الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا عَتَبَ وَحَلَفَ وَاسْتَحْلَفَ وَمَضَى فِي يَمِينِهِ تَارَةً وَكَفَّرَ أُخْرَى وَمَازَحَ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا حَقًّا وَهُوَ الْقُدْوَةُ وَالْأُسْوَةُ» (وَالتَّجَنُّبُ) مِنْ الِاجْتِنَابِ (مِنْهُ) مِمَّا ذُكِرَ مِثْلُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهُمْ (وَالتَّأَنُّفُ) أَيْ الْعَارُ (عَنْهُ كِبْرٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَبَّارِينَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِجَهْلِهِمْ) أَوْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ عُلُومِهِمْ (يَعْكِسُونَ الْأَمْرَ) فَيُسَمُّونَ التَّوَاضُعَ ذُلًّا وَعَكْسَهُ تَوَاضُعًا، وَهَذَا لَيْسَ إلَّا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ أَنْ يَرْزُقَنَا مُتَابَعَةَ نَبِيِّنَا جِنَانًا وَأَرْكَانًا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ فِي الدِّينِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ.
[الْمَبْحَثُ الثَّانِي مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ]
(الْمَبْحَثُ الثَّانِي) مِنْ الْخَمْسَةِ لِلْكِبْرِ (فِي أَقْسَامِ الْكِبْرِ) صِفَةٌ مَذْمُومَةٌ (وَالتَّكَبُّرِ) إظْهَارِ تِلْكَ الصِّفَةِ لِلْغَيْرِ وَقِيلَ التَّكَلُّفُ وَالتَّطَبُّعُ بِهِ (وَآفَاتِهِمَا فَمِنْهُ) أَيْ مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ لَكِنْ فِي التَّفْرِيعِ حِينَئِذٍ خَفَاءٌ وَأَمَّا الْإِرْجَاعُ إلَى الْآفَاتِ أَوْ الْأَقْسَامِ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ التَّعْرِيفِ حِينَئِذٍ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الرَّاجِعِ وَالْمُرْجَعِ، وَالْأَوْجَهُ الْمَبْحَثُ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأَقْسَامِ وَفِي ضِمْنِهَا الْأَحْكَامُ وَالْآفَاتُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْعِلَاجُ الْإِجْمَالِيُّ لَا التَّفْصِيلِيُّ فَالْمَحْذُورُ فِي التَّفْصِيلِيِّ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ مُصَرَّحٍ، وَالْمُصَرَّحُ الْإِجْمَالِيُّ وَلَيْسَ بِمَحْذُورٍ (يُعْرَفُ الْعِلَاجُ) لِلْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ (الْجُمَلِيُّ) الْإِجْمَالِيُّ (قَدْ عَرَفْت) مِنْ تَعْرِيفِ التَّكَبُّرِ فِي الْمَبْحَثِ الْأَوَّلِ (أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ مِنْ مُتَكَبَّرٍ عَلَيْهِ وَهُوَ) أَيْ الْمُتَكَبَّرُ عَلَيْهِ (إمَّا اللَّهُ تَعَالَى) وَإِمَّا رَسُولُ اللَّهِ وَإِمَّا سَائِرُ الْخَلْقِ (وَهُوَ) أَيْ مَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ) أَشَدُّهَا فُحْشًا؛ لِأَنَّهُ تَكَبُّرُ الْمَمْلُوكِ الْحَقِيقِيِّ الْعَاجِزِ عَلَى السَّيِّدِ الْحَقِيقِيِّ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَوْ لِكَوْنِ فَضَاحَتِهِ وَمَلَامَتِهِ وَاضِحَةً أَوْ لِكَوْنِ جَزَائِهِ وَعُقُوبَتِهِ أَعْظَمَ (مِثْلُ نُمْرُودَ) مُدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ فَأُرْسِلَ إلَيْهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَهَمَّ بِإِحْرَاقِهِ (حَيْثُ حَدَّثَ نَفْسَهُ) عَزَمَ وَهَمَّ فِي قَلْبِهِ (أَنْ يُقَاتِلَ رَبَّ السَّمَاءِ عز وجل فَاتَّخَذَ النُّسُورَ وَطَارَ بِهَا فِي جَوِّ السَّمَاءِ فَرَمَى السِّهَامَ نَحْوَ السَّمَاءِ فَعَادَتْ إلَيْهِ بِالدَّمِ فَظَنَّ أَنَّهُ قَتَلَ رَبَّ السَّمَاءِ ثُمَّ رَكِبَ بِسَبْعِمِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَقَالَ يَا إبْرَاهِيمُ إنْ كَانَ لِرَبِّك مُلْكٌ فَلْيُرْسِلْ عَسْكَرًا وَلْيُحَارِبْ مَعِي فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى جُنْدَ الْبَعُوضَةِ فَأَهْلَكَتْهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ التَّفَاسِيرِ (وَمِثْلُ فِرْعَوْنَ) مُدَّعِي الْأُلُوهِيَّةِ (حَيْثُ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى) عَلَى كُلِّ مَنْ يَلِي أَمْرَكُمْ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ مُوسَى فَكَذَّبَهُ فَأَغْرَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَحْرِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَدَّعِي ذَلِكَ وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَالِقٍ لِلْعَالَمِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَفَضَاحَةُ مُدَّعِيهِ ظَاهِرَةٌ لِوُضُوحِ كَذِبِهِ قُلْنَا أُجِيبُ أَنَّهُ دَهْرِيٌّ مُنْكِرٌ لِصَانِعِ الْعَالَمِ وَالْبَعْثِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُحْسِنُ وَالْمُرَبِّي الْمُنْعِمُ إلَيْكُمْ لَا غَيْرُ وَقِيلَ إنَّمَا قَوْلُهُ ذَلِكَ لِحِيرَتِهِ وَدَهْشَتِهِ مِنْ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً
عَظِيمَةً وَظُهُورِ عَجْزِهِ وَضَعْفِهِ كَانَ كَمَسْلُوبِ الْعَقْلِ فَقَالَ مَا قَالَ (وَإِمَّا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إمَّا الْمُتَكَبَّرُ عَلَيْهِ (رَسُولُهُ) أَيَّ رَسُولٍ كَانَ (عليه الصلاة والسلام كَبَعْضِ الْكَفَرَةِ حَيْثُ قَالُوا) اسْتِهْزَاءً {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا} [الفرقان: 41] الْإِشَارَةُ لِلتَّحْقِيرِ وَقَالُوا أَيْضًا {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} [الزخرف: 31] أَيْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقِيلَ الطَّائِفُ بَدَلَ الْمَدِينَةِ {عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] بِالْجَاهِ وَالْمَالِ عَنْ الْوَاحِدِيِّ يُرِيدُونَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ مِنْ الطَّائِفِ (وَأَمَّا سَائِرُ الْخَلْقِ) غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ أَكْثَرُ الْخَلْقِ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِينَ فَأَيْضًا عَظِيمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكِبْرَ وَالْعَظَمَةَ لَا يَلِيقُ إلَّا بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ الْعَاجِزُ فَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِهِ الْكِبْرُ فَمَهْمَا تَكَبَّرَ الْعَبْدُ نَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ، الثَّانِي أَنَّهُ يَدْعُو إلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ إذَا سَمِعَ الْحَقَّ مِنْ عَبْدٍ اسْتَنْكَفَ مِنْ قَبُولِهِ وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ وَذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْكَافِرِينَ.
(وَغَائِلَةُ الْكِبْرِ وَالتَّكَبُّرِ مُنَازَعَةُ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ) فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْكِبْرِ كُفْرًا مُطْلَقًا قُلْنَا هَذَا لَيْسَ بِصَدَدِهِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ فِي الْتِزَامِهِ، وَالِالْتِزَامُ غَيْرُ اللُّزُومِ وَالْكُفْرُ هُوَ الْأَوَّلُ فَإِنْ قِيلَ بِكُفْرِ الثَّانِي أَيْضًا كَمَا فِي الْخَيَالِيِّ وَلَوْ سَلِمَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اللُّزُومِ الْبَيِّنِ وَالْغَيْرِ الْبَيِّنِ وَيُدَّعَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ بَيِّنِ وَالْكُفْرُ مَا يَكُونُ بَيِّنًا فَالْحَمْلُ حِينَئِذٍ حَمْلُ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ (الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) ضَرًّا وَنَفْعًا إذْ الْأَمْرُ (لِلَّهِ الْمَلِكِ الْمَالِكِ) فِي مُقَابَلَةِ الْمَمْلُوكِ (الْقَهَّارِ الْقَادِرِ) فِي مُقَابَلَةِ الْعَاجِزِ (الْقَوِيِّ) فِي مُقَابَلَةِ الضَّعِيفِ فَقِيلَ فِي الْعِبَارَةِ طِبَاقٌ وَتَلْمِيحٌ لِأَثَرِ «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ» (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ تَعَالَى) وَهِيَ الْكِبْرِيَاءُ (وَ) غَائِلَتُهُمَا (التَّأْدِيَةُ) الْوَصْلَةُ (إلَى مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ كَإِبْلِيسَ {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] وَظَنَّ اللَّعِينُ أَنَّ النَّارَ لِارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا وَسُرْعَةِ انْتِقَالِهَا وَضِيَائِهَا أَفْضَلُ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَجَهِلَ كَوْنَ الطَّهَارَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِهِمَا فِي الْأَنْجَاسِ وَالْأَحْدَاثِ وَأَنَّ الْفَضْلَ لَيْسَ إلَّا فِي التَّوَاضُعِ كَالتُّرَابِ لَا فِي التَّعَلِّي وَالرِّفْعَةِ
وَتَفْصِيلُهُ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ تَفْسِيرِ بَحْرِ الدُّرَرِ إجْمَالًا أَنَّهُ عِنْدَ ادِّعَاءِ اللَّعِينِ بِهَذَا جَاءَ نِدَاءٌ مِنْ جَانِبِ الْحِكْمَةِ يَا لَعِينُ حَالُ النَّارِ الِاضْطِرَابُ دَائِمًا وَحَالُ التُّرَابِ السُّكُونُ وَأَهْلُ السُّكُونِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ الِاضْطِرَابِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ مَسَاكِنُ طَيِّبَةٌ وَتُرَابَهَا مِسْكٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَارٌ وَأَنَّ النَّارَ هِيَ مَحَلُّ تَعْذِيبِ الْأَعْدَاءِ وَأَنَّ النَّارَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التُّرَابِ فِي التَّمَكُّنِ دُونَ التُّرَابِ
إلَى النَّارِ وَالنَّارُ سَبَبُ خَرَابٍ وَالتُّرَابُ سَبَبُ عِمَارَةٍ يَا لَعِينُ اُسْكُتْ فَلْيَتَنَاظَرْ عُنْصُرُ آدَمَ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ مَعَ عُنْصُرِك الَّذِي هُوَ النَّارُ ثُمَّ قَالَتْ النَّارُ يَا تُرَابُ لِي صُورَةٌ صَافِيَةٌ وَسِيرَةٌ مُضِيئَةٌ وَمِنْ خَوَاصِّي أَجْعَلُ اللَّيَالِيَ بِأَنْوَارِي كَالنَّهَارِ وَأَرْفَعُ الظُّلُمَاتِ وَأَجْعَلُ الْأَشْجَارَ وَالْحَشَائِشَ رَمَادًا وَكُنْت مَظْهَرَ تَجَلِّي الْحَقِّ وَدَلِيلَ مَعْرِفَةِ الْهِدَايَةِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، ثُمَّ قَالَ التُّرَابُ يَا نَارُ صَنِيعُك هُوَ التَّرَفُّعُ وَصَنِيعِي هُوَ التَّوَاضُعُ فَقَرِّرِي حُجَّتَك وَبَاعِثَ تَرَفُّعِك، فَقَالَتْ أَنَا جَوْهَرٌ مُنَوَّرٌ وَمُضِيءٌ وَمَظْهَرُ ظُهُورٍ إنِّي أَنَا اللَّهُ وَمَحَلُّ انْتِقَامِ الْأَعْدَاءِ، فَقَالَ التُّرَابُ يَا نَارُ أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ الْعِزَّةَ فِي الذِّلَّةِ وَالرَّاحَةَ فِي التَّوَاضُعِ فَأَثَرْت تَحْتَ الْأَقْدَامِ وَأَنَا مُتَحَمِّلٌ أَحْمَالَ الْأَنَامِ وَأَنَا خِزَانَةٌ دَفِينَةُ الْمَلَكُوتِ وَأَنَا كَعْبَةُ طَوَافِ الْخَلَائِقِ وَأَكُونُ تَارَةً خَلِيفَةَ الْمَاءِ الطَّهُورِ.
ثُمَّ قَالَتْ النَّارُ لَا أَقْدِرُ عَلَى مُنَاظَرَتِك مَهْمَا تَرَفَّعْت أَنَا وَأَنْتَ تَتَوَاضَعُ وَلَكِنْ فَلْنَبْحَثْ بِكَلَامٍ مَرَّةً مِنِّي وَمَرَّةً مِنْك، فَقَالَتْ يَا تُرَابُ لِي نُورٌ فَقَالَ لِي شَوْقُ لِقَاءٍ فَقَالَتْ لِي صُعُودٌ إلَى كَرَّةِ النَّارِ فَقَالَ أَنَا أَتَحَمَّلُ الْأَحْمَالَ فِي الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَتْ أَجْعَلُ اللَّيَالِيَ كَالنَّهَارِ فَقَالَ أُزَيَّنُ فَوْقِي بِأَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ فَقَالَتْ أَنَا مَحَلُّ امْتِحَانِ الْجَوَاهِرِ فَقَالَ أَنَا مَحَلُّ سَتْرِ خَزَائِنِ الدَّفَائِنِ فَقَالَتْ أَنَا أُظْهِرُ الْغِلَّ وَالْغِشَّ فَقَالَ أَنَا أَسْتُرُ الْعُيُوبَ فَقَالَتْ أَنَا أُخْرِجُ الْجَوَاهِرَ مِنْ الْأَحْجَارِ الصُّلْبَةِ فَقَالَ أَنَا أُخْرِجُ الْوَرْدَ الْكَثِيرَ ذَا الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَلْوَانِ الْعَجِيبَةِ، فَبِالْآخِرَةِ قَالَ التُّرَابُ أَنَا مَادَّةُ خَلِيقَةِ اللَّهِ وَمَرْقَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِحْرَابِ أَهْلِ الْمُنَاجَاةِ وَمَحَلُّ سَجْدَةِ الطَّاعَاتِ لَا غَايَةَ لِفَضَائِلِي وَلَا نِهَايَةَ لِخَصَائِصِي لَكِنْ شَأْنِي السُّكُوتُ تَوَاضُعًا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي أَمْرٌ إلَهِيٌّ لَمْ أَذْكُرْ هَذَا الْقَدْرَ (فَإِذَا سَمِعَ) أَيْ الْمُتَكَبِّرُ (الْحَقَّ مِنْ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ اسْتَنْكَفَ مِنْ قَبُولِهِ) لِكِبْرِهِ (وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ) .
قِيلَ وَلِذَلِكَ تَرَى الْمُنَاظِرِينَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُبَاحِثُونَ عَنْ أَسْرَارِ الدِّينِ ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَجَاحَدُونَ تَجَاحُدَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَمَهْمَا اتَّضَحَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنِفَ الْآخَرُ مِنْ قَبُولِهِ وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ وَاحْتَالَ لِدَفْعِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْحِيَلِ وَالتَّلْبِيسِ، وَمَا هُوَ إلَّا نَاشِئٌ مِنْ مُشَارَكَةِ إبْلِيسَ (وَيَكْفِيك فِيهِ) أَيْ فِي فُحْشِ الْكِبْرِ (قَوْله تَعَالَى {سَأَصْرِفُ} [الأعراف: 146] أَمْنَعُ {عَنْ آيَاتِيَ} [الأعراف: 146] عَنْ فَهْمِ الْحِجَجِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ كَلَامِي وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [الأعراف: 146] يُظْهِرُونَ الْكِبْرَ {فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] إمَّا صِلَةٌ لِلْكِبْرِ يَتَكَبَّرُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَهُوَ دِينُهُمْ الْبَاطِلُ وَظُلْمُهُمْ الْمُفْرِطُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنْ فَاعِلِهِ أَيْ يَتَكَبَّرُونَ مُلْتَبِسِينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَمَّا الْحَقُّ فَكَالْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ (وَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ} [الأعراف: 101] بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ الْحَقَّ وَلَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَصِيرُ اخْتِيَارُهُ مَسْلُوبًا، وَهَذَا الْجَبْرُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ مُكَافَأَةً لِأَعْمَالِهِ الْخَبِيثَةِ، وَالْمُمْتَنِعُ الْجَبْرُ ابْتِدَاءً كَذَا قِيلَ.
وَالْمُرَادُ بِالطَّبْعِ أَنْ تَحْدُثَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْئَةُ تَمَرُّنِهِمْ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَاسْتِقْبَاحِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ بِسَبَبِ غَيِّهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ النَّظَرِ الصَّحِيحِ فَتُجْعَلُ قُلُوبُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ فِيهَا الْحَقُّ وَأَسْمَاعُهُمْ تَعَافُ اسْتِمَاعَهُ فَتَصِيرُ كَأَنَّهَا مَطْبُوعَةٌ لَا تَجْتَلِي لَهَا الْآيَاتُ الْمَنْصُوبَةُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ وَلَا طَبْعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ أَوْ مَثَّلَ قُلُوبَهُمْ الْمَؤْوُفَةَ بِأَشْيَاءَ ضُرِبَ حِجَابٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْتِنْفَاعِ بِهَا طَبْعًا {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] مِنْ الْجَبْرِ بِمَعْنَى الْقَهْرِ فَإِذَا خُتِمَ عَلَى الْقَلْبِ بِطَبْعِهِ فَلَا يَكَادُ يَنْفَتِحُ لِمَوْعِظَةِ وَاعِظٍ وَلَا تَلِجُ الْعِبْرَةُ وَالنَّصِيحَةُ {أَبَى} [البقرة: 34] إبْلِيسُ {وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] اسْتَعْظَمَ وَعَدَّ نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ آدَمَ {وَكَانَ} [البقرة: 34] صَارَ مِنْ الْكَافِرِينَ أَوْ كَانَ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى {مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34](د) أَبُو دَاوُد
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» أَيْ كَالرِّدَاءِ فِي الِاخْتِصَاصِ فَلَا يَلِيقُ الْكِبْرُ إلَّا إلَيَّ فَالْمُنَازِعُ فِيهِ مُنَازِعٌ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي فَمَنْ تَكَبَّرَ فَقَدْ جُنِيَ عَلَيْهِ.
وَعَنْ الْكَلَابَاذِيِّ الرِّدَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ وَعَنْ الْقَاضِي الْكِبْرِيَاءُ الْكِبْرُ وَهُوَ التَّرَفُّعُ عَلَى الْغَيْرِ بِأَنْ يَرَى لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ شَرَفًا.
وَالْعَظَمَةُ كَوْنُ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ كَامِلًا شَرِيفًا مُسْتَغْنِيًا فَالْأَوَّلُ أَرْفَعُ إذْ هُوَ غَايَةُ الْعَظَمَةِ «وَالْعَظَمَةُ» وَقَدْ عَرَفْت مَعْنَاهُ آنِفًا «إزَارِي» فِي الِاخْتِصَاصِ أَيْضًا.
وَعَنْ الْكَلَابَاذِيِّ أَيْضًا الْإِزَارُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَلَالِ وَالسَّتْرِ وَالْجَمَالِ وَقِيلَ الْكِبْرِيَاءُ التَّرَفُّعُ عَنْ الِانْقِيَادِ فَأُلُوهِيَّتُهُ مُسْتَغْنِيَةٌ عَمَّا سِوَاهُ، وَعَظَمَتُهُ وُجُوبُهُ الذَّاتِيُّ وَاسْتِغْنَاؤُهُ، وَمَثَّلَهُمَا بِالرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ إدْنَاءً لِلْمُتَوَهِّمِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَإِبْرَازًا لِلْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ «فَمَنْ نَازَعَنِي فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا» الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ «قَذَفْته» رَمَيْته وَطَرَحْته «فِي النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَمَنْ نَازَعَنِي رِدَائِي قَصَمْته» أَيْ أَذْلَلْته وَأَهَنْته أَوْ قَرَّبْت هَلَاكَهُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا وَارِدٌ عَنْ غَضَبٍ شَدِيدٍ وَمُنَادٍ عَلَى سُخْطٍ عَظِيمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «وَالْعِزُّ إزَارِي مَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا عَذَّبْته» .
قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِيهِ تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ الْكِبْرِ وَمِنْ آفَاتِهِ حِرْمَانُ الْحَقِّ وَعَمَى الْقَلْبِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ، وَالْمَقْتُ وَالْبُغْضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ خَصْلَةً تُثْمِرُ لَك الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَزَنَ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارَ فِي الْآخِرَةِ وَتَقْدَحُ فِي الدِّينِ لَحَرِيٌّ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْهَا.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «وَلَا أُبَالِي» بِمَا فَعَلْته مَعَهُ فِي نَارِ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْ شُهُودِهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَنَارِ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ (م) مُسْلِمٌ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» الذَّرَّةُ وَاحِدَةُ الذَّرِّ وَهُوَ النَّمْلُ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ.
وَقِيلَ مَا يُرَى مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ فِي الْكُوَّةِ وَقِيلَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَبَاءِ وَفِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ صَغُرَ قَدْرُهُ عَظُمَ جَزَاؤُهُ إمَّا لِكُفْرِهِ إنْ مُتَشَبِّهًا بِهِ تَعَالَى أَوْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ تَعْذِيبِهِ عَلَى قَدْرِ كِبْرِهِ أَوْ حَتَّى يُزِيلَهُ عَنْهُ إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْمَحْشَرِ أَوْ فِي النَّارِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ؛ لِأَنَّ إدْخَالَ الْمُؤْمِنِ فِي النَّارِ لِلتَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيحِ
حَتَّى يَلِيقَ بِجِوَارِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ «فَقَالَ رَجُلٌ» قِيلَ مُعَاذٌ وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَقِيلَ رَبِيعَةُ بْنُ عَامِرٍ «إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ» قِيلَ أَيْ كُلُّ أَمْرِهِ سبحانه وتعالى حَسَنٌ جَمِيلٌ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَقِيلَ إنَّهُ ذُو النُّورِ وَالْبَهْجَةِ أَيْ مَالِكُهُمَا وَقِيلَ جَمِيلُ الْأَفْعَالِ بِكُمْ وَالنَّظَرِ إلَيْكُمْ يُكَلِّفُكُمْ الْيُسْرَ «يُحِبُّ الْجَمَالَ» أَيْ التَّجَمُّلَ مِنْكُمْ فِي أَنْ لَا تُظْهِرُوا الْحَاجَةَ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى.
فَالتَّجَمُّلُ هُوَ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحُسْنِ فِي الرَّجُلِ وَالْجَمَالِ فِي اللَّهِ فَإِنَّ الْحُسْنَ بِالْعَرْضِ وَالْجَمَالَ بِالذَّاتِ كَمَا قِيلَ «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ» أَيْ رَدُّهُ، وَعَدَمُ قَبُولِهِ عَنْ الزَّجَّاجِ الْبَطَرُ أَنْ يَطْغَى عِنْدَ النِّعْمَةِ أَيْ يَتَكَبَّرَ وَالْأَصْمَعِيُّ الْحِيرَةُ أَيْ يَتَحَيَّرُ عِنْدَ الْحَقِّ وَلَا يَرَاهُ حَقًّا ( «وَغَمْطُ النَّاسِ» أَيْ احْتِقَارُهُمْ بِأَنْ لَمْ يُرِهِمْ شَيْئًا وَقِيلَ الِاسْتِهَانَةُ وَالِازْدِرَاءُ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ» الْخِيَانَةِ وَالِاخْتِلَاسِ مِنْ الْمَغْنَمِ لَعَلَّ الْمُرَادَ هُنَا مُطْلَقُهَا «وَالدَّيْنِ» دَيْنِ الْعِبَادِ أَوْ مُطْلَقِ الدَّيْنِ «دَخَلَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ وَالتَّقْيِيدِ أَوْ مُجَرَّدُ الْبَرَاءَةِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَا تُصَحِّحُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ السِّيَاقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيرَادِ الْأَحَادِيثِ هُوَ بَيَانُ غَوَائِلِ الْكِبْرِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَوْ دَلَّ لَدَلَّ عَلَى طَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالِفِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ ظَنِّيًّا عِنْدَ مُثْبِتِيهِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَطْلَبِ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ إلَّا أَنَّ الْمَفْهُومَ لَا مَنْعَ فِي كَوْنِهِ تَأْيِيدًا لِلنَّصِّ فَالْمَحْذُورُ مَا يَكُونُ لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً لَا مَا يَكُونُ تَأْيِيدًا ثُمَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ الْأَوَّل بِفَتْحِ الدَّالِ وَالثَّانِي بِكَسْرِ الدَّالِ وَالشَّيْنُ الْعَيْبُ وَالنَّقْصُ، وَفِيهِ أَيْضًا الدَّيْنُ رَايَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُذِلَّ عَبْدًا وَضَعَهَا فِي عُنُقِهِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَذَلِكَ بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ صَحَّ اسْتِدَانَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قِيلَ «إنَّهُ أَوْصَى فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَقَالَ يَا عَلِيٌّ لِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ عَلَيَّ كَذَا فَلَا تَمُوتَنَّ بِلَا أَدَائِهِ» أُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِضَرُورَةٍ وَالذَّمُّ مَا يَكُونُ بِلَا ضَرُورَةٍ وَرُدَّ أَنَّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الضَّرُورَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَيَّرَهُ أَنْ تَكُونَ بَطْحَاءُ مَكَّةَ لَهُ ذَهَبًا وَأُجِيبُ أَنَّهُ خَيَّرَهُ فَاخْتَارَ الْقِلَّةَ وَالْقَنَاعَةَ فَالضَّرُورَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي فَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «الدَّيْنُ دَيْنَانِ فَمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَنْوِي قَضَاءَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ وَمَنْ مَاتَ وَلَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَذَاكَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» .
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ إنْ عَنَى قَصْدَ الْأَدَاءِ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَطْلُ.
وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «الدَّيْنُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ وَأَيْضًا فِيهِ الدَّيْنُ يُنْقِصُ مِنْ الدِّينِ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْقَصْدُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الدَّيْنَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْمَذَلَّةِ فَإِنْ لِضَرُورَةٍ فَلَا كَرَاهَةَ بَلْ قَدْ يَجِبُ وَلَا لَوْمَ عَلَى فَاعِلِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا قَالُوا بِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَإِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مُعْطِيهِ فَمَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْخَيْرِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ صَرْفَهُ إلَى السَّفَهِ وَالْعِصْيَانِ (هَقّ) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي النَّارِ تَوَابِيتَ»
جَمْعُ تَابُوتٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَقِيلَ صُنْدُوقٌ
قِيلَ عَنْ مُخْتَصَرِ الْقَامُوسِ أَصْلُهُ تَابُوهُ وَلُغَةُ الْأَنْصَارِ بِالتَّاءِ وَعَنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ أَصْلُهُ تَابُوةٌ مِثْلُ تَرْقُوَةٍ وَهُوَ فَعْلُوَةٌ فَلَمَّا سُكِّنَتْ الْوَاوُ قُلِبَتْ هَاءُ التَّأْنِيثِ تَاءً.
قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ لَمْ تَخْتَلِفْ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي التَّابُوتِ فَلُغَةُ قُرَيْشٍ بِالتَّاءِ وَلُغَةُ الْأَنْصَارِ بِالْهَاءِ فَاضْمَحَلَّ مَا يُقَالُ لَمْ أَرَهُ فِي الْقَامُوسِ «يُجْعَلُ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «فِيهَا الْمُتَكَبِّرُونَ فَتُقْفَلُ عَلَيْهِمْ» لِئَلَّا يَرَوْا أَحَدًا وَلَا يُرَوْا فَيَشْتَدَّ عَذَابُهُمْ فِي النَّارِ أَوْ لِتَضِيقَ وَتَشْتَدَّ عُقُوبَتُهُمْ (طِبّ) الطَّبَرَانِيُّ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ» قِيلَ إسْرَائِيلِيٌّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ «- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِالسُّوقِ وَعَلَيْهِ حُزْمَةُ حَطَبٍ فَقِيلَ لَهُ مَا يَحْمِلُك» أَيُّ شَيْءٍ يَبْعَثُك «عَلَى هَذَا وَقَدْ أَغْنَاك اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا» أَيْ عَنْ حَمْلِ الْحَطَبِ عَلَى الظَّهْرِ لِأَجْلِ الْبَيْعِ لِكَثْرَةِ مَالِكَ.
«قَالَ أَرَدْت أَنْ أَدْفَعَ الْكِبْرَ» قِيلَ عَنْ الْفُقَهَاءِ إذَا حَمَلَ الْغَنِيُّ مَتَاعَهُ فَإِنْ كَانَ لَثِقَلِ أُجْرَةِ الْحَمَّالِ عَلَيْهِ فَهُوَ دَنَاءَةٌ مُسْقِطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَإِنْ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَمُجَاهَدَةً لِلنَّفْسِ فَخَيْرٌ وَطَاعَةٌ (سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ مِنْ كِبْرٍ» أَيْ لَا يَدْخُلُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا بِلَا عَذَابٍ وَخِزْيٍ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا حَتَّى يُعَاقَبَ بِمَا اجْتَرَحَهُ أَوْ لَا يَدْخُلُ أَصْلًا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا أَوْ لَا يَدْخُلُهَا وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ، بَلْ بَعْدَ إزَالَتِهِ عَنْهُ إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْقَبْرِ أَوْ فِي الْعَذَابِ بِمِقْدَارِهِ
(م) مُسْلِمٌ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى» وَأَكْثَرُ النُّسَخِ «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمْ» «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» نَظَرَ رَحْمَةٍ وَمَغْفِرَةٍ فَإِنَّ مَنْ سَخِطَ عَلَى غَيْرِهِ وَاسْتَهَانَ بِهِ أَعْرَضَ عَنْهُ وَعَنْ التَّكَلُّمِ مَعَهُ وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهِ «وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ» مَعَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَهُولِ ( «عَذَابٌ أَلِيمٌ» مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هُوَ الْعَذَابُ يَخْلُصُ إلَى قُلُوبِهِمْ وَجَعُهُ وَقَالَ الرَّاغِبُ الْأَلَمُ الْوَجَعُ الشَّدِيدُ «شَيْخٌ زَانٍ» لِاسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ الْحَقِّ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِهِ وَرَذَالَاتِ طَبْعِهِ إذْ دَاعِيَتُهُ قَدْ ضَعُفَتْ وَهِمَّتُهُ قَدْ فَتَرَتْ فَزِنَاهُ عِنَادٌ وَمُرَاغَمَةٌ؛ وَلِأَنَّ شَهْوَتَهُ مَقْهُورَةٌ فَزِنَاهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَطْبُوعًا بِهِ وَأَمَّا الشَّابُّ فَقَدْ تَقْهَرُهُ نَفْسُهُ عَلَيْهِ «وَمَلِكٌ كَذَّابٌ» لِأَنَّ الْكَذِبَ غَالِبٌ لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ وَالْمَلِكُ لَا يَخَافُ أَحَدًا فَيُضَايِقُهُ فَقَبِيحٌ لِفَقْدِ الضَّرُورَةِ «وَعَائِلٌ» فَقِيرٌ «مُسْتَكْبِرٌ» لِأَنَّ كِبْرَهُ مَعَ فَقْدِ سَبَبِهِ فِيهِ مِنْ نَحْوِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ مُسْتَحْكِمًا فِيهِ فَيَسْتَحِقُّ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَفَظِيعَ الْعِقَابِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَمِ اللَّهِ فِي قَبُولِ عُذْرِ عَبِيدِهِ
مِمَّا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ.
(تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْقَنَوِيُّ سِرُّ عَدِّ الْمَلِكِ الْكَذَّابِ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَذِبَ قِسْمَانِ ذَاتِيٌّ وَصِفَاتِيٌّ فَالصِّفَاتِيُّ مَحْصُورٌ فِي مُوجِبَيْنِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالْمَلِكُ مَحِلُّهُمَا ظَاهِرًا وَلَيْسَ حُكْمُهُ مَعَ الرَّعِيَّةِ بِصُورَةِ رَهْبَةٍ مِنْهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُمْ تُوجِبُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْكَذِبِ فَإِذَا كَانَ الْمَلِكُ كَذَّابًا فَلَا مُوجِبَ إلَّا لُؤْمُ الطَّبْعِ فَهُوَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَالْأَوْصَافُ الذَّاتِيَّةُ الْجِبِلِّيَّةُ تَسْتَلْزِمُ نَتَائِجَ تُنَاسِبُهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ.
وَيُقَالُ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ وَحُبُّهُ لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ أَشَدُّ أَوَّلُهَا يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَحُبُّهُ لِلشُّبَّانِ الْأَتْقِيَاءِ أَشَدُّ وَالثَّانِي يُحِبُّ الْأَسْخِيَاءَ وَحُبُّهُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَسْخِيَاءِ أَشَدُّ وَالثَّالِثُ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ وَحُبُّهُ لِلْأَغْنِيَاءِ الْمُتَوَاضِعِينَ أَشَدُّ» انْتَهَى (حَكَّ) الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.
(عَنْ طَارِقٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ خَرَجَ عُمَرُ) مُتَوَجِّهًا (إلَى الشَّامِ) إقْلِيمٍ مَعْرُوفٍ أَوَّلُهُ نَابُلُسُ وَآخِرُهُ الْعَرِيشُ (وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ) بْنُ الْجَرَّاحِ (فَأَتَوْا) أَيْ عُمَرُ مَعَ عَسْكَرِهِ (عَلَى مَخَاضَةٍ) مَوْضِعِ خَوْضِ الْمَاءِ (وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ) عَنْهَا لِتَمَامِ نَوْبَةِ الرُّكُوبِ فَأَرْكَبَ غُلَامَهُ عَلَيْهَا (وَخَلَعَ خُفَّيْهِ) مِنْ قَدَمَيْهِ (فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ) تَوَاضُعًا (وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ) فِي الْمَاءِ (فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلَمْ يُلَقَّبْ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ (أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟) بِاسْتِفْهَامٍ مُقَدَّرٍ لِلتَّعَجُّبِ (مَا يَسُرُّنِي) مَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْفِعْلُ مِنْك (فَإِنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ) أَيْ الشَّامِ (اسْتَشْرَفُوك) يُقَالُ اسْتَشْرَفَ الشَّيْءَ إذَا ارْتَفَعَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى حَاجِبَيْهِ يَعْنِي: أَنَّ الْقَوْمَ يَنْظُرُونَ إلَيْك وَيُحَقِّرُونَ ذَلِكَ (فَقَالَ أَوَّهْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْهَاءِ كَلِمَةُ تَوَجُّعٍ (وَلَمْ يَقُلْ ذَا) إشَارَةً إلَى مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَحَدٌ (غَيْرُك) يَا (أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْته) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ (نَكَالًا) سَبَبَ نَكَالٍ وَعَذَابٍ (لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ بِالْمَرَاكِبِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَلَابِسِ الْفَاخِرَةِ لَا بِالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَةِ فَيَحْصُلُ الْكِبْرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعَذَابِ كَمَا ذَكَرَ الْمُحَشِّي، وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُمْ أُسْوَةٌ لِلْأُمَّةِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُتَابَعَتِهِمْ بِلِسَانِ الرِّسَالَةِ لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِالِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ (إنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ) كَمَا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي جَهَالَةٍ وَقِيلَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَرَبَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ طَاعَةِ الْفُرْسِ وَكَانَ سُلْطَانُهُمْ يَتَوَلَّى وَيُعْزَلُ بِأَمْرِ كِسْرَى وَكَانَتْ الشَّوْكَةُ حِينَئِذٍ لِلرُّومِ وَفَارِسَ (فَأَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ) بِكَثْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِشَرَفِ أَصْلِ الْإِسْلَامِ (فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا) مِنْ نَحْوِ الْمَرَاكِبِ وَالْمَلَابِسِ (أَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ) مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (أَذَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّهُ اعْتِزَازٌ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ وَمَنْ سَلَكَ إلَى غَيْرِ طَرِيقِ الْمَطْلُوبِ ضَلَّ سَعْيُهُ وَخَسِرَ كَدَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعِزَّ بِالْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَإِذَا طُلِبَ الْعِزُّ بِغَيْرِهِ أَذَلَّهُ اللَّهُ فَأَفَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عِزٌّ وَرِفْعَةٌ وَالْكِبْرُ خِلَافُهُ فَإِنْ قِيلَ سُؤَالُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَارِدٌ عَلَى نَهْجِ الْقِيَاسِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إمَامًا أَوْ مُفْتِيًا أَوْ حَاكِمًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ
آخَرَ اتِّفَاقًا فَكَيْفَ يَلْزَمُ بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ تَحْقِيقِيًّا لَا إلْزَامِيًّا وَإِقْنَاعِيًّا، وَفَقَاهَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ سَبَبِ فِعْلِهِ لَا الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ وَأَمَّا وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا كَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَأَبِي الْيُسْرِ فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ كَالْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ فَلَا يُقَلَّدُ إلَّا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَاحْتِجَاجُ الْمُصَنِّفُ إمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى مَنْعِ كَوْنِ سُؤَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ الْقِيَاسُ هُوَ التَّوَاضُعُ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ الْخَلِيفَةِ أَوْ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ بِلَا إيجَابٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَكَانُوا سَاكِتِينَ ثُمَّ السَّامِعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا سَاكِتِينَ وَقَابِلِينَ وَيَكُونُ إجْمَاعًا وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ إجْمَاعًا فِيمَا شَاعَ فَسَكَتُوا وَسَلَّمُوا.
وَفِي كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَقَعَ الرِّوَايَةُ هَكَذَا عَنْ طَارِقٍ أَنَّ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ لَقِيَهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ وَقَدْ خَلَعَ خُفَّيْهِ وَجَعَلَهُمَا تَحْتَ إبْطَيْهِ، قَالُوا لَهُ الْآنَ يَلْقَاك الْجُنُودُ، قَالَ إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَنْ نَلْتَمِسَ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ.
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قِرْبَةً عَلَى عُنُقِهِ فَقِيلَ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا قَالَ نَفْسِي أَعْجَبَتْنِي فَأَرَدْت أَذِلُّهَا وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ طَافَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ فِي دَارٍ وَحَوْلَهَا صِبْيَانٌ يَبْكُونَ وَإِذَا قِدْرٌ يَغْلِي عَلَى النَّارِ بِالْمَاءِ فَسَأَلَ عَنْ بُكَائِهِمْ، فَقَالَتْ لِلْجُوعِ فَسَأَلَ عَنْ الْمَاءِ، فَقَالَتْ لِأُرِيَهُمْ مَرَقَةً وَأُعَلِّلَهُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ النَّوْمُ، فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ جَاءَ إلَى دَارِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ فِي غِرَارَةٍ طَعَامًا وَلِبَاسًا وَدَرَاهِمَ، فَقَالَ يَا أَسْلَمُ احْمِلْ عَلَيَّ فَقُلْت أَنَا أَحْمِلُهُ فَقَالَ إنِّي أَنَا الْمَسْئُولُ فِي الْآخِرَةِ فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَجَاءَ مَنْزِلَ الْمَرْأَةِ وَجَعَلَ فِي الْقِدْرِ دَقِيقًا وَشَحْمًا وَتَمْرًا وَحَرَّكَهُ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ وَيَخْرُجُ الدُّخَانُ مِنْ خِلَالِ لِحْيَتِهِ حَتَّى طَبَخَ لَهُمْ فَأَطْعَمَهُمْ بِيَدِهِ فَخَرَجَ فَاطَّلَعَ عَلَى ضَحِكِ الصِّبْيَانِ وَسُرُورِهِمْ، فَقَالَ الْآنَ طَابَتْ نَفْسِي وَلِتَوَاضُعِهِ أَيْضًا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا مَعَ سَائِرِ مَنَاقِبِهِ فِي شَرْحِ وَصَايَا إمَامِنَا أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ
(ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ» النَّمْلِ الصَّغِيرِ فِي الذُّلِّ وَالْحَقَارَةِ جَزَاءً عَلَى وِفَاقِ عَمَلِهِمْ «فِي صُوَرِ الرِّجَالِ» زِيَادَةً فِي ذُلِّهِمْ وَحَقَارَتِهِمْ يَعْنِي جُثَّتَهُمْ كَجُثَّةِ الذَّرَّةِ وَصُورَتَهُمْ كَصُورَةِ الْإِنْسَانِ «يَغْشَاهُمْ» يُحِيطُهُمْ «الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَان» يَتَضَاعَفُ ذُلُّهُمْ وَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا «يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ» بِالزَّجْرِ وَالْقَهْرِ وَالسَّائِقُونَ هُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ غِلَاظٌ شِدَادٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] الْآيَاتِ «يُقَالُ لَهُ بُولَسٌ» بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ آخِرُهُ مُهْمَلَةٌ، كَذَا قِيلَ عَنْ النِّهَايَةِ وَقِيلَ فُوعِلٌ مِنْ الْإِبْلَاسِ بِمَعْنَى الْيَأْسِ وَلَعَلَّ السِّجْنَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بِهِ يَئِسَ مِنْ الْخَلَاصِ عَمَّا قَرِيبٌ وَإِنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا فَلَعَلَّهُ أَعْجَمِيٌّ إذْ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ مِثَالُهُ
أَقُولُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَتَأَمَّلْ فِيهِ «يَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ» يَغْشَاهُمْ وَيُحِيطُهُمْ نَارُ النِّيرَانِ فِي الْقَامُوسِ النَّارُ تُجْمَعُ عَلَى أَنْيَارٍ «يُسْقَوْنَ» عَلَى الْمَفْعُولِ «مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ» مَا يُعْصَرُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ لَعَلَّهَا الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ.
«طِينَةِ الْخَبَالِ» بَدَلٌ مِنْ عُصَارَةِ وَالْخَبَالُ الْفَسَادُ أَيْ الطِّينَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ فَسَادِ أَبْدَانِ أَهْلِ النَّارِ وَقِيلَ اسْمُ مَوْضِعٍ فِي جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ كَالْحَوْضِ وَقِيلَ السُّمُّ الْقَاتِلُ وَالْهَلَاكُ وَالْعَنَاءُ وَالتَّعَبُ (م) مُسْلِمٌ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ
أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ) يُنَصِّبُ خَلِيفَةً (فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَشُقُّ السُّوقَ) يَعْنِي يَنْشَقُّ أَهْلُ السُّوقِ لَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيَمُرَّ هُوَ (وَ) الْحَالُ (هُوَ يَقُولُ جَاءَ الْأَمِيرُ) لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالِيَّةَ مُنَافِيَةٌ لِلْإِمَارَةِ عَادَةً فَيَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَهْلُ السُّوقِ عَزْلَهُ مِنْ صَنِيعِ حَالِهِ وَلِيُفَسَّحَ لَهُ الطَّرِيقُ فَيُتِمَّ مَصْلَحَتَهُ وَيَقْضِيَ مَهَامَّ الْمُسْلِمِينَ (وَفِي رِوَايَةٍ) يَقُولُ (طَرِّقُوا) أَيْ أَعْطُوا طَرِيقًا (لِلْأَمِيرِ حَتَّى يَنْظُرَ النَّاسُ إلَيْهِ) وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي تَوَاضُعِهِ مَعَ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فَيَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ لِلتَّرْغِيبِ وَلِتَعْلِيمِ شَرَفِ التَّوَاضُعِ وَمُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِهَا
(خ) الْبُخَارِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ» أَيْ التَّكَبُّرِ «خُسِفَ بِهِ» فِي الْأَرْضِ «فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ» يَتَحَرَّك وَيَضْطَرِبُ يَعْنِي يَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا «فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قِيلَ عَنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
فَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ لِجَرِّ إزَارِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِكِبْرِهِ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَبِمُجَرَّدِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكِبْرِ إذَا جُوزِيَ بِمَا تَرَى فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَّخِذُ الْكِبْرَ صَنْعَةً وَيَأْتِي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ فَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالْعَاقِلُ يَنْزَجِرُ وَيَعْتَبِرُ مِنْ مِثْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّهُ قَالَ يَقُولُونَ فِي) بِالتَّشْدِيدِ (التِّيهُ) أَيْ يَنْسُبُونَ إلَيَّ الْكِبْرَ أَوْ يَكُونُونَ فِي الْكِبْرِ (وَ) الْحَالُ أَنِّي (قَدْ رَكِبْت الْحِمَارَ) .
وَمَا أَنِفْت مِنْ رُكُوبِهِ (وَلَبِسْت الشَّمْلَةَ) أَيْ الصُّوفَ (وَقَدْ حَلَبْت الشَّاةَ وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ» ) أَيْ الثَّلَاثَةَ ( «فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ شَيْءٌ» ) لِأَنَّهَا مِنْ عَادَاتِ أَسَافِلِ النَّاسِ غَالِبًا.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ لُبْسُ الصُّوفِ وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُكُوبُ الْحِمَارِ وَاعْتِقَالُ الْعَنْزِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ يَعْنِي بِقَصْدٍ صَالِحٍ لَا لِإِظْهَارِ الزُّهْدِ وَإِيهَامًا لِمَزِيدِ التَّعَبُّدِ وَمُجَالَسَةُ الْفُقَرَاءِ بِقَصْدِ إينَاسِهِمْ وَالتَّوَاضُعُ مَعَهُمْ وَنَحْوُ رُكُوبِ الْحِمَارِ وَاعْتِقَالِ الْعَنْزِ يَعْنِي اعْتِقَالَ الْعَنْزِ لِيَحْلُبَ لَبَنَهَا يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُبْعِدَةٌ عَنْ الْكِبْرِ