الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي الْجَنَّةِ {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] فَهَذِهِ وَكُلُّ خَيْرٍ وَسَعَادَةٍ فِي الدَّارَيْنِ تَحْتَ هَذِهِ التَّقْوَى فَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْهَا
ثُمَّ قَالَ فَعَلَيْك بِهَذِهِ التَّقْوَى إنْ أَرَدْت سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ
مَنْ اتَّقَى اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي
…
سِيقَ إلَيْهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ
وَكُتِبَ عَلَى بَعْضِ الْقُبُورِ
لَيْسَ زَادٌ سِوَى التُّقَى
…
فَخُذِي مِنْهُ أَوْ دَعِي
وَبَلَغَنِي أَنَّ عَامِرًا بَكَى عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى فِرَاشِهِ فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ أَيَا مَأْوَى كُلِّ شَرٍّ وَاَللَّهِ مَا رَضِيتُك لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيَك فَقَالَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
ثُمَّ تَأَمَّلْ نُكْتَةً أُخْرَى هِيَ أَصْلٌ لِلْأُصُولِ، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ حِينَ اسْتَوْصَى مِنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ قَالَ أُوصِيَك بِوَصِيَّةِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] قُلْت وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أَوْ لَيْسَ هُوَ أَرْحَمُ وَأَرْأَفُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ أَصْلَحُ وَأَجْمَعُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَنْجَحُ مِنْ التَّقْوَى لَأَمَرَ عِبَادَهُ بِهِ فَإِذَا أَوْصَى الْكُلَّ بِهَا فَهِيَ الْغَايَةُ فَجَمَعَ كُلَّ نُصْحٍ وَدَلَالَةٍ وَإِشَارَةٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَهْذِيبٍ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْوَاحِدَةِ فَهِيَ الْكَافِيَةُ لِلْمُهِمَّاتِ وَالْمُبَلِّغَةُ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ.
(وَ) الِاسْتِدْلَال بِنَظَرِ (الْعَقْلِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى مِنْ غَيْرِهَا مِنْ) سَائِرِ (الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيَةَ) بِالْمُهْمَلَةِ التَّزَيُّنُ (بَعْدَ التَّخْلِيَةِ) بِالْمُعْجَمَةِ التَّبَرِّي وَالتَّخَلِّي (وَالتَّزْيِينُ بَعْدَ التَّطْهِيرِ فَالْأَوَّلُ) الطَّاعَاتُ (بِدُونِ الثَّانِي) التَّخَلِّي وَالتَّطْهِيرُ عَنْ السَّيِّئَاتِ (لَا يُفِيدُ وَعَكْسُهُ يُفِيدُ) أَقُولُ لَعَلَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الشُّمُولِ إلَى الْكُفْرِ وَإِلَّا فَمَنْ فَعَلَ الْمُنْكَرَ غَيْرَ الْكُفْرِ يَلْزَمُ أَنْ لَا تُقْبَلَ حَسَنَاتُهُ وَاجِبَاتٌ أَوْ نَوَافِلُ وَالِاجْتِرَاءُ صَعْبٌ، وَإِنْ مَشَى عَلَى ظَاهِرِهِ بَعْضٌ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكَمَالُ يَعْنِي لَا يُفِيدُ فَائِدَةً مُعْتَدَّةً كَامِلَةً (فَهِيَ) أَيْ التَّقْوَى (الْأَسَاسُ) أَيْ الْأَصْلُ (لِجَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ فَخُذْهَا) بِجِدٍّ وَ (بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَك) وَأَوْصِهِمْ كَمَا أَوْصَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ خَوَاصَّ عِبَادِهِ كَمَا عَرَفْت كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أَيْ بِأَحْسَنِ التَّقْوَى أَيْ أَقْوَاهَا وَأَقْوَمِهَا أَوْ بِكَمَالِهَا (فَإِنَّ فِيهَا سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ) بَلْ رِيَاسَتَهُمَا (وَالْفَوْزَ بِالْحَيَاتَيْنِ) حَيَاةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ بِالْحَيَاةِ الْقُدْسِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الْغِيَابِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الْحِسِّيَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْهَيُولَانِيَّةِ أَوْ الْحَيَاةِ الْحِسِّيَّةِ بِالْأَرْزَاقِ الْمَعَاشِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالْأَرْزَاقِ الْمَعَادِيَّةِ وَقِيلَ أَوْ الْحَيَاةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْإِمْدَادَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ بِالْإِمْدَادَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ أَوْ الْحَيَاةُ الْكَوْنِيَّةُ وَالْحَيَاةُ الْأَزَلِيَّةُ.
(يَسَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكُمْ إنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) بِالْفَتْحِ الْمُحْسِنُ الْمُتَفَضِّلُ (الرَّحِيمُ وَالْجَوَادُ الْكَرِيمُ) الَّذِي لَا يُخَيِّبُ رَاجِيَهُ وَلَا يَخْسَرُ مُنَاجِيَهُ وَفُسِّرَ بِنَيْلِ مَا يَنْبَغِي عَلَى مَا يَنْبَغِي لَعَلَّ كَوْنَ شَرَفِ التَّقْوَى وَعَظَمَتِهَا مِنْ شِدَّةِ اكْتِسَابِهَا وَصُعُوبَةِ تَحْصِيلِهَا عَلَى أَنَّ اللَّذَّاتِ عَلَى حَسَبِ الْمَئُونَاتِ وَالْأَجْرُ بِقَدْرِ التَّعَبِ وَالْأَفْضَلُ فِي الْأُمُورِ مَا هُوَ أَشَقُّ اقْتَضَى الدَّعْوَةَ وَالتَّضَرُّعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَحَصَّلُ بِهِدَايَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَدَعَا الْمُصَنِّفُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ.
[النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِير التَّقْوَى]
(النَّوْعُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِهَا)
أَيْ التَّقْوَى لُغَةً وَشَرْعًا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِشَأْنِهَا وَلِزِيَادَةِ التَّمْكِينِ (هِيَ فِي اللُّغَةِ) مُشْتَقَّةٌ
(مِنْ وَقَاهُ) وَقْيًا وَوِقَايَةً صَانَهُ مِنْ قَبِيلِ اشْتِقَاقِ الْمَصْدَرِ مِنْ الْفِعْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ التَّقْوَى لَيْسَ بِمَصْدَرٍ بَلْ اسْمٌ كَالْعَلَمِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ وَاتَّقَيْت الشَّيْءَ وَتَقَيْتُهُ حَذِرْته وَالِاسْمُ التَّقْوَى أَصْلُهُ تَقْيَا قَلَبُوهُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: وَأَصْلُ تَقْوَى هُوَ الْوَقْوَى بِالْوَاوِ مَصْدَرُ الْوِقَايَةُ يُقَالُ وَقَى وِقَايَةً وَوَقْوَى عِوَضٌ عَنْ الْوَاوِ تَاءٌ كَمَا فِي الْوُكْلَانِ وَالتُّكْلَانِ (فَاتَّقَى) يَتَّقِي أَصْلُهُ اوْتَقَى يَوْتَقِي عَلَى افْتَعَلَ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَأُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى لَفْظِ الِافْتِعَالِ تَوَهَّمُوا أَنَّ التَّاءَ مِنْ لَفْظِ الْحَرْفِ فَجَعَلُوهُ اتَّقَى يَتَّقِي بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِثَالًا يُلْحِقُونَهُ بِهِ فَقَالُوا تَقِيَ يَتَّقِي مِثْلُ قَضَى يَقْضِي كَذَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ (وَالْوِقَايَةُ) بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ (فَرْطُ الصِّيَانَةِ) مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَهَالِكِ (أَصْلُهَا وَقْيًا) مَصْدَرُ وَقَاهُ (قُلِبَتْ وَاوُهَا تَاءً كَمَا فِي تُكْلَانَ) أَصْلُهُ وُكْلَانُ مَصْدَرُ وَكَلَ الْأَمْرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَّضَهُ إلَيْهِ.
(وَتُجَاهُ) أَصْلُهُ وُجَاهُ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ (وَ) قُلِبَتْ (يَاؤُهَا) أَيْ يَاءُ وَقْيًا (وَاوًا كَمَا فِي بَقْوَى) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَبْقَيْت عَلَى فُلَانٍ إذَا ارْعَوَيْت عَلَيْهِ وَرَحِمْته (وَأَلِفُهَا) أَيْ التَّقْوَى (لِلتَّأْنِيثِ) مِثْلُ حُبْلَى فَغَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ تَقُومُ مَقَامَ عِلَّتَيْنِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى){أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى} [التوبة: 109] بِالْقَصْرِ بِلَا تَنْوِينٍ لِعَدَمِ الِانْصِرَافِ {مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] وَفِي الشَّرِيعَةِ لَهَا مَعْنَيَانِ عَامٌّ) أَيْ لِأَنْوَاعِهَا (وَهُوَ الصِّيَانَةُ) أَيْ الْحِفْظُ (وَالِاجْتِنَابُ) أَيْ التَّبَاعُدُ (عَنْ كُلِّ مُضِرٍّ فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ عَرْضٌ) سِعَةٌ (عَرِيضٌ) وَاسِعٌ كَظِلٍّ ظَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ (يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ) بِحَسَبِ الْمُحَافَظَةِ وَالتَّقْيِيدِ فِي اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ (وَالنُّقْصَانُ) بِحَسَبِ تَرْكِ بَعْضِهَا (أَدْنَاهُ) بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَنْقِيصُهُ (الِاجْتِنَابُ عَنْ الشِّرْكِ) أَيْ مُطْلَقُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ أَعْظَمِ أَجْزَائِهِ (الْمُخَلِّدُ) الْمُوجِبُ لِخُلُودِ صَاحِبِهِ (فِي النَّارِ) بِمُوجِبِ عَدْلِهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَخَبَرِهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ
الظَّاهِرُ وَصْفُ تَوْضِيحٍ أَوْ ذَمٍّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا احْتِرَازًا عَنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ كَالرِّيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُخَلِّدٍ وَكَالذُّهُولِ فِي نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنِسْبَتُهَا إلَى أَسْبَابِهَا اسْتِقْلَالًا (وَأَعْلَاهُ) أَيْ الْعَرْضُ الْمَذْكُورُ (التَّنَزُّهُ) التَّبَرِّي (عَمَّا) عَنْ كُلِّ شَيْءٍ (يَشْغَلُ سِرَّهُ) قَلْبَهُ (عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى) بِآثَارِ تَجَلِّيَاتِهِ الْجَلَّالِيَّةِ وَالْجَمَالِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ طَرَأَ غَيْرُهُ وَلَوْ أَنَّا لِأَجْلِ الذُّهُولِ يُتَدَارَكُ مِنْ فَوْرِهِ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَيَعُدُّهُ إسَاءَةً كَالْكَبِيرَةِ فَيَتُوبُ وَيَتَضَرَّعُ لَهُ تَعَالَى وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالتَّبَتُّلُ إلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ) أَيْ الِانْقِطَاعُ إلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ.
وَنُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ: الشَّرَاشِرُ النَّفْسُ وَالْأَثْقَالُ وَالْمَحَبَّةُ وَجَمِيعُ الْجَسَدِ فَلِلْجَمْعِ هُنَا وَجْهٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8]- وَذَلِكَ بِاسْتِغْرَاقِ الْوَقْتِ وَالْأَحْوَالِ فِي ذِكْرِهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ مَعَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَسَنِّنَةِ قَدَّسَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمْ دُونَ الْغُلَاةِ وَالْمُتَشَقِّقَةِ سَامَحَ اللَّهُ مُعَامَلَتَهُمْ.
(وَهُوَ التَّقِيُّ الْحَقِيقِيُّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ قُصُورٌ وَلَا فُتُورٌ فِي الْأَفْعَالِ
وَالتُّرُوكِ بَلْ يَأْتِي الْكُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَالطَّرْزِ الْأَتَمِّ وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ.
(وَ) الثَّانِي (خَاصٌّ) لِبَعْضِ الْمَعَانِي (وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الشَّرْعِ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمُ الْقَرِينَةِ) إذْ عِنْدَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ وَلَا يُمْكِنُ الْإِرَادَةُ لِسَائِرِ الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ (أَعْنِي صِيَانَةَ النَّفْسِ عَمَّا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلِ) مَعْصِيَةٍ وَلَوْ صَغِيرَةً إذْ يَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَانْتَظِرْ (أَوْ تَرْكُ) طَاعَةٍ.
قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ إطْلَاقُ التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ بِمَعْنَى الْخَشْيَةِ نَحْوُ {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] وَبِمَعْنَى الطَّاعَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أَيْ أَطِيعُوا اللَّهَ حَقَّ طَاعَتِهِ وَبِمَعْنَى تَبْرِئَةِ الْقَلْبِ مِنْ الذُّنُوبِ وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ التَّقْوَى دُونَ الْأَوَّلَيْنِ نَحْوُ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ هُوَ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ غَيْرُ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ
ثُمَّ قَالَ مَنَازِلُ التَّقْوَى ثَلَاثَةٌ عَنْ الشِّرْكِ وَعَنْ الْبِدْعَةِ وَعَنْ الْمَعَاصِي فَمُقَابِلُهَا الْإِيمَانُ وَالْإِقْرَارُ بِالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ وَالْإِحْسَانُ وَالِاسْتِقَامَةُ (فَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ لَازِمٌ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ) لِإِيجَابِهَا الْعُقُوبَةَ قَطْعًا لَكِنْ يُمْكِنُ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ بِقَاعِدَةِ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ عَنْ الْكَبَائِرِ فِيمَا دُونَ الشِّرْكِ وَالِاحْتِمَالِ، وَلَوْ ضَعِيفًا يُنَافِي اللُّزُومَ الْقَطْعِيَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا احْتِمَالٌ نَاشِئٌ عَنْ الدَّلِيلِ لَا مُطْلَقُ احْتِمَالٍ فَتَأَمَّلْ فِيهِ حَتَّى يَتَّضِحَ مَا يُنَافِيهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الِاتِّفَاقِ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ اتِّفَاقُ مَنْ يُعْتَدَّ بِهِمْ فَلَا ضَرَرَ بِمُخَالَفَةٍ نَحْوُ مَنْ يَقُولُ لَا ضَرَرَ لِلْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ (وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَقِيلَ لَا) أَيْ لَيْسَ بِلَازِمٍ تَرْكُهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّقْوَى أَقُولُ بَعْدَ مَا أَطْلَقَ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى الصَّغِيرَةِ سَوَاءٌ اجْتَنَبَ مُرْتَكِبُهَا عَنْ الْكَبِيرَةِ أَمْ لَا لَا وَجْهَ لِذِكْرِ هَذَا الْخِلَافِ هُنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ (لِأَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ عَنْ مُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ) فَهُوَ حُجَّةٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ فِي مَحَلِّهِ كَمَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ هُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]- هُوَ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فَاللَّائِقُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ خِلَافُهُمْ هُنَا، ثُمَّ أَقُولُ عَلَى مُرَادِهِ إنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ مُسْتَلْزِمٌ لِمُوَاظَبَةِ الطَّاعَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكَذَا الْجُمُعَةُ وَرَمَضَانُ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ فَالْمُرَادُ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ صَرَاحَةً أَوْ الْتِزَامًا (فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعُقُوبَةَ) لَا عَقْلًا بَلْ سَمْعًا وَتَفَضُّلًا وَأَيْضًا لَا جَوَازَ بَلْ وُقُوعًا (وَقِيلَ نَعَمْ) أَيْ يَلْزَمُ الِاجْتِنَابُ عَنْ الصَّغَائِرِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِلتَّقْوَى (لِأَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْكَبَائِرَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ) الْمَذْكُورَةِ آنِفًا (عَلَى أَنْوَاعِ الشِّرْكِ) ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُصْرَفُ إلَى الْكَمَالِ وَمُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ بِالْآحَادِ (فَلَمْ يَتَعَيَّنْ التَّكْفِيرُ) أَيْ كَوْنُهَا مُكَفِّرَةً عِنْدَ الِاجْتِنَابِ عَنْ الْكَبِيرَةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ هَذَا هُوَ الْجَوَازُ وَالْكَلَامُ فِي الْوُقُوعِ وَأَيْضًا كَمَا لَا تَعْيِينَ فِي التَّكْفِيرِ لَا تَعْيِينَ فِي عَدَمِ التَّكْفِيرِ إذْ الْبَعْضِيَّةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ أَنَّ الْبَعْضَ الْآخَرَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ الْكَبَائِرَ عَلَى الْأَعَمِّ أَوْ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ سَائِرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا إنَّ هَذَا مِنْ نَحْوِ تَعَارُضِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ فَيُرَجَّحُ الْحَظْرُ فَافْهَمْ (وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الصَّغِيرَةِ جَائِزٌ، وَلَوْ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ تَغَايُرُهُمَا) أَيْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ (بِالذَّاتِ) بَلْ بِالِاعْتِبَارِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا فَوْقَهُمَا وَمَا تَحْتَهُمَا.
قَالَ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ عَنْ
صَاحِبِ الْكِفَايَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهَا اسْمَانِ إضَافِيَّانِ لَا يُعْرَفَانِ بِذَاتِهِمَا فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَا فَوْقَهَا فَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَا دُونَهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ قَالَ أَيْضًا وَقِيلَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَصَرَّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَكُلُّ مَا اُسْتُغْفِرَ مِنْهَا فَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْكَبَائِرُ حُقُوقُ الْعِبَادِ وَالصَّغَائِرُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَغْفِرُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالسَّيِّئَاتُ ذُنُوبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقِيلَ الْكَبَائِرُ الْعَمْدُ وَالصَّغَائِرُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ الْمَرْفُوعُ عَنْ الْأُمَّةِ.
وَقِيلَ الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَحِلِّينَ وَالصَّغَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ السُّدِّيَّ الْكَبَائِرُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالسَّيِّئَاتُ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَوَابِعُهَا وَقِيلَ الْكَبَائِرُ مَا يَسْتَحْقِرُهُ الْعِبَادُ وَالصَّغَائِرُ مَا يَخَافُونَهُ انْتَهَى نَقْلًا عَنْ الْبَغَوِيّ لَا يَخْفَى عَدَمُ صَلَاحِيَّةِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّاتِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْتَ سَمِعْت مَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ هَذَا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فَرْدٍ حَقِيقِيٍّ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَبِيرَةِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْآيَةِ مَعْنًى مَحْصُولٌ مُعْتَدٌّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ إطْلَاقُ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ إنْ تَجْتَنِبُوا عَنْ الْكَبَائِرِ نُكَفِّرْ كَبَائِرَكُمْ أَوْ إنْ تَجْتَنِبُوا عَنْ الصَّغَائِرِ نُكَفِّرْ صَغَائِرَكُمْ وَلَعَلَّ هَذَا مَدَارُ التَّسْلِيمِ فِي قَوْلِهِ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا عَدَدَ الْكَبَائِرِ) ؛ لِأَنَّهُ (قِيلَ سَبْعٌ وَقِيلَ سَبْعُونَ وَقِيلَ سَبْعُمِائَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ) وَقَدْ عَرَفْت الِاخْتِلَافَاتِ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ.
وَأَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْكَبَائِرِ أَسَبْعٌ هِيَ قَالَ هِيَ إلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ.
أَقُولُ أَيْضًا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً أَيُّ عَدَدٍ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْخِطَابُ كَالْعَبَثِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحَكِيمَ فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْعَدَدِ صَغِيرَةٌ قَطْعًا أَوْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْعُلَمَاءِ لِوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ فَالِاعْتِبَارُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَبَعْضَهَا ضَعِيفٌ لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَلْنَأْخُذْ الْقَوِيَّ كَرِوَايَةِ السَّبْعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يُخْفِيهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُخْفِيَ الْكَبَائِرَ لِحِكْمَةِ اجْتِنَابِ كُلِّ مَعْصِيَةٍ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ مُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِغْرَاءَ عَلَى الصَّغَائِرِ الْإِخْبَارُ بِتَكْفِيرِهَا عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
(وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام) فِيمَا خَرَّجَهُ (ت) التِّرْمِذِيُّ (وَحَسَّنَهُ ومج وحك) وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ (وَصَحَّحَهُ) الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ وَعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ وَسَلِمَ مِنْ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ وَالْحَسَنُ دُونَ ذَلِكَ إذْ هُوَ مَا خَفَّ ضَبْطُهُ وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ وَمَا سِوَاهُمَا فَضَعِيفٌ.
(عَنْ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ» أَيْ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ «حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ» وَلَوْ مُبَاحًا «حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَنْ يَتْرُكَ فُضُولَ الْحَلَالِ حَذَرًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
قَالَ الْغَزَالِيِّ: الِاشْتِغَالُ بِفُضُولِ الْحَلَالِ وَالِانْهِمَاكُ فِيهِ يَجُرُّ إلَى الْحَرَامِ لِشَرَهِ النَّفْسِ وَطُغْيَانِهَا وَتَمَرُّدِ الْهَوَى وَشَيْطَانِهِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ الضَّرَرِ فِي دِينِهِ اجْتَنَبَ الْخَطَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ فُضُولِ الْحَلَالِ حَذَرًا أَنْ يَجُرَّهُ إلَى مَحْضِ الْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ لِلتَّقْوَى مَرَاتِبُ، التَّوَقِّي مِنْ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ بِالتَّبَرِّي عَنْ الشِّرْكِ {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وَالتَّوَقِّي عَنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّمُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ حَتَّى الصَّغَائِرِ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بِالتَّقْوَى فِي الشَّرْعِ الْمَقْصُودَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالتَّوَقِّي عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنْ رَبِّهِ، وَهُوَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ بِقَوْلِهِ - {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]- وَيَجُوزُ تَنْزِيلُ الْحَدِيثِ أَيْضًا اهـ.
قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ أَنَا وَجَدْت التَّقْوَى بِمَعْنَى اجْتِنَابِ فُضُولِ الْحَلَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا سُمِّيَ الْمُتَّقُونَ مُتَّقِينَ لِتَرْكِهِمْ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» .
وَأَحْبَبْت أَنْ أَجْمَعَ بَيْن مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ حَدًّا جَامِعًا فَأَقُولُ التَّقْوَى اجْتِنَابُ كُلِّ مَا تَخَافُ مِنْهُ ضَرَرًا فِي دِينِك، وَأَمَّا تَحْدِيدُهَا عَلَى مَوْضُوعِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ تَبْرِئَةُ الْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ لَمْ يَسْبِقْ مِنْك مِثْلُهُ لِقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَك وَبَيْنَ كُلِّ
شَرٍّ سَوَاءٌ شَرًّا أَصْلِيًّا أَوْ شَرًّا غَيْرَ أَصْلِيٍّ، وَهِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ تَأْدِيبًا، وَهُوَ فُضُولُ الْحَلَالِ كَالْمُبَاحَاتِ الْمَأْخُوذَةِ بِالشُّبُهَاتِ فَالْأُولَى يُوجِبُ تَرْكُهَا عَذَابَ النَّارِ وَالثَّانِيَةُ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْحَبْسَ وَالْحِسَابَ وَالتَّعْيِيرَ وَاللَّوْمَ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ حَقَّ التَّقْوَى وَجَمَعَ كُلَّ خَيْرٍ وَهَذَا هُوَ الْوَرَعُ الْكَامِلُ اهـ، ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ لِلْمُتَّقِي بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ أَوَّلًا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَثَانِيًا بِالنَّقْلِيَّةِ فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ أَوَّلًا فَأَشَارَ إلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ (يَقُولُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَحِذَارًا مِنْ وَهْمِ الْعُجْبِ وَنَحْوِهِ (هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ) صَرِيحٌ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ (فِي لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ) فِي التَّقْوَى بِهَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ (لِأَنَّهَا) أَيْ الصَّغَائِرَ (بَعْدَ الْإِغْمَاضِ) عَمَّا ذُكِرَ (وَمُسَاعَدَةُ الْخَصْمِ) الْقَائِلِ بِأَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ عَنْ مُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ (مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ) يَعْنِي الصَّغَائِرَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ وَكُلُّ مَا لَا بَأْسَ بِهِ لَازِمٌ تَرْكُهُ لِلْمُتَّقِي بِحُكْمِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا شُمُولُ الْكُبْرَى لِلْحَلَالِ الْمَحْضِ فَسَيُجِيبُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ، وَأَمَّا الْحَلَالُ الْخَالِصُ (بَلْ يَزِيدُ) أَيْ هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَيَقُولُ: كَلِمَةُ مَا) فِي قَوْلِهِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ (عَامَّةٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ احْتِمَالُ الْحُرْمَةِ) كَالشُّبُهَاتِ بَلْ مَا يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا وَلَوْ كَانَ جَانِبُ الْحِلِّ رَاجِحًا (وَ) احْتِمَالُ (الْإِفْضَاءِ إلَى الْحَرَامِ) فَإِنْ قِيلَ عُمُومُ مَا لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِمَا ذُكِرَ بَلْ شَامِلٌ لَهُ وَلِكُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنْ أُرِيدَ هَذَا الْخُصُوصُ مِنْ هَذَا الْعَامِّ فَلَا دَلَالَةَ لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعُمُومُ عَلَى عُمُومِهِ فَمَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ صَرِيحِ لَفْظِهِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي نَفْسِهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَالِاحْتِجَاجُ بِالْعَامِّ مَحَلُّ كَلَامٍ كَمَا فَصَّلَ فِي الْأُصُولِ قُلْنَا قَوْلُهُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ عُرْفًا دَافِعٌ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.
وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: إنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ حُجَّةٌ وَالْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ يُتَسَارَعُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِلَا صَارِفٍ وَعِنْدَ الصَّارِفِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ لُغَوِيًّا مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَتَنْدَفِعُ أَيْضًا إذْ الْمُرَادُ وَلَوْ مَعْنًى عُرْفِيًّا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ كَوْنُ كَلِمَةِ " مَا " عَامَّةً لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ كَمَا فِي الْأُصُولِ لَكِنَّ الْمَقَامَ كَالْخَطَّابِيِّ فَلَا يُعْبَأُ بِهِ (كَعُمُومِ الثَّانِيَةِ) فِي مِمَّا بِهِ بَأْسٌ (الْحَرَامَ) مَفْعُولُ الْعُمُومِ إنْ خَصَّ الْبَأْسَ بِالْحَرَامِ وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ الضَّرَرِ الشَّامِلِ لَهُ وَلِنَحْوِ الْمَكْرُوهِ لَكِنْ بَعْدَ الْإِغْمَاضِ الْمَذْكُورِ يَنْبَغِي عَدَمُ الشُّمُولِ.
(وَأَمَّا الْحَلَالُ الْخَالِصُ عَنْ) شَائِبَةِ (الشُّبْهَةِ) ابْتِدَاءً أَوْ إفْضَاءً (فَلَا يَتَنَاوَلُهُ) لَفْظُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ (عُرْفًا) إذْ هُوَ فِي الْعُرْفِ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت تَفْصِيلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ لَا بَأْسَ فَارْجِعْ تَرْشُدْ (وَإِنْ تَنَاوَلَهُ) أَيْ، وَإِنْ تَنَاوَلَ لَفْظُ لَا بَأْسَ الْحَلَالَ (لُغَةً) إذْ الْحَلَالُ لَيْسَ فِيهِ بَأْسٌ أَيْ ضَرَرٌ وَقَدْ عَرَفْت هَذَا الْقَوْلَ آنِفًا وَهَذَا الْفَقِيرُ الضَّعِيفُ أَيْضًا يَقُولُ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِزَاعًا مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ الْمُبَاحَاتُ الْمَأْخُوذَةُ بِالشُّبُهَاتِ وَفُضُولُ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ وَالِانْهِمَاكَ فِيهِ رُبَّمَا يَجُرُّ صَاحِبَهُ إلَى الْحَرَامِ لِشَرَهِ النَّفْسِ وَطُغْيَانِهَا وَتَمَرُّدِ الْهَوَى فَالْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ التَّجَنُّبُ عَنْهُ لِئَلَّا يَجُرَّ إلَى الْحَرَامِ كَمَا هُوَ مَضْمُونُ الْحَدِيثِ وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الشُّبْهَةَ تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَكْفِي لِرَدِّ الْعُقُوبَاتِ وَسَيُفْهَمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْآتِي وَأَيْضًا قَالُوا الْإِصْرَارُ عَلَى الْمُبَاحِ لِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي كَالصَّيْدِ صَغِيرَةٌ حَتَّى قِيلَ مَنْ اتَّخَذَ الِاكْتِسَابَ بِالصَّيْدِ فَلَا يُؤْكَلُ.
(خ م عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هَذَا دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ آخَرُ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ فِي التَّقْوَى (يَقُولُ إنَّ «الْحَلَالَ بَيِّنٌ» التَّأْكِيدُ إمَّا لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ أَوْ لِأَمَارَةِ
الْإِنْكَارِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ بِنَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِنَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً «وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ» كَذَلِكَ «وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ» بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَزَاحُمِ الْمَعَانِي وَلِوُقُوعِهِمَا بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَلِتَجَاذُبِ الرِّوَايَاتِ وَتَخَالُفِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ أَيْضًا وَلَا مُرَجِّحَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
«لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» لِخَفَائِهِنَّ كَالْجِهَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ نَحْوِ خَفَاءِ النَّصِّ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ قَيَّدَ بِالْكَثِيرِ إذْ الْقَلِيلُ كَالْمُجْتَهِدِ يَعْلَمُهَا بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ لَا يَعْلَمُ كُلَّ حُكْمٍ لِثُبُوتِ التَّوَقُّفِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَثُبُوتِ لَا أَدْرِي كَمَالِكٍ مِمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى فَقَاهَتِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَا يَعْلَمُ قَطْعًا فِي كُلِّ اجْتِهَادِيَّةٍ بَلْ ظَنًّا عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ فَلَفْظُ كَثِيرٍ تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ يُرَادُ غَيْرُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ إذَا عَلِمَهَا الْمُجْتَهِدُ ابْتِدَاءً يَعْلَمُهَا الْمُقَلِّدُ انْتِهَاءً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا بَيِّنًا فَلَا يَبْقَى مُشْتَبَهٌ قِيلَ هُنَا اُخْتُلِفَ فِي تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ فَقِيلَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ «اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» .
وَقِيلَ حَلَالٌ بِدَلِيلٍ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» إلَى آخِرِهِ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ كَمَا فِي الْفَتْحِيَّةِ انْتَهَى. فَفِيهِ تَأَمُّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَمَامِ مَقْصُودِ الْحَدِيثِ «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ» طَلَبَ التَّبَرِّي «لِدِينِهِ» مِنْ الْخَطَرِ الشَّرْعِيِّ.
«وَعِرْضِهِ» مِنْ وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ أَوْ بَدَنِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ حَرَامًا أَوْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَهُ مُوجِبَةٌ كُلِّيَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ يَقَعُ فِي الْحَلَالِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ بَلْ احْتِمَالٌ وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ إنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَظْنُونَةِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ يَجِبُ انْدِرَاجُهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ كُلَّ مَسْمُومٍ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، ثُمَّ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ مَسْمُومٌ فَإِنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ اجْتِنَابَهُ وَأَيْضًا سَمِعْت مِرَارًا عَنْ التَّلْوِيحِ الْحُرُمَاتُ كَدَرْءِ الْعُقُوبَاتِ تُثْبِتُ الشُّبُهَاتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى مَنْ تَعَوَّدَ فِي وُقُوعِ الشُّبُهَاتِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ وَقِيلَ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَقِيلَ التَّجَاسُرُ عَلَى الشُّبْهَةِ يَكُونُ دَاعِيًا إلَى تَجَاسُرِ الْحَرَامِ وَأَيْضًا فِيهِ خَفَاءٌ لَا يَخْفَى، ثُمَّ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ فَأَوْلَى عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً قَطْعًا كَالْكَبِيرَةِ لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ كَلَامُنَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الصَّغَائِرِ مُكَفِّرَةً عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَدُلُّ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحُرْمَةِ وَلَوْ احْتِمَالًا عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الصَّغِيرَةِ إذْ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَامَّةً عَلَى مَا يَحْتَمِلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَيُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ اللَّامِ أَوْ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ مُهِمًّا اسْتَوْضَحَ بِتَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ فَقَالَ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» أَيْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى هُوَ مَا حُمِيَ مِنْ الْأَرْضِ وَمُنِعَ مِنْهُ الْغَيْرُ «يُوشِكُ» بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ يُسْرِعُ وَيَقْرُبُ «أَنْ يَقَعَ فِيهِ» أَيْ فِي الْحِمَى وَتَأْكُلُ مَاشِيَتُهُ مِنْهُ عَنْ الْمُحَشِّي شَبَّهَ الْمُكَلَّفَ بِالرَّاعِي وَالنَّفْسَ الْبَهِيمِيَّةَ بِالْأَنْعَامِ وَالْمُشْتَبِهَاتُ بِمَا حَوْلَ الْحِمَى وَالْمَحَارِمُ بِالْحِمَى فَيَكُونُ تَشْبِيهًا مَعْلُومًا بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ وَتَمْثِيلًا
بِاعْتِبَارِ وَجْهِهِ انْتَهَى «أَلَا» حَرْفُ افْتِتَاحٍ جِيءَ بِهِ لِعِظَمِ مَا بَعْدَهَا «وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ» بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ الْمُلُوكِ «حِمًى» يَحْمِيهِ مِنْ النَّاسِ «أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» أَيْ الْمَعَاصِي يَحْمِيهَا مِنْ كُلِّ دَاخِلٍ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُعَاقِبُ دَاخِلَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَارِبَ مَا يُفْضِيهَا وَمَا يَقْرَبُهَا أَيْضًا لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ «إذَا صَلَحَتْ» بِالْفَتْحِ أَوْ بِالضَّمِّ «صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» ؛ لِأَنَّهَا أَمِيرُهُ وَسُلْطَانُهُ «، وَإِذَا فَسَدَتْ» أَظْلَمَتْ بِالضَّلَالَةِ وَالْغَبَاوَةِ «فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» بِارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِقْدَامِ الْمَنْهِيَّاتِ «أَلَا، وَهِيَ» أَيْ الْمُضْغَةُ «الْقَلْبُ» سُمِّيَ بِهِ لِانْقِلَابِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَوَاطِرِ قِيلَ يَعْنِي الْقَلْبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ وَالْجَسَدُ كَالْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي وَسَطِهَا وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعَايَا مُطِيعَاتٌ لِلْمَلِكِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَإِصْلَاحُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ قِيلَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ «الْحَلَالَ بَيِّنٌ» إشْعَارًا بِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ يُنَوِّرُهُ وَيُصْلِحُهُ وَالشُّبَهُ تُقَسِّيهِ وَتُظْلِمُهُ (وَأَيْضًا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مَرْعِيٌّ فِي الشَّرْعِيِّ مَا أَمْكَنَ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إذْ النَّقْلُ بِلَا مُنَاسَبَةٍ أَصْلًا جَائِزٌ كَالْمُرْتَجِلِ فَالرِّعَايَةُ أَوْلَى قِيلَ تَارَةً بِالتَّخْصِيصِ وَتَارَةً بِالنَّقْلِ لِمُنَاسَبَةٍ (وَفَرْطُ الصِّيَانَةِ) الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلتَّقْوَى (يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالشُّبُهَاتِ أَيْضًا) كَالْكَبَائِرِ إذْ الْكَبَائِرُ بِأَصْلِ الصِّيَانَةِ، وَأَمَّا فَرْطُهَا فَبِالِاجْتِنَابِ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاقْتِضَاءِ هُوَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ وَصِحَّتُهُ لَا الِاقْتِضَاءُ التَّامُّ الضَّرُورِيُّ وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ (لَكِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ لَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ) لِغَلَبَةِ الشُّبُهَاتِ لِشُيُوعِ الْجَهْلِ وَعُسْرِ التَّجَنُّبِ عَنْهَا.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ (عَلَى مَا سَيَجِيءُ) فِي ثَانِي الْبَابِ الثَّالِثِ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَفِي الْحَدِيثِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْمُسْتَمْسِكُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ (فَخَرَجَ) مِنْ لُزُومِ الِاجْتِنَابِ فِي التَّقْوَى (مَا عَدَا الشُّبْهَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْحَرَامِ) ، وَهُوَ مَا يَكُونُ جَانِبُ الْحِلِّ رَاجِحًا أَوْ مُتَسَاوِيًا لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى النَّدْبِ نَعَمْ فِيهِ أَيْضًا رُجْحَانُ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي فَتَأَمَّلْ (لِأَنَّ الطَّاعَةَ) لِلَّهِ تَعَالَى (بِقَدْرِ الطَّاقَةِ) إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.
وَقَدْ قَالَ - «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» - «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» - لَكِنْ يَأْتِي مَا قَالُوا فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّجَنُّبُ عَنْ الْكُلِّ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَزِمَ التَّجَنُّبُ عَنْ الْبَعْضِ وَالْإِقْدَامِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُعَيَّنًا فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ وَإِلَّا فَالِاجْتِنَابُ عَنْ الْمَجْهُولِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ بِغَلَبَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِ يَقْتَضِي ضَابِطَةً بِهَا يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَيْسَا بِمُخْتَلِفَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالْمُجْتَهِدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْغَيْرِ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِ (فَتَعَيَّنَ لُزُومُ اجْتِنَابِ كُلِّ حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ تَحْرِيمًا) فَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ دَاخِلٌ فِي الْحَرَامِ