الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّجَاةُ مِنْ التَّأْبِيدِ الْمَذْكُورِ وَالْفَوْزُ بِالدُّخُولِ الْمَزْبُورِ) فِي فَوَائِدِ الْإِيمَانِ فِيهِ مُرَاعَاةُ تَقَدُّمِ التَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ (رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ) النَّجَاةَ مِنْ نِيرَانِهِ وَالتَّلَذُّذَ فِي جِنَانِهِ قِيلَ أَيْ كُلُّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِاسْتِعْدَادِنَا وَحَذَفَ الْمَفْعُولَ لِلتَّعْمِيمِ (إنَّهُ هُوَ الْكَرِيمُ) صَاحِبُ فَضْلٍ وَكَرْمٍ (الْغَفُورُ) يَغْفِرُ ذُنُوبَ عِبَادِهِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْجَنَّةِ
[السَّادِسُ اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ]
(وَالسَّادِسُ) مِنْ الذَّمِيمَةِ السِّتِّينَ (اعْتِقَادُ الْبِدْعَةِ) كَمَا سَبَقَ كَاعْتِقَادِ أَهْلِ الْهَوَى (وَسَبَبُهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى) أَيْ شَهْوَةُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ (وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْعَقْلِ) الْمُجَرَّدِ بِلَا مُرَاعَاةِ شَرْعٍ كَمَا لِلْحُكَمَاءِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَاصِرِينَ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عَلَى الْعَقْلِ (وَالْإِعْجَابُ بِالرَّأْيِ) أَيْ تَحْسِينُ رَأْيِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ وَلَا يَرْتَكِبُ إلَى آخَرَ (وَالتَّقْلِيدُ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذَا لِكُلٍّ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِغَيْرِ الْمُصِيبِ إذْ تَقْلِيدُ الْمُصِيبِ لَيْسَ بِعَيْنِ هَذِهِ الْآفَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إسَاءَةٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ إمَّا أَتْبَاعُ الْمَاتُرِيدِيِّ أَوْ الْأَشْعَرِيِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُمْ فِي إعْصَارِنَا وَلَوْ خَوَاصَّ مُقَلَّدِينَ لَهُمَا فَيَلْزَمُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ الشَّنِيعَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ كُلُّهُمْ مُسْتَدِلُّونَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكِنَّ أَدِلَّتَهُمْ مُوَافِقَةٌ لِأَدِلَّتِهِمَا أَوْ أَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ لَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِمْ ثُمَّ بَعْدَ رُسُوخِ أَدِلَّتِهِمَا فِي خَاطِرِهِمْ وَقَبُولِهِمْ إيَّاهَا مَعَ عِرْفَانِهِمْ غَايَاتِهَا صَارُوا مُسْتَدِلِّينَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْرِفَةَ أَدِلَّةِ الْغَيْرِ اسْتِدْلَالٌ لَا تَقْلِيدٌ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ السَّبَبَانِ الْأَوَّلَانِ لِخَوَاصِّ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَمُجْتَهِدَيْهِمْ وَالثَّالِثُ لِمُقَلِّدِيهِمْ.
[السَّابِع اتِّبَاعُ الْهَوَى]
(فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى) الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ (فَهُوَ) الْخُلُقُ.
(السَّابِعُ) مِنْ السِّتِّينَ (مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ) الَّذِي تَبِعَتْهُ الْأَعْضَاءُ بِشَهَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا، وَهِيَ الْقَلْبُ» كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ إثْبَاتَ مَذْمُومِيَّةِ الْهَوَى بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ اللَّذَيْنِ هُمْ أَصْلَا الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ
وَأَسَاسُهَا أَمَّا الْآيَاتُ فَقَدْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} [النساء: 135] الْمَيْلُ النَّفْسَانِيُّ وَشَهَوَاتُهَا وَمَا يُسْتَلَذُّ مِنْهَا {أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] كَرَاهَةَ أَنْ تَمِيلُوا عَنْ الْحَقِّ لِلْقَرَابَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُدُولِ أَوْ لَأَنْ تَعْدِلُوا مِنْ الْعَدَالَةِ فَعِلَّةٌ لِلنَّهْيِ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ اتِّبَاعِ الْهَوَى عِلَّةً لِوُجُودِ الْعَدْلِ كَمَا جَعَلَ اتِّبَاعَهُ سَبَبًا لِلْإِضْلَالِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] مَا تَهْوَى النَّفْسُ فِي الْحُكُومَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ {فَيُضِلَّكَ} [ص: 26] يُوقِعَك فِي الْحَيْرَةِ وَالزَّيْغِ {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَعْلَمُهُ بِالْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] أَيْ الْمَيْلِ إلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْهَوَى لِلِاخْتِيَارِ مِنْ اللَّهِ {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] مَأْوَاهُ لَيْسَ لَهُ سِوَاهَا مَأْوًى فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ اللَّهُ مُخَالَفَةَ النَّفْسِ بِتَرْكِ هَوَاهَا عِلَّةً عَادِيَّةً وَسَبَبًا شَرْعِيًّا لِقَصْرِ مَقَامِهِ عَلَى الْجَنَّةِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ رَأْسَ الْعِبَادَةِ قَالَ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَقَدْ سُئِلَ الْمَشَايِخُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالُوا: ذَبْحُ النَّفْسِ بِسُيُوفِ الْمُخَالَفَةِ
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَجَمَتْ طَوَارِقُ نَفْسِهِ أَفَلَتَ شَوَارِقُ أُنْسِهِ قَالَ ذُو النُّونِ: مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ الْفِكْرُ وَعَلَامَةُ الْإِصَابَةِ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَمُخَالَفَتُهَا تَرْكُ شَهَوَاتِهَا وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: النَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى سُوءِ الْأَدَبِ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِمُلَازَمَةِ الْأَدَبِ فَالنَّفْسُ تَجْرِي بِطَبْعِهَا فِي مَيْدَانِ الْمُخَالَفَةِ وَالْعَبْدُ يَرُدُّهَا بِجَهْدِهِ عَنْ سُوءِ الْمُطَالَبَةِ فَمَنْ أَطْلَقَ عِنَانَهَا فَهُوَ شَرِيكُهَا مَعَهَا فِي فَسَادِهَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ} [الجاثية: 23] جَعَلَ {إِلَهَهُ} [الجاثية: 23] مَعْبُودَهُ {هَوَاهُ} [الجاثية: 23] بِحَيْثُ لَا يَعْبُدُ إلَّا مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ بِأَنْ أَطَاعَهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ دِينَهُ لَا يَسْمَعُ حُجَّةً وَلَا يُبْصِرُ دَلِيلًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] فِي إيثَارِ الدُّنْيَا وَاسْتِرْضَاءِ قَوْمِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ مُقْتَضَى الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ {فَمَثَلُهُ} [الأعراف: 176] فَصِفَتُهُ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الْخِسَّةِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ النَّظِيرُ يُقَالُ مِثْلٌ وَمَثَلٌ وَمَثِيلٌ كَشَبَهٍ وَشِبْهٍ وَشَبِيهٍ ثُمَّ نُقِلَ لِلْقَوْلِ السَّائِرِ الْمُمَثَّلِ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ وَلَا يُضْرَبُ إلَّا مَا فِيهِ غَرَابَةٌ؛ وَلِذَلِكَ حُوفِظَ عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِكُلِّ حَالٍ أَوْ قِصَّةٍ أَوْ صِفَةٍ لَهَا شَأْنٌ، وَفِيهَا غَرَابَةٌ
{كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] كَصِفَتِهِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ أَوْ فِي عَدَمِ التَّأَثُّرِ بِالْوَعْظِ وَالْبَقَاءِ عَلَى الضَّلَالَةِ {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} [الأعراف: 176] أَيْ تَزْجُرْهُ وَتَطْرُدْهُ {يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] مِنْ لَهَثَ كَمَنَعَ وَاللُّهْثَةُ بِالضَّمِّ الْعَطَشُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ {أَوْ تَتْرُكْهُ} [الأعراف: 176] مِنْ غَيْرِ حِمْلٍ عَلَيْهِ وَلَا زَجْرٍ عَنْ هَذِهِ الْفَعْلَةِ {يَلْهَثْ} [الأعراف: 176]
فَهُوَ يَلْهَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ قِيلَ كُلُّ حَيَوَانٍ يَلْهَثُ مِنْ تَعَبٍ أَوْ عَطَشٍ سِوَى الْكَلْبِ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ الرَّاحَةِ وَالشِّدَّةِ وَكَذَا مُتَّبِعُ هَوَاهُ يَلْهَثُ عَلَى غَرَضِ نَفْسِهِ أَيْ يَتَعَطَّشُ إلَى الدُّنْيَا وَإِلَى الْحَظِّ الْعَاجِلِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْوَعْظِ وَالنَّصَائِحِ وَلَا إلَى غَيْرِهِمَا قِيلَ هُوَ أَحَدُ عُلَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَوْ بَلْعَامُ بْنُ بَاعُورَاءَ وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ أَحْوَالِهِ قَرِيبًا
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَهُ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى عليه الصلاة والسلام فَقَالَ كَيْفَ أَدْعُو عَلَى كَلِيمِ اللَّهِ وَمَعَهُ الْمَلَائِكَةُ فَأَلَحُّوا وَعَرَضُوا لَهُ شَيْئًا وَتَوَسَّلُوا بِالْغَيْرِ وَاسْتَشْفَعُوا فَمَالَ إلَى هَوَى نَفْسِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ فَبَقِيَ مُوسَى مَعَ جُنْدِهِ فِي التِّيهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ الْمَطْرُودِ فَأَوْقَعَهُ فِي بَحْرِ الضَّلَالِ إلَى الْأَبَدِ فَسَلَبَ عَنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي نَفْيِ صَانِعِ الْعَالَمِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ سَخَطِهِ وَقَالَ فِي الْمِنْهَاجِ: فَانْظُرْ شُؤْمَ حُبِّ الدُّنْيَا مَا يَفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ خَاصَّةً فَتَنَبَّهْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ خَطِيرٌ وَالْعُمُرُ قَصِيرٌ، وَفِي الْعَمَلِ تَقْصِيرٌ وَالنَّاقِدُ بَصِيرٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28] غَرَضَ نَفْسِهِ مِنْ شَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] ضَيَاعًا وَهَلَاكًا لِإِهْمَالِهِ نَفْسَهُ فِي كُلِّ مَا تَمَنَّاهُ وَلِإِرْسَالِهِ فِي كُلِّ مُيُولَاتِهِ وَإِفْنَاءِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي أُعْطِيت لَهُ لِاكْتِسَابِ الْبَاقِيَاتِ فَتَبَعِيَّةُ الْهَوَى أَفَضْت إلَى الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ
قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - النَّفْسُ هِيَ الدَّاعِيَةُ إلَى الْمَهَالِكِ الْمُعِينَةُ لِلْأَعْدَاءِ الْمُتَّبِعَةُ لِلْهَوَى الْمُتَّهَمَةُ بِأَصْنَافِ الْأَسْوَاءِ، وَفِي الْقُشَيْرِيِّ كَيْفَ يَصِحُّ لِلْعَاقِلِ الرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْكَرِيمُ بْنُ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ يَقُولُ - {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]- {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم: 29] بِالْكُفْرِ أَوْ الْفِسْقِ {أَهْوَاءَهُمْ} [الروم: 29] مُقْتَضَيَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي حُظُوظِهِمْ الْعَاجِلَةِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29] مَعَ جَهْلٍ {وَمَنْ أَضَلُّ} [القصص: 50] أَكْثَرُ ضَلَالًا {مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص: 50] وَلَا مُسَاوِيَ لَهُ فِي الضَّلَالَةِ فَضْلًا عَنْ السَّبْقَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الطَّمَسْتَانِيِّ النِّعْمَةُ الْعُظْمَى الْخُرُوجُ عَنْ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَعْظَمُ حِجَابًا بَيْنَك وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ سَهْلٍ مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِثْلَ مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ شَيْبَانَ أَنَّهُ قَالَ مَا بِتُّ تَحْتَ سَقْفٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَكُنْت أَشْتَهِي عَدْسًا وَلَمْ يُتَّفَقْ لِي فَوَقْتًا حُمِلَ إلَيَّ عَدَسٌ فَتَنَاوَلْت فَخَرَجْت فَرَأَيْت قَوَارِيرَ فَظَنَنْته خَلًّا فَقِيلَ خَمْرٌ وَهَذِهِ الدِّنَانُ أَيْضًا خَمْرٌ فَأَصَبْت وَالْحِمَارُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ فِعْلِي بِأَمْرِ السُّلْطَانِ فَعِنْدَ مَعْرِفَتِهِ حَالِي حَمَلَنِي إلَى ابْنِ طُولُونَ فَضَرَبَنِي مِائَتَيْ خَشَبَةٍ وَطَرَحَنِي فِي السِّجْنِ فَبَعْدَ مُدَّةٍ شَفَعَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ إيشْ فَعَلْت بِشِبْعَةِ عَدْسٍ وَمِائَتَيْ خَشَبَةٍ فَقَالَ نَجَوْت مَجَّانًا
وَعَنْ السَّرِيِّ إنَّ نَفْسِي تُطَالِبُنِي ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ أَنْ أَغْمِسَ جَزَرَةً فِي دِبْسٍ فَمَا أَطْعَمْتهَا وَقِيلَ وَجَّهَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ الْبَلْخِيّ شَيْئًا إلَى حَاتِمٍ الْأَصَمِّ فَقِبَلَهُ فَقِيلَ لَهُ لِمَ قَبِلْته قَالَ وَجَدْت فِي أَخْذِهِ ذُلِّي وَعِزَّهُ وَفِي رَدِّهِ عِزِّي وَذُلَّهُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ (وَخَرَّجَ ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَنَسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ) هُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ وَثَلَاثٌ
كَفَّارَاتٌ وَثَلَاثٌ دَرَجَاتٌ (أَمَّا الْمُهْلِكَاتُ فَشُحٌّ) » بُخْلٌ «مُطَاعٌ» يُطِيعُهُ النَّاسُ أَوْ هُوَ يُطِيعُ بُخْلَهُ «وَهَوًى مُتَّبَعٌ» يَتْبَعُ كُلُّ أَحَدٍ لِمَا أَمَرَهُ هَوَاهُ أَوْ هُوَ نَفْسُهُ يَتْبَعُ فِي كُلِّ مَا يَهْوَاهُ «وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» يَجِدُ نَفْسَهُ حَسَنًا بِمَعْنَى رُؤْيَةِ نَفْسِهِ كَامِلًا مَعَ نِسْيَانِ عُيُوبِهِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمِنْ آفَاتِ الْعُجْبِ أَنَّهُ يَحْجُبَ عَنْ التَّوْفِيقِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا شَيْءَ أَسْرَعُ مِنْهُ إلَى الْهَلَاكِ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ كَمْ مِنْ سِرَاجٍ قَدْ أَطْفَأَتْهُ الرِّيحُ وَكَمْ مِنْ عَابِدٍ أَفْسَدَهُ الْعُجْبُ، وَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ فَالْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَالْكَفَّارَاتُ فَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ فِي شَدَائِدِ الْبَرْدِ وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إلَى الْجَمَاعَاتِ، وَأَمَّا الدَّرَجَاتُ فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ بَيْنَ النَّاسِ مَنْ عَرَفْته أَوْ لَمْ تَعْرِفْهُ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ حَالَ غَفْلَةِ النَّاسِ وَاسْتِغْرَاقِهِمْ فِي لَذَّةِ النَّوْمِ وَذَلِكَ وَقْتَ الصَّفَاءِ وَتَنَزُّلَاتِ غَيْثِ الرَّحْمَةِ وَإِشْرَاقِ الْأَنْوَارِ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا الْبَيَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَرْمُوزٌ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ رِوَايَةً عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَتَرْتِيبُ الْبَزَّارِ عَلَى رِوَايَةِ الْمُغَايَرَةِ لَكِنْ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعَلَائِيِّ سَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَعَدَّهُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ الْمَنَاكِيرِ قَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا وَمَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ لَمْ تَسْلَمْ أَفْرَادُ الْأَسَانِيدِ عَنْ الْمَقَالِ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا حَسَنٌ.
(أَقُولُ) وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى اخْتَصَمُوا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَنْكَشِفْ لَهُمْ فَعَرَضُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى اصْبِرُوا حَتَّى يَأْتِيَ حَلَّالُ الْمُشْكِلَاتِ فَعِنْدَ بَعْثِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبُوا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى حَلَّهُ عَلَى وَعْدِهِ فَأَرْسَلَ جَبْرَائِيلَ فَأُسْرِيَ بِهِ إلَى الْمِعْرَاجِ إلَى أَنْ وَصَلَ عليه السلام إلَى مَقَامِ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى فِيهِ إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ثُمَّ بَعْدَ الْعَوْدَةِ سَأَلُوا فَأَجَابَ بِمَضْمُونِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَخَرَّجَ دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «إنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ خَصْلَتَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى» الِانْقِيَادُ لِحُظُوظِ النَّفْسِ «وَطُولُ الْأَمَلِ» مَأْمُولِيَّةُ طُولِ الْبَقَاءِ وَنِسْيَانُ الْمَوْتِ «فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَإِنَّهُ يَعْدِلُ» يَمِيلُ «بِك عَنْ» اتِّبَاعِ «الْحَقِّ» الشَّرِيعَةِ الْحَقَّةِ «، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَإِنَّهُ يُحَبِّبُ» أَيْ يَجْعَلُ «إلَيْك الدُّنْيَا» مَحْبُوبَةً.
(وَخَرَّجَ ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْكَيِّسُ» خِلَافُ الْأَحْمَقِ أَيْ الْعَاقِلُ الذَّكِيُّ الْفَطِنُ وَقِيلَ الرِّفْقُ فِي الْأُمُورِ وَعَنْ الرَّاغِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى جَوْدَةِ اسْتِنْبَاطِ مَا هُوَ أَصْلَحُ فِي بُلُوغِ الْخَيْرِ «مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» غَلَبَ وَقَهَرَ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِحَاسَبَهَا وَأَذَلَّهَا يَعْنِي جَعَلَ نَفْسَهُ مُطِيعَةً لِأَوَامِرِ رَبِّهَا وَقِيلَ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْعِبَادَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ كَانَ مَشَايِخُنَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَيُقَيِّدُونَ فِي دَفْتَرٍ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَاسَبُوا نُفُوسَهُمْ وَأَحْضَرُوا دَفْتَرَهمْ فَإِنْ اسْتَحَقَّ اسْتِغْفَارًا اسْتَغْفَرُوا، وَإِنْ شُكْرًا فَشَكَرُوا ثُمَّ يَنَامُونَ فَزِدْنَا عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ الْخَوَاطِرَ فَكُنَّا نُقَيِّدُ مَا تُحَدِّثُ بِهِ نُفُوسُنَا وَنَهْتَمُّ بِهِ وَنُحَاسِبُهَا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا «وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ» قَبْلَ نُزُولِهِ لِيَصِيرَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالْمَوْتُ عَاقِبَةُ أُمُورِ الدُّنْيَا فَالْكَيِّسُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَاقِبَةَ وَالْأَحْمَقُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَحَجَبَتْهُ الشَّهَوَاتُ وَالْغَفَلَاتُ
«وَالْعَاجِزُ» الْمُقَصِّرُ فِي الْأُمُورِ «مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا» فَلَمْ يَكُفَّهَا عَنْ الشَّهَوَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا عَنْ الْحُرُمَاتِ وَاللَّذَّاتِ «وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ الْأَمَانِيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ يَعْنِي مَعَ تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَعْتَذِرُ وَلَا يَرْجِعُ بَلْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْجَنَّةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ
قَالَ الطِّيبِيُّ الْعَاجِزُ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَأَعْطَاهَا مَا تَشْتَهِيهِ قَالَ الْحَسَنُ إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ الْأَمَانِيُّ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ حَسَنَةً وَيَقُولُ: أَحَدُهُمْ إنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي وَكَذَبَ فَإِنَّهُ لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَعَمِلَ الْحَسَنَ {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وَقَدْ أَفَادَ الْخَبَرُ أَنَّ التَّمَنِّي مَذْمُومٌ، وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَمَحْمُودٌ فَإِنَّ التَّمَنِّي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إلَى الْكَسَلِ بِخِلَافِ الرَّجَاءِ فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الْقَلْبِ بِمَحْبُوبٍ يَحْصُلُ حَالًا قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّجَاءُ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ دُونَ التَّمَنِّي (فَالْهَوَى مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ مِنْ بَابِ عَلِمَ أَيْ أَحَبَّهُ وَاشْتَهَاهُ) وَفِي الْقَامُوسِ الْهَوَى بِالْقَصْرِ الْعِشْقُ فِي الْخَيْرِ أَوْ الشَّرِّ وَإِرَادَةُ النَّفْسِ وَفِي الصِّحَاحِ هُوَ بِالْقَصْرِ هَوَى النَّفْسِ وَالْجَمْعُ الْأَهْوَاءُ وَهَوِيَ بِالْكَسْرِ يَهْوِي هَوًى إذَا أَحَبَّ (وَالنَّفْسُ بِالطَّبْعِ) يَعْنِي إذَا خُلِّيَتْ عَنْ الْمَوَانِعِ الْخَارِجَةِ وَطَبْعِهَا (مَيَّالَةٌ إلَى الشَّرِّ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) بِمَا يَضُرُّ صَاحِبَهَا مِنْ تَشَهِّي مَا لَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ تَعَالَى اقْتِبَاسٌ وَإِشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: عَنْ بَعْضٍ إذَا هَمَّتْ النَّفْسُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ انْبَعَثَتْ لِشَهْوَةٍ لَوْ تَشَفَّعْت إلَيْهَا بِاَللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ بِرَسُولِهِ وَبِجَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِجَمِيعِ السَّلَفِ وَتُعْرِضُ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَالْقَبْرَ وَالْقِيَامَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ لَا تُعْطِي الِانْقِيَادَ وَلَا تَتْرُكُ الشَّهْوَةَ ثُمَّ اسْتَقْبَلْتهَا بِمَنْعِ رَغِيفٍ تَسْكُنُ وَتَتْرُكُ شَهْوَتَهَا (فَاتِّبَاعُ هَوَاهَا يُرْدِي) مِنْ الرَّدَى (وَيُهْلِكُ) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (لَا مَحَالَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ أَلْبَتَّةَ فَالْعَاقِلُ يُتَّهَمُ عَلَى مُخَالَفَةِ كُلِّ مَا تَمِيلُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ الْبُوصِيرِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ
وَخَالِفْ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا
…
وَإِنْ هُمَا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمْ
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَدُورُ مَا فِي الْمِنْهَاجِ عَنْ بَعْضٍ يُقَالُ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ أَرْقَمَ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ نَازَعَتْنِي نَفْسِي بِالْخُرُوجِ إلَى الْغَزْوِ فَقُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]- وَهَذِهِ تَأْمُرُنِي بِالْخَيْرَاتِ
قُلْت مُرَادُهَا الْخَلَاصُ مِنْ حَبْسِ الْوَحْدَةِ فَتَصِلُ إلَى الْخُلْطَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ بِالْأُلْفَةِ وَإِكْرَامِ الْخَلْقِ فَقُلْت لَهَا لَا أُنْزِلُك الْعُمْرَانَ أَبَدًا وَلَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَحَدٍ فَأَجَابَتْ أَسَأْت الظَّنَّ وَقُلْت اللَّهُ أَصْدَقُ فَقُلْت أُقَاتِلُ الْعَدُوَّ مُقَدَّمًا عَلَى الْكُلِّ فَتُقْتَلُ فَأَجَابَتْ ثُمَّ عَدَّدْت أَشْيَاءَ فَأَجَابَتْ لِكُلٍّ ثُمَّ قُلْت يَا رَبِّ نَبِّهْنِي بِهَا، فَإِنِّي مُتَّهِمٌ لَهَا فَكُوشِفْت كَأَنَّ النَّفْسَ تَقُولُ يَا أَحْمَدُ أَنْتَ تَقْتُلُنِي كُلَّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ بِمَنْعِ شَهَوَاتِي وَبِمُخَالَفَةِ مُيُولَاتِي فَإِنْ قَاتَلْت قُتِلَتْ أَنَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَنَجَوْت مِنْ قَتَلَاتِكَ وَيَتَسَامَعُ النَّاسُ شَهَادَتِي فَيَكُونُ لِي ذِكْرًا وَشَرَفًا قَالَ فَقَعَدْت وَلَمْ أَخْرُجْ إلَى الْغَزْوِ فَانْظُرْ إلَى خِدَاعِهَا تَرْضَى إيقَاعَ نَفْسِهَا فِي التَّهْلُكَةِ بِمُجَرَّدِ رِيَاءٍ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ
تَوَقَّ نَفْسَك لَا تَأْمَنْ غَوَائِلَهَا
…
فَالنَّفْسُ أَخْبَثُ مِنْ سَبْعِينَ شَيْطَانَا
(أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُبَاحَاتِ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ (فَظَاهِرٌ) إرْدَاؤُهُ وَإِهْلَاكُهُ مِنْ الْعِقَابِ وَالْعِتَابِ
وَاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ (وَأَمَّا فِيهَا) فِي الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَاتِ (فَبَعْدَ كَوْنِهِ) أَيْ الْهَوَى (صِفَةً بَهِيمِيَّةً) مِنْ صِفَاتِ الْبَهَائِمِ مِنْ الرَّتْعِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ الشُّكْرِ (وَرُكُونًا) مَيْلًا (إلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ) الْخَسِيسَةِ حَتَّى لَا تَعْدِلَ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (وَشُغْلًا شَاغِلًا عَنْ الطَّاعَةِ وَزَادِ الْآخِرَةِ) كَالتَّقْوَى فَإِنَّهَا خَيْرُ الزَّادِ (مُفْضٍ إلَى الْمَحْظُورِ) الْمَمْنُوعِ كَالْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ إذَا شَبِعَتْ بِالْمُبَاحَاتِ تُشَجِّعُ عَلَى الْمَمْنُوعَاتِ (وَجَارٌّ) بِالتَّشْدِيدِ مِنْ الْجَرِّ بِمَعْنَى الْجَذْبِ (إلَى الشُّرُورِ وَمُؤَدٍّ إلَى الْفُجُورِ) مِنْ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ (وَحِمًى) مِنْ حَمَيْته حِمَايَةً أَيْ دَفَعْت عَنْهُ وَهَذَا شَيْءٌ حِمًى عَلَى فَعَلٌ أَيْ مَحْظُورٌ لَا يُقْرَبُ وَأَحْمَيْت الْمَكَانَ جَعَلْته حِمًى وَفِي الْحَدِيثِ «لَا حِمَى إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» نَقَلَ عَنْ الصِّحَاحِ (لِلْحَرَامِ) كَمَا فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْله تَعَالَى {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81]
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ اسْتَجَرَّهُ إلَى مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ وَالِانْهِمَاكِ فِيهِ وَارْتِكَابِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ حَتَّى تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الذُّنُوبُ وَتَأْخُذَ بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ فَيَصِيرَ بِطَبْعِهِ مَائِلًا إلَى الْمَعَاصِي مُسْتَحْسِنًا إيَّاهَا مُعْتَقِدًا أَنْ لَا لَذَّةَ سِوَاهَا مُبْغِضًا لِمَنْ يَمْنَعُهُ عَنْهَا مُكَذِّبًا لِمَنْ يَنْصَحُهُ فِيهَا (وَمَأْوًى) مَرْجِعًا (لِلْآلَامِ) مِنْ الْأَلَمِ (وَالْآثَامِ) مِنْ الْإِثْمِ (وَصَاحِبُهُ) صَاحِبُ هَوَى النَّفْسِ فِي الْمُبَاحَاتِ (خَسِيسٌ دَنِيءٌ) أَيْ خَبِيثُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ مَاجِنٌ كَمَا نَقَلَ عَنْ الْقَامُوسِ (لَئِيمٌ) مِنْ اللُّؤْمِ ضِدُّ الْكَرَمِ (رَذِيلٌ بَلْ هُوَ خِنْزِيرُ الشَّهْوَةِ) أَيْ شَهْوَتُهُ الَّتِي هِيَ كَشَهْوَةِ الْخِنْزِيرِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ كَلُجَيْنِ الْمَاءِ أَوْ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ مِنْ قَبِيلِ زَيْدٌ أَسَدٌ (خَادِمٌ مُطِيعٌ وَعَبْدٌ ذَلِيلٌ وَأَنْشَدُوا) أَيْ الْعُلَمَاءُ (نُونُ الْهَوَانِ) بِمَعْنَى الذُّلِّ وَالْحَقَارَةِ (مِنْ الْهَوَى مَسْرُوقَةٌ) أَيْ أَصْلُ الْهَوَى الْهَوَانُ فَأُخِذَتْ النُّونُ مِنْهُ وَوُضِعَتْ فِي الْهَوَانِ (فَصَرِيعُ كُلِّ هَوًى) أَيْ مَصْرُوعُ كُلِّ هَوَى النَّفْسِ (صَرِيعُ هَوَانٍ) مَصْرُوعُ ذِلَّةٍ وَحَقَارَةٍ فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْهَوَى يَغْلِبْ عَلَيْهِ الْهَوَانُ وَالذِّلَّةُ فَيَصِيرُ مُسْتَقْبَحًا وَمُسْتَنْكَرًا؛ وَلِأَنَّهُ أَسِيرٌ وَشَأْنُ الْأَسِيرِ مُهَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَعَلَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ التَّعَمُّقِ وَعِنْدَ تَجَرُّدِهِ لِتَلَذُّذِ النَّفْسِ كَمَا يُقَالُ إنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْمُبَاحَاتِ قَدْ يَنْقَلِبُ صَغِيرَةً وَإِلَّا فَبِالنِّيَّةِ الْحَمِيدَةِ يَكُونُ الْمُبَاحُ حَسَنَةً مُثَابًا بِهِ.
(وَمُقَابِلُهُ) أَيْ خِلَافُ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَضِدُّهُ (الْمُجَاهَدَةُ، وَهِيَ فَطْمُ النَّفْسِ) أَيْ قَطْعُهَا (عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ) أَيْ مَا اعْتَادَتْ عَلَيْهِ وَاسْتَلَذَّتْ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ (وَحَمْلُهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَهِيَ بِضَاعَةُ الْعُبَّادِ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ جَمْعُ عَابِدٍ يَعْنِي مَالَهُمْ الَّذِي يَتَّجِرُونَ بِهِ فَيَكْتَسِبُونَ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَرَأْسُ مَالِ الزُّهَّادِ) جَمْعُ زَاهِدٍ أَيْ الْمُعْرِضُ بِقَلْبِهِ عَنْ الدُّنْيَا (وَمَدَارُ
صَلَاحِ النُّفُوسِ وَتَذْلِيلِهَا) جَعْلِهَا ذَلِيلَةً وَحَقِيرَةً (وَمَلَاكُ) أَيْ مَا يَقُومُ بِهِ (تَقْوِيَةِ الْأَرْوَاحِ) ؛ لِأَنَّ الْمُجَاهَدَةَ شَيْءٌ تَتَقَوَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ فَتَسْتَعِدُّ لِلْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ بِالتَّخَلُّصِ عَنْ ظُلُمَاتِ الْأَشْبَاحِ (وَتَصْفِيَتِهَا) مِنْ أَكْدَارِ الطَّبِيعَةِ الْهَيُولَانِيَّةِ وَأَوْسَاخِ الْمَوَادِّ الْجُسْمَانِيَّةِ وَعَوَائِقِ الْمَلَكَاتِ الرَّدِيَّةِ (وَوُصُولِهَا) إلَى الْمُكَاشَفَاتِ اللَّاهُوتِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ أَوْ إلَى لِقَائِهِ عز وجل قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ مَنْ زَيَّنَ ظَاهِرَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ حَسَّنَ اللَّهُ تَعَالَى سَرَائِرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ
وَعَنْ السَّرِيِّ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جِدُّوا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغُوا مَبْلَغِي فَتَضْعُفُوا وَتُقَصِّرُوا كَمَا قَصَّرْت وَقَدْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ أَحَدٌ مِنْ الشَّبَابِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا بِالْفَاقَةِ وَلَا يَنَامَ إلَّا عِنْدَ الْغَلَبَةِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ لَنْ يَنَالَ الرَّجُلُ دَرَجَةَ الصَّالِحِينَ حَتَّى يَجُوزَ سِتَّ عَقَبَاتٍ يُغْلِقُ بَابَ النِّعْمَةِ وَيَفْتَحُ بَابَ الشِّدَّةِ يُغْلِقُ بَابَ الْعِزِّ وَيَفْتَحُ بَابَ الذُّلِّ يُغْلِقُ بَابَ الرَّاحَةِ وَيَفْتَحُ بَابَ الْجَهْدِ يُغْلِقُ بَابَ النَّوْمِ وَيَفْتَحُ بَابَ السَّهَرِ وَيُغْلِقُ بَابَ الْغِنَى وَيَفْتَحُ بَابَ الْفَقْرِ يُغْلِقُ بَابَ الْأَمَلِ وَيَفْتَحُ بَابَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّفْسِ صِفَتَيْنِ انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ فَإِذَا جَمَحَتْ عِنْدَ رُكُوبِ الْهَوَى يَجِبُ كَبْحُهَا بِلِجَامِ التَّقْوَى وَإِذَا حَرَنَتْ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْمُوَافَقَاتِ يَجِبُ سَوْقُهَا بِسَوْطِ خِلَافِ الْهَوَى وَجَهْدُ الْعَوَامّ فِي تَوْفِيَةِ الْأَعْمَالِ وَقَصْدُ الْخَوَاصِّ إلَى تَصْفِيَةِ الْأَحْوَالِ وَعَنْ بَعْضٍ قَالَ حَجَجْت كَذَا كَذَا حَجَّةً فَبَانَ لِي أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَشُوبٌ بِحَظِّي وَذَلِكَ أَنَّ وَالِدَتِي سَأَلَتْنِي يَوْمًا أَنْ أَسْتَقِيَ لَهَا جَرَّةَ مَاءٍ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِي فَعَلِمْت أَنَّ مُطَاوَعَةَ نَفْسِي فِي الْحَجَّاتِ كَانَتْ لِحَظٍّ وَشَرَفٍ لِنَفْسِي إذْ لَوْ كَانَتْ نَفْسِي عَلَى خُلُوصٍ لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهَا مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الرَّاحَةُ هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ أَمَانِي النَّفْسِ وَعَنْ بَعْضٍ الْآفَةُ مِنْ ثَلَاثٍ سَقَمُ الطَّبِيعَةِ أَيْ أَكْلُ الْحَرَامِ وَمُلَازَمَةُ الْعَادَةِ أَيْ النَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْحَرَامِ وَفَسَادُ الصُّحْبَةِ أَيْ تَبَعِيَّةُ كُلِّ شَهْوَةٍ لِلنَّفْسِ وَعَنْ بَعْضٍ لَا يَرَى أَحَدٌ عَيْبَ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُسْتَحْسِنٌ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ مَنْ يَتَّهِمُهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَعَنْ السَّرِيِّ إيَّاكُمْ وَجِيرَانَ الْأَغْنِيَاءِ وَقُرَّاءَ الْأَسْوَاقِ وَعُلَمَاءَ الْأُمَرَاءِ وَعَنْ ذِي النُّونِ إنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ أَوَّلُهَا ضَعْفُ النِّيَّةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً لِشَهَوَاتِهِمْ ثَانِيهَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ طُولُ الْأَمَلِ مَعَ قُرْبِ الْأَجَلِ ثَالِثُهَا آثَرُوا رِضَا الْمَخْلُوقِينَ عَلَى رِضَا الْخَالِقِ رَابِعُهَا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ خَامِسُهَا وَنَبَذُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ سَادِسُهَا جَعَلُوا زَلَّاتِ السَّلَفِ حُجَّةَ أَنْفُسِهِمْ وَدَفَنُوا كَثِيرَ مَنَاقِبِهِمْ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ إذَا عَرَفْت حَالَ النَّفْسِ مِنْ أَنَّ الْخِزْيَ وَالْبُؤْسَ فِي مُوَافَقَتِهَا وَالْعِزَّ وَالشَّرَفَ وَالرِّفْعَةَ فِي مُخَالَفَتِهَا (فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ) مِنْ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ الْفَانِيَةِ إلَى الْآخِرَةِ الْفَاخِرَةِ الْبَاقِيَةِ أَوْ السَّالِكُ مِنْ كَدُورَاتِ عَالَمِ الرِّجْسِ وَالزُّورِ إلَى مَعَالِي عَيَالِمِ الْقُدْسِ وَالنُّورِ (بِالتَّشَمُّرِ) السَّعْيِ الْبَلِيغِ وَالْجَدِّ التَّامِّ (فِي مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ الْهَوَى) وَلَوْ بِالْحِيَلِ وَالرِّيَاضَاتِ وَتَكْلِيفِ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ (وَحَمْلِهَا عَلَى الْمُجَاهَدَةِ) عَلَى مَا ذُكِرَ مَتْنًا وَشَرْحًا حَتَّى تَنْقَادَ لَك فِيمَا أَمَرْت بِهِ (إنْ شِئْت مِنْ اللَّهِ الْهُدَى) فَمَنْ كَانَ مُرَادُهُ الْهِدَايَةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَصِّلَ الْمُجَاهَدَةَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُجَاهَدَةَ عِلَّةً عَادِيَةً لِهِدَايَتِهِ كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] طُرُقَنَا الْمُوَصِّلَةَ إلَيْنَا، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ سَبِيلِ السَّيْرِ إلَيْنَا وَالْوُصُولِ إلَى جَنَابِنَا أَوْ لَنَزِيدَنَّهُمْ هِدَايَةً إلَى سُبُلِ الْخَيْرِ وَتَوْفِيقًا إلَى سُلُوكِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ جَاهَدَ} [العنكبوت: 6] نَفْسَهُ عَنْ مِحَنِ الطَّاعَاتِ وَمَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمُيُولَاتِ وَالشَّهَوَاتِ {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لَهَا {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَاتُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ بِيَدِهِ مَلَكُوتِ الْقُلُوبِ وَالنَّوَاصِي وَلَمَّا أَفَادَ مَا تَقَدَّمَ مَذْمُومِيَّةَ الْمُبَاحَاتِ مُطْلَقًا
وَقَدْ كَانَ نَوْعٌ مِنْهَا غَيْرَ مَذْمُومٍ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ فَقَالَ (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَذْمُومَ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ الْإِصْرَارُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْمُبَاحَاتِ (إذْ طَبْعُ الْبَشَرِ لَا يَتَحَمَّلُ الْمُخَالَفَةَ الْكُلِّيَّةَ) بِحَيْثُ لَا يَبْقَى حَظُّ نَفْسٍ فِي شَيْءٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْبَشَرِيَّةِ وَالْتِحَاقٌ بِالْمَلَكِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَدُومُ لِلْبَشَرِ وَمُمْتَنِعٌ لِإِفْسَادِهِ الْبِنْيَةَ الْعُنْصُرِيَّةَ الْمَادِّيَّةَ فَلَا تَكْلِيفَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِمَّا لَا يُطَاقُ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَفْسُك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا» (وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْغُلُوِّ) تَجَاوُزِ الْحَدِّ (وَالْإِفْرَاطِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77] (وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الِاقْتِصَادِ أَنَّهُ) أَيْ الْغُلُوَّ (مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْمَلَالَةَ وَالسَّآمَةَ) أَيْ التَّكَاسُلَ وَالتَّقْصِيرَ (الْمُؤَدِّيَةَ) بَعْدَ ذَلِكَ (إلَى عَدَمِ الْمُدَاوَمَةِ الْمَذْمُومِ جِدًّا) قَطْعًا وَقَوِيًّا (فِي الْعِبَادَةِ) لَعَلَّهُ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ إذْ يَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الْعَوَامّ وَفِي حَالِ الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا فِي الْخَوَاصِّ وَحَالِ الِانْتِهَاءِ فَلَا يَبْعُدُ وُجُودُهُ (وَلِذَا) لِقُبْحِ الْمَلَلِ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ» الصَّالِحَةِ «مَا تُطِيقُونَهُ» أَيْ تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَا مَشَقَّةٍ «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ» أَيْ لَا يَعْرِضُ عَنْكُمْ إعْرَاضَ الْمَلُولِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ لَا يَقْطَعُ الثَّوَابَ وَالرَّحْمَةَ عَنْكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطُ الطَّاعَةِ أَوْ لَا يَتْرُكُ فَضْلَهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا سُؤَالَهُ ذَكَرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِلِازْدِوَاجِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وَإِلَّا فَالْمَلَالُ فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ شَيْءٍ فَيُورِثُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى «حَتَّى تَمَلُّوا» بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَيْ تَقْطَعُوا أَعْمَالَكُمْ أَوْ تُقَلِّلُوا مِنْهَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - رَاوِيَةُ هَذَا الْحَدِيثِ ذُكِرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ ثُوَيْبٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ فَذَكَرَهُ «وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ» وَاظَبَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ «، وَإِنْ قَلَّ» وَالظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَالْوَاقِعُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَأْلَفُهُ فَيَدُومُ بِسَبَبِهِ الْإِقْبَالُ عَلَى الْحَقِّ تَقَدَّسَ؛ وَلِأَنَّ تَارِكَ الْعَمَلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَالْمُعْرِضِ بَعْدَ الْوَصْلِ؛ وَلِأَنَّ الْمُوَاظِبَ مُلَازِمٌ لِلْخِدْمَةِ وَلَيْسَ مَنْ لَازَمَ الْبَابَ كَمَنْ جَدَّ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ الْأَعْتَابِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَنْجَابِ لَا تَقْطَعْ الْخِدْمَةَ، وَإِنْ ظَهَرَ لَك عَدَمُ الْقَبُولِ وَكَفَى بِك شَرَفًا أَنْ يُقِيمَك فِي خِدْمَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُدَاوِمَ يَدُومُ لَهُ الْإِمْدَادُ مِنْ حَضْرَةِ رَبِّ الْعِبَادِ وَلِذَلِكَ شَدَّدَ الصُّوفِيَّةُ النَّكِيرَ عَلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ وَفِيهِ فَضِيلَةُ الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ وَرَأْفَةُ الْمُصْطَفَى بِأُمَّتِهِ حَيْثُ أَرْشَدَهُمْ إلَى مَا يُصْلِحُهُمْ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ فِيهِ أَنْشَطُ وَبِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْحُضُورُ هَذَا عُصَارَةُ مَا قِيلَ فِي تَوْجِيهِ الدَّوَامِ وَأَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّوَامِ التَّرَفُّقُ بِالنَّفْسِ وَتَدَرُّبُهَا بِالتَّعَبُّدِ لِئَلَّا تَضْجَرَ فَيَكُونَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ لِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا (خَرَّجَهُ) هَذَا الْحَدِيثَ (خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ بِلَا ضَرَرٍ «فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَسْأَمُوا» يَعْنِي اعْمَلُوا بِحَسَبِ
وُسْعِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْرِضُ عَنْكُمْ إعْرَاضَ الْمَلُولِ وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطٌ، فَإِذَا سَئِمْتُمْ فَاقْعُدُوا، فَإِنَّكُمْ إذَا مَلَلْتُمْ مِنْ الْعِبَادَةِ وَأَتَيْتُمْ بِهَا عَلَى كَلَالَةٍ كَانَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ مَعَكُمْ مُعَامَلَةَ الْمَلُولِ مِنْكُمْ ذَكَرَهُ الْمُنَاوِيُّ لَكِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الطَّبَرَانِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ «خُذُوا مِنْ الْعِبَادَةِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا» قَالَ الشَّارِحُ عَنْ الْهَيْثَمِيِّ فِيهِ بِشْرُ بْنُ نُمَيْرٍ ضَعِيفٌ (وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ) مَوْقُوفٌ فَإِمَّا حَدِيثٌ مَحْذُوفُ الْإِسْنَادِ أَوْ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «رَوِّحُوا» مِنْ التَّرْوِيحِ بِمَعْنَى النَّشَاطِ «الْقُلُوبَ» بِإِزَاحَةِ الْكَدِّ كُلَّ آنٍ عَنْ مُكَابَدَةِ الْعِبَادَاتِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فَسَاعَةٌ لِلذِّكْرِ وَسَاعَةٌ لِلِاسْتِرَاحَةِ «فَإِنَّهَا» أَيْ الْقُلُوبَ «إذَا أُكْرِهَتْ» جُبِرَتْ عَلَى الْأَعْمَالِ «عَيَتْ» تَعِبَتْ وَأَعْرَضَتْ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً فَسَاعَةً» فَقَالَ شَارِحُهُ أَيْ أَرِيحُوهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِمُبَاحٍ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إنِّي لَأَجُمُّ فُؤَادِي بِبَعْضِ الْبَاطِلِ أَيْ اللَّهْوِ الْجَائِزِ لِأَنْشَطَ لِلْحَقِّ «وَذُكِرَ عِنْدَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنُ وَالشِّعْرُ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ أَقُرْآنٌ وَشِعْرٌ فَقَالَ نَعَمْ سَاعَةٌ هَذَا وَسَاعَةٌ ذَلِكَ» وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: وَأَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ أَيْ تَكِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّمَا «ذَكَرَ الْمُصْطَفَى ذَلِكَ لِأُولَئِكَ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ اسْتَوْلَتْ هُمُومُ الْآخِرَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَخَشِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَحْتَرِقَ» وَقَالَ الْحَكِيمُ: فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الذِّكْرُ الْمَنْهَلُ لِلنُّفُوسِ إنَّمَا يَدُومُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا اُنْتُفِعَ بِالْعَيْشِ وَالنَّاسُ فِي الذِّكْرِ طَبَقَاتٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ لَهُ ذِكْرُهُ فِي وَقْتِ الذِّكْرِ ثُمَّ تَعْلُوهُ غَفْلَةٌ حَتَّى يَقَعَ فِي التَّخْلِيطِ، وَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ لَهُ ذِكْرُهُ فِي وَقْتِ الذِّكْرِ ثُمَّ تَعْلُوهُ مَعْرِفَتُهُ بِسَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ عِبَادَهُ فَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ فَيَصِلُ إلَى مُعَايَنَتِهِ، وَهُوَ الْمُقْتَصِدُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْيَقِينِ وَهُمْ السَّابِقُونَ، فَقَدْ جَاوَزُوا هَذِهِ الْخُطَّةَ، وَلَهُمْ دَرَجَاتٌ قَالَ وَقَوْلُهُ سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ أَيْ سَاعَةٌ لِلذِّكْرِ وَسَاعَةٌ لِلنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا حُجِبَ عَنْ احْتِمَالِ مَا يَحِلُّ بِهِ يَحْتَاجُ إلَى مِزَاحٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام لَمَّا سَارَ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا مَا غَشَّى وَأَشْرَقَ النُّورُ حَالَ دُونَهُ فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَتَحَوَّلَتْ السِّدْرَةُ زَبَرْجَدًا وَيَاقُوتًا فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ بَصَرُهُ لِلنُّورِ عُورِضَ بِذَلِكَ مِزَاحًا لِيَسْتَقِرَّ كَأَنَّهُ شَغَلَ قَلْبَهُ بِهَذَا الْمِزَاحِ عَمَّا رَأَى لِئَلَّا يَنْفِرَ، وَلَا يَجِدَ قَرَارًا انْتَهَى (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نَفْسِي) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الِاسْتِرَاحَةِ (بِاللَّهْوِ) أَيْ بِمَا تَتَلَهَّى بِهِ النَّفْسُ مِمَّا يُسْتَلَذُّ بِهِ الظَّاهِرُ الْمُبَاحُ كَالْمِزَاحِ (لِيَكُونَ عَوْنًا لِي عَلَى الْحَقِّ) بِالنَّشَاطِ وَالْإِقْدَامِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيَنْبَغِي تَرْوِيحُ الذِّهْنِ بِنَحْوِ شِعْرٍ أَوْ حِكَايَاتٍ عِنْدَ جُمُودِ الذِّهْنِ وَوُقُوفِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إنْسَانٌ عَلَى مُكَابَدَةِ ذِهْنِهِ عَلَى الْفَهْمِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَشَدُّ نُفُورًا وَأَبْعَدُ قَبُولًا وَفِي الْأَثَرِ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ فَيُدْفَعُ بِتَرْوِيحِهِ
وَلَيْسَ بِمُغَنٍّ فِي الْمَوَدَّةِ شَافِعٌ
…
إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الضُّلُوعِ شَفِيعُ
فَإِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ تَنَافُرًا كَتَنَافُرِ الْوَحْشِ فَتَأَلَّفُوهَا بِالِاقْتِصَادِ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّوَسُّطِ فِي التَّقْوِيمِ لِتَحْسُنَ طَاعَتُهَا وَيَدُومَ نَشَاطُهَا وَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْعَبْدِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ سَاعَةٌ يُنَاجِي رَبَّهُ وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ وَسَاعَةٌ لِلَّذَّةِ نَفْسِهِ فِيمَا يَحِلُّ (فَحِينَئِذٍ) حِينَ كَوْنِ تَرْوِيحِ النَّفْسِ مَطْلُوبًا (لَا بُدَّ أَحْيَانَا أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ الْمُبَاحَاتِ اسْتِرَاحَةً مِنْ التَّعَبِ) الْحَاصِلِ مِنْ حَمْلِ مَشَاقِّ التَّكْلِيفِ (وَتَحَرُّزًا عَنْ السَّآمَةِ) الْمَلَلِ وَالْكَسَلِ (وَتَحْرِيكًا لِلنَّشَاطِ عَلَى الْعِبَادِ فَلِذَا) أَيْ لِلُزُومِ تَنَاوُلِ الْمُشْتَهَيَاتِ