ بَلْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ فِي خِلَافِهِ كَالْأَشْعَرِيِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ التَّقْلِيدِ فِي الِاعْتِقَادِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ فِي الْمَطْلَبِ الْعَقْلِيِّ بِالنَّقْلِ وَلَا الِاحْتِيَاجِ بِالدَّلِيلِ الْجَدَلِيِّ الْخَطَابِيِّ فِي مَقَامِ
الْبُرْهَانِيِّ التَّحْقِيقِيِّ فَافْهَمْ (لَا جَبْرَ) كَمَا قَالَ الْجَبْرِيَّةُ بَلْ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا عَلَى اعْتِقَادِ الْمُصَنِّفِ (وَلَا تَفْوِيضَ) كَالْقَدَرِيَّةِ (وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ) كَمَا قِيلَ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إلَّا وَفِيهِ قَدَمٌ رَاسِخٌ مِنْ الْجَبْرِ إذْ لَوْ كَانَ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ جَبْرًا وَلَوْ بِمَحْضِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَانَ تَفْوِيضًا وَلَوْ بِهِمَا يَكُونُ أَمْرٌ بَيْنَهُمَا هَذَا هُوَ تَحْرِيرُ الْمَقَامِ عَلَى مُقْتَضَى صَرِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَإِلَّا فَإِيجَادُ الْفِعْلِ بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَرْطِ إرَادَةِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَنَا، بَلْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِأَحَدٍ كَمَا سَبَقَ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ تَفْصِيلُهُ إذْ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَجْمُوعِ قُدْرَتَيْ اللَّهِ وَالْعَبْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُهُمَا مُؤَثِّرًا مُسْتَقِلًّا عَلَى حِكْمَتِهِ تَعَالَى وَعَادَتِهِ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَوْضِيحِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَالْخَيَّالِيِّ وَحَوَاشِيهِ فَالْجَبْرُ الْمُتَوَسِّطُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ حُصُولُهُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ جَبْرٌ وَبِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَفْوِيضٌ وَكَوْنُهُ بِهِمَا أَمْرٌ بَيْنَهُمَا وَأَيْضًا إنَّ مَا ادَّعَاهُ مُتَوَسِّطًا رَاجِعٌ إلَى قُدْرَةٍ مَحْضٍ إذْ لَوْ كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى مَشْرُوطًا بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ كَوْنِهِ شَرْطًا فِي التَّفْوِيضِ إذْ عَمَلُ الْمَشْرُوطِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْطِ وَإِنْ وُجِدَ فَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ تَعَالَى وَلِلْعَبْدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَتَيْنِ لَكِنْ شُرِطَ فِي تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَلُّقُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَعَلَّ التَّحْقِيقَ فِي الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ مَا فُهِمَ مِنْ رِسَالَةِ الدَّوَانِيِّ أَنَّ الْإِرَادَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ مُنْبَعِثَةٌ مِنْ الشَّوْقِ، وَالشَّوْقُ مُنْبَعِثٌ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَمْرِ الْمُلَائِمِ، وَهَذَا الشَّوْقُ وَالتَّصَوُّرُ ضَرُورِيَّانِ وَالْإِرَادَةُ التَّابِعَةُ لَهُمَا اخْتِيَارِيَّةٌ وَيَقْرُبُ إلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْكَمَالِ فِي إثْبَاتِ الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ أَمَّا إنَّهُ لَا جَبْرَ؛ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ فِي فِعْلِهِ فَعَادَتُهُ تَعَالَى بِخَلْقِ فِعْلِ الْعَبْدِ عَقِيبَ صَرْفِ اخْتِيَارِهِ وَأَمَّا إنَّهُ لَا تَفْوِيضَ، فَإِنَّ مَنْشَأَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ دَاعِيَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ، وَدَوَاعِي الْقَلْبِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا دَخْلَ فِيهِ لِلْعَبْدِ (وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ) نَفْسُ الشَّيْخِ (الْقَائِلِ بِالْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ) عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِقَادِهِ (أَعْنِي كَوْنَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِاخْتِيَارِهِمْ لَا بِالِاضْطِرَارِ كَمَا يَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ فَإِنَّهُ) أَيْ الِاضْطِرَارَ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ لَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا تُوُهِّمَ (جَبْرٌ مَحْضٌ) لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ مِنْ الْعَبْدِ لَا شَرْطًا وَلَا شَطْرًا وَلَا مَدَارًا (وَلَكِنْ الِاخْتِيَارُ) الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الْأَفْعَالِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَبْرِ وَالِاضْطِرَارِ) يَعْنِي تَصْدُرُ الْأَفْعَالُ مِنْ الْعِبَادِ بِالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ مَخْلُوقٌ فِي الْعَبْدِ بِالْجَبْرِ وَالِاضْطِرَارِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادُ مُخْتَارِينَ فِي أَفْعَالِهِمْ لِصُدُورِهَا بِالْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَمُضْطَرِّينَ فِي اخْتِيَارِهِمْ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الِاخْتِيَارِ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَنَحْنُ مُخْتَارُونَ فِي أَفْعَالِنَا مُضْطَرُّونَ فِي اخْتِيَارِنَا فَهَذَا مَعْنَى الْجَبْرِ الْمُتَوَسِّطِ) عِنْدَهُ عَلَى وَفْقِ مَنْقُولِ السَّلَفِ (فَلَا مَحِيصَ) فَلَا مُخَلِّصَ جَوَابُ أَمَّا فَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ (مِنْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ) مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ مِنْ عَدَمِ نَفْعِ سَعْيِ الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا (وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ) لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَإِنْ ادَّعَى هُوَ اتِّحَادَهُ وَإِنَّمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلسَّلَفِ (إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ) بَيْنَ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ (وَبَيْنَ الْجَبْرِ الْمَحْضِ فِي الْحَقِيقَةِ) وَإِنْ وُجِدَ فَرْقٌ فِي الصُّورَةِ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَ فِي الْعَبْدِ قُدْرَةً مُجَرَّدَةً وَعِنْدَ
الْجَبْرِيَّةِ فِعْلُ الْعَبْدِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل فَقَطْ بِدُونِ قُدْرَةٍ مِنْ الْعَبْدِ أَصْلًا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ أَصْلًا وَبَيْنَ وُجُودِهَا بِلَا تَأْثِيرٍ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْقُدْرَةِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّأْثِيرِ فَإِذَا نُفِيَ التَّأْثِيرُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ (فَأَيُّ نَفْعٍ فِي وُجُودِ اخْتِيَارٍ اضْطِرَارِيٍّ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ الْمَنْسُوبَ إلَى الِاضْطِرَارِ يُزِيلُ حَقِيقَةَ الِاخْتِيَارِ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ الِاسْمِ، هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْمَوْلَى حَسَنٌ جَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ نَقْلًا عَنْ الْغَيْرِ أَنَّ ثُبُوتَ الْقُدْرَةِ إنَّمَا يُعْلَمُ بِأَثَرِهَا مِنْ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا، وَأَنَّهُ مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ النَّافِينَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لَكِنْ أَجَابَ عَنْهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَشْهَدُ بِوُجُودِ الْقُدْرَةِ مُنْضَمَّةً إلَى الْإِرَادَةِ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بِتَأْثِيرِهَا انْتَهَى لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ بَلْ يُؤَكِّدُهُ؛ لِأَنَّ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ يَقْتَضِي وُجُودَ التَّأْثِيرِ إذْ التَّأْثِيرُ مِنْ لَوَازِمِهَا فَهَذَا وَإِنْ دَفَعَ شُبْهَةَ الشَّيْطَانِ لَكِنْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بَلْ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَيْضًا إذْ هُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ أَنَّ الْعَبْدَ مُضْطَرٌّ فِي حُصُولِ قُدْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا بِخَلْقِهِ تَعَالَى فِي الْعَبْدِ بِلَا مَدْخَلٍ مِنْهُ وَمُخْتَارٌ فِي صَرْفِهَا نَحْوُ الْفِعْلِ لِإِمْكَانِ تَعَلُّقِهَا بِكُلٍّ مِنْ الضِّدَّيْنِ.
أَقُولُ هَذِهِ الْإِرَادَةُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي لَا كَلَامَ فِيهَا وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَمَلِ الْجُزْئِيِّ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى فَتَكُونُ عِلَّةً تَامَّةً لِلْفِعْلِ فَيَلْزَمُ الْجَبْرُ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مُخْتَارًا فِي الصَّرْفِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْعَبْدُ مِنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَيَحْتَاجُ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ إلَى مُرَجِّحٍ وَإِلَّا فَيَكُونُ اتِّفَاقِيًّا لَا اخْتِيَارِيًّا وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَدَمُ احْتِيَاجِ وُقُوعِ الْجَائِزَيْنِ إلَى سَبَبٍ فَيَنْسَدُّ بَابُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَالْمُرَجِّحُ لَا يَكُونُ مِنْ الْعَبْدِ لِلتَّسَلْسُلِ وَيَكُونُ الْفِعْلُ عِنْدَهُ وَاجِبًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا فَيَلْزَمُ الْإِيجَابُ (وَأَمَّا قَوْلُهُ) فِي إثْبَاتِ كَوْنِ ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ اضْطِرَارِيًّا فِي الْعَبْدِ بِخَلْقِهِ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ اضْطِرَارِيًّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ مِنْ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ بِنَقْلِ الْكَلَامِ إلَى صُدُورِ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ عَنْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَيَلْزَمُ) عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ (أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِيَارِ اخْتِيَارٌ فَيَدُورُ) إنْ رَجَعَ إلَيْهِ (أَوْ يَتَسَلْسَلُ) إنْ لَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدٍّ (فَمَنْقُوضٌ) وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقًا لَهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا خَالِقَ سِوَاهُ لَكِنْ يَشْكُلُ بِجَوَازِ كَوْنِ ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ مِنْ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيًّا فَلَا يَكُونُ لِلِاخْتِيَارِ اخْتِيَارٌ فَتَأَمَّلْ (بِاخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى) بِأَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُوجِدًا لِفِعْلِهِ بِالْقُدْرَةِ لَتَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَجِّحٍ، وَالْمُرَجِّحُ لَا يَكُونُ مِنْهُ لِلدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ وَيَكُونُ الْفِعْلُ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ وَاجِبَ الصُّدُورِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَجِّحُ مُرَجِّحًا تَامًّا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَادِرًا مُخْتَارًا.
قِيلَ هَذَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ (فَجَوَابُهُ) أَيْ جَوَابُ النَّقْضِ وَالْجَوَابُ عَلَى مَا فِي الْمَوَاقِفِ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ إرَادَةَ الْعَبْدِ مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلَى إرَادَةٍ أُخْرَى، وَإِرَادَةُ اللَّهِ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى إرَادَةٍ أُخْرَى (جَوَابُهُ) الظَّاهِرُ أَيْ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ النَّقْضِ أَيْ جِنْسًا أَوْ أَصْلًا لَا عَيْنًا وَلَا شَخْصًا إذْ قَالَ فِي الْمَوَاقِفِ وَرُدَّ
هَذَا الْجَوَابُ بِأَنْ لَا يُدْفَعَ التَّقْسِيمُ الْمَذْكُورُ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ إذْ يُقَالُ إنْ لَمْ يَكُنْ التَّرْكُ مَعَ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ كَانَ مُوجِبًا لَا قَادِرًا مُخْتَارًا وَإِنْ أَمْكَنَ فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فِعْلُهُ عَلَى مُرَجِّحٍ كَانَ اتِّفَاقِيًّا وَاسْتَغْنَى الْحَادِثُ عَنْ الْمُرَجِّحِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ مَعَهُ وَاجِبًا فَيَكُونُ اضْطِرَارِيًّا وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ النَّقْضُ إذَا بَيَّنَ عَدَمَ جَرَيَانِ الدَّلِيلِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ
لَكِنْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ بِمَا تَلْخِيصُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِهِ أَنَّ الْمُرَجِّحَ الْقَدِيمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفِعْلِ الْحَادِثِ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، فَإِنَّ فِعْلَ الْبَارِّي وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُرَجِّحٍ قَدِيمٌ كَذَلِكَ لَكِنْ لَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ وَحِينَئِذٍ لَا يُتَّجَهُ النَّقْضُ وَأَمَّا لُزُومُ كَوْنِ الْفِعْلِ وَاجِبًا لَا مُخْتَارًا مَعَ ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ الْقَدِيمِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُحَقِّقُهُ (وَحَلُّهُ) أَيْ الْجَوَابِ عَنْ الدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ فِي النَّقْضِ (أَنَّ) الشَّيْءَ (الْمُخْتَارَ) أَوْ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ وَاجِبًا كَمَا فِي النَّقْضِ أَوْ عَبْدًا كَمَا فِي الْأَصْلِ (إنْ كَانَ قَصْدًا وَأَصَالَةً) بِأَنْ كَانَ مَقْصُودًا بِالْأَصَالَةِ كَالصَّلَاةِ (فَلَا بُدَّ لَهُ) لِهَذَا الْمُخْتَارِ (مِنْ اخْتِيَارٍ مُغَايِرٍ لَهُ) لِذَلِكَ الْمُخْتَارِ (سَابِقٌ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ) إذْ الْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ لَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُهُ بِلَا اخْتِيَارٍ (وَأَمَّا إذَا كَانَ) الشَّيْءُ الْمُخْتَارُ (ضِمْنًا وَتَبَعًا) أَوْ إذَا كَانَ تَعَلُّقُ اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ كَذَلِكَ كَالِاخْتِيَارِ الْجُزْئِيِّ (فَلَا) يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ اخْتِيَارٌ سَابِقٌ عَلَيْهِ (بَلْ يَكُونُ اخْتِيَارُ الْمَقْصُودِ) أَيْ الِاخْتِيَارُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ بِالْأَصَالَةِ كَالصَّلَاةِ (اخْتِيَارًا لِنَفْسِهِ) أَيْ نَفْسِ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَادٌ وَلَا خَلْقٌ وَإِنَّمَا يَقَعُ (ضِمْنًا وَالْتِزَامًا) لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ لِلْأَشْيَاءِ بِلَا تَعَلُّقِ إيجَادٍ بِهَا
(كَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْوِجْدَانُ) الَّذِي هُوَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْبَدِيهِيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَهَذِهِ مُفِيدَةٌ فِي الْمَقَامِ التَّحْقِيقِيِّ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَّا فِي الْجَدَلِيَّةِ وَالْإِلْزَامِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ هُنَا فَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا كَانَ هُنَاكَ عِلَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْجَمْعِ وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْمَقَامِ عَلَيْهِ فَأَمْكَنَ انْدِفَاعُ مَا قِيلَ أَنَّ مَا شَهِدَ لَهُ الْوِجْدَانُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْغَيْرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا دَوْرَ وَلَا تَسَلْسُلَ وَأَيْضًا لَوْ سُلِّمَ لُزُومُهُمَا لَكِنَّهُمَا فِي الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ وَلَيْسَا بِمُحَالَيْنِ فِيهَا
ثُمَّ أَمْكَنَ لِلْأَشْعَرِيِّ الِانْتِقَالُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ مُنْتِجٍ لِمَطْلُوبِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُ الْعَبْدِ مُضْطَرًّا فِي اخْتِيَارِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ طَرَفَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ جَائِزَيْنِ لِلْعَبْدِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَإِذَا امْتَنَعَ كَوْنُ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْعَبْدِ لِلتَّسَلْسُلِ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْعَبْدُ أَيْضًا مَجْبُورًا، أَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ (وَالتَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ) لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِرَادَةِ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى مُرَجِّحٍ كَالْهَارِبِ يَسْلُكُ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَالْجَائِعُ يُقَدِّمُ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ كَذَلِكَ
(وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ التَّرَجُّحُ) كَوْنُ الشَّيْءِ ذَا رُجْحَانٍ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ بِلَا مُوجِدٍ فِي نَفْسِهِ (بِلَا مُرَجِّحٍ) لِاسْتِغْنَاءِ الْمُمْكِنِ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ (فَيَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْإِرَادَةُ بِشَيْءٍ لَا مُرَجِّحٍ وَدَاعٍ) اعْلَمْ أَنَّ بُطْلَانَ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْوُجُودِ بِلَا مُوجِدٍ وَبُطْلَانَ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْإِيجَادِ بِلَا مُوجِدٍ بَدِيهِيٌّ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ تَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ فَجَائِزٌ وَاقِعٌ بِوُجُوهٍ مَذْكُورٌ فِي رَابِعَةِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ وَالتَّلْوِيحِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ وَأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْمُخْتَارِ تَارَةً وَعَدَمِهِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنَّمَا هُوَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُرَجِّحَ الْفَاعِلُ بِهَا أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ، فَالْإِيجَادُ بِالِاخْتِيَارِ قَدْ يَكُونُ تَرْجِيحًا لِذَلِكَ
فَإِنْ قِيلَ اخْتِيَارُ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ قُلْنَا الْإِرَادَةُ وَالِاخْتِيَارُ لَا تُعَلَّلُ بِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ هَذَا دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا فَإِنْ قِيلَ التَّرْجِيحُ يَسْتَلْزِمُ الرُّجْحَانَ ضَرُورَةً فَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ يُوجِبُ رُجْحَانَهُ قُلْنَا الْمُمْتَنِعُ هُوَ رُجْحَانُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ مَا دَامَ مُسَاوِيًا أَوْ مَرْجُوحًا لِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ الرُّجْحَانِ وَعَدَمِهِ، وَعِنْدَ تَرْجِيحِ الْفَاعِلِ إيَّاهُمَا لَمْ يَبْقَيَا مُسَاوِيًا وَمَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرْجِيحِ إثْبَاتُ الرُّجْحَانِ، وَجَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا وَإِخْرَاجُهُ عَنْ حَدِّ التَّسَاوِي كَذَا فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ مِنْ التَّلْوِيحِ فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ (فَلَا يَرِدُ أَنَّ تَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ) مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِشَيْءٍ (لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ فَإِنْ كَانَ) ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ (مِنْ خَارِجٍ) عَنْ نَفْسِ الْفَاعِلِ الْمُرِيدِ (يَلْزَمُ الْإِيجَابُ) أَيْ كَوْنُهُ وَاجِبَ الصُّدُورِ عَنْهُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْمَوْجُودُ الْمُرَجِّحُ الْمَفْرُوضُ تَمَامَ الْمُرَجِّحِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِبْ جَازَ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ تَارَةً وَيَعْدَمَ أُخْرَى مَعَ الْمُرَجِّحِ فِيهِمَا، فَتَخْصِيصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِوُجُودِهِ مُحْتَاجٌ إلَى مُرَجِّحٍ فَلَا يَكُونُ مَا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فَتَدَبَّرْ (وَإِنْ كَانَ) الْمُرَجِّحُ (مِنْ نَفْسِ الْمُرِيدِ يَنْتَقِلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ) عَلَى ذَلِكَ الْمُرَجِّحِ (أَنَّهُ بِالِاخْتِيَارِ أَوْ بِالِاضْطِرَارِ فَيَلْزَمُ إمَّا الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ) فِي صُورَةِ الِاخْتِيَارِ (أَوْ الْإِيجَابُ) مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي صُورَةِ الِاضْطِرَارِ لِعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَمَّا اُضْطُرَّ إلَيْهِ
وَجْهُ عَدَمِ الْوُرُودِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ جَائِزٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُرَجِّحِ فَيَسْقُطُ التَّفْصِيلُ وَالتَّرْدِيدُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَيْهِ وَقَدْ عَرَفْت أَيْضًا مَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ نَحْوِ جَوَازِ ثُبُوتِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْمُخْتَارِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ يُرَجِّحُ بِهَا الْفَاعِلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الْآخَرِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعَلِّلُ هَذَا اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْمَقَامِ إجْمَالًا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ آخِرًا الْأَعْمَالُ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ مَجْبُورٌ وَالسَّعْيُ بَاطِلٌ وَيَدْفَعُ السَّالِكُ أَنَّ الْأَعْمَالَ وَإِنْ كَانَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَعَلُّقَ قُدْرَتِهِ بِفِعْلِ عَبْدِهِ مَشْرُوطًا بِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ الْعَبْدِ الصَّالِحَةِ لِلضِّدَّيْنِ فَمَا لَمْ تَتَعَلَّقْ تِلْكَ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ تَعَالَى، وَالْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ حَتَّى يَلْزَمَ خَلْقُ الْعَبْدِ إرَادَتَهُ، وَعِلْمُهُ تَعَالَى تَابِعٌ لِمَعْلُومِهِ وَالْإِرَادَةُ وَالتَّقْدِيرُ تَابِعَانِ لِلْعِلْمِ، وَالْكِتَابَةُ تَابِعَةٌ لِلْإِرَادَةِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ صُدُورَ الْفِعْلِ بِتَعْلِيقِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ اخْتِيَارًا وَلَوْ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْطِ
لَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ أَيْضًا بِعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكِتَابَتِهِ فَانْدَفَعَ بِذَلِكَ وَسْوَسَةُ اللَّعِينِ وَانْطَبَقَ قَوْلُ السَّلَفِ
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا تَنْدَفِعُ وَلَا يَنْطَبِقُ إذْ عِنْدَهُ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ حَاصِلَةٌ مِنْ اللَّهِ جَبْرًا، فَالْعَبْدُ مُخْتَارٌ فِي أَفْعَالِهِ وَمُضْطَرٌّ فِي اخْتِيَارِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَبْرِ الْمَحْضِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَدْ تَمَّ الْمَرَامُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي مَهَامِّ الْمَقَامِ، وَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلِاخْتِيَارِ إلَخْ قَوْلًا زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَطَوْرًا مُخَالِفًا لِمَا الْتَزَمَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَإِنْ بَذَلَ الْوُسْعَ فِي تَوْجِيهِهِ كَمَا سَمِعْت مِنْ الْخِطَابِ إذْ أَصْلُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْأَشْعَرِيِّ لِلْجَوَابِ وَالْإِيرَادِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمَوَاقِفِ فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ لَزِمَ تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَوْ سَلِمَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعْدَمَا نَفَى الْوُجُودَ الْخَارِجِيَّ عَنْ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ.
(فَإِذَا تَمَهَّدَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ) فِي دَفْعِ حِيَلِ الشَّيْطَانِ (فَلْنَشْرَعْ فِي الْمَقْصُودِ) مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ السَّادِسِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَوْ الرِّيَاءِ وَالْحَيَاءِ (فَنَقُولُ مِنْ الْمُتَرَدِّدَاتِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبِيتُ مَعَ قَوْمٍ فَيَقُومُونَ لِلتَّهَجُّدِ كُلَّ اللَّيْلِ أَوْ بَعْضَهُ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَقُومُ أَصْلًا، أَوْ يَقُومُ قَلِيلًا مِنْ قِيَامِهِمْ فَإِذَا رَآهُمْ انْبَعَثَ نَشَاطُهُ لِلْمُوَافَقَةِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى مُعْتَادِهِ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِي مَوْضِعٍ يَصُومُ أَهْلُهُ تَطَوُّعًا فَيَنْبَعِثُ لَهُ نَشَاطُهُ فِي الصَّوْمِ) لِرُؤْيَةٍ مِنْهُمْ فَلَوْ لَمْ يَرَهُمْ لَمْ يَنْبَعِثْ هَذَا النَّشَاطُ؛ لِأَنَّ الصُّحْبَةَ سَارِيَةٌ وَالطَّبِيعَةَ سَارِقَةٌ فَإِنَّ الْمُقَارِنَ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي (فَرُبَّمَا يَظُنُّ) مِنْ الْأَوْهَامِ الْقَاصِرَةِ مُطْلَقًا إذْ بِحَسَبِ الْفِكْرَةِ الْأُولَى وَالنَّظْرَةِ الْحَمْقَاءِ (أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ (رِيَاءٌ) مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّهُ بِلَا رُؤْيَةٍ مِنْهُمْ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُهُ بِسَبَبِ رُؤْيَتِهِمْ فَكَانَ مَظَانُّ الرِّيَاءِ لَهُمْ (وَإِنَّ الْوَاجِبَ تَرْكُ الْمُوَافَقَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ لَهُ تَفْصِيلٌ) يُعْرَفُ بِهِ مَا يَكُونُ رِيَاءً مِمَّا لَا يَكُونُ رِيَاءً وَذَلِكَ قَوْلُهُ.
(فَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ) الْمُنْبَعِثُ عَنْ صُحْبَةِ تِلْكَ الصَّالِحِينَ (لِزَوَالِ الْغَفْلَةِ) عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَالْخِصَالِ الْمُسْتَحْسَنَةِ (بِمُشَاهَدَةِ الْغَيْرِ) وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ مُذَكِّرَةً لِمَا ذَهِلَ وَمُنَبِّهَةً عَمَّا غَفَلَ (وَقَدْ أَقْبَلُوا) أَيْ الْغَيْرُ بِاعْتِبَارِ الْقَوْمِ (عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (وَأَعْرَضُوا عَنْ النَّوْمِ) لِلْقِيَامِ وَالتَّهَجُّدِ (وَالْأَكْلِ) لِلصِّيَامِ وَتَجْوِيعِ النَّفْسِ لِلْقَهْرِ فَمُشَاهَدَةُ الْغَيْرِ عِبْرَةٌ لَهُ حِينَئِذٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالْعِبْرَةُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَقَدْ قِيلَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا رَزَقَهُ خَلِيلًا صَالِحًا إنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ» ، وَأَيْضًا فَضْلُ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ مَا بِنِيَّةِ اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ وَكَذَا إعْلَانُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَأَمْرُ الْعَوَامّ بِاقْتِدَاءِ الْعَالِمِ الصَّالِحِ قَوْلًا وَفِعْلًا (أَوْ) كَانَ نَشَاطُهُ (لِانْدِفَاعِ الْعَوَائِقِ) جَمْعُ عَائِقٍ بِمَعْنَى الْمَانِعِ (وَالْأَشْغَالِ الَّتِي فِي بَيْتِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ كَالْمُسْتَدْرَكِ إذْ مَبْنَى الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ رُؤْيَةَ عِبَادَةِ الْعَابِدِينَ وَمُوَافَقَتَهُمْ لِذَلِكَ.
وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعِلَّةِ انْدِفَاعَ الْعَوَائِقِ وَنَحْوَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَفَرَّغَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْعَوَائِقِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ بِلَا رُؤْيَتِهِمْ لَا يَفْعَلُ تِلْكَ الطَّاعَةَ نَعَمْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادَرُ تَمَامَ عِلَّةٍ (مِثْلُ تَمَكُّنِهِ عَلَى فِرَاشٍ وَثِيرٍ) لَيِّنٍ نَاعِمٍ (أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ التَّمَتُّعِ) الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ بَلْ لَوَازِمِهِ (بِزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ الْمُحَادَثَةِ) الْمُكَالَمَةِ (بِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ أَوْ الِاشْتِغَالِ بِأَوْلَادِهِ) كَتَرْبِيَتِهِمْ وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِمْ وَقَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ (أَوْ بِحِسَابِ مُعَامَلَتِهِ)
مَعَ الْغَيْرِ كَالْبُيُوعِ وَالْمُدَايَنَاتِ وَأَحْوَالِ سَائِرِ الْعُقُودِ (أَوْ لِمُفَارَقَةِ النَّوْمِ) الْمَانِعِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ (لِاسْتِنْكَارِهِ الْمَوْضِعَ) الَّذِي يَبِيتُ فِيهِ إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يُزِيلُ نَوْمَهُ بِتَبَدُّلِ فِرَاشِهِ وَمَكَانِهِ (أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيَغْتَنِمُ زَوَالَ النَّوْمِ) بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ فَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ تَحْصِيلًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ آخَرَ (وَفِي مَنْزِلِهِ رُبَّمَا يَغْلِبُهُ النَّوْمُ وَقَدْ يَعْسَرُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي مَنْزِلِهِ وَ) الْحَالُ (مَعَهُ أَطَايِبُ الْأَطْعِمَةِ) الْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَيَشُقُّ الصَّبْرُ عَلَيْهَا (فَإِذَا أَعْوَزَتْهُ) أَفْقَرَتْهُ (تِلْكَ الْأَطْعِمَةُ) لِفِقْدَانِهَا (لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ) الصَّوْمُ فَتَنْبَعِثُ دَاعِيَةُ الدِّينِ لِلصَّوْمِ فَإِنَّ الشَّهَوَاتِ الْحَاضِرَةَ عَوَائِقُ وَدَوَافِعُ تَغْلِبُ بَاعِثَ الدِّينِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْهَا قَوِيَ الْبَاعِثُ.
(فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا) مِنْ الْعِبَادَاتِ (لَيْسَتْ بِرِيَاءٍ) لِعَدَمِ صِدْقِ مَاهِيَّةِ الرِّيَاءِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ قَصْدِ غَيْرِ اللَّهِ بِهَا وَإِنْ كَانَ الدَّاعِي وَالْمُنَشِّطُ غَيْرَهُ تَعَالَى (فَعَلَيْهِ الْمُوَافَقَةُ) أَيْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مُوَافَقَتُهُمْ أَوْ يَجُوزُ (وَالْعَمَلُ وَ) الْحَالُ (الشَّيْطَانُ عِنْدَ ذَلِكَ) الْعَمَلِ مَعَ مَنْ ذُكِرَ (رُبَّمَا يَصُدُّ) أَيْ يَمْنَعُ (عَنْ الْعَمَلِ) لِأَنَّهُ بِرٌّ، وَالشَّيْطَانُ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْءِ لِعَدَاوَتِهِ لَهُ (وَيَقُولُ لَا تَعْمَلْ مَا لَا تَعْمَلُ فِي بَيْتِك) وَوَحْدَتِك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ (فَتَكُونُ مُرَائِيًا) فَلِلسَّالِكِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنْسِ مَا مَرَّ (وَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ) مَعَهُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ نَشَاطُهُ لِزَوَالِ الْغَفْلَةِ مِنْ تَتِمَّةِ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ (طَلَبًا لِمَحْمَدَتِهِمْ) مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ الْحَمْدِ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ (أَوْ خَوْفًا مِنْ ذَمِّهِمْ) لَهُ (وَ) خَوْفَ (نِسْبَتِهِمْ إيَّاهُ إلَى الْكَسَلِ) تَرَكَ الْعَمَلَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (لَا سِيَّمَا) كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ مَا بَعْدَهَا بِالْحُكْمِ مِمَّا قَبْلَهَا (إذَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَقُومُ بِاللَّيْلِ أَوْ) أَنَّهُ (يَصُومُ تَطَوُّعًا فَلَا تَسْمَحُ) لَا تَرْضَى (نَفْسُهُ بِأَنْ تَسْقُطَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَ مَنْزِلَتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ) بِتَبْدِيلِ اعْتِقَادِهِمْ فِي حَقِّهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَ مَنْزِلَتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَى مَا اعْتَقَدُوا فِي حَقِّهِ.
(وَعِنْدَ ذَلِكَ) الرِّيَاءِ (قَدْ يَقُولُ الشَّيْطَانُ) لِذَلِكَ الْعَابِدِ الْمُرَائِي (صَلِّ فَإِنَّك مُخْلِصٌ وَإِنَّمَا كُنْت لَا تُصَلِّي فِي بَيْتِك لِكَثْرَةِ الْعَوَائِقِ) وَإِنَّمَا دَاعِيَتُك لِزَوَالِ الْعَوَائِقِ لَا لِاطِّلَاعِهِمْ، لَا يَخْفَى أَنَّ السَّوْقَ أَنَّ قَوْلَهُ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ طَلَبِ ثَنَائِهِمْ وَخَوْفِ مَذَمَّتِهِمْ وَإِلَّا فَنَحْوُ هَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يُبْدَلَ رِيَاؤُهُ نَحْوَ الْخُلُوصِ (فَلَا يَجُوزُ لَهُ) حِينَئِذٍ (أَنْ يَزِيدَ عَلَى مُعْتَادِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى بِطَلَبِ مَحْمَدَةِ النَّاسِ) بِطَاعَةِ اللَّهِ (أَوْ دَفْعِ) بِدَفْعِ (ذَمِّهِمْ أَوْ سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الطَّاعَةَ عَنْ مَوْضُوعِهَا مِنْ التَّقَرُّبِ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَهَا عُرْضَةً لِهَذَا الْأَمْرِ الْمُخْدِعِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ (لِأَنَّهُ رِيَاءٌ مَحْظُورٌ مَحْضٌ)
لَا إخْلَاصٌ مَحْمُودٌ (وَالْعَلَامَةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّشَاطَيْنِ الْمَحْمُودِ وَالْمَذْمُومِ (أَنْ يَعْرِضَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ رَأَى) .
وَفِي نُسْخَةٍ أَنَّهَا أَيْ النَّفْسَ لَوْ رَأَتْ (هَؤُلَاءِ) الْقَوْمَ (يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ) حَالَ كَوْنِهِمْ (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ هَلْ كَانَتْ) النَّفْسُ (تَسْخُو) تَسْمَحُ (بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَهُوَ إخْلَاصٌ) لِعَدَمِ نَظَرِهِ حِينَئِذٍ لِغَيْرِهِ تَعَالَى (يُوَافِقُهُمْ) فِي ذَلِكَ الْعَمَلُ فَإِنَّ بَاعِثَهُ هُوَ الدِّينُ (أَوْ) كَانَتْ (لَا تَسْخُو وَتَثْقُلُ) الْعِبَادَةُ عَلَيْهِ (لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ مُوجِبُ النَّشَاطِ وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةَ عَذَابٌ (فَرِيَاءٌ لَا يَزِيدُ عَلَى الْمُعْتَادِ) أَوْ يَجْتَهِدُ فِي تَبْدِيلِ النِّيَّةِ وَتَحْصِيلِ الْإِخْلَاصِ.
(وَمِنْ ذَلِكَ) مِنْ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ (الِاسْتِغْفَارُ) كَقَوْلِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ (وَالِاسْتِعَاذَةُ) نَحْوُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ يَكُونُ) كُلٌّ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِعَاذَةِ (لِخَاطِرِ خَوْفٍ) مِنْ اللَّهِ (وَتَذَكُّرِ ذَنْبٍ) صَدَرَ مِنْهُ (وَتَنَدُّمٍ عَلَيْهِ) تَوْبَةٍ فَيَكُونُ إخْلَاصًا (وَقَدْ يَكُونُ لِلْمُرَآَّةِ) لِكَيْ يُثْنَى عَلَيْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ قَدْ يَكْثُرُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْمَوَاعِظِ لِخَوْفِ مَذَمَّةِ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ (فَرَاقِبْ قَلْبَك) وَاحْفَظْهُ بِأَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ عِنْدَ صُدُورِ مِثْلِ ذَلِكَ (وَمَيِّزْ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْإِخْلَاصِ وَالرِّيَاءِ (بِالْعَلَامَةِ السَّابِقَةِ) فَمَا اسْتَوَى فِيهِ الْخَلْوَةُ وَالْجَلْوَةُ فَإِخْلَاصٌ وَمَا ثَقُلَ فِي الْخَلَاءِ فَرِيَاءٌ (وَأَمْثَالُهَا) كَمَحَبَّةِ اطِّلَاعِ الْغَيْرِ وَعَدَمِهَا (فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى) بَعْدَ ذَلِكَ التَّمْيِيزِ (فَامْضِهِ) فَافْعَلْهُ وَأَبْقِهِ مُسَارِعًا إلَيْهِ قِيلَ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ تُكْتَبُ وَلَا يُنْطَقُ بِهَا إلَّا وَقْفًا لَا يَخْفَى أَنَّهُ ضَمِيرُ غَائِبٍ رَاجِعٌ إلَى الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِعَاذَةِ (وَإِلَّا) أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَالَى (فَاحْذَرْ) مِنْهُ كَسَائِرِ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ فِي صُورَةِ تِرْيَاقٍ كَالصَّلَاةِ مَعَ النَّجَاسَةِ.
(وَمِنْ ذَلِكَ) التَّرَدُّدِ (إظْهَارُ الطَّاعَةِ) لِلنَّاسِ (فَإِنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الِاقْتِدَاءِ) لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهَا وَيَكُونَ مِصْدَاقًا لِنَحْوِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» . الْحَدِيثَ. (فَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْإِخْفَاءِ) لِحُسْنِ قَصْدِهِ وَجَوْدَةِ ثَمَرَتِهِ (هق عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عَمَلُ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ» لِخُلُوِّهِ عَنْ الرِّيَاءِ الظَّاهِرِ عِنْدَ عَدَمِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ «وَ» عَمَلُ «الْعَلَانِيَةِ أَفْضَلُ» مِنْ عَمَلِ السِّرِّ «لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ» لِحَثِّ الْغَيْرِ عَلَى الْخَيْرِ وَيَكُونُ عِبَادَةً مُتَعَدِّيَةً وَيَكُونُ عَوْنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَضَرْبًا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ أَنَّ «عَمَلَ السِّرِّ يُضَاعَفُ عَلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَيُضَاعَفُ عَمَلُ الْعَلَانِيَةِ إذَا اُسْتُنَّ بِعَامِلِهِ عَلَى عَمَلِ السِّرِّ سَبْعِينَ ضِعْفًا» وَنُقِلَ عَنْ
الْفُقَهَاءِ يُنْدَبُ لِلْإِمَامِ الْأَسْرَارُ بِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ إلَّا إذَا قَصَدَ التَّعْلِيمَ فَيَجْهَرُ بِقَدْرِ مَا يَتَعَلَّمُونَ وَيَعُودُ لِحَالِهِ بَعْدُ (وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُقْتَدَى بِهِ) فِي الْحَصْرِ خَفَاءٌ إذْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، إذْ رُبَّ شَخْصٍ إذَا رَأَى طَاعَةً مِنْ رَجُلٍ أَدْنَى مِنْهُ تَمَسُّهُ الْغَيْرَةُ وَتَجْذِبُهُ الْحَمِيَّةُ فَيَكُونُ أَدْعَى مِنْ الْمُقْتَدَى بِهِ نَعَمْ إنَّ غَيْرَ الْمُقْتَدَى إذَا أَظْهَرَ بَعْضَ الطَّاعَةِ رُبَّمَا يَنْسُبُونَهُ إلَى الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَيَذُمُّونَهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُظْهِرُ (وَقَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ) عَلَى الْإِظْهَارِ (الرِّيَاءَ وَلِإِبْلِيسَ تَلْبِيسٌ فِي كِلَا الْجَانِبَيْنِ) أَيْ تَلْبِيسٌ فِي طَرَفَيْ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ (فَعَلَيْك التَّيَقُّظُ) وَالتَّنَبُّهُ لَا الذُّهُولُ وَالْغَفْلَةُ فَإِنَّ الْأَمْرَ خَفِيٌّ وَالْخَطَرُ جَلِيٌّ (فَإِنْ اشْتَبَهَ) عَلَيْك الْأَمْرُ (فَعَلَيْك بِالْإِخْفَاءِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ) فَإِنَّ الْخَطَرَ يُرَجَّحُ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ جَمْعِهِمَا وَتَعَارُضِهِمَا؛ أَوْ لِأَنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ فِي الْخَفَاءِ مُتَيَقَّنٌ وَفِي الْعَلَنِ مُحْتَمَلٌ وَالْمُحْتَمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ (لَا أَنْ يَكُونَ الْإِظْهَارُ وَاجِبًا) كَالْجُمُعَةِ (أَوْ سُنَّةً كَالْجَمَاعَةِ) فَحِينَئِذٍ يُظْهِرُهُ وَيُظْهِرُ الرَّغْبَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتْرُكُ مِثْلَهُمَا بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الرِّيَاءِ.
ثُمَّ قِيلَ هُنَا وَاحْتِمَالُ الرِّيَاءِ فِي الْجَهْرِ أَيْ فِي الْأَذْكَارِ لَا يُوجِبُ حُرْمَتَهُ غَايَتُهُ أَوْلَوِيَّةُ الْإِخْفَاءِ إذْ لَمْ يُقَارِنْ الْجَهْرَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَغَرَضٍ مَسْنُونٍ كَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَالْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ وَإِيقَاظِ الْغَافِلِينَ وَتَلْقِينِ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ وَإِذَا قُرِنَ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كَانَ الْجَهْرُ أَوْلَى كَمَا فِي التَّحْقِيقِيَّةِ انْتَهَى أَقُولُ إطْلَاقُهُ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ الْمُشَارَةِ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ فَعَلَيْك الْإِخْفَاءُ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ فِي جَانِبِ الْجَهْرِ احْتِمَالَ الْحُرْمَةِ وَفِي جَانِبِ الْخَفَاءِ قَطْعِيَّةَ الْفَضِيلَةِ وَلَمْ يَدْعُ دَاعٍ مِنْ الشَّرْعِ كَالسُّنَّةِ غَايَتُهُ هُوَ الْجَوَازُ أَوْ الْأَفْضَلِيَّةُ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ ثُمَّ قَالَ عَنْ الْمُظْهِرِ الذِّكْرَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ جَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ رِيَاءٍ لِيَغْتَنِمَ النَّاسُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ وَوُصُولِ بَرَكَةِ الذِّكْرِ إلَى السَّامِعِينَ وَلْيَشْهَدْ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ أَقُولُ قَدْ كَثُرَ فِي حَقِّ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ كَلَامٌ جَوَازًا أَوْ لَا وَأَفْضَلِيَّةً أَوْ لَا بِالْأَدِلَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا وَلِهَذَا حَرَّرْنَا رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ حَاصِلُهَا الْجَوَازُ عِنْدَ خُلُوِّهِ عَنْ الْعُيُوبِ الشَّرْعِيَّةِ كَالرِّيَاءِ وَفَضْلُهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَغْرَاضِ وَالْأَحْوَالِ.
(وَمِنْ ذَلِكَ) التَّرَدُّدِ (التَّحْدِيثُ) الْإِخْبَارُ (بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ) مِنْهَا (وَحُكْمُهُ حُكْمُ إظْهَارِ نَفْسِهِ) نَفْسِ الْعَمَلِ فَإِنْ بِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لِنَظَرِ الْخَلْقِ فَرِيَاءٌ وَإِنْ اشْتَبَهَ أَسَرَّ قِيلَ وَالْخَطَرُ فِي هَذَا أَشَدُّ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ النُّطْقِ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ وَقَدْ يَجْرِي فِي الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ وَمُبَالَغَةٌ وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ عَظِيمَةٌ فِي إظْهَارِ الدَّعَاوَى (إلَّا أَنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ الرِّيَاءُ) بِأَنْ يَكُونَ الْإِخْلَاصُ عِنْدَ الْعَمَلِ فَيَعْرِضُ الرِّيَاءُ عِنْدَ الْإِخْبَارِ (لَمْ يُؤَثِّرْ) وَلَوْ نَقْصًا (فِي إفْسَادِ الْعِبَادَةِ الْمَاضِيَةِ) بَلْ تَبْقَى صَحِيحَةً مُعْتَدَّةً بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِتَمَامِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْعَدَمُ فِي الصِّفَاتِ
الْعَارِضَةِ وَأَنَّ أَصْلَ الْمَتْبُوعِ لَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْوَصْفِ الْعَارِضِ وَأَنَّ الْأَصْلَ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَيُقَرِّبُهُ مَا قَالُوا الْبَقَاءُ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ فَمَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ التَّأْثِيرِ فَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ (بَلْ يَكُونُ تَحْدِيثُهُ مَعْصِيَةً جَدِيدَةً) وَإِنْ كَانَ مَا يَحْدُثُ عَنْهُ طَاعَةً (وَبِالْجُمْلَةِ الْإِخْفَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ إظْهَارُهَا) وَلَمْ يُسَنَّ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (أَفْضَلُ مِنْ الْإِظْهَارِ) لِخُلُوِّهِ عَنْ احْتِمَالِ الرِّيَاءِ وَيَكُونُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ (إلَّا عِنْدَ التَّيَقُّنِ) فَلَا يُفِيدُ الظَّنُّ فَضْلًا عَنْ الشَّكِّ (بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ) لِمَنْ لَا يَعْلَمُ (وَالِاقْتِدَاءِ) يَشْمَلُ التَّعْلِيمَ لِمَنْ يَعْلَمُ وَلَكِنْ لَا يَعْمَلُ (فَالْإِظْهَارُ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَفِيهِ إيقَاظُ النَّائِمِينَ وَإِرْشَادُ الْغَافِلِينَ وَتَرْغِيبٌ فِي الْخَيْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَدَّ بَابُ إظْهَارِ الْأَعْمَالِ، وَالطِّبَاعُ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ وَالِاقْتِدَاءِ بَلْ فِي إظْهَارِ الْمُرَائِي لِلْعِبَادَةِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ عَنْ رِيَاءٍ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِلنَّاسِ، وَلَكِنَّهُ شَرٌّ لِلْمُرَائِي فَكَمْ مِنْ مُخْلِصٍ كَانَ سَبَبُ إخْلَاصِهِ الِاقْتِدَاءَ بِمَنْ هُوَ مُرَاءٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ عَنْ الْكَشَّافِ فِي سُورَةِ أَرَأَيْت مِنْ أَوْلَوِيَّةِ الْإِخْفَاءِ عِنْدَ عَدَمِ غَرَضٍ صَحِيحٍ وَأَوْلَوِيَّةٌ بِالْجَهْرِ وَالْإِعْلَانِ أَوْلَى إنْ بِنِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَإِزَالَةِ الْغَفْلَةِ وَإِيقَاعِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَغَيْرِهَا.
وَعَنْ الْبَيْضَاوِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]- وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْجَهْرِ لَيْسَ لِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ لِتَصْوِيرِ النَّفْسِ بِالذِّكْرِ وَرُسُوخِهِ فِيهَا وَمَنْعِهَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ وَهَضْمِهَا بِالتَّضَرُّعِ وَالْجِوَارِ (وَقِسْ عَلَى هَذَا أَمْثَالَهَا) مِنْ الْمُتَرَدِّدَاتِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ.
(وَمِنْ جُمْلَةِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ) جَمْعُ كَيْدٍ بِمَعْنَى إلْحَاقِ الشَّرِّ بِالْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ (أَنَّ الرَّجُلَ) مَثَلًا (قَدْ يَكُونُ لَهُ وِرْدٌ) بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمٌ لِلْجُزْءِ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ بِهِ عَلَى الْقَلْبِ مَا يَرِدُ مِنْ الْفَيْضِ وَلِارْتِوَاءِ الْقَلْبِ بِهِ مِنْ عَطَشِ الْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (مُعَيَّنٌ كَصَلَاةِ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدِ) بَعْدَ نَوْمٍ مِنْ اللَّيْلِ وَقِيلَ بَيْنَ نَوْمَتَيْنِ وَصَلَاةُ الْأَوَّابِينَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ (فَيَقَعُ فِي قَوْمٍ لَا يَفْعَلُونَهُمَا فَيَتْرُكُهُمَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ) مِنْ حَمْلِهِمْ عَلَى الرِّيَاءِ (فَهَذَا) التَّرْكُ (غَلَطٌ وَمُتَابَعَةٌ لِلشَّيْطَانِ) لِأَنَّ بُغْيَتَهُ قَطْعُ الْعِبَادَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (إذْ مُدَاوَمَتُهُ السَّابِقَةُ) عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْقَوْمِ (دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَمُجَرَّدُ وُقُوعِ خَاطِرَةِ الرِّيَاءِ فِي الْقَلْبِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَ) لَا (قَبُولٍ) مِنْهُ لَهُ (لَيْسَ بِضَارٍّ وَلَا رِيَاءٍ وَلَا مُخِلٍّ) مِنْ الْخَلَلِ (بِالْإِخْلَاصِ) وَلِأَنَّ كَوْنَ أَصْلِهِ بِإِخْلَاصٍ مَجْزُومٍ وَمُتَيَقَّنٍ وَعُرُوضُ الرِّيَاءِ مَشْكُوكٌ وَمُحْتَمَلٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا أَيْضًا مَا يُصَحِّحُ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ فَيَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَالرِّيَاءَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَالْإِخْلَاصُ السَّابِقُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا فِي اللَّاحِقِ (فَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِهِ مُوَافَقَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَتَحْصِيلٌ لِغَرَضِهِ) الَّذِي هُوَ مَنْعُ الْمَرْءِ عَنْ عِبَادَةِ
مَوْلَاهُ وَعَنْ الْفُضَيْلِ الرِّيَاءُ تَرْكُ الْعَمَلِ خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ وَأَمَّا الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ فَشِرْكٌ (نَعَمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَزِيدَ) عِنْدَ هَؤُلَاءِ (عَلَى الْمُعْتَادِ) الْأَصْلِيِّ (إنْ لَمْ يَجِدْ بَاعِثًا) دَاعِيًا (دِينِيًّا) فَإِنْ وَجَدَهُ يَزِيدُ مَا يَشَاءُ.
(وَقَدْ يَتْرُكُهُمَا) أَيْ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدَ (لَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الرِّيَاءِ) أَيْ لِئَلَّا يَنْسُبَهُ أَحَدٌ إلَى الرِّيَاءِ (وَيُقَالُ إنَّهُ مُرَاءٍ) فَيَتْرُكُ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ (وَهَذَا عَيْنُ الرِّيَاءِ) لِأَجْلِ النَّاسِ وَأَنَّهُ إذَا صَحَّ مُعَامَلَتُهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُغَيِّرْ فِي الْوَحْدَةِ وَالْخُلْطَةِ (لِأَنَّهُ تَرَكَ) إيَّاهُمَا (خَوْفًا مِنْ سُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ وَفِيهِ) أَيْ فِي التَّرْكِ لِلْخَوْفِ الْمَذْكُورِ (أَيْضًا سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12](وَقَدْ يُوقِعُ الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَتْرُكَ) أَيْ الْوِرْدَ (لِأَجْلِ صِيَانَتِهِمْ عَنْ مَعْصِيَةِ الْغِيبَةِ لَا لِلْفِرَارِ مِنْ ذَمِّهِمْ) لَهُ (وَسُقُوطِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُمْ وَهَذَا) التَّرْكُ لِأَجْلِ الصِّيَانَةِ (أَيْضًا سُوءُ الظَّنِّ بِهِمْ) وَلِمَا وَرَدَ هَلْ يَحْسُنُ تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ صِيَانَتِهِمْ مِنْ مَعْصِيَةِ الْغِيبَةِ أَجَابَ (وَصِيَانَةُ الْغَيْرِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ إنَّمَا يَحْسُنُ فِي تَرْكِ الْمُبَاحَاتِ لَا الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالسُّنَنِ) لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُقَدِّمُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ عَلَى مَضَرَّةِ الْغَيْرِ وَقَدْ كَانَ صُدُورُهَا مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ كَمَا يُنَاسِبُ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَإِنْ أَضَرَّ غَيْرَهُ وَإِنْ خَالَفَ آخَرَ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالْمَضَرَّةَ احْتِمَالِيَّةٌ وَقَدْ أَمْكَنَ تَضَمُّنُهُ مَنْفَعَةً لَهُمْ بِنَحْوِ الِاقْتِدَاءِ وَتَنْشِيطِ الطَّاعَةِ حَالًا أَوْ مَآلًا.
(وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) أَيْ مِنْ عَدَمِ حُسْنِ التَّرْكِ لِأَجْلِ صِيَانَةِ الْغَيْرِ (تَرْكُ السِّوَاكِ) بِكُلِّ خَشِنٍ وَأَصْلُهُ مِنْ الزَّيْتُونِ فَإِنَّهُ سِوَاكُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْيَنَابِيعِ أَوْ مِنْ خَشَبِ الْخَوْخِ
أَوْ التُّوتِ أَوْ أَصْلِ الشَّوْكِ كَمَا نُقِلَ عَنْ صَلَاةِ الْمَسْعُودِيِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شَجَرٍ مُرٍّ فِي غِلَظِ الْخِنْصَرِ وَطُولِ الشِّبْرِ فَلَا يَكُونُ أَقْصَرَ مِنْ الشِّبْرِ وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ الشَّيْطَانُ يَرْكَبُ عَلَى زِيَادَةِ الشِّبْرِ وَفِي الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا الْعِلْكُ فِي حَقِّهَا كَالسِّوَاكِ فِي حَقِّهِ وَأَنَّ الْإِبْهَامَ وَالْمُسَبِّحَةَ لَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِالْقِيَامِ عِنْدَ الْفِقْدَانِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، فَيَمُرُّ طُولًا عَلَى عَرْضِ السِّنِّ الْأَيْمَنِ الْأَعْلَى ثُمَّ الْأَسْفَلِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ كَذَلِكَ ثُمَّ عَلَى وَجْهِ اللِّسَانِ بَعْدَمَا يَجْعَلُ إبْهَامَ الْيُمْنَى وَخِنْصَرَهَا تَحْتَ السِّوَاكِ وَالْبَاقِيَ فَوْقَهُ وَلَا يَقْبِضُ الْقَبْضَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَوَاسِيرَ وَلَا بِطَرَفَيْ السِّوَاكِ وَلَا يُمَصُّ فَيُورِثَ الْعَمَى وَيُغْسَلُ بَعْدَ الِاسْتِيَاكِ لِئَلَّا يَسْتَاكَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَلَا يُوضَعُ عَرْضًا بَلْ يُنْصَبُ وَإِلَّا فَخَطَرُ الْجُنُونِ «وَمَوْضِعُ سِوَاكِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُذُنِهِ مَوْضِعُ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ» وَسِوَاكُ أَصْحَابِهِ خَلْفَ آذَانِهِمْ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَضَعُ فِي طَيِّ عِمَامَتِهِ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْوُضُوءِ كَمَا قِيلَ بَلْ سُنَّةٌ عَلَى حِدَةِ عَلَى مَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْمَسْعُودِيِّ لَكِنْ فِي الْمَشَارِعِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِيِّ وَمُسْتَحَبٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَيَتَأَكَّدُ عِنْدَ قَصْدِ التَّوَضُّؤِ فَيُسَنُّ أَوْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَمَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَيَسْتَاكُ حَالَةَ الْمَضْمَضَةِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ النِّهَايَةِ.
(وَ) تَرْكُ (الطَّيْلَسَانِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَاحِدُ الطَّيَالِسَةِ وَالْهَاءُ فِي الْجَمْعِ لِلْعُجْمَةِ؛ لِأَنَّهُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ، وَهُوَ رِدَاءٌ يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ وَيُرْسَلُ مِنْ الْأَطْرَافِ، كَذَا قِيلَ وَقِيلَ يُجْعَلُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْمُسْتَحَبُّ إرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ إلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ وَقِيلَ مِقْدَارُ شِبْرٍ وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْقَلَانِسِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُهَا نُقِلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ (وَالْمَشْيُ حَافِيًا) كَمَا هُوَ سِيرَةُ السَّلَفِ كَبِشْرٍ الْحَافِيِّ (وَ) تَرْكُ (رُكُوبِ الْحِمَارِ) الَّذِي فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام (وَنَحْوِهَا) مِنْ السُّنَنِ (صِيَانَةً) عِلَّةً لِلتَّرْكِ (لِأَلْسِنَةِ النَّاسِ عَنْ الْغِيبَةِ وَفِيهِ تَرْكُ السُّنَّةِ) بِتَرْكِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ (وَسُوءُ الظَّنِّ) بِالْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ يَغْتَابُونَ (وَعَدَمُ النَّدَامَةِ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بَلْ اسْتِحْسَانُهُ) أَيْ التَّرْكِ (وَعَدُّهَا) أَيْ السُّنَّةِ (عَيْبًا وَنُقْصَانًا وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ) الْمَفَاسِدُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى صِيَانَةِ الْغَيْرِ مِنْ الْغِيبَةِ (تَكْفِي لِزَجْرِ الْعَاقِلِ مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ تَرْكَهُ نَاشِئٌ مِنْ الرِّيَاءِ) إذْ لَوْ لَمْ يَنْظُرْ لَهُمْ لَمْ يُبَالِ بِاغْتِيَابِهِمْ (وَقَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ الشَّيْطَانِ أَوْ التَّارِكِ (كَذِبٌ وَنِفَاقٌ) أَيْ إظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ (فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا) أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعَوُّذَ يَقْتَضِي كَوْنَ النِّفَاقِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَبِالْجُمْلَةِ إنْ أُرِيدَ الْحَقِيقِيُّ فَمَمْنُوعٌ وَإِنْ الْمَجَازِيُّ كَمَا أَشَرْنَا فَالتَّعَوُّذُ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ.
(وَقَدْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ) أَعْنِي (الرِّيَاءَ وَالْإِخْلَاصَ وَالْحَيَاءَ كَرَجُلٍ يَطْلُبُ مِنْهُ صَدِيقُهُ) مَثَلًا (قَرْضًا) مَثَلًا أَيْضًا (وَلَا يَسْخُو) أَيْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ
(بِإِقْرَاضِهِ) أَيْ إعْطَاءِ الْقَرْضِ (إلَّا أَنَّهُ يَسْتَحِيْ مِنْ رَدِّهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ) أَيْ الصِّدِّيقَ (لَوْ أَرْسَلَهُ) أَيْ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ (عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ لَا يَسْتَحِيْ مِنْهُ وَلَا يُقْرِضُ رِيَاءً) لِلنَّاسِ (وَلَا يَطْلُبُ الثَّوَابَ) فِي الْقَرْضِ (فَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ) الْمَطْلَبِ أَحْوَالٌ سِتٌّ ثَلَاثٌ فِي الْمَنْعِ وَثَلَاثٌ فِي الْإِعْطَاءِ (أَنْ يُشَافِهَ) أَيْ يَتَكَلَّمَ فِي حُضُورِهِ (بِالرَّدِّ الصَّرِيحِ) نَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَا أُقْرِضُك (فَيُنْسَبَ) عِنْدَ النَّاسِ (إلَى قِلَّةِ الْحَيَاءِ) بِالْمُشَافَهَةِ بِالرَّدِّ الصَّرِيحِ (أَوْ يَتَعَلَّلَ بِكَذِبٍ) بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ عِنْدِي مَالٌ (أَوْ تَعْرِيضٍ) كَمَنْ يَجِدُ مَا يَطْلُبُهُ وَيَقُولُ لَيْسَ فِي يَدِي شَيْءٌ وَيَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْيَدِ لَا الْمِلْكَ أَوْ لَيْسَ عِنْدِي مَالٌ وَيَقْصِدُ مِنْ النَّوْعِ الْمَخْصُوصِ.
(فَيَأْثَمُ) بِالْكَذِبِ (أَوْ يُسِيءُ) بِالتَّعْرِيضِ كَمَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ (إلَّا أَنْ يُوجَدَ حَاجَةٌ إلَى التَّعْرِيضِ فَيُبَاحُ) التَّعْرِيضُ لَا يَخْفَى إذَا اعْتَبَرَ الْحَاجَةَ فَيُمْكِنُ مِثْلُهُ فِي الْكَذِبِ كَمَا سَيَجِيءُ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْخَطَرَ فِي الْكَذِبِ عَظِيمٌ (أَوْ يُعْطِيَ) عَطْفٌ عَلَى أَنْ يُشَافِهَ (لِمُجَرَّدِ الْحَيَاءِ) مِنْ النَّاسِ (أَوْ لِهَيَجَانِ) أَيْ انْبِعَاثِ (خَاطِرِ الرِّيَاءِ أَنَّهُ) أَيْ بِأَنَّهُ (يَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَ) مَا طُلِبَ مِنْهُ (حَتَّى يُثْنِيَ عَلَيْك) بِالْكَرَمِ وَالْجُودِ (وَيَحْمَدَك وَيَنْشُرَ) مِنْ النَّشْرِ وَالشُّيُوعِ (اسْمَك بِالسَّخَاءِ) وَالْبَذْلِ وَالْجُودِ (أَوْ حَتَّى لَا يَذُمَّك) صَدِيقُك فِي عَدَمِ إقْرَاضِك (وَيَنْسُبَك إلَى الْبُخْلِ) وَالْإِمْسَاكِ (أَوْ لِهَيَجَانِ بَاعِثِ الْإِخْلَاصِ) بِأَنْ يَكُونَ لِطَلَبِ الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَبَاعِثُهُ (أَنَّ الصَّدَقَةَ بِوَاحِدَةٍ وَالْقَرْضَ) بِالنَّصْبِ (بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ) ضِعْفًا (فَفِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فِي نَفْسِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّدَقَةِ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَسْمَحُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دُونَ الْعَشَرَةِ الَّتِي هِيَ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَمْثَالِهِ» وَفِي التتارخانية عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْإِيمَانِ دَخَلَ مِنْ أَيِّ بَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ وَزُوِّجَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ كَمْ شَاءَ مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلٍ وَقَرَأَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ - {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]- عَشْرَ مَرَّاتٍ وَأَدَانَ دَيْنًا لِمَنْ طَلَبَ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه أَوْ إحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ إحْدَاهُنَّ» وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَامَتْ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَلَمَّا أَتَى بَابَ الْجَنَّةِ نَادَى الَّذِي مَعَهُ خَازِنَ الْجَنَّةِ فَأَجَابَ آخَرُ لَيْسَ هُنَا رَضْوَانُ إنَّ هُنَا خَلِيفَتَهُ فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَإِذَا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ الْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَمْثَالِهِ وَالصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنَامَاتِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَكِنَّهَا فِي تَأْيِيدِ نَصٍّ أَوْ تَفْسِيرِ خَفِيٍّ لَهَا نَفْعٌ مُسَلَّمٌ.
قِيلَ فِي وَجْهِ فَضْلِ الْقَرْضِ عَلَى الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ احْتِيَاجٍ وَالصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ بِلَا احْتِيَاجٍ أَوَّلَ وَيُمْكِنُ أَنَّ الْقَرْضَ يَعْسُرُ أَخْذُهُ وَيَشُقُّ تَحْصِيلُهُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى السِّعَايَةِ الْكَثِيرَةِ وَالْمُلَازَمَةِ الْعَدِيدَةِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ وَأَيْضًا مَهْلُهُ وَتَأَخُّرُ طَاعَةٍ أَيْضًا قِيلَ فَيُرَدُّ
عَلَى الْمُصَنِّفِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا بَدَلَ قَوْلِهِ بِوَاحِدَةٍ، وَالْجَوَابُ أَيْ بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا تَكَلُّفٌ ثُمَّ قِيلَ وَتَحْقِيقُ الْأَحْدَاثِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا حَسَنَةٌ عَدْلٌ وَتِسْعٌ فَضْلٌ وَلَمَّا كَانَ الْقَرْضُ يَرُدُّ إلَيْهِ مَالَهُ سَقَطَ سَهْمُ الْعَدْلِ وَبَقِيَ سِهَامُ الْفَضْلِ وَهِيَ تِسْعَةٌ فَضُوعِفَتْ بِسَبَبِ حَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ فَصَارَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرٍ ثُمَّ فِيهِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَمَّنْ لَهُ خَصْمٌ فَمَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ قَالَ يَتَصَدَّقُ عَنْ خَصْمِهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ فَيُودِعُهُ عِنْدَ رَبِّهِ لِيُوفِيَهُ عَنْ خُصَمَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ سُئِلَ ابْنُ شَدَّادٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى أَبِ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الِابْنُ فَمَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ الِابْنُ فَأَكَلَ مِيرَاثَهُ قَالَ لَا يُؤَاخَذُ الِابْنُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَإِنْ نَسِيَ الِابْنُ بَعْدَمَا عَلِمَ فَمَاتَ فَلَا يُؤَاخَذُ، وَكَذَا وَدِيعَةٌ نَسِيَهَا فَمَاتَ انْتَهَى لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ لَكِنْ تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ مَعَ إمْكَانِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ وَلَمْ أَقِفْ فَيُطْلَبُ (وَإِدْخَالُ سُرُورٍ عَلَى قَلْبِ صَدِيقٍ) وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي أَصْلِهِ فَضَلَ فَضْلًا عَنْ صَدِيقٍ مُتَحَابٍّ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ مَحْمُودٌ عِنْدَ اللَّهِ فَيَسْخُو فِي الْإِعْطَاءِ لِذَلِكَ وَهَذَا مُخَلِّصٌ لِمَنْ هَيَّجَ الْحَيَاءُ إخْلَاصَهُ.
(وَقَدْ تَجْتَمِعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ) فِي عَمَلِ الرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ (أَوْ اثْنَانِ) مِنْهَا (وَحُكْمُ التَّسَاوِي وَالطَّرَفَيْنِ) الْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ (قَدْ بَيَّنَّا) فِي الْمَبْحَثِ الْخَامِسِ مِنْ أَنَّ التَّسَاوِيَ وَالْغَالِبَ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ وَالْمَغْلُوبُ يُنْقِصُ الْأَجْرَ فَلَا يَتْرُكُ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ بَلْ يَجْتَهِدُ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ الْمَغْلُوبِ أَيْضًا لِيُكْمِلَ الْأَجْرَ وَفِي الْأَوَّلَيْنِ إمَّا أَنْ يَتْرُكَ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ يَجْتَهِدَ فِي التَّبْدِيلِ ثُمَّ الْمُتَبَادَرُ فِي الْغَالِبِيَّةِ وَالتَّسَاوِي وَهُوَ بِحَسَبِ الْكَيْفِ لَا بِحَسَبِ الْكَمِّ فَإِنْ قِيلَ لَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ الْغَالِبِ كَحُكْمِ الْكُلِّ فِي إبْطَالِ الْعِبَادَةِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَكْثَرِ فَمَا وَجْهُ الْإِبْطَالِ فِي التَّسَاوِي قُلْنَا قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَظْرَ رَاجِحٌ عَلَى النَّدْبِ وَأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَصْلِ رُجْحَانِ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ مُوجِبَ الْبُطْلَانِ مِنْ قَبِيلِ النَّافِي وَأَيْضًا عِنْدَ تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَمَا كَانَ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى مِمَّا كَانَ بِالْوَصْفِ الْعَرْضِيِّ كَتَرْجِيحِنَا الصِّحَّةَ عَلَى الْفَسَادِ فِيمَا يَكُونُ النِّيَّةُ فِي رَمَضَانَ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَاسِدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمَنْصُوصِيَّةَ فِي الْأَصْلِ فَتَأَمَّلْ.
(وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ الْمُجْتَمَعِ فِيهِ الثَّلَاثَةُ (تَرْكُ الذُّنُوبِ الْحَالِيَّةِ) أَيْ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي الْحَالِ عِنْدَ النَّاسِ (فَإِنَّهُ) أَيْ التَّرْكَ (قَدْ يَكُون لِلَّهِ) خَوْفًا مِنْهُ (تَعَالَى) عز وجل (وَعَلَامَتُهُ تَرْكُهَا فِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا) كَمَا عِنْدَ النَّاسِ، إذْ شَأْنُ الْمُخْلِصِ اسْتِوَاءُ حَالَاتِهِ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ مَنْ يُعَامِلُهُ بِذَلِكَ (وَقَدْ يَكُونُ) التَّرْكُ (لِلْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ) فَيَخَافُ مِنْ لَوْمِهِمْ فَيَتْرُكُ وَلَوْلَا النَّاسُ لَاجْتَرَأَ عَلَيْهِ (وَقَدْ يَكُونُ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ) فِي تِلْكَ الذُّنُوبِ (فَيَعْظُمُ إثْمُهُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» فَمَنْ فَعَلَ مَعْصِيَةً وَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ فِيهَا فَعَلَيْهِ إثْمُهَا وَإِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(أَوْ لِئَلَّا يَصْغُرَ فِي عَيْنِهِ) فِي عَيْنِ الْغَيْرِ (فَلَا يَقْتَدِي بِهِ وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ) فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (فَيُحْرَمُ) مِنْ الْحِرْمَانِ (مِنْ ثَوَابِ الْإِصْلَاحِ) بَيْنَ النَّاسِ (وَقَدْ يَكُونُ) أَيْ التَّرْكُ (لِئَلَّا يُقْصَدَ بِشَرٍّ) مِنْ الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ عَلَى ذَنْبِهِ (أَوْ لِئَلَّا يَذُمَّهُ النَّاسُ فَيَعْصُونَ بِهِ) بِسَبَبِ ذَمِّهِ فَفِي التَّرْكِ صِيَانَةٌ لَهُمْ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ إعْلَانَ الْمَعْصِيَةِ فِسْقٌ وَلَا غِيبَةَ لِلْفَاسِقِ، فَالنَّاسُ لَا يَعْصُونَ بِذَمِّهِمْ بَلْ الذَّمُّ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ لِتَنْفِيرِ الْغَيْرِ خُصُوصًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْأَشْخَاصِ قَالَ الرَّاغِبُ مَنْ لَا يُخَوِّفُهُ الْهِجَاءُ وَلَا يَسُرُّهُ الثَّنَاءُ لَا يَرْدَعُهُ عَنْ سُوءِ الْفِعَالِ إلَّا سَوْطٌ أَوْ سَيْفٌ وَقِيلَ مَنْ لَمْ يَرْدَعْهُ الذَّمُّ عَنْ سَيِّئَةٍ وَلَمْ يَسْتَدْعِهِ الْمَدْحُ إلَى حَسَنَةٍ فَهُوَ جَمَادٌ أَوْ بَهِيمَةٌ وَلَيْسَ الثَّنَاءُ فِي نَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَلَا مَذْمُومٍ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ.
كَذَا فِي فَيْضِ الْقَدِيرِ تَأَمَّلْ (وَعَلَامَتُهُ) أَيْ عَلَامَةُ التَّرْكِ لِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ
(أَنْ يَكْرَهَ) التَّارِكُ (ذَمَّهُمْ) أَيْ النَّاسِ (لِغَيْرِهِ أَيْضًا) كَمَا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لَهَا وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ عُضْوٌ وَاحِدٌ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وَفِي رِوَايَةٍ «الْمُؤْمِنُونَ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الْأَعْضَاءِ إلَى الْحَنِينِ وَالسَّهَرِ» (أَوْ لِئَلَّا يَتَأَذَّى طَبْعُهُ بِذَمِّ النَّاسِ فَإِنَّ فِيهِ) أَيْ تَأَذِّي طَبْعِهِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ (وَالشُّعُورُ بِالنُّقْصَانِ وَتَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِالذَّمِّ لَيْسَ بِحَرَامٍ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ (وَإِنَّمَا يَحْرُمُ) أَيْ التَّأَلُّمُ (إذَا دَعَاهُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ) مِنْ نَحْوِ ضَرْبٍ (نَعَمْ كَمَالُ الصِّدْقِ) أَيْ الصِّدْقُ الْكَامِلُ فَمِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى مَوْصُوفِهَا (فِي أَنْ يَزُولَ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ كَمَالُ الصِّدْقِ (عَنْ رُؤْيَةٍ) أَيْ نَظَرِ (الْخَلْقِ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُ ذَامُّهُ وَمَادِحُهُ) مِنْهُمْ (لِعِلْمِهِ أَنَّ الضَّارَّ وَالنَّافِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) لَا غَيْرُ (وَأَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ عَاجِزُونَ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَك وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْك» (وَذَلِكَ) أَيْ صَاحِبُ كَمَالِ الصِّدْقِ (قَلِيلٌ جِدًّا) بَلْ فِي زَمَانِنَا مِنْ قَبِيلِ مَوْجُودِ الِاسْمِ مَعْدُومِ الْجِسْمِ كَالْعَنْقَاءِ وَغَايَةٌ عَزِيزَةٌ كَالْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَالْكِيمْيَاءِ إذْ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مِصْدَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» .
عَنْ عَلْقَمَةَ الْعُطَارِدِيِّ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ يَا بُنَيَّ إنْ عَرَضَتْ لَك حَاجَةٌ فَاصْحَبْ مَنْ إذَا خَدَمْته صَانَك وَإِنْ صَحِبْته زَانَك أَيْ حَفِظَك وَإِنْ قَعَدَ بِك مَانَك أَيْ حَمَلَ مَئُونَتَك اصْحَبْ مَنْ إذَا مَدَدْت يَدَك لِخَيْرٍ مَدَّهَا وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً عَدَّهَا وَإِنْ رَأَى سَيِّئَةً سَدَّهَا اصْحَبْ مَنْ إذَا سَأَلْته أَعْطَاك وَإِنْ نَزَلَتْ بِك نَازِلَةٌ وَاسَاك أَيْ جَعَلَك كَنَفْسِهِ (أَوْ لِئَلَّا يَشْغَلَ قَلْبَهُ الْفَارِغَ) مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَجُّهِهِ أَوْ الْفَارِغَ مِنْ الْهَمِّ (بِذَمِّهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَشْغَلُ (فَلَا يَتَفَرَّغُ لِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ الذُّنُوبِ وَلَا يَتْرُكُ بَعْضَ الطَّاعَاتِ وَإِنْ كَانَ نَفْلًا) كَمَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيُدَاوِمُ عَلَى إقَامَةِ اللَّيَالِيِ بِالتَّهَجُّدِ وَيُدَاوِمُ عَلَى نَحْوِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْأَوْرَادِ (وَقَدْ يَكُونُ) ذَلِكَ التَّرْكُ (لِئَلَّا يَظْهَرَ الْمَعْصِيَةُ) عَلَيْهِ (فَيُضَعَّفَ) بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يُنْسَبَ إلَى الضَّعْفِ (خ) الْبُخَارِيُّ (م) مُسْلِمٌ.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى» بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْ سَلَّمَهُ اللَّهُ وَسَلِمَ مِنْهُ «إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» مِنْ جَاهَرَ بِكَذَا بِمَعْنَى جَهَرَ بِهِ أَيْ الْمُعْلِنِينَ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يُعَافَوْنَ وَعَبَّرَ بِفَاعِلَ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْمُفَاعَلَةِ أَوْ الْمُرَادُ الَّذِينَ يُجَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالتَّحَدُّثِ بِالْمَعَاصِي وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ جَمَاعَةَ إفْشَاءَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْمُبَاحِ وَيُؤَيِّدُهُ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي الْوَعِيدِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرَادُ الْمُشْتَهِرِينَ بِإِظْهَارِ الْمَعَاصِي آخِرَ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى تَخْرِيجِ
الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ هَكَذَا «الَّذِي يَعْمَلُ الْعَمَلَ بِاللَّيْلِ فَيَسْتُرُهُ رَبُّهُ ثُمَّ يُصْبِحُ فَيَقُولُ يَا فُلَانُ إنِّي عَمِلْت الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، فَيَكْشِفُ مَا سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عز وجل» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعَمِهِ إظْهَارُ الْجَمِيلِ وَسَتْرُ الْقَبِيحِ فَالْإِظْهَارُ كُفْرَانٌ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَهَاوُنٌ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ النَّوَوِيُّ فَيُكْرَهُ لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ أَنْ يُخْبِرَ غَيْرَهُ بِهَا إلَّا مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ مَخْرَجًا عَنْهَا بِخَبَرِهِ كَشَيْخِهِ أَوْ سَلَامَتَهُ مِنْ مِثْلِهَا وَقَالَ الْغَزَالِيُّ الْكَشْفُ الْمَذْمُومُ مَا لَا يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ كَالِاسْتِفْتَاءِ وَالِاسْتِنْصَاحِ (أَوْ لِئَلَّا يَهْتِكَ سِتْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَخَافُ أَنْ يَهْتِكَ اللَّهُ سِتْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِيهِ أَيْضًا عَلَى تَخْرِيجِ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ هَذَا الرَّاوِي بَدَلَ هَذَا «وَإِنَّ مِنْ الْجِهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا سَيِّئًا ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَقُولُ عَمِلْت الْبَارِحَةَ أَيْ اللَّيْلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْعِصْيَانِ وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَأَصْبَحَ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ» بِاشْتِهَارِ ذَنْبِهِ فِي الْمَلَأِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى سِتْرِ اللَّهِ وَتَحْرِيكٌ لِرَغْبَةِ الشَّرِّ فِيمَنْ أَسْمَعَهُ أَوْ أَشْهَدَهُ فَهُمَا جِنَايَتَانِ انْضَمَّتَا إلَى جِنَايَتِهِ فَتَغَلَّظَتْ بِهِ فَإِنْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ التَّرْغِيبُ لِلْغَيْرِ فِيهِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ صَارَتْ جِنَايَةً رَابِعَةً وَتَفَاحَشَ الْأَمْرُ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ إمَّا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى أَوْ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَوْ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِمَا فِي الشَّيْخَيْنِ فَافْهَمْ (م) مُسْلِمٌ.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَرْفُوعًا «مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا» أَيْ ذَنْبًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «إلَّا سَتَرَ» هـ اللَّهُ «عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» فَضْلًا وَإِحْسَانًا فَكَمَا سَتَرَ فِي هَذِهِ الدَّارِ يَسْتُرُ فِي دَارِ الْقَرَارِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَيُعَيِّرُهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ النَّوَوِيُّ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ مُتَوَقٍّ مُتَحَفِّظٌ وَقَعَ فِي الذَّنْبِ وَخَافَ مِنْ رَبِّهِ وَرَأَى فَضِيحَتَهُ حَيْثُ نَظَرَهُ مَوْلَاهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَدِمَ فَطَلَبَ الْمَغْفِرَةَ وَهِيَ السِّتْرُ فَسَتَرَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ عَطْفًا مِنْهُ عَلَيْهِ فَإِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُقِّقَ لَهُ مَا أَمَّلَهُ مِنْ سِتْرِهِ وَلَا يُعَيِّرُهُ أَيْ هُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَتَّارٌ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ السَّاتِرِينَ (وَقَدْ يَكُونُ) أَيْ التَّرْكُ (لِيُرِيَ) مِنْ الْإِرَاءَةِ (النَّاسَ) لِيَعْلَمُوا أَوْ يَظُنُّوا (أَنَّهُ وَرِعٌ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مِنْ الْوَرَعِ هُوَ تَرْكُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ (خَائِفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (كَذَلِكَ فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْظُورٌ وَمَا قَبْلَهُ) مِنْ الْمَذْكُورَاتِ (كُلُّهُ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِرِيَاءٍ) لِأَنَّهُ لَا لِنَظَرِ شَيْءٍ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى (وَحُكْمُ الْمُمْتَزِجِ) مِنْ الرِّيَاءِ وَغَيْرِهِ (مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ) فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ فَالْمَغْلُوبُ يُنْقِصُ أَجْرَ الطَّاعَةِ وَلَا يُبْطِلُهَا وَالْمُسَاوِي وَالْغَالِبُ وَالْمَحْضُ يُبْطِلُهَا (وَسَتْرُ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ) فَقَدْ يَكُونُ لِإِرَاءَةِ النَّاسِ أَنَّهُ وَرِعٌ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ رِيَاءً وَقَدْ يَكُونُ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ رِيَاءً.
(وَمِنْ) الْأُمُورِ (الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالْحَيَاءِ أَنْ يَمْشِيَ رَجُلٌ عَلَى الْعَجَلَةِ فَيُرَى) مِنْ الرُّؤْيَةِ وَيُحْتَمَلُ مِنْ الرِّيَاءِ (وَاحِدًا مِنْ الْكُبَرَاءِ) ذَوِي الْوَجَاهَةِ وَالْجَاهِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِغَيْرِهِمْ فَلَا يُغَيِّرُ صَنِيعَهُ (فَيَعُودُ إلَى الْهُدُوءِ) أَيْ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ (أَوْ يَضْحَكُ) فِي خَلْوَتِهِ أَوْ عِنْدَ النَّاسِ الَّذِينَ لَهُمْ مَعَهُ أُلْفَةٌ وَمُؤَانَسَةٌ فَعِنْدَ رُؤْيَةِ كَبِيرٍ أَوْ غَرِيبٍ (فَيَرْجِعُ إلَى الِانْقِبَاضِ) بِتَرْكِ الضَّحِكِ (وَالْأَغْلَبُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ (الرِّيَاءُ لِأَنَّ الْحَيَاءَ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ) وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا عَلَى قِلَّةٍ فَإِنْ قِيلَ الْحَيَاءُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ وَتَرْكِ الْقَبِيحِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِهِمَا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِهِمَا وَلَوْ قِلَّةً قُلْنَا التَّعْرِيفُ عَلَى الْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقَبَائِحُ شَامِلَةً لِمَا هِيَ عِبَادِيَّةٌ ثُمَّ نَقُولُ وَشَيْءٌ مِنْهُمَا أَيْ الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ لَيْسَ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ فَيَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الثَّانِي لَيْسَ فِيهِمَا حَيَاءٌ فِي الْأَكْثَرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
فِيهِمَا حَيَاءٌ فَمَا فِيهِمَا هُوَ الرِّيَاءُ فِي الْأَغْلَبِ فَيَشْكُلُ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعِبَادَةِ وَشَيْءٌ مِنْهُمَا لَيْسَ مِنْ الْعِبَادَةِ فَتَأَمَّلْ أَوَّلًا وَثَانِيًا (وَهُوَ) أَيْ الْحَيَاءُ (فِيهِمَا) أَيْ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ إرْجَاعَ ضَمِيرِ هُوَ إلَى الرَّجُلِ وَضَمِيرِ فِيهِمَا إلَى الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ غَيْرُ صَحِيحٍ كَإِرْجَاعِ الْأَوَّلِ إلَى الْحَيَاءِ مَعَ إرْجَاعِ الثَّانِي إلَى الْمَشْيِ وَالضَّحِكِ (مَحْمُودٌ) لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي مَسَاغَ التَّرْكِ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْوُجُوبُ وَتَعْمِيمُ الْمَحْمُودِيَّةِ إلَى رُتْبَةِ الْوُجُوبِ أَوْ إرَادَتُهُ مِنْهَا وَإِنْ صَحَّ أَصْلًا لَكِنْ بَعِيدٌ اسْتِعْمَالًا فَيَرِدُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ مِنْ الْمُرَجَّحِ الْمَشْيُ وَالضَّحِكُ فَكَوْنُهُ مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ وَإِنْ الْقَبَائِحَ وَالذُّنُوبَ فَاللَّازِمُ هُوَ الْوُجُوبُ لَا الْمَحْمُودِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِمَّا يَخْتَارُ الْأَوَّلَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]- وقَوْله تَعَالَى - {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]- وَالثَّانِيَ بِنَحْوِ مَا أُشِيرَ وَبِادِّعَاءِ أَنَّ كُلَّ مَحْمُودٍ فَوَاجِبٌ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ مِنْ النَّاسِ) لَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْحَيَاءَ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَمَّا كَانَ فِي نَفْسِهِ مُجْمَلًا مَعَ إيهَامِهِ خِلَافَ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مِنْ النَّاسِ وَاحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ قَالَ (وَسَيَجِيءُ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَأَمَّا الْحَيَاءُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ وَالسُّنَنِ وَالْوَاجِبَاتِ فَمَذْمُومٌ جِدًّا) لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، وَالِاسْتِحْيَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْبَاطِلِ (وَيُسَمَّى عَجْزًا) وَهُوَ فِي الْأَصْلِ تَرْكُ الطَّاعَةِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا (وَضَعْفًا) خِلَافَ الْقُوَّةِ (خَوَرًا) بِفَتْحَتَيْنِ وَمُعْجَمَةٍ أَيْ لِينًا خِلَافَ الشِّدَّةِ فَإِنْ قِيلَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ يَقْتَضِي عِنْدَ التَّكْلِيفِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَذْمُومًا قُلْنَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ وَأَمَّا هُنَا فَمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ الْمَنْقُولُ (كَمَنْ يَسْتَحْيِي مِنْ الْوَعْظِ) لِعِظَمِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي الصُّورَةِ فَيَتْرُكُهُ إجْلَالًا لَهُمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ تَعْيِيرِهِمْ وَتَخْطِئَتِهِمْ (وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ) لِرِفْعَةِ الْمَأْمُورِ وَجَاهِهِ (وَالْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ وَنَحْوِهَا) كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَتَقْرِيرِ الْمَسَائِلِ وَفَتْوَى الْمُسْتَفْتِي فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إلَّا بِخَيْرٍ كُلُّهُ» ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَذْمُومًا؟ قُلْت قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إنَّهُ لَيْسَ بِحَيَاءٍ حَقِيقَةً بَلْ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ وَخَوَرٌ وَإِنَّمَا يُطْلِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعُرْفِ مَجَازًا وَحَقِيقَةُ الْحَيَاءِ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبِيحِ وَيَمْنَعُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ.
وَقَالَ أَيْضًا سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْحَيَاءِ مِنْ الْإِيمَانِ هَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ أَوْ مُطْلَقٌ فَقَالَ مُقَيَّدٌ بِتَرْكِ الْحَيَاءِ فِي الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَإِلَّا فَعَدَمُهُ مَطْلُوبٌ وَتَرْكُهُ مِنْ النُّعُوتِ الْإِلَهِيَّةِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا} [البقرة: 26]{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53](فَ) الْمُؤْمِنُ (الْقَوِيُّ يُؤْثِرُ الْحَيَاءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) بِانْقِبَاضِ نَفْسِهِ عَنْ الْقَبَائِحِ (عَلَى الْحَيَاءِ مِنْ النَّاسِ) فَيَأْتِي بِمَا ذُكِرَ مِنْ الطَّاعَاتِ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَلَا يُبَالِي