الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه شيئا وسأله إصلاح هيئة ابن أفلح الاندلسيّ فإنها صحبته من سبتة فاجتمع هو وموسى على إصلاحها وتحرّرها. وخرج من مصر الى الشام ونزل كحلب وأقام بها واشترى ملكا قريبا وتزوّج وخدم اطبّاء الخاص في الدولة الظاهرية بحلب وكان ذكيا.
حادّ الخاطر. قال القاضي الأكرم رحمه الله: كان بيني وبين يوسف هذا مودّة طالت مدّتها فقلت له يوما: ان كان للنفس بقاء وتعقل به حال الموجودات من خارج بعد الموت فعاهدني على ان تأتيني ان متّ قبلي وآتيك ان متّ قبلك. فقال: نعم.
ووصيته ان لا يغفل. ومات واقام سنتين ثم رأيته في النوم وهو قاعد في عرصة مسجد من خارجه في حضيرة له وعليه ثياب جدد بيض من النصفي فقلت له: يا حكيم ألست قرّرت معك ان تأتيني لتخبرني بما ألفيت. فضحك وأدار وجهه فأمسكته بيدي وقلت: لا بدّ ان تقول لي كيف الحال بعد الموت. فقال لي: الكلّيّ لحق بالكلّ وبقي الجزئي في الجزء. ففهمت عنه في حاله كأنه أشار الى النفس الكلية عادت الى عالم الكلّ والجسد الجزئي بقي في الجزء وهو المركب الارضي [1] . فتعجبت بعد الاستيقاظ من لطيف إشارته. نسأل الله العفو عند العود اليه بعد الموت.
(المستنصر بن الظاهر)
ولما توفّي الامام الظاهر بأمر الله بويع ابنه جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله بويع يوم مات والده. ولما بويع البيعة العامّة ركب للناس ركوبا ظاهرا واستمرّ على هذه الحالة مدّة طويلة لا يختفي في ركوبه من الناس وأظهر من العدل وحسن السيرة أضعاف ما أظهره والده وأفاض من الصدقات ما أربى على من تقدّمه وتقدّم بإنشاء مدرسته المعروفة بالمستنصرية التي لم يعمّر في الدنيا مثلها فعمّرت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها. ووقفها على المذاهب الاربعة ورتّب فيها اربعة من المدرّسين في كل مذهب مدرّسا وثلاثمائة فقيه.
لكلّ مذهب خمسة وسبعون فقيها. ورتّب لهم من المشاهرات والخبز. والطعام في كل يوم ما يكفي كل فقيه ويفضل عنه وبنى لهم داخل المدرسة حمّاما خاصا للفقهاء وطبيبا خاصا يتردّد إليهم في بكرة كل يوم يفتقدهم ومخزنا فيه كل ما يحتاج اليه من انواع ما يطبخ من الاطعمة ومخزنا آخر فيه انواع الاشربة والادوية.
وفي سنة اربع وعشرين وستمائة توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق في سلخ ذي القعدة وكان عمره ثمانيا وأربعين سنة [2] . وكانت همته عالية وصار
[1-) ] ويروى: المركز الارضي.
[2-) ] كان ملكه لمدينة دمشق من حين وفاة والده الملك العادل عشر سنين وستة أشهر.
ملكه بدمشق والقدس والسواحل الى ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فاستقرّ ملكه بها وحمل عمّه الملك العزيز وعمه الملك الصالح الغاشية بين يديه.
وفيها قفل جنكزخان من الممالك الغربية الى منازله القديمة الشرقية ثم رحل من هناك الى بلاد تنكوت [1] وهنالك عرض له مرض من عفونة ذلك الهواء الوخيم ولما قوي مرضه استدعى أولاده جغاتاي واوكتاي والغ نوين وكلكان وجورختاي واوردجار [2] وقال لهم: انني قد أيقنت مفارقة الدنيا لعجز قوتي عن حمل ما بي من الآلام ولا بدّ من شخص يقوم بحفظ المملكة على حالها والذّبّ عنها. وقد أعلمتكم غير مرّة ان ابني اوكتاي يصلح لهذا الشأن لما رأيت من مزيّة رأيه المتين وعقله المبين والآن فقد جعلته وليّ عهدي وقلّدته ما بيدي من جميع الممالك فما قولكم في هذا الذي استصوبته. فجثا الأولاد والنوينية المذكورون على ركبهم وقالوا: جنكزخان هو المالك للرقاب ونحن العبيد السامعون المطيعون في جميع ما يتقدّم به على وفق مراده ومرسومه. وعند فراغه من الوصية اشتد وجعه وتوفّي لا ربع مضين من شهر رمضان سنة اربع وعشرين وستمائة وكان مدّة ملكه نحو خمس وعشرين سنة [3] . فأرسل الولدان والأمراء الرسل الى باقي الأولاد والأمراء ليجتمعوا في القوريلتاي [4] اي في المجمع الكبير.
وفي سنة خمس وعشرين وستمائة تردّدت الرسل بين الفرنج والملك الكامل في طلب الصلح فاتفق على تسليم البيت المقدّس الى الفرنج فتسلّموه ومواضع كثيرة أخر من بلاد الساحل. وانما أجابهم الكامل لما رأى من كثرة عساكرهم وأمداد البحر لهم بالرجال والأموال فخاف على بلاده ان تؤخذ منه عنوة فأرضاهم بذلك.
وفي سنة ستّ وعشرين وستمائة تمّ اجتماع الأولاد وأمراء المغول فوصل من طرف القفجاق الأولاد توشي [5] هر دو باتوا سيبان تنكوت بركه بركجار بغاتيمور اقناس جغاتاي. ومن طرف اتميل اوكتاي. ومن طرف المشرق عمهم اوتكين وبلكتاي نوين والجتاي نوين والغ نوين. واما الأولاد الصغار فكانوا في اردو [6] جنكزخان. وفي
[1-) ] تنكوت بلاد شرقي التبت وغربي نهر الصين المسمى «هو» النهر الأصفر.
[2-) ] اوردجار ر اوردجان.- ويروى: اروجان. ويروى في نسخة خطية: اردوجار.
[3-) ] قال دي كوين في تاريخه انه ملك اثنتين وعشرين سنة وعمر ستا وستين سنة.
[4-) ] ويروى: القعريلياي.
[5-) ] يريد توشي وأولاده كما سيرد في الصفحة 248 من هذا الكتاب. وهناك يروى سيبقان بدل سيبان.
وفي نسخة خطية: سبقان بدون ياء. ومعنى توشي: الضيف.
[6-) ] اردو معناها بالتركية المعسكر والمحلة. وقد تستعملها العامة في وقتنا فتقول: اوردي وعرضي.
زمن الربيع حضروا كلهم في عساكرهم وثلثة ايام متوالية فرحوا جميعا ثم شرعوا فيما تقدّم به جنكزخان من الوصية والعهد بالمملكة الى اوكتاي فامتثلوا كلهم الأوامر الجنكزخانية واعترفوا بأهليته لذلك. فاستقالهم اوكتاي الولاية قائلا: ان امر الوالد وان كان لا اعتراض عليه لكن ههنا أخ اكبر مني وأعمام هم اولى مني بها. فلم يقيلوه ايّاها واصرّوا على انه لا بدّ من امتثال مرسوم الوالد وداموا على إصرارهم أربعين يوما وما زالوا يتضرعون اليه ويلحّون عليه بالمسألة حتى أجاب الى ذلك فكشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم وأخذ جغاتاي اخوه الكبير بيده اليمنى واوتكين عمّه بيده اليسرى فأجلساه على سرير المملكة ولقّباه قاان ولزم له الغ نوين كأس شراب فسقاه وجثا كل من كان حاضرا داخل الخزكاه وخارجها على ركبتيه تسع مرّات ودعوا له ثم برزوا كلهم الى خارج وجثوا ثلث مرّات حيال الشمس. وانما اختصّ الغ نوين بلزوم الكاس لأنه أصغر أولاد جنكزخان وفي عادة المغول ان الابن الصغير لا يقتسم ولا يخرج عن بيت أبيه وإذا مات الأب فهو يتولّى تدبير المنزل. ففي تلك الأربعين يوما كان يقول اوكتاي: ان الغ نوين هو صاحب البيت واكثر مواظبة لخدمته وابلغ مني تعلّما لسياسته فالمصلحة تفويض هذا الأمر اليه. فلذلك سبق الجميع بتصريح الطاعة.
واما الأمراء فانتخبوا من بناتهم الأبكار الصالحة لخدمة قاان أربعين بنتا وحملوهنّ مزيّنات بالحليّ الفاخرة والخيول الرائعة الى خدمته. ولما فرغ من هذه الأمور صرف همته الى ضبط الممالك وجهّز جورماغون في ثلثين ألف فارس وسيّرهم الى ناحية خراسان وأنفذ سنتاي بهادر [1] في مثل ذلك العسكر الى جانب قفجاق وسقسين وبلغار وجماعة اخرى الى التبّت وقصد هو بنفسه بلاد الخطا.
وفي سنة سبع وعشرين وستمائة في اوائلها نزل السلطان جلال الدين خوارزمشاه على خلاط وحاصرها اشدّ حصار وشتّى عليها ونصب عليها عشرين منجنيقا على ناحية البحر وفيها أخو الملك الأشرف تقي الدين عباس ومجير الدين يعقوب والأمير حسام الدين القيمريّ وعزّ الدين ايبك مملوك الأشرف. فدام الحصار على اهل خلاط واشتدّ حتى أكلوا لحوم الكلاب وبلغ الخبز كل رطل بالشاميّ بدينار مصريّ فتسلّم خوارزمشاه المدينة والقلعة وانهزم حسام الدين القيمري وأفلت على فرس وحده ومضى الى قلعة قيمر ثم تجهّز الى خدمة الملك الأشرف الى الرقّة واقام عزّ الدين ايبك وتقيّ الدين ومجير الدين مع خوارزمشاه يركبون معه ويلعبون بالكرة. ولما طارت الاخبار
[1-) ] ويروى: سيتاي بهادر. ومعنى بهادر البطل.
الى الملك الأشرف بذلك انزعج وأسار [1] جريدة الى أبلستين. فتلقّاه صاحب الروم علاء الدين كيقباذ من فراسخ واجتمعا ولحقت الملك الأشرف عساكره وخرج علاء الدين بعساكره الى اق شهر هو والملك الأشرف وخرج الخوارزميّ من خلاط للقائهم وكان في أربعين ألفا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا في يوم الجمعة وكان الغلبة فيه للملك الأشرف والروميّ وباتوا ليلة السبت على تعبيتهم الى الفجر من يوم السبت فالتقوا واقتتلوا فانكسر الخوارزميّ كسرة عظيمة وانهزم وقتل من أصحابه خلق لا يحصي عددهم الّا الله وانهزم مثلهم وأسر مثلهم وبلغت هزيمتهم الى جبال طرابيزون فوقع منهم في سقيف هناك ألف وخمسمائة رجل. وساق خوارزمشاه الى صوب خرتبرت فوصلها في يوم وليلة ونجا بنفسه ومضى الى بلاد العجم فأقام في خوى. وكان قد بعث تقيّ الدين عبّاس أخا الأشرف أسيرا مقيدا الى بغداد هدية فأعاده الخليفة المستنصر مكرّما الى الأشرف فوصل الأشرف الى خلاط وأصلح أحوالها ورمّمها ثم بعث رسولا الى خوارزمشاه يسأله الإحسان الى من معه من الأسارى فأجابه بأنّ عندي منكم ملوكا وعندكم منّا مماليك فان أجبتم الى الصلح فانا موافق عليه. فأجابه الملك الأشرف: انك فعلت ببلادنا ما فعلته وما أبقيت من سوء المعاملة والمقابحة شيئا الّا وقد عملته خربت البلاد وسفكت الدماء فان أردت الصلح فانزل عن البلاد التي تغلّبت عليها ولم تكن لأبيك لنعمّر منها ما خرّبت. وامّا قولك بان عندك منّا ملوكا فالذي عندك اخي مجير الدين يعقوب نحن نقدّر انه مات فاخوتي عوضه ونحن بحمد الله في جماعة اهل بيت وأولاد وأقارب نزيد على الفيء فارس وأنت ابتر ما لك احد وخلفك اعداء كثيرة. فمضى الرسول بهذا الجواب فلم يجبه الخوارزميّ الى ما طلبه ولا استقرّ بينهما امر. وكان عزّ الدين ايبك قد سجنه خوارزمشاه في قلعة اختمار فأحضر وقتل. ثم وصله خبر عبور جورماغون نوين نهر امويه في طلبه فتوجّه الى تبريز وأرسل رسولا الى الخليفة وآخر الى الملك الأشرف وصحبته زوجة الأمير حسام الدين القيمريّ التي كان قد أسرها من خلاط ورسولا الى السلطان علاء الدين صاحب الروم يستجيشهم ويعلمهم كثرة عساكر التاتار وحدّة شوكتهم وشدّة نكايتهم وانه إذا ارتفع هو من البين يعجزون عن مقاومتهم وانه كسدّ الإسكندر يمنعهم عنهم فالرأي ان يساعده كلّ منهم بفوج من عسكره ليرتبط بذلك جأش أصحابه ويحجم بهم العدوّ عن البلاد فيحجم. قال من هذا النوع واكثر واستصرخهم فلم يصرخوه واستغاثهم فلم يغيثوه فشتى بأرمية واشتوا. وفي الربيع توجّه
[1-) ] واسار ر وسار.
الى نواحي ديار بكر وصار يزجي أوقاته بالتمتّع واللهو والشراب والطرب كأنه يودّع الدنيا وملكها الفاني. وبينما هو في ذلك يسرّ لا بل يغرّ فجئه هجوم بايماس نوين في عسكره ليلا فتكلّف للانتباه وعاين نيران المغول بالقرب من مكانه فتقدّم الى الأمير اورخان ان يلمّ به الجماعة ويشغل المغول عند الصبح بالاقدام تارة والاحجام أخرى وفرّ هو مع ثلاثة نفر من مماليكه تائها في جبال ديار بكر. فلما أصبحوا ظنّ المغول ان جلال الدين خوارزمشاه فيهم فجدّوا في طلبهم طاردين في أعقابهم وهم منهزمون بين أيديهم ولما تحققوا انه ليس معهم رجعوا عنهم. فاما جلال الدين خوارزمشاه فأوقع به قوم من الأكراد ببعض جبال آمد ولم يعرفوه وقدّروه من بعض جند الخوارزميّة فقتلوه والمملوكين طمعا في ثيابهم وخيلهم وسلاحهم. استنبط ذلك من جهة ان بعد مديدة يسيرة دخل بعض أولئك الأكراد الى آمد وعليه من سلاح جلال الدين. فعرفه مملوك له كان قد لجأ الى صاحب آمد فقبض الكرديّ وقرّر فأقرّ بما افتعله هو وأصحابه فأحضرهم وقتلهم حنقا عليهم. وقال قوم ان المقتول لم يكن جلال الدين وانما كان سلاحداره لأنه يومئذ لم يحمل سلاحا ولا كان يلبس ثياب العادة وانما كان بزيّ الصوفيّة مع أصحابه ولذلك دائما كان يرجف الناس ان جلال الدين خوارزمشاه قد رأوه بالبلد الفلاني وبالمدينة الفلانية حتى انه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة اتفق جماعة من التجار عابرين على نهر جيحون وهناك القراغول وهم مستحفظو الطرق فأنكروا على فقير كان صحبة التجار مجهول فلما قرّروه أقرّ انه جلال الدين خوارزمشاه فقبضوه وكرّروا عليه العذاب والسؤال فلم يغيّر كلامه الى ان مات تحت العقوبة. فان لم يكن هو واعتمد ذلك الى هذه الغاية فلا شكّ ان الجنون فنون.
ولما استقرّ قاان في الملك وانقاد له القاصي والداني من جيوش المغول عزم على فتح بلاد الخطا وسيّر في مقدمته أخويه جغاتاي والغ نوين وباقي الأولاد في عساكر عظيمة.
فساروا ونازلوا أولا مدينة يقال لها حرجا [1] بنو يقسين وهي على شط قراموران [2] فأحاطوا بها وحصروها مدّة أربعين يوما وكان فيها عشرة آلاف من فرسان الخطا فلما عاينوا العجز عن مقاومة المغول ركبوا السفن التي كانوا اعدّوها هاربين. وطلب اهل البلد الامان فأومنوا ورتّب المغول عندهم الشحاني وقصدوا باقي المواضع. وجهز قاان أخاه الغ نوين وولده كيوك وسيّرهم في عشرة آلاف فارس في المقدّمة وسار هو بعقبهم
[1-) ] ويروى: خواجا.
[2-) ] معنى قراموران بلغة التتر النهر الأسود.
فتمهل ومعه العسكر الكبير. فجيّش التون خان ملك الخطا [1] مائة ألف من شجعانه وقدّم عليهم أميرا [2] من أمرائه وأنفذهم للقاء المغول. فلما وصلوا إليهم استحقروهم لقلّتهم بالنسبة إليهم وتهاونوا في أمرهم وأرادوا ان يسوقوهم كما هم الى ملكهم التون خان ليفرجوا بهم عنه غمّه إذا هو ضرب عليهم حلقة وصادهم صيدا. فشغلهم المغول بفتور المكافحة واطمعوهم الى ان وصلت الأفواج التي مع قاان فأوقعوا بعسكر الخطا ولم يفلت منهم الّا النزر. وكان التون خان بمدينة تسمّى نامكينك [3] فلما بلغه الخبر بما جرى على أصحابه ارتاع وأيس من حياة الدنيا وجمع أولاده ونساءه وكل من يعزّ عليه ودخلوا بيتا من بيوت الخشب وأمر بضرب النار فيه فاحترق هو ومن معه أنفة من الوقوع في أسر المغول. ودخلت عساكر المغول الى المدينة ونهبوا وأسروا البنين والبنات وأمّنوا الباقي.
وفتحوا غيرها من المدن المشهورة ورتّب بها قاان الشحاني وقفل الى مواضعه القديمة وبنى بها مدينة سمّاها اردوباليق وهي مدينة قراقورم وأسكنها خلقا من اهل الخطا وتركستان والفرس والمستعربين. وبينما هم مسرورون بفتح بلاد الخطا توفّي تولي خان وكان احبّ الاخوة الى قاان فاغتمّ لذلك كثيرا وأمر ان زوجته المسمّاة سرقوتنى بيكي وهي ابنة اخي اونك خان تتولّى تدبير عساكره وكان لها من الأولاد اربعة بنين مونككا قوبلاي هولاكو اريغبوكا. فأحسنت تربية الأولاد وضبط الاصحاب وكانت لبيبة مؤمنة تدين بدين النصرانية تعظم محلّ المطارنة والرهبان وتقتبس صلواتهم وبركتهم وفي مثلها قال الشاعر:
فلو كان النساء كمثل هذه
…
لفضّلت النساء على الرجال
وبعد قليل مات ايضا الأخ الكبير وهو المسمّى توشي وخلف سبعة بنين وهم تمسل هر دو باتوا سيبقان تنكوت بركه بركجار. ومن بين هؤلاء لباتوا سلّم قاان البلاد الشمالية وهي بلاد الصقالبة واللّان والروس والبلغار وجعل مخيمه على شاطئ نهر اتل وغزا هذه النواحي فقتل فيها خلائق بلغ عددهم مائتي ألف وسبعين ألفا علم ذلك من آذان القتلى التي قطعوها امتثالا لمرسوم قاان لأنه تقدّم بقطع الاذن اليمنى من كل قتيل. وبعد فراغ باتوا من امر الصقالبة تجهز للدخول الى نواحي القسطنطينية فبلغ
[1-) ] التون او الطون معناه الذهب وخان هو الملك بلغتهم. والطون خان لقب ملوك الخطا من آل كين ومعنى كين ايضا الذهب.
[2-) ] أميرا ر أميرين.
[3-) ] ويروى: نامليك.
ذلك ملوك الفرنج فجاؤوا حافلين حاشدين والتقوا المغول في أطراف بلد البلغار وجرت بينهم حروب كثيرة انجلت عن كسرة المغول وهزيمتهم وهربهم فقفلوا من غزاتهم هذه ولم يعودوا يتعرضون الى بلاد يونان وفرنجة الى يومنا هذا.
وفي سنة ثلثين وستمائة أرسل السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم رسولا الى قاان وبذل الطاعة. فقال قاان للرسول: اننا قد سمعنا برزانة عقل علاء الدين واصابة رأيه فإذا حضر بنفسه عندنا يرى منا القبول والإكرام ونولّيه الاختاجية في حضرتنا وتكون بلاده جارية عليه. فلما عاد الرسول بهذا الكلام تعجب منه كل من سمعه واستدلّ على ما عليه قاان من العظمة. وفيها أخذ علاء الدين خلاط وسرمارى [1] من الملك الأشرف وغزا الأشرف مدينة حصن منصور وأغار عليها وأخذ الكامل مدينة آمد من صاحبها وعوّضه عنها قرى بالشام. وفيها توفّي مظفّر الدين كوكبري بن زين الدين عليّ كوجك صاحب اربل في رمضان وحمل الى مكة فدفن بها وولي اربل انسان شريف يقال له ابو المعالي محمد بن نصر بن صلايا من قبل الخليفة المستنصر. وفي سنة احدى وثلثين وستمائة مات ناصر الدين محمود بن القاهر بن نور الدين صاحب الموصل ووصل التقليد من الخليفة لبدر الدين لؤلؤ بالولاية فخطب له على المنابر بالسلطنة. وفي سنة اثنتين وثلثين حصر السلطان علاء الدين مدينة الرها وملكها عنوة فدخلها الروميّون ووضعوا السيف بها ثلثة ايام وقتلوا النصارى والمسلمين فتكا ونهبا فأصبح الرهاويّون فقراء لا يملكون شيئا ونهبت البيع وأخذ ما فيها من الكتب والصلبان وآلات الذهب والنقرة وحمل اهل حرّان مفاتيح قلعتها فملكوها هدنة وملكوا الرقّة والبيرة ايضا. فلما عاد عنها عسكر الروم قصد الملك الكامل الرها وحاصرها اربعة أشهر ثم ملكها وهدم برجا كبيرا من ابرجة قلعتها وحمل من وجد بها من الروميين كل اثنين على جمل وبعث بهم الى مصر مقيّدين.
وفي سنة ثلث وثلثين وستمائة غزا التاتار بلد اربل وعبروا الى بلد نينوى ونزلوا على ساقية قرية ترجلى [2] وكرمليس فهرب اهل كرمليس ودخلوا بيعتها وكان لها بابان فدخلها المغول وقعد أميران منهم كل واحد على باب وأذنوا للناس في الخروج عن البيعة فمن خرج من احد بابيها قتلوه ومن خرج من الباب الآخر أطلقه الأمير الذي على ذلك الباب وأبقاه فتعجب الناس لذلك.
[1-) ] سرمارى بضم اوله وسكون ثانيه قلعة عظيمة وولاية واسعة بين تفليس وخلاط.
[2-) ] هي ترجلّه. ويروى: على ساقية قرية كرمليس.
وفي سنة اربع وثلثين وستمائة توفّي السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم بغتة لأنه كان قد صنع دعوة عظيمة حضر بها الأمراء الأكابر واتباعهم واكثر الجند.
فبينما هو يظهر السرور والفرح ويتباهى بما أعطي من الملك إذ حسّ بوجع في احشائه وأخذته خلفة فاختلف الى المتوضإ فانسهل برارا دمويا صرفا كثير المقدار وسقطت قوته في الحال. وفي اليوم الثاني من هذا العرض مات وكان ملكه ثماني عشرة سنة وكان عاقلا عفيفا ذا بأس شديد على حاشيته وأمرائه وكانت الدولة السلجوقية قبله محلولة بسبب الخلف الواقع بين أولاد قلج ارسلان فلما وليها علاء الدين أعاد جدّتها وجدّد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه واتسع ملكه جدا ودان له العالم وبحقّ قيل له سلطان العالم وحضر عنده الملوك وأذعنوا له بالطاعة وكان قاسي القلب. ولما توفّي احضر الأمراء ولده غياث الدين كيخسروا فبايعوه وحلفوا له. وفيها توفّي الملك العزيز بن الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب وولي بعده ابنه الملك الناصر صلاح الدين وهو آخر الملوك من بيت أيوب قتله هولاكو في سنة ثماني وخمسين وستمائة.
وفيها اعني سنة اربع وثلثين في شهر شوّال غزا التاتار بلد اربل وهرب اهل المدينة الى قلعتها. فحاصروها أربعين يوما ثم أعطوا مالا فرحلوا عنها. ولما ولي السلطان غياث الدين كيخسرو السلطنة ببلد الروم قبض على غاير خان امير الخوارزمية فهرب باقي الخوارزمية وامراؤهم ولما اجتازوا بملطية وكاختين [1] وخرتبرت [2] أسروا سيف الدولة السوباشي [3] وقتلوا ببرمير [4] سوباشي خرتبرت وأغاروا على بلد سميساط وعبروا الى السويداء فأقطعهم الملك الناصر صاحب حلب ما بين النهرين الرها وحرّان وغيرهما فكفّوا عن الفساد والغارات. وفي سنة خمس وثلثين وستمائة توفّي الملك الأشرف بن الملك العادلى بن أيوب بدمشق وكان عمره ستين سنة وكان كريما سخيا مقبلا على التمتع بالدنيا ولذاتها يزجي أوقاته برفاغية من العيش. وفيها مات ايضا الملك الكامل بن الملك العادل بن أيوب صاحب مصر بدمشق ودفن بها وكان عمره سبعين سنة وكان عاقلا فاضلا حسن السياسة كثير الاصابة سديد الرأي شديد الهيبة عظيم الهمّة محبا للفضائل وأهلها.
[1-) ] لعلها كاختا. قال ابو الفداء: كاختا قلعة عالية البناء لا ترام حصانة بينها وبين ملطية مسيرة يومين وملطية عنها في جهة الغرب.
[2-) ] خرتبرت هو الحسن المعروف بحصن زياد في أقصى ديار بكر من بلاد الروم بينه وبين ملطية مسيرة يومين وبينهما الفرات.
[3-) ] ويروى: الزوباشي.
[4-) ] ويروى: تبرمير.
وفيها غزا التاتار العراق ووصلوا الى تخوم بغداد الى موضع يسمّى زنكاباذ والى سرّمرّأى [1] . فخرج إليهم مجاهد الدين الدويدار وشرف الدين إقبال الشرابيّ في عساكرهما فلقوا المغول وهزموهم وخافوا من عودهم فنصبوا المنجنيقات على سور بغداد.
وفي آخر هذه السنة عاد التاتار الى بلد بغداد ووصلوا الى خانقين فلقيهم جيوش بغداد فانكسروا وعادوا منهزمين الى بغداد بعد ان قتل منهم خلق كثير وغنم المغول غنيمة عظيمة وعادوا. وفيها حدث ببغداد مدّ دجلتها مدا عظيما هائلا وغرق دور كثيرة وغرق سفينتان فهلك فيهما نحو خمسين نسمة. وفي سنة سبع وثلثين وستمائة جهز السلطان غياث الدين جيوشا الى ارمينية فامتنع المغول من الدخول الى بلد الروم.
وفي سنة ثماني وثلثين وستمائة ظهر ببلد اماسيا من اعمال الروم رجل تركمانيّ ادّعى النبوّة وسمّى نفسه بابا فاستغوى جماعة من الغاغة بما كان يخيل إليهم من الحيل والمخاريق.
وكان له مريد اسمه اسحق يتزيّا بزيّ المشايخ فأنفذه الى أطراف الروم ليدعو التركمانيين الى المصير اليه. فوافى اسحق هذا بلد سميساط واظهر الدعوة لبابا فاتبعه خلق كثير من التركمان خصوصا وكثف جمعه وبلغ عدد من معه ستة آلاف فارس غير الرجالة فحاربوا من خالفهم ولم يقل كما يقولون لا إله الّا الله بابا رسول الله فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين والنصارى من اهل حصن منصور وكاختين وكركر [2] وسميساط وبلد ملطية ممن لم يتبعهم وكانوا يهزمون كلّ من لقيهم من العسكر حتى وصلوا الى اماسيا. فانفذ إليهم السلطان غياث الدين جيشا فيه جماعة من الفرنج الذين في خدمته فحاربوهم وكان الجند المسلمون لم يتجرءوا عليهم ويحجموا عنهم لما توهموا منهم. فأخّر الفرنج المسلمين وتولّوا بأنفسهم محاربة الخوارج فكشفوهم ورموا فيهم السيف وقتلوهم طرّا وأسروا الشيخين بابا واسحق فضرب عنقاهما وكفوا الناس شرهم.
وفي سنة تسع وثلثين حاصر جرماغون نوين مدينة ارزن الروم وملكها عنوة وقتل فيها خلائق من أهلها وسبى الذراريّ وشنّ الغارة عليها وقتل سنان سوباشها. وفي سنة أربعين وستمائة سار السلطان غياث الدين كيخسروا الى ارمينية في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز احد مثله في عساكره وعساكر اليونانيين والفرنج والكرج والأرمن والعرب
[1-) ] ويروى: سرّ من رأى.
[2-) ] قال ابو الفداء: كركر قلعة حصينة شاهقة وترى الفرات منها كالجدول الصغير وهي على جانب الفرات الغربي. وهي بالقرب من كختا من شرقيها.
لمحاربة التاتار فالتقى العسكران بنواحي ارزنكان [1] بموضع يسمّى كوساذاغ واوّل وهلة باشر المسلمون ومن معهم الجيوش النصرانية الحرب وهلوا وأدبروا وولوا هاربين فانهزم السلطان مبهوتا فأخذ نساءه وأولاده من قيساريّة وسار الى مدينة انقورة فتحصن بها. واقام المغول يومهم ذلك مكانهم ولم يقدموا على التقدم فظنوا ان هناك كمينا إذ لم يروا قتالا يوجب هزيمتهم وهم في تلك الكثرة من الأمم المختلفة.
فلما تحققوا الأمر انتشروا في بلاد الروم فنازلوا أولا مدينة سيواس فملكوها بالأمان وأخذوا اموال أهلها عوضا عن أرواحهم واحرقوا ما وجدوا بها من آلات الحرب وهدموا سورها.
ثم قصدوا مدينة قيسارية فقاتل أهلها أياما ثم عجزوا ففتحوها عنوة ورموا فيها السيف وابادوا أكابرها واغنياءها معاقبين على اظهار الأموال وسبوا النساء والأولاد وخربوا الأسوار وعادوا ولم يتوغّلوا في باقي بلاد السلطان. ولما سمع اهل ملطية ما فعل التاتار بقيساريّة هلعوا وجزعوا افحش الجزع. فاجفل رشيد الدين الخويني [2] أميرها ومعه أصحابه طالبين حلب وكذلك من امكنه الهرب من أماثلها. وكان من جملة من يريد الخروج بأهله والدي فأحضر الدوابّ وكان لنا فيها بغل للسرج فلما أرادوا شدّ الاكاف عليه ليحمّلوه شمص وتفلّت. فبينما هم يتبعونه في الزقاق ليلزموه قالوا لهم: ان الفتيان من العامّة وثبوا في باب المدينة وينهبون كل من رأوه يخرج. فأمسك والدي عن الخروج واجتمع بالمطران دينوسيوس وتشاوروا في مرابطة المدينة وجمعا المسلمين والنصارى في البيعة الكبيرة وتحالفوا ان لا يخون بعضهم بعضا ولا يخالفوا المطران في جميع ما يتقدم إليهم من مداراة التاتار والقيام بحفظ المدينة والبيتوتة على اسوارها وكفّ اهل الشرّ عن الفساد. فنظر الله الى حسن نيّاتهم ودفع العدو عنهم ووصلوا بالقرب من ملطية ولم يتعرّضوا إليها. واما الذين خرجوا من المدينة مجفلين فأدركهم المغول عند قرية يقال لها باجوزة على عشر فراسخ من المدينة فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأولاد ومن سلم منهم في المغائر والشعاب والاودية الغائرة من النساء والرجال عاد الى ملطية عريانا حافيا وكان ذلك في شهر تموز سنة ألف وخمسمائة واربع وخمسين للإسكندر. وكرّ المغول على مدينة ارزنكان وملكوها عنوة وقتلوا رجالها وسبوا الذراريّ ونهبوها وخربوا سورها ومضوا. ولما رأى السلطان العجز عن مقاومة التاتار أرسل إليهم رسلا يطلب الصلح فصالحوه على مال وخيل وأثواب وغيرها يعطيهم كل سنة مبلغا معينا مقاطعة.
[1-) ] أرزنجان وأهلها يقولون ارزنكان بالكاف بلدة من بلاد ارمينية بين بلاد الروم وخلاط قريبة من ارزن الروم.
[2-) ] ويروى: الجويني.
وفيها توفّي الامام المستنصر بالله الخليفة ببغداد وكان عاقلا عادلا لبيبا كريما كثير الصدقات عمّر المدارس والمساجد والرباطات القديمة وكان قد تهدّم معظمها ومن شدّة غرامه بمدرسته المعروفة بالمستنصريّة اعمر لصقها بستانا خاصا له فقلّ ما يمضي يوم الّا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في ايوان المدرسة ينظر الى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر الى المدرسة ويشاهد أحوالها واحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد أحوالهم. وكانت مدة خلافته نحو ثماني عشرة سنة.
وفي سنة خمس وعشرين وستمائة توفّي حسنون الطبيب الرهاويّ وكان فاضلا في فنّه علما وعملا ميمون المعالجة حسن المذاكرة بما شاهده من البلاد. وكان اكثر مطالعته في كتاب اللوكري في الحكمة. وكان شيخا بدينا بهيا دخل الى مملكة قلج ارسلان وخدم أمراء دولته كأمير اخور سيف الدين واختيار الدين حسن واشتهر ذكره. ثم خرج الى ديار بكر وخدم من حصل هناك من بيت شاه ارمن وهزار ديناري ثم الداخلين على تلك الديار من بيت أيوب ورجع الى الرها. ولما تحقق ان طغرل الخادم تولّى اتابكية حلب وله به معرفة من دار أستاذه اختيار الدين حسن في الديار الرومية جاء اليه الى حلب ولم يجد عنده كثير خير وخاب مسعاه فانه كان منكسرا عند اجتماعه به وانفصاله عنه. فلما عوتب الخادم على ذلك من احد خواصّه قال: انا مقصّر بحقه لأجل النصرانية. ولما عزم على الارتحال الى بلده أدركته حمّى أوجبت له اسهالا سحجيا ثم شاركت الكبد في ذلك فقضى نحبه ودفن في بيعة اليعاقبة بحلب.
وفي سنة ستّ وعشرين وستمائة توفّي يعقوب بن صقلان الطبيب النصراني الملكي المقدسي وكان مولده بالقدس الشريف وبه قرأ شيئا من الحكمة على تاذوري الفيلسوف الانطاكي وسيأتي ذكره بعد هذا التاريخ. واقام يعقوب هذا بالقدس على حالته في مباشرة البيمارستان الى ان ملكه الملك الأعظم [1] بن الملك العادل بن أيوب فاختصّ به ولم يكن عالما وانما كان حسن المعالجة بالتجربة البيمارستانية ولسعادة كانت له. ثم نقله الملك المعظم الى دمشق وارتفعت عنده حاله وكثر ماله وأدركه نقرس ووجع مفاصل أقعده عن الحركة حتى قيل ان الملك المعظم كان إذا احتاج اليه في امراضه استدعاه
[1-) ] الأعظم ر المعظم وهو الصواب.