الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهجموا على ابراهيم فأخذوه وحملوه الى سجن حران فأثقلوه بالحديد وضيقوا عليه الحلقة حتى مات [1] . ولما احس ابراهيم بالطلب أوصى الى أخيه ابي العبّاس ونعى نفسه اليه وأمره بالمسير الى الكوفة بأهل بيته. فسار معه اخوه ابو جعفر وعمه ستة رجال حتى قدموا الكوفة مستخفين.
(ابو العباس السفاح)
وفي سنة اثنتين وثلثين ومائة خرج ابو العباس بن محمد الامام بن عليّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ليلة الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الاول من دار ابي مسلمة [2] بالكوفة فصلى المغرب في مسجد بني أيوب ودخل منزله. فلما أصبح غدا عليه القواد في التعبية والهيئة وقد اعدوا له السواد والمركب والسيف. فخرج ابو العباس فيمن معه الى القصر الذي للامارة. ثم خرج الى المقصورة وصعد المنبر وبايعه الناس. ثم وجه عمه عبد الله الى مروان وهو نازل بالزاب. فواقع عبد الله مروان فهزمه. فمرّ مروان على وجهه ومضى فعبر جسر الفرات فوق حران وجمع جمعا عظيما بنهر فطرس من ارض فلسطين. وعبر ايضا عبد الله الفرات وحاصر دمشق حتى افتتحها وقتل من بها من بني أمية وهدم سورها حجرا حجرا ونبش عن قبور بني أميّة واحرق عظامهم بالنار. ثم ارتحل نحو مروان فهزمه واستباح عسكره. وهرب مروان الى ارض مصر فاتّبعه جيش عبد الله واستدلّوا عليه وهو في كنيسة في بوصير فطعنه رجل فصرعه واحتز آخر رأسه وبعث به الى ابي العباس السفّاح. وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة اثنتين وثلثين ومائة. وفي سنة ست وثلثين ومائة مات السفاح بالأنبار مدينته التي بناها واستوطنها لثلث عشرة سنة مضت من ذي الحجة بالجدري. وكان له يوم مات ثلث وثلثون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان اربع سنين. وكان ابو العباس رجلا طويلا [3] ابيض اللون حسن الوجه يكره الدماء ويحامي [4] على اهل البيت
(ابو جعفر المنصور)
هو عبد الله بن محمد الامام بن عليّ بن عبد الله بن العباس بويع له سنة سبع وثلثين ومائة. وفي هذه السنة قتل ابو مسلم الخراساني قتله المنصور بسبب انهما حجّا معا في ايام السفاح. وكان ابو مسلم يكسو الاعراب ويصلح الآبار والطرق. وكان الذكر له. فحقد ابو جعفر ذلك عليه. ولما صدر الناس عن الموسم تقدم ابو مسلم في الطريق على ابي جعفر فأتاه خبر وفاة السفاح فكتب الى ابي جعفر يعزيه
[1-) ] وقيل انه مات مسموما.
[2-) ] مسلمة ر سلمة.
[3-) ] طويلا ر طوالا.
[4-) ] يحامي ر يحابي.
عن أخيه ولم يهنه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع اليه. فخافه ابو جعفر المنصور واجمع الرأي وعمل المكايد وهجر النوم الى ان اقتنصه. وكان ابو مسلم استشار رجلا من أصحابه بالريّ في رجوعه الى المنصور فقال: لا أرى ان تأتيه وارى ان تمتدّ الى خراسان.
فلما لم يقبل منه وسار نحو المنصور قيل له: تركت الرأي بالرايّ فذهب مثلا. فلما دنا ابو مسلم من المنصور امر الناس بتلقيه وإكرامه غاية الكرامة. ثم قدم فدخل على المنصور وقبل يده. فأمره أن ينصرف ويروّح نفسه ليلته ويدخل الحمّام. فانصرف.
فلما كان من الغد أعد المنصور من اصحاب الحرس اربعة نفر واكمنهم خلف الرواق وقال لهم: إذا انا صفّقت بيديّ فشأنكم. وأرسل الى ابي مسلم يستدعيه ودخل على المنصور فأقبل عليه يعاتبه ويذكر عثراته. فما عدّ عليه ان قال: ألست الكاتب اليّ تبدأ بنفسك.
ودخلت إلينا وقلت: اين ابن الحارثيّة. ويأتيك كتابي فتقرأه استهزاء ثم تلقيه الى مالك ابن الهيثم ويقرأه وتضحكان. فجعل ابو مسلم يعتذر اليه ويقبّل الأرض بين يديه.
فقال المنصور: قتلني الله ان لم أقتلك. وصفّق بيديه فخرج الحرس يضربونه بسيوفهم وهو يصرخ ويستأمن ويقول: استبقني لعدوّك يا امير المؤمنين. فقال له المنصور:
وايّ عدوّ لي أعدى منك. وقيل كانت عند ابي مسلم ثلث نسوة وكان لا يطأ المرأة منهن في السنة الا مرة واحدة. وكان من أغير الناس لا يدخل قصره احد غيره وفيه كوى يطرح منها لنسائه ما يحتجن اليه. قالوا ليلة زفّت اليه امرأته أمر بالبرذون الذي ركبته فذبح وأحرق سرجه لئلا يركبه ذكر بعدها. قالوا وكان من أشد الناس طمعا وأكثرهم طعاما يخبز كل يوم في مطبخه ثلثة آلاف قرف ويطبخ مائة شاة سوى البقر والطير.
وكان له ألف طبّاخ وآلة المطبخ تحمل على ألف ومائتي رأس من الدوابّ. وقيل كان ابو مسلم شجاعا ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة. وقيل بل كان فاتكا قليل الرحمة قاسي القلب سوطه سيفه قتل ستمائة ألف ممن يعرف صبرا سوى من لا يعرف ومن قتل في الحروب والهيجات. وسئل بعضهم: ابو مسلم كان خيرا او الحجّاج. قال: لا أقول ان أبا مسلم خير من احد ولكن الحجاج كان شرا منه. وزعم قوم ان أبا مسلم كان من قرية من قرى مرو. ويقال: بل كان من العرب سمع الحديث وروى الاشعار.
وقيل كان عبدا. وقد نسبه بعض الشعراء الى الأكراد حين هجاه. وفي سنة أربعين ومائة سيّر المنصور عبد الوهاب ابن أخيه ابراهيم بن محمد الامام في سبعين ألف مقاتل الى ملطية. فنزلوا عليها وعمروا ما كان خرّبه الروم منها. ففرغوا من العمارة في ستة أشهر.
وأسكنها المنصور اربعة آلاف من الجند واكثر فيها من السلاح والذخائر وبنى حصن
قلوذية. وفي هذه السنة خرج الراونديّة على المنصور بمدينة الهاشمية وهم قوم من اهل خراسان يقولون بتناسخ الأرواح ويزعمون ان ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور.
وجعلوا يطوفون بقصره ويقولون: هذا قصر ربنا. فأنكر ذلك المنصور وخرج إليهم ماشيا إذ لم يكن في القصر دابة. ونودي في اهل السوق فاجتمعوا وحملوا عليهم وقاتلوهم فقتلوا اعني الراوندية جميعا وهم يومئذ ستمائة رجل. وفي السنة الرابعة والأربعين أخذ المنصور من أولاد الحسين بن علي بن ابي طالب اثني عشر إنسانا ورحّلهم من المدينة الى الكوفة وحبسهم في بيت ضيّق لا يمكّن احد من مقعده يبول بعضهم على بعض ويتغوط ولا يدخل عليهم روح الهواء ولا تخرج عنهم رائحة القذارة حتى ماتوا عن آخرهم.
فخرج محمد [1] بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن ابي طالب بالمدينة وجمع الجموع وتسمى بالمهدي. وخرج ابراهيم اخوه بالبصرة في ثلثين ألفا. وقتلا ولم ينجحا.
وفي سنة خمس وأربعين ومائة ابتدأ المنصور في بناء عمارة مدينة بغداد. وسبب ذلك انه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة. فلما ثارت الراوندية به فيها كره سكناها لذلك والجوار اهل الكوفة ايضا فانه كان لا يأمن أهلها على نفسه وكانوا قد أفسدوا جنده.
فخرج بنفسه يرتاد موضعا يسكنه هو وجنده. فقال له اهل الحذق: انّا نرى يا امير المؤمنين ان يكون على الصراة [2] وبين انهار لا يصل إليك عدوك الا على جسر فإذا قطعته لم يصل إليك. وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد. ودجلة والفرات والصراة خنادق مدينتك. وتجيئك الميرة فيها من البر والبحر. فازداد المنصور حرصا على النزول في ذلك الموضع. ولما عزم على بناء بغداد أمر بنقض المدائن وايوان كسرى. فنقضه ونقله الى بغداد. فنقضت ناحية من القصر الأبيض وحمل نقضه.
فنظر وكان مقدار ما يلزمهم له اكثر من ثمن الجديد فأعرض عن الهدم. وجعل المدينة مدورة لئلّا يكون بعض الناس اقرب الى السلطان من بعض. وعمل لها سورين الداخل أعلى من الخارج. وبنى قصره في وسطها والمسجد الجامع بجانب القصر وقبلته غير
[1-) ] وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه.
[2-) ] قال ياقوت في معجم البلدان: «صراة نهران بغداد الصراة الكبرى والصراة الصغرى ولا اعرف انا الا واحدة وهو نهر يأخذ من نهر عيسى من عند بلدة يقال لها المحوّل بينها وبين بغداد فرسخ ويسقي ضياع بادوريا ويتفرع منه انهار الى ان يصل الى بغداد فيمر بقنطرة العباس ثم قنطرة الصبيبات ثم قنطرة رحا البطريق ثم القنطرة العتيقة ثم القنطرة الجديدة ويصب في دجلة ولم يبق عليه الآن الا القنطرة العتيقة والجديدة يحمل من الصراة نهر يقال له خندق طاهر بن الحسين اوله أسفل من فوهة الصراة يدور حول مدينة السلام مما يلي الحربية وعليه قنطرة باب الحرب ويصير في دجلة امام باب البصرة من مدينة المنصور.
واما أهل الأثر فيقولون: الصراة العظمى حفرها بنو ساسان بعد ما ابادوا النبط» .
مستقيمة يحتاج المصلّي ان ينحرف الى باب البصرة. وكانت الأسواق في مدينته فجاءه رسول لملك الروم. فأمر الربيع فطاف به في المدينة. فقال: كيف رأيت. قال:
رأيت بناء حسنا الا اني رأيت أعدائك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم الى ناحية الكرخ وأمران يجعل في كل ربع من مدينته بقّال يبيع البقل والخل حسب. في سنة خمسين ومائة مات ابو حنيفة النعمان بن ثابت الامام. وفي سنة ثماني وخمسين ومائة سار المنصور من بغداد ليحجّ فنزل قصر عبدويه فانقضّ في مقامه هنالك كوكب بعد اضاءة الفجر وبقي اثره بيّنا الى طلوع الشمس. فأحضر المهدي ابنة وكان قد صحبه ليودّعه فوصله بالمال والسلطان. وقال له ايضا: أوصيك بأهل بيتك ان تظهر كرامتهم فانّ عزّك عزّهم وذكرهم لك وما اظنّك تفعل. وانظر مواليك وأحسن إليهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدّة ان نزلت بك وما أظنك تفعل. وانظر هذه المدينة وإياك ان تبني المدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها وأظنك ستفعل. وإياك ان تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودّعه وبكى كل منهما الى صاحبه. ثم سار الى الكوفة وكلما سار منزلا اشتد وجعه الذي مات به وهو القيام. فلما وصل الى بئر ميمون مات بها مع السحر لستّ خلون من ذي الحجة سنة ثماني وخمسين ومائة. وحمل الى مكة وحفروا له مائة قبر ليعمّوا على الناس ودفن في غيرها مكشوف الرأس لإحرامه وكان عمره ثلثا وستين سنة وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة. وقيل في صفته وسيرته انه كان أسمر نحيفا خفيف العارضين وكان من احسن الناس خلقا ما لم يخرج الى الناس واشدّهم احتمالا لما يكون من عبث الصبيان. فإذا لبس ثيابه وخرج هابه الأكابر فضلا عن الأصاغر. ولم ير في داره لهو ولا شيء من اللعب والعبث. قال حماد التركي: كنت واقفا على رأس المنصور فسمع جلبة فقال: انظر ما هذا. فذهبت فإذا خادم له قد جلس وحوله الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور وهنّ يضحكن فأخبرته فقال: واي شيء الطنبور. فوصفته له. فقال: ما يدريك أنت ما الطنبور. قلت: رأيته بخراسان. فقام ومشى اليهنّ. فلما رأينه تفرّقن. فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور حتى تكسّر الطنبور وأخرجه فباعه. ولما افضى اليه الأمر أمر بتغيير الزي وتطويل القلانس. فجعلوا يحتالون لها بالقصب من داخل. وأمر بعدّ دور اهل الكوفة وقسمة خمسة دراهم على كل دار. فلما عرف عددهم جباهم أربعين درهما أربعين درهما.
وكان المنصور في صدر امره عند ما بنى بغداد أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة. وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه. فقيل له عن جيورجيس بن بختيشوع [1] الجنديسابوريّ انه أفضل الأطباء. فتقدم بإحضاره. فأنفذه العامل بجنديسابور بعد ما أكرمه. فخرج ووصّى ولده بختيشوع بالبيمارستان واستصحب معه تلميذه عيسى ابن شهلاثا ولما وصل الى بغداد أمر المنصور بإحضاره. فلما وصل الى الحضرة دعا له بالفارسية والعربية. فعجب المنصور من حسن منطقه ومنظره وأمره بالجلوس وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون. وخبّره بمرضه. فقال له جيورجيس: انا ادبّرك بمشيّة الله وعونه. فأمر له في الوقت بخلعة جليلة وتقدم الى الربيع بإنزاله في أجمل موضع من دوره وإكرامه كما يكرم اخص الأهل. ولم يزل جيورجيس يتلطف له في تدبيره حتى برى من مرضه وفرح به فرحا شديدا. وقال له يوما: من يخدمك ههنا. قال: تلامذتي.
فقال له الخليفة: سمعت انه ليست لك امرأة. فقال: لي زوجة كبيرة ضعيفة لا تقدر على النهوض من موضعها. وانصرف من الحضرة ومضى الى البيعة. فأمر المنصور خادمه سالما ان يحمل من الجواري الروميّات الحسان ثلاثا الى جيورجيس مع ثلثة آلاف دينار.
ففعل ذلك. فلما انصرف جيورجيس الى منزله عرّفه عيسى بن شهلاثا تلميذه بما جرى وأراه الجواري. فأنكر أمرهن وقال لعيسى: يا تلميذ الشيطان لم ادخلت هؤلاء الى منزلي. أردت ان تنجسني. امض وردّهنّ على أصحابهنّ. فمضى الى دار الخليفة وردهنّ على الخادم. فلما اتصل الخبر الى المنصور أحضره وقال له: لم رددت الجواري.
قال: لا يجوز لنا معشر النصارى ان نتزوّج بأكثر من امرأة واحدة وما دامت المرأة حية لا نأخذ غيرها. فحسن موقع هذا من الخليفة وزاد موضعه عنده. وهذا ثمرة العفة.
ولما كان في سنة اثنتين وخمسين ومائة مرض جيورجيس مرضا صعبا. ولما اشتد مرضه أمر المنصور بحمله الى دار العامة وخرج ماشيا اليه وتعرّف خبره. فخبّره وقال له: ان رأى امير المؤمنين ان يأذن لي في الانصراف الى بلدي لأنظر اهلي وولدي وان متّ قبرت مع آبائي. فقال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وانا اضمن لك الجنة. قال جيورجيس قد رضيت حيث آبائي في الجنة او في النار. فضحك المنصور من قوله ثم قال: انني منذ رأيتك وجدت راحة من الأمراض التي كانت تعتادني. فقال جيورجيس: انا اخلف بين يدي امير المؤمنين عيسى تلميذي فهو ماهر. فأمر لجيورجيس بعشرة آلاف دينار واذن له بالانصراف وانفذ معه خادما وقال: ان مات في الطريق فاحمله
[1-) ] يريد جيورجيس بن جبريل بن بختيشوع.