الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان في هذا الزمان من الحكماء المشهورين بالمشرق السموءل بن ايهوذا المغربيّ الاندلسيّ الحكيم اليهوديّ قدم هو وأبوه الى المشرق وكان أبوه يشدو شيئا من الحكمة وكان ولده السموءل قد قرأ فنون الحكمة وقام بالعلوم الرياضيّة وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنّفات وصنّف كتبا في الطبّ وارتحل الى اذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولادا هناك سلكوا طريقته في الطبّ ثم أسلم وصنّف كتابا في اظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراغة قريبا من سنة سبعين وخمسمائة. وكان في هذا الأوان ايضا الرحبي الطبيب نزيل دمشق من اهل الرحبة أصله كان من الرحبة حسن المعالجة لطيف المباشرة نزه النفس يعاني التجارة ورزق بها مالا جما وأولادا مرضيّي الطريقة لهم اشتغال جيد في هذا الفنّ وكان كثير التنعّم [1] حسن المركب والملبس والمأكل والمنزل يلزم في أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة. وقيل له: ما ثمرة هذا. قال: ان يعيش الإنسان العمر الطبيعيّ.
فقيل له: أنت قد بلغت من السنّ ما لم يبق بينك وبين العمر الطبيعيّ الا القليل فأيّ حاجة الى هذا التكلّف. فقال: لأبقى ذلك القليل فوق الأرض واستنشق الهواء واتجرّع الماء ولا أكون تحت التراب بسوء التدبير. ولم يزل على حالته الى ان أتاه أجله في أوائل سنة اثنتين وثلثين وستمائة وخلف ثلثة بنين اثنان منهم طبيبان فاضلان وسيأتي ذكرهما.
قال الرحبي هذا: استدعاني نور الدين محمود في مرضه الذي توفّي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا اليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق وقد تمكنّت منه الخوانيق وقارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته وكان يخلو فيه للتعبّد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه.
فلما دخلنا ورأينا ما به قلت له: كان ينبغي ان لا تؤخّر احضارنا الى ان يشتدّ بك المرض. الآن ينبغي ان تعجل الانتقال من هذا الموضع الى مكان فسيح مضيء فله اثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه وأشرنا بالفصد فقال: ابن ستين سنة لا يفتصد.
وامتنع عنه فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء.
(الناصر بن المستضيء) :
ولما مات المستضيء قام ظهير الدين ابن العطّار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله ابي العباس احمد. فلما تمّت البيعة صار الحاكم في الدولة مجد الدين ابو الفضل بن الصاحب. وفي سابع ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة قبض على ابن العطار ووكل عليه في داره ثم نقل الى التاج وقيّد وطلبت ودائعه وأمواله ثم أخرج ميتا على رأس حمّال سرا فغمز به بعض العامة فثار به العامة فألقوه عن رأس
[1-) ] التنعم ر الدرهم.
الحمّال وكشفوا سوءته وشدّوا في ذكره حبلا وسحبوه في البلد وكانوا يضعون بيده مغرفة ويقولون: وقّع لنا يا مولانا. الى غير ذلك من الأفعال الشنيعة. ثم خلّص من أيديهم ودفن. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفّه عن أموالهم واعراضهم. وفي سنة ستّ وسبعين ثالث صفر توفّي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل [1] وولي اخوه عزّ الدين الموصل واعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده معزّ الدين سنجر شاه [2] واعطى قلعة شوش [3] وبلد [؟] لابنه الصغير ناصر الدين كبك [4] وكان المدبّر لدولة عزّ الدين مجاهد الدين قيماز واستقرّت الأمور ولم يختلف اثنان.
وفيها توفيّ شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالاسكندرية.
وفي سنة سبع وسبعين في رجب توفّي الملك الصالح اسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها وعمره نحو تسع عشرة سنة. فلما ايس من نفسه احضر الأمراء ووصاهم بتسليم البلد الى ابن عمّه عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي فتسلّم حلب ثم سلّمها لأخيه عماد الدين وأخذ عوضا عنها مدينة سنجار. وفي سنة ثماني وسبعين سيّر صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين الى اليمن فتملكها وتغلّب عليها.
وفيها عبر صلاح الدين الفرات الى الديار الجزرية وملك الرها وحرّان والرقّة وقرقيسياء وماكسين [5] وعربان [6] ونصيبين وسار الى الموصل وبها عزّ الدين صاحبها ونائبه مجاهد الدين قد جمعا بها العساكر الكثيرة من فارس وراجل واظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار. فلما قرب صلاح الدين من البلد رأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه ومع هذا نزل عليها وانشب القتال. وخرج اليه يوما بعض العامّة فنال منه وأخذ لالكة من رجله فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميرا يقال له جاولي الاسديّ وهو مقدّم الاسديّة وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك ألما شديدا وأخذ اللالكة وعاد عن القتال الى صلاح الدين وقال: قد قابلنا اهل الموصل بحماقات ما رأينا مثلها بعد.
[1-) ] وكان عمره حينئذ نحو ثلاثين سنة وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر.
[2-) ] كان أراد سيف الدين ان يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه وكان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة فخاف على الدولة من ذلك لان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام وقوي امره.
[3-) ] هي قلعة عظيمة عالية جدا قرب عقر الحميدية من اعمال الموصل. قيل هي أعلى من العقر واكبر ولكنها في القدر دونها.
[4-) ] يروى في الكامل كسك بدل كبك.
[5-) ] مدينة بالجزيرة.
[6-) ] عربان بليدة بالخابور من ارض الجزيرة.
وألقى اللاكة وحلف انه لا يعود يقاتل عليها انفة حيث ضرب بها. فلما رأى صلاح الدين انه لا ينال من الموصل غرضا ولا يحصل على غير العناء والتعب سار عنها الى سنجار وملكها. وفي سنة تسع وسبعين ملك صلاح الدين مدينة آمد وسلّمها الى نور الدين محمد بن قرا ارسلان صاحب الحصن وكان صلاح الدين قد نزل بحرزم [1] وطمع ان يملك ماردين فلم ير لطمعه وجها فسار عنها الى آمد على طريق البارعية.
وفيها سار صلاح الدين الى حلب فنزل بجبل جوشن وأظهر انه يريد يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره. فمال عماد الدين زنكي الى تسليم حلب وأخذ العوض عنها فتقرّر الصلح على ان يسلّم حلب الى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقّة وسروج. وجرت اليمين على ذلك فباعها باوكس الأثمان أعطى حصنا مثل حلب وأخذ عوضها قرى ومزارع فقبّح الناس كلهم ما اتى.
وفي سنة ثمانين وخمسمائة مات قطب الدين بن ايلغازي بن نجم الدين البي بن تمرتاش ابن ايلغازي بن ارتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حسام الدين يولق [2] ارسلان وهو طفل وكان شاه ارمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته بعد موته فرتّب نظام الدين التقش [3] مع ولده وقام بتربيته وتدبير مملكته وكان ديّنا خيّرا فأحسن تربية الولد وتزوّج امّه فلما كبر الولد لم يمكّنه النظام من مملكته لخبط وهوج كان فيه.
ولم يزل الأمر على ذلك الى ان مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتّبه النظام في الملك وليس له منه الا الاسم والحكم الى النظام والى مملوك له اسمه لؤلؤ فبقي كذلك الى سنة احدى وستمائة. فمرض التقش النظام فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه قطب الدين بسكين معه فقتله. ثم دخل الى النظام فقتله ايضا وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين الى الأجناد فأذعنوا له بالطاعة واستولى على قلعة ماردين وقلعة البارعيّة والصّور وحكم فيها وحزم في أفعاله.
وفي سنة احدى وثمانين وخمسمائة حصر صلاح الدين الموصل مرّة ثانية فسيّر أتابك عزّ الدين صاحبها والدته اليه ومعها ابنة عمّه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من اعيان الدولة يطلبون المصالحة. وكلّ من عنده ظنّوا انهنّ إذا طلبن منه الشام اجابهنّ الى ذلك لا سيما ومعهنّ ابنة مخدومه ووليّ نعمته نور الدين. فلما وصلن
[1-) ] حرزم بليدة في واد ذات نهر جار وبساتين بين ماردين ودنيسر من اعمال الجزيرة.
[2-) ] يولق ر بولق س [؟] .
[3-) ] كذا في الأصل. والصواب البقش.
اليه انزلهنّ واعتذر بأعذار غير مقبولة واعادهنّ خائبات. فبذل العامّة نفوسهم غيظا وحنقا لردّه النساء. فندم صلاح الدين على ردّ النساء وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبّحون فعله وينكرونه. وكان عامّة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون. فعزم صلاح الدين على قطع دجلة عن الموصل الى ناحية نينوى ليعطش اهل الموصل فيملكها بغير قتال ثم علم انه لا يمكن قطعه بالكلية وان المدّة تطول والتعب يكثر فأعرض عنه ورحل الى ميّافارقين لأنه سمع ان شاه ارمن صاحب خلاط توفّي ولم يخلف ولدا وقد استولى على بلاده مملوك له اسمه بكتمر. فسيّر صلاح الدين في مقدّمته ابن عمّه ناصر الدين محمد [1] بن شير كوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما فساروا الى خلاط فنزلوا بطوانة. وسار صلاح الدين الى ميّافارقين وسار البهلوان بن ايلدكر صاحب اذربيجان فنزل قريبا من خلاط وتردّدت رسل اهل بينهم وبين البهلوان وصلاح الدين. ثم انهم أصلحوا [2] أمرهم مع البهلوان وصاروا من حزبه وخطبوا له.
وفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة توفّي البهلوان محمد بن ايلدكر صاحب بلاد الجبل والريّ وأصفهان واذربيجان وارّان وملك بعده اخوه قزل ارسلان واسمه عثمان. وفي سنة ثلث وثمانين ملك صلاح الدين مدينة طبريّة وقلعتها وسار عنها ونزل على عكة. ولما صمّم على الزحف الى البلد خرج الأعيان من أهلها اليه يطلبون الامان فأجابهم الى ذلك وامّنهم على نفوسهم وأموالهم وخيّرهم بين الاقامة والطعن فاختاروا الرحيل وساروا منها متفرّقين وحملوا ما أمكنهم من أموالهم وتركوا الباقي على حاله. وسلّم صلاح الدين البلد الى ولده الأفضل وغنم المسلمون ما بقي ممّا لم يطق الفرنج حمله. وفيها ملك صلاح الدين قيسارية وحيفا وصفّورية والشّقيف والفولة ويافا وتبنين وصيدا وبيروت وجبيل وعسقلان.
ولما فرغ صلاح الدين من امر هذه الأماكن سار الى البيت المقدّس فلما نزل عليه المسلمون رأوا على سوره من الرجال ماها لهم وبقي صلاح الدين خمسة ايام يطوف حول المدينة لينظر من اين يقاتل لأنه في غاية الحاصنة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال الا من جهة الشمال نحو باب عمود او كنيسة [3] صهيون [4] فانتقل الى هذه [5]
[1-) ] محمد ر محمود.
[2-) ] أصلحوا ر اصطلحوا وأصلحوا.
[3-) ] عمودا او كنيسة ر عمودا وكنيسته.
[4-) ] ان في هذه العبارة غلطا بينا لان كنيسة صهيون كانت في جهة الجنوب. قال العلامة الادريسي في ذكر بيت المقدس «ولها من جهة الجنوب باب يسمى باب صهيون ومن جهة الشمال باب عمود الغراب» .
[5-) ] هذه ر تلك.
الناحية في العشرين من رجب فنزلها ونصب تلك الليلة المنجنيقات ونصب الفرنج على سور البلد المنجنيقات وتقاتل الفريقان اشدّ قتال كلّ منهما يرى ذلك دينا وحتما واجبا فلا يحتاج فيه الى باعث سلطانيّ بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون.
فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين وتحكّم المنجنيقات بالرمي المتدارك وتمكّن النقّابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة الى صلاح الدين يطلب الامان.
فأبى السلطان وقال: لا افعل بكم الا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة احدى وتسعين واربعمائة من القتل والسبي. فقال له باليان: ايها السلطان اعلم اننا في هذه المدينة في خلق كثير وانما يفترون عن القتال رجاء الامان. فإذا رأينا ان الموت لا بد منه فو الله لنقتلنّ أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منّا دينارا ولا درهما ولا تسبون وتأسرون رجلا او امرأة. فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ولا نترك لنا دابّة ولا حيوانا الّا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلّنا وحينئذ لا يقتل الرجل منّا حتى يقتل أمثاله ونموت اعزّاء او نظفر كرماء فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على اجابتهم الى الامان وان لا يحرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن اي شيء ينجلي. فأجاب صلاح الدين حينئذ الى بذل الامان للفرنج واستقرّ ان يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير وتزن المرأة خمسة دنانير ويزن الطفل من الذكور والإناث دينارين فمن ادّى ذلك الى أربعين يوما فقد نجا والا صار مملوكا. فبذل باليان عن الفقراء ثلثين ألف دينار فأجيب الى ذلك وسلّمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب.
ولما فرغ صلاح الدين من امر بيت المقدس سار الى مدينة صور وقد خرج إليها المركيس وصار صاحبها وقد ساسها احسن سياسة. فقسم صلاح الدين القتال على العسكر كل جمع لهم وقت معلوم يقاتلون فيه بحيث يتصل القتال على اهل البلد على ان الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة تكفيه الجماعة اليسيرة من اهل البلد تحفظه وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر الى البحر فلا يكاد الطائر يطير عليها لان المدينة كالكفّ في البحر والساعد متصل بالبرّ والبحر في جانبي الساعد والقتال انما هو في الساعد فلذلك لم يتمكن منها صلاح الدين ورحل عنها. وكان للمسلمين خمس قطع من الشواني مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول اليه فنازلتهم شواني الفرنج وقت السحر وضايقتهم وأوقعت بهم فقتلوا من أرادوا وأخذوا الباقين بمراكبهم وأدخلوهم
ميناء صور والمسلمون من البرّ ينظرون إليهم. ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني فمنهم من سبح ونجا منهم من غرق. وفي سنة اربع وثمانين فتح صلاح الدين جبلة واللاذقيّة وصهيون وشغر بكاس ودر بساك وبغراس والكرك وصفد. وهادون صلاح الدين البرنس بيموند [1] صاحب انطاكية وطرابلس ثمانية أشهر.
وفي سنة سبع وثمانين وصلت أمداد الفرنج في البحر الى الفرنج النازلين على عكّة يحاصرونها. وكان أول من وصل منهم فيليب ملك افرنسيس وهو من اشرف ملوكهم نسبا وان كان ملكه ليس باكثير فقويت به نفوسهم اي الذين كانوا على عكة ولجّوا في قتال المسلمين الذين فيها. وكان صلاح الدين على شفرعمّ فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال على مزاحفة البلد وكان فيه الأمير سيف الدين الهكاري المعروف بالمشطوب فلما رأى ان صلاح الدين لا يقدر لهم على نفع ولا يدفع عنهم ضرا خرج الى الفرنج وقرّر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين واعادة صليب الصلبوت [2] واربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه الى ذلك وان تكون مدة تحصيل المال والاسراء الى شهرين. فلما حلفوا له سلّم البلد إليهم فدخله الفرنج سلما واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم الى حين ما يصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم. فشرعوا في جمع المال وكان هو لا مال له انما يخرج ما يصل اليه من دخل البلاد أولا بأول فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار أشار الأمراء بان لا يرسل شيئا حتى يعاود يستحلفهم على الإطلاق من أصحابه. فقال ملوك الفرنج: نحن لا نحلف انما ترسل إلينا المائة الالف دينارا التي حصلت والأسارى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فنطلق الباقين منهم. فلم يجبهم [3] السلطان الى ذلك. فلما كان يوم الثلثاء السابع والعشرون من رجب ركب الفرنج وخرجوا ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم وإذا اكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له. فلما رأى صلاح الدين ذلك رحل الى
[1-) ] بيموند ر فيموند.
[2-) ] الصلبوت ر المصلوب.
[3-) ] فلم يجبهم ر فأجابهم.
ناحية عسقلان واخربها. وفي سنة ثمان وثمانين رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها. وفيها عقدت الهدنة بين صلاح الدين والانكتار ملك الفرنج لمدة ثلث سنين وثمانية أشهر اوّلها يوم اوّل أيلول.
وفيها منتصف شعبان توفّي السلطان قلج ارسلان بن مسعود بن قلج ارسلان ابن سليمان بن قتلميش بن سلجوق بمدينة قونية [1] وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة الى بلاد الروم. فلما كبر فرّق بلاده على أولاده فاستضعفوه ولم يلتفتوا اليه وحجر عليه ولده قطب الدين. ثم اخذه وسار به الى قيسارية ليأخذها من أخيه فحصرها مدة فهرب منه والده ودخل الى قيسارية. ولم يزل قلج ارسلان يتحول من ولد الى ولد وكل منهم يتبرّم به حتى مضى الى ولده غياث الدين كيخسرو فسار معه في عساكره الى قونية فملكها وبها توفّي قلج ارسلان وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكا لها حتى أخذها منه اخوه ركن الدين.
وفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة توفّي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بدمشق وعمره سبع وخمسون سنة [2] وكان حليما كريما حسن الأخلاق متواضعا صبورا على ما يكره كثير التغافل عن ذنوب أصحابه. وحكي انه كان يوما جالسا وعنده جماعة فرمى بعض المماليك بعضا بسرموزة فاخطأته ووصلت الى صلاح الدين فوقعت بالقرب منه. فالتفت الى الجهة الاخرى يكلّم جليسه هناك ليتغافل عنها. وطلب مرّة الماء فلم يحضر فعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرّات فلم يحضر فقال: يا أصحابنا والله قد قتلني العطش. واما كرمه فانه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه. ويكفي دليلا على كرمه انه لما مات لم يخلف في خزانته غير دينار واحد صوري وأربعين درهما ناصرية. ولما توفّي صلاح الدين ملك بعده ولده الأكبر الأفضل نور الدين دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين الى الداروم.
وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها. وكان ولده الملك الظاهر غازي بحلب فملكها وأعمالها مثل حارم وتلّ باشر واعزاز ودر بساك ومنبج. وكان بحماة محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فأطاع الملك الظاهر. وكان بحمص شير كوه ابن محمد بن شير كوه فأطاع الملك الأفضل. وكان الملك العادل أخو صلاح الدين بالكرك فسار الى دمشق. فجهز الأفضل معه عسكرا وسار الى البلاد الجزرية وهي له
[1-) ] وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة.
[2-) ] وكان ملكه مصر سنة اربع وستين وخمسمائة.
ليمنعها من عزّ الدين صاحب الموصل. وفيها أول جمادى الاولى قتل سيف الدين بكتمر صاحب خلاط وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران. فانه أسرف في اظهار الشماتة بموت صلاح الدين وفرح فرحا كثيرا فلم يمهله الله تعالى. وملك بعده ظهير الدين هزار ديناري خلاط وهو ايضا من مماليك شاه ارمن. وفيها سلخ شعبان توفّي أتابك عزّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل بالموصل وملك بعده ابنه نور الدين ارسلان شاه. وكان عزّ الدين خيّرا محسنا حليما قليل المعاقبة حييّا كثير الحياء لم يكلّم جليسا له الا وهو مطرق وما قال في شيء سئله حبّا وكرم طبع.
وفي سنة احدى وتسعين وخمسمائة كتب ألفنش ملك الفرنج ومقرّ ملكه طليطلة الى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كتابا يقول فيه: انك امير المسلمين ولا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات وانا اسومهم الخسف وأخلي الديار وأسبي الذراريّ وأمثّل بالكهول واقتل الشّبّان ولا عذر لك في التخلّف عن نصرتهم وأنت تعتقد ان الله فرض عليكم قتال عشرة منّا بواحد منكم.
والآن نخفف عنكم فنحن نقاتل عددا منكم بواحد منّا. ثم بلغني عنك انك أخذت في الاحتفال وتمطل نفسك عاما بعد عام تقدم رجلا وتؤخر اخرى ولا ادري ألجبن ابطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. وانا أقول لك ما فيه المصلحة ان تتوجّه بجملة من عندك في الشواني والمراكب واجوز إليك بجملتي وأبارزك في اعزّ الأماكن عندك فان كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهديّة مثّلث بين يديك وان كانت لي كانت يدي العليا عليك واستحققت ملك الملّتين والتقدم على الفئتين [1] . فلما قرأ يعقوب كتابه جمع العساكر وعبر المجاز الى الأندلس واقتتلوا قتالا شديدا فكانت الدائرة أولا على المسلمين ثم عادت على الفرنج فانهزموا أقبح هزيمة وغنم المسلمون منهم شيئا عظيما. فلا يفخرن ثروان بثروته ولا جبّار بجبروته ومن يفتخر فبالله تعالى فليفتخر كما جاء في الكتاب الالهي. ثم ان الفنش عاد الى بلاده وركب بغلا وأقسم انه لا يركب فرسا حتى تنصره ملوك فرنجة فجمعوا الجموع العظيمة وجرت لهم مع المسلمين وقائع كثيرة الى ان ملكوا الآن اكثر مدن الأندلس.
وفي سنة اثنتين وتسعين سار الملك العزيز من مصر الى دمشق وحصرها وأرسل الى أخيه الأفضل ان يفارق القلعة ويسلّم البلد على قاعدة ان تعطى قلعة صرخد له ويسلّم
[1-) ] الفئتين ر القبلتين.
جميع اعمال دمشق. فخرج وتسلّم العزيز القلعة ودخلها وأقام بها أياما ثم سلّمها الى عمّه الملك العادل وعاد الى مصر فسار الأفضل الى صرخد. وفي سنة ثلث وتسعين ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين.
وفي سنة اربع وتسعين توفّي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب سنجار ونصيبين والخابور والرقّة وملك بعده ابنه قطب الدين محمد وملك نور الدين مدينة نصيبين. وفيها قصد خوارزمشاه بخارا وكان قد ملكها الخطا فنازلها وحصرها وامتنع أهلها منه وقاتلوه مع الخطا لما رأوا من حسن سيرتهم معهم حتى انهم أخذوا كلبا اعور وألبسوه قباء وقلنسوة وقالوا: هذا خوارزمشاه. لأنه كان اعور. وطافوا به على السور ثم القوه في منجنيق الى العسكر وقالوا: هذا سلطانكم. فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزمشاه البلد بعد ايام يسيرة عنوة وعفا عن اهله واحسن إليهم.
وفيها حصر الملك العادل ابو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان وكان صاحبها حسام الدين يولق ارسلان صبيّا فسلّم بعض أهلها الربض بمخامرة فنهب العسكر أهلها نهبا قبيحا فلما تسلّم العادل الربض تمكّن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها وبقي عليها الى ان رحل عنها سنة خمس وتسعين. وفي سنة خمس وتسعين في العشرين من المحرّم توفّي الملك العزيز صاحب مصر وأرسل الأمراء من مصر الى الأفضل أخيه يدعونه إليهم ليملّكونه لأنه كان محبوبا الى الناس يريدونه فدخل الى مصر وملكها.
وفي سنة ستّ وتسعين سار العادل فنزل على القاهرة وحصرها فأرسل الأفضل اليه في الصلح فتقرّر ان يسلّم الديار المصرية الى عمّه ويأخذ العوض عنها ميّافارقين وحاني وجبل جور [1] وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من مصر وسار الى صرخد وأرسل من يتسلّم ميّافارقين وحاني وجبل جور فامتنع نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميّافارقين وسلّم ما عداها. فردّدت الرسل في ذلك والعادل يزعم ان ابنه عصاه. فامسك الأفضل عن المراسلة في ذلك لعلمه ان هذا فعله بأمر العادل. وفيها في شهر رمضان توفّي خوارزمشاه تكش بن ارسلان وولي ملك خوارزم بعده ابنه قطب الدين محمد ولقّب علاء الدين لقب أبيه. وفي سنة سبع وتسعين في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج ارسلان مدينة ملطية وكانت لأخيه معزّ الدين قيصر شاه فسار اليه وحصره أياما وملكها وسار منها الى ارزن الروم وكانت لولد الملك
[1-) ] حاني مدينة بديار بكر والنسبة إليها حنوي. وجبل جور اسم لكورة كبيرة متصلة بديار بكر من.
نواحي ارمينية.
ابن العبري- 15
محمد بن صلتق [1] وهم بيت قديم قد ملكوا ارزن الروم. فلما قاربها ركن الدين خرج صاحبها اليه ثقة به ليقرّر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد وهذا كان آخر اهل بيته الذين ملكوا. وفيها حصر الملك الظاهر واخوه الملك الأفضل ابنا صلاح الدين مدينة دمشق وهي لعمّهم الملك العادل وعادوا الى تجديد الصلح على ان يكون للظاهر منبج وافامية وكفر طاب والمعرّة ويكون للأفضل سميساط وقلعة نجم وسروج ورأس عين وجملين [2] . وسار الظاهر الى حلب والأفضل الى سميساط ووصل العادل الى دمشق. وفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة في المحرّم سيّر الملك العادل عسكرا مع ولده الملك الأشرف موسى الى ماردين فحصروها وشحنوا على أعمالها وأقام الأشرف ولم يحصل له غرض. فدخل الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب في الصلح بينهم وأرسل الى عمّه العادل في ذلك فأجاب اليه على قاعدة ان يحمل له صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار احد عشر قيراطا من اميري ويضرب اسمه على السكة ويكون عسكره في خدمته ايّ وقت طلبه.
وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة واربع عشرة للإسكندر كان ابتداء دولة المغول وذلك ان في هذا الزمان كان المستولي على قبائل الترك المشارقة اونك خان وهو المسمّى ملك يوحنا من القبيلة التي يقال لها كريت وهي طائفة تدين بدين النصرانية وكان رجل مؤيّة من غير هذه القبيلة يقال له تموجين ملازما لخدمة اونك خان من سنّ الطفولية الى ان بلغ حدّ الرجولية وكان ذا بأس في قهر الأعداء فحسده الأقران وسعوا به الى اونك خان وما زالوا يغتابونه عنده حتى اتهمه بتغيّر النية وهمّ باعتقاله والقبض عليه. فانضمّ اليه غلامان من خدم اونك خان فأعلماه القضية وعيّنا له الليلة التي فيها يريد اونك كبسه وفي الحال امر تموجين اهله باخلاء البيوت عن الرجال وتركها على حالها منصوبة وكمن هو مع الرجال بالقرب من البيوت. وفي وقت السحر لما هجم اونك وأصحابه على بيوت تموجين لقيها خالية من الرجال وكرّ عليه تموجين وأصحابه من الكمين وأوقعوا بهم وناوشوهم القتال واثخنوا فيهم وهزموهم وحاربوهم مرّتين حتى قتلوه وإبطاله وسبوا ذراريّة.
وفي اثناء هذا الأمر ظهر بين المغول امير معتبر كان يسيح في الصحارى والجبال في وسط الشتاء عريانا حافيا ويغيب أياما ثم يأتي ويقول: كلّمني الله وقال لي ان الأرض
[1-) ] ويروى: صيق وهو تصحيف. ويروى صليق.
[2-) ] ويروى: حملين.
بأسرها قد أعطيتها لتموجين وولده وسمّيته جنكزخان فسمّاه جنكزخان تبت تنكري [1] وكان يرجع الى قوله ولا يعدل عن رأيه. ولما علا شأن جنكزخان أرسل الرسل الى جميع شعوب الترك فمن أطاعه وتبعه سعد ومن خالفه خذل وأنعم على ذينك الغلامين وذرّيتهم بان جعلهم ترخانيّة والترخان هو الحرّ الذي لا يكلف بشيء من الحقوق السلطانية ويكون ما يغنم من الغزاوات له مطلقا لا يؤخذ منه نصيب للملك وزاد لهؤلاء ان يدخلوا على الملوك بغير اذن ولا يعاقبوا على ذنب الى تسعة ذنوب وكان لجنكزخان من الأولاد الذكور والإناث جماعة وكانت الخاتون الكبيرة زوجته تسمّى اويسونجين [2] بيكي.
وفي رسم المغول اعتبار أبناء الأب الواحد بالشرف انما يكون بالنسبة الى الأمهات.
وكان لهذه خاتون اربعة بنين ولّاهم جنكزخان الأمور العظام في مملكته. الاول توشى ولي امر الصيد والطرد وهو احبّ الأمور إليهم. والثاني جغاتاي ولي امر الحكومات والسياسة اي الناموس والقضاء. والثالث اوكتاي ولي تدبير الممالك لغزارة عقله واصابة رأيه. والرابع تولي ولي امر الجيوش وتجهيز الجنود والنظر في مصالح العساكر. وكان لجنكزخان أخ يقال له اوتكين فعيّن له ولكلّ واحد من الأولاد بلادا يقيمون بها.
اما اوتكين فأقام بحدود الخطا. وتوشي اقام بحدود قباليغ [3] وخوارزم الى أقصى سقسين وبلغار. وجغاتاي بحدود بلاد الايغور بالقرب من المايغ الى سمرقند وبخارا. واقام اوكتاي وهو وليّ العهد بحدود ايميل وقوتاق [4] وجاوره تولي ايضا في تلك النواحي وهي وسط مملكتهم كالمركز بالنسبة الى الدائرة.
وفي سنة ستمائة ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم [5] . اقام الفرنج بظاهرها محاصرين للروم من شعبان الى جمادى الاولى وكان بالمدينة كثير من الفرنج مقيمين نحو
[1-) ] ويروى: ثبت. وتنكري (ويلفظ طنري) اسم الله تعالى في اللغة التركية وجنكزخان معناه الملك الأعظم.
[2-) ] ويروى: اويسولوجين.
[3-) ] ويروى: قياليغ.
[4-) ] ويروى: يميل وقوناق.
[5-) ] كان الكسيس الثالث نزع الملك من أخيه إسحاق الثاني وسملة وطرحه في السجن فالتجأ الكسيس الرابع ابن إسحاق الى اصليبين ووعدهم الوعود الحسنة منها انه يسعى بضم الكنيستين الشرقية والغربية وانه يمدهم بالجيوش والنفقة. فأجابوه الى سؤله وفتحوا القسطنطينية بعد حصار ستة ايام. فتسارع الكسيس الثالث الى الهرب ورجع الملك الى إسحاق ونودي في كنيسة اغيا صوفيا باتحاد الكنيستين واقر البطريرك بان البابا خليفة بطرس الرسول ونائب المسيح وكان البابا وقتئذ انوشنسيوس الثالث. ثم ان احد الخوارج دوقاس الملقب مورزفلس ومعناه الأقرن اي المقرون الحاجبين هيج الشعب وغصب الملك وتسمى الكسيس الخامس واغتال الكسيس الرابع وأمات أباه إسحاق كمدا عليه. فأوغرت هذه الفظائع قلوب الصليبين فثاروا للانتقام من الغاصب الخارجي ففتحوا القسطنطينية ثانية. الّا ان أبا الفرج غالي في وصف هذا الفتح ما شاءت أغراضه.
ثلثين ألفا ولعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ووثبوا فيه وألقوا النار فاحترق نحو ربع البلد. فاشتغل الروم بذلك ففتح الفرنج الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلثة ايام وقتلوا حتى الاساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة اييّا سوفيّا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسّلون بها ليبقوا عليهم.
فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. وكان الفرنج ثلثة ملوك ذوقس البنادقة وفي مراكبة ركبوا الى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب يقاد فرسه. والثاني المركيس مقدم الافرنسيس. والثالث كندافلند [1] وهو أكثرهم عددا. فلما استولوا اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كندافلند فملّكوه عليها وتكون لذوقس البنادقة الجزائر مثل اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل نيقية ولاذيق وفيلادلف ولم تدم له فإنها تغلّب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري [2] .
وفيها في ذي القعدة توفّي السلطان ركن الدين صاحب الروم [3] وملك ابنه قلج ارسلان وكان صغيرا. وكان غياث الدين كيخسرو أخو ركن الدين يومئذ بقلعة من قلاع القسطنطينية ولما سمع بموت أخيه سار الى قونية وقبض على الصبيّ وملكها وجمع الله له البلاد جميعها وعظم شأنه وقوي امره وكان ذلك في رجب سنة احدى وستمائة.
وفيها أغارت الكرج على اذربيجان وأكثروا النهب والسبي ثم أغاروا على خلاط وارجيش فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد ولم يخرج إليهم من المسلمين احد يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون. وفي سنة ثلث وستمائة قبض عسكر خلاط على صاحبها محمد بن بكتمر وملكها بلبان مملوك شاه ارمن بن سكمان. وفي سنة اربع وستمائة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل مدينة خلاط. ولما سار عنها الى ملازكرد ليقرّر قواعدها وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم وعصوا ونادوا بشعار شاه ارمن وان كان ميتا يعنون بذلك ردّ الملك الى أصحابه ومماليكه. فعاد إليهم الأوحد وقتل بها خلقا كثيرا من اعيان أهلها فذلّ اهل خلاط وتفرّقت كلمة الفتيان وكان
[1-) ] كندافلند هو بودوين) بغدوين او بغدويل) التاسع الذي اختاره الصليبيون ليكون أول ملك للمملكة التي أنشأها الافرنج في القسطنطينية وتسمّى بودوين الاول. والمركيس هو بونيفاس الثاني مركيس دي مونتفرات ولم يكن فرنسيا انما كان مقدّم جيوش فرنسا وفلاندرا.
[2-) ] وتسميه ايضا العرب الاشكري وهو.
[3-) ] يريد سلطان قونية صاحب ديار الروم وهذه البلاد يحيط بها من جهة الغرب بحر الروم وتمامه الخليج القسطنطيني وبحر القرم. ومن جهة الجنوب بلاد الشام والجزيرة. ومن جهة الشرق ارمينية. ومن جهة الشمال بلاد الكرج وبحر القرم. وتعرف بلاد الروم الآن بآسيا الصغرى.
الحكم إليهم وكفي الناس شرّهم فإنهم كانوا يقيمون ملكا ويقتلون آخر والسلطنة عندهم لا حكم لها وانما الحكم لهم وإليهم. وفي سنة ستّ وستمائة ملك العادل ابو بكر بن أيوب بلد الخابور ومدينة نصيبين وحصر سنجار ثم عاد عنها.
وفيها استولى جنكزخان على بلاد قراخطا وكان امير بلاد الايغور وهم طائفة كثيرة من الترك في طاعة ملك الخطا فلما صار الصيت لجنكزخان وشاع ذكره في البلاد أرسل اليه امير الايغور وهو الذي يسمونه ايدي قوب [1] اي صاحب الدولة يطلب الامان لنفسه ورعيته والدخول في زمرته. فأكرم جنكز خان رسله وتقدم بوصوله اليه. فبادر ايدي قوب الى الحضور في خدمته من غير توقّف. فأقبل عليه جنكزخان وأحسن قبوله واعاده الى بلاده مكرّما.
وفي سنة سبع وستمائة أواخر. رجب توفّي نور الدين ارسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل وكانت مدة ملكه ثماني عشرة سنة وكان شهما شجاعا ذا سياسة للرعايا شديدا على أصحابه أعاد ناموس البيت الاتابكي وجاهه وحرمته بعد ان كانت قد ذهبت. ولما حضره الموت رتّب في الملك ولده الملك القاهر عزّ الدين مسعود وأمر ان يتولّى تدبير مملكته ويقوم بحفظها وينظر في مصالحها مملوكه بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداد رأيه وحسن سياسته وكمال السيادة فيه. وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة العقر الحميدية وقلعة شوش وسيّره الى العقر.
وفي سنة تسع وستمائة قصد ثلثة نفر تجّار من البخاريّين ديار التاتار ومعهم البضائع من الثياب المذهبة والكرباس وغيرهما مما يليق بالمغول بما سمعوا ان للمتاع عندهم قيمة وافرة وان الطرق قد اقام بها جنكزخان جماعة يسمّونهم قراقجية اي مستحفظين يخفرون المتردّدين إليهم فقوي عزمهم على ذلك فساروا نحوهم. ولما وصلوا الى نواحيهم وافاهم المستحفظون ووقفوا على ما معهم من السلع فرأوا قماش واحد منهم اسمه احمد لائقا للخازن فسيّروه مع صاحبيه اليه. فعرض احمد متاعه على الحجّاب وطلب في ثمن كل ثوب كان مشتراه عليه عشرة دنانير الى عشرين دينارا ثلثة بواليش. فغضب لذلك جنكزخان وقال: هذا الغافل كأنه يظنّ اننا ما رأينا ثيابا قط وامر الخازن فأراه من الاقمشة التي هداها اليه ملوك الخطا أشياء نفيسة وتقدّم ان يكتب ما معه وأنهبه لمن حضر من الحاشية واعتقل احمد. وطلب صاحبيه فعرضا عليه متاعهما برمّته وقالا: هذا
[1-) ] قال دي كوين: ان ملك الايغور لقبه ايدي قوت وتفسيره المرسل من الله.
. (275
…
بن.. بن)
كله انما أتيناه به لنقدمه خدمة للخان لا لنبيعه عليه. فألحّوا عليهما ان يثمّناه فلم يفعلا.
فأمر جنكزخان ان يعطيا لكل ثوب مذهّب باليش من ذهب ولكل كرباسين باليش من فضّة وعوّض لأحمد ايضا مثل ما أعطاهما وتقدّم الى الأولاد والخواتين والأمراء ان ينفذوا معهم جماعة من أصحابهم ومعهم بواليش الذهب والفضة ليجلبوا لهم من ظرائف البلاد ونفائسها ما يصلح لهم فامتثلوا ما أمرهم به فاجتمع معهم مائة وخمسون تاجرا من مسلم ونصرانيّ وتركيّ وأرسل معهم رسولا الى السلطان محمد يقول له: ان التجار وصلوا إلينا وقد اعدناهم الى مأمنهم سالمين غانمين وقد سيّرنا معهم جماعة من غلماننا ليحصلوا من ظرائف تلك الأطراف فينبغي ان يعودوا إلينا آمنين ليتأكد الوفاق بين الجانبين وتنحسم موادّ النفاق من ذات البين. فلما وصل التجار الى مدينة أترار طمع أميرها غاير خان فيما معهم من الأموال فطالع السلطان محمد في أمرهم وحسّن له ابادتهم واغتنام ما لهم فأذن له في ذلك فقتلهم طرّا الا واحدا منهم فانه هرب من السجن. ولما رأى ما جرى على أصحابه لحق بديار التاتار وأعلمهم بالمصيبة. فعظم ذلك عند جنكزخان وتأثّر منه الى الغاية وهجر النوم وصار يحدّث نفسه ويفتكر فيما يفعله. وقيل انه صعد الى رأس تلّ عال وكشف رأسه وتضرّع الى الباري تعالى طالبا نصره على من باداه بالظلم وبقي هناك ثلثة ايام بلياليها صائما. وفي الليلة الثالثة رأى في منامه راهبا عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم على بابه يقول له: لا تخف افعل ما شئت فانّك مؤيّد. فانتبه مذعورا ذعرا مشوبا بالفرح وعاد الى منزله وحكى حلمه لزوجته وهي ابنة اونك خان.
فقالت له: هذا زيّ اسقف كان يتردّد الى ابي ويدعو له ومجيئه إليك دليل انتقال السعادة إليك. فسأل جنكزخان من في خدمته من نصارى الايغور. هل ههنا احد من الاساقفة. فقيل له عن مار دنحا. فلما طلبه ودخل عليه بالبيرون الأسود قال:
هذا زيّ من رأيت في منامي لكن شخصه ليس ذاك. فقال الأسقف: يكون الخان قد رأى بعض قديسينا. ومن ذلك الوقت صار يميل الى النصارى ويحسن الظنّ بهم ويكرمهم. وفي سنة عشر وستمائة قصد جنكزخان بلاد السلطان محمد ولما وصل الى نواحي تركستان أتاه الأمير ارسلان خان من غياليغ [1] والأمير ايدي قوب من بيش باليغ والأمير سفتاق من الماليغ وساروا في عساكرهم. ولما اجتمعت العساكر جميعها بقصبة مدينة أترار سيّر جنكزخان ابنه الكبير في تومانين عسكر الى جانب خجند وتوجّه هو بنفسه الى بخارا ورتّب على محاصرة اترار ولديه جغاتاي واوكتاي فدام القتال
[1-) ] غيالغ ر غياليق س قياليغ [؟](انظر السطر 14 من الصفحة 227 من كتابنا هذا) .
عليها مدة خمسة أشهر لان السلطان محمدا كان قد سيّر إليها غاير خان في خمسة آلاف فارس وقراجا خاص حاجب في عشرة آلاف وكانوا كلهم بها. ولما ضاقت الحيلة بمن في المدينة وعجزوا عن المقاومة شاور قراجا لغاير خان في الصلح وتسليم البلد. فأبي غاير خان الا المجاهدة حتى الموت لعلمه ان المغول لا يبقون عليه فلم ير في المصالحة مصلحة.
فتوقّف قراجا الى هجوم الليل وخرج في اكثر عسكره الى خارج من باب دروازه الصوفي. فعوقوه الى الصبح ثم حمل الى ابني جنكزخان فاستنطقاه واستعلما منه كنه احوال البلد وأمرا بقتله وقتل كلّ من معه قائلين: إذا كنت ما أبقيت على مخدومك ووليّ نعمتك فلا تبقي ولا علينا. وزحف العسكر الى المدينة فدخلوها واخرجوا أهلها جميعهم الى ظاهرها وأغاروا على ما فيها. وبقي غاير خان في عشرين ألفا من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون. وكان هذا دأبهم شهرا الى ان بقي غاير خان ومعه نفران يجالدون في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان ان لا يقتل غاير خان في الحرب لكن يحمل اليه حيّا. فلذلك كثر التعب معه وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجرّ الذي كان الجواري يناولنه من الجدار. فلما عجز عن المناولة أحاط به المغول وقبضوه وحملوه الى جنكزخان بعد عوده من بخارا الى سمرقند وقتل هناك في كوك سراي. وفي سنة اثنتي عشرة في شعبان ملك السلطان محمد مدينة غزنة وكان استولى قبل ذلك على عامّة خراسان وملك باميان.
وفي سنة ثلث عشرة في العشرين من جمادى الآخرة توفّي الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو صاحب مدينة حلب وخلف أولادا ذكورا من جملتهم الملك العزيز محمد بن ابنة عمه الملك العادل وكان عمر ولده هذا سنتين وشهورا ووصّى به الى مملوكه شهاب الدين طغرل الخادم فصار اتابكه وقام بتربيته احسن قيام.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة توفّي الملك القاهر عزّ الدين مسعود بن ارسلان شاه ابن مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلث بقين من ربيع الاول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهر واوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين ارسلان شاه وعمره حينئذ نحو عشر سنين وجعل الوصيّ عليه والمدبّر لدولته بدر الدين لؤلؤا. وكان عمّه عماد الدين زنكي بن ارسلان شاه صاحب العقر يحدّث نفسه بالملك.
فرقع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وأحسن السيرة مع الخاصّ والعامّ وخلع على كافة الناس وغيّر ثياب الحداد عنهم فلم يخصّ بذلك شريفا دون مشروف ولا
كبيرا دون صغير. وبعد ايام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في امور دولته والتشريفات لهما ايضا. وكان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب اربل قام في نصر عماد الدين زنكي فملّكه قلعة العمادية وباقي قلاع الهكارية والزّوزان. فراسله بدر الدين يذكره الايمان والعهود ويطالبه بالوفاء بها ثم نزل عن هذا ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم. فلم يفعل وأظهر معاضدة زنكي. فأرسل بدر الدين الى الملك الأشرف موسى بن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة وخلاط وانتمى اليه وصار في طاعته وطلب منه المعاضدة. فأجابه بالقبول وبذل له المساعدة وأرسل الى مظفر الدين يقبّح هذه الحالة ويقول له ان يرجع الى الحق والا قصده هو بنفسه وعسكره. فلم تحصل الاجابة منه الى شيء من ذلك الى ان حضرت الرسل من الخليفة الناصر ومن الملك الأشرف في الصلح فأطاعوا واصطلحوا وتحالفوا بحضور الرسل. ولما تقرّر الصلح توفّي نور الدين ارسلان شاه بن الملك القاهر صاحب الموصل ورتّب في الملك بعده اخوه ناصر الدين محمود وله من العمر نحو ثلث سنين وحلف له الجند وركّبه بدر الدين فطابت نفوس الناس إذا علموا ان لهم سلطانا من البيت الاتابكيّ.
وفيها توفي الملك العادل ابو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة وكان عمره ثلثا وسبعين سنة وكانت مدة مملكته ثماني عشرة سنة. وخلف ولده الملك الكامل صاحب مصر.
والملك المعظّم صاحب دمشق. والملك الأشرف صاحب حرّان والرها وخلاط. والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميّافارقين. والملك الحافظ صاحب قلعة جعبر.
والملك العزيز صاحب بانياس. والملك الصالح اسماعيل صاحب بصرى. والملك الفائز يعقوب والملك الأمجد عباس والملك الأفضل والملك القاهر.
ولما مات نور الدين الملك القاهر صاحب الموصل وملك اخوه ناصر الدين تجدد لعماد الدين ومظفر الدين الطمع لصغر سنّ ناصر الدين فجمعا الرجال وتجهزا للحركة.
فلما بلغ ذلك بدر الدين لؤلؤا أرسل الى عزّ الدين ايبك مقدّم عسكر الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم فساروا الى الموصل رابع رجب سنة خمس عشرة واستراحوا أياما ثم عبروا دجلة ونزلوا شرقيها على فرسخ من الموصل. وجمع مظفر الدين عسكره وسار إليهم ومعه زنكي فعبر الزاب وسبق خبره. وعند انتصاف الليل سار ايبك ولم يصبر الى الصبح فتقطعوا في الليل والظلمة والتقوا هم والخصم على ثلثة فراسخ من الموصل. فامّا عزّ الدين فحمل على ميسرة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي. وميمنة مظفر الدين حملت على ميسيرة بدر الدين وهزمتها. وبقي بدر الدين في النفر الذي معه
في القلب وتقدّم اليه مظفر الدين في من معه في القلب إذ لم يتفرقوا فلم يمكنه الوقوف فعاد الى الموصل هاربا وعبر دجلة الى القلعة وتبعه مظفر الدين واقام وراء تلّ حصن نينوى ثلثة ايام ورحل ليلا من غير ان يضربوا كوسا وبوقا. ثم ملك عماد الدين قلعة الكواشي وملك بدر الدين تلّ اعفر وملك الأشرف سنجار وسار يريد الموصل ليجتاز منها الى اربل. فقدم بين يديه عسكره ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلثاء تاسع عشر جمادى الاولى سنة ستّ عشرة وستمائة وكان يوم وصوله مشهودا ترجّل له بدر الدين وحمل الغاشية بين يديه. وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها الى بدر الدين ما عدا قلعة العماديّة وطال الحديث في ذلك نحو شهرين.
ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين فوصل قرية السّلاميّة بالقرب من الزاب وكان مظفر الدين نازلا عليه من جانب اربل فأعاد الرسل الى الأشرف في طلب الصلح وكان عسكر الأشرف قد طال بيكاره والناس قد ضجروا فوقعت الاجابة الى الصلح وعاد الأشرف الى سنجار وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة. وفي سنة ستّ عشرة وستمائة توفّي السلطان عزّ الدين كيكاوس بن كيخسرو ابن قلج ارسلان صاحب بلاد الروم ولم يخلف ولدا يصلح للملك لصغر سنّهم.
واخرج الجند أخاه علاء الدين كيقباذ من قلعة المنشار التي على الفرات بقرب ملطية وكان مسجونا بها فملّكوه وحلف الناس له فأحسن تدبيره لملكه وكان شديدا على أصحابه ذا عزم وحزم وهيبة عظيمة.
وفي سنة سبع عشرة وستمائة في أوائل المحرّم نزل جنكز خان في عساكره على مدينة بخارا وأحاط بها العساكر من جميع جوانبها. وكان بها من عسكر السلطان محمد عشرون ألفا مقدّمهم كوك خان وسونج وكشلي خان [1] . ولما تحققوا عجزهم عن مقاومة المغول خرجوا من الحصار بعد غروب الشمس فأدركهم المحافظون من عسكر المغول على نهر جيحون فاوقعوا فيهم وقتلوهم كافة ولم يبقوا منهم أثرا. فلما فارق المقاتلون المدينة لم يبق لأهلها حيلة الّا التسليم والخروج وطلب الامان فخرج الايمّة والأعيان الى خدمة جنكزخان يتضرّعون اليه ويطلبون حقن دمائهم حسب. فتقدّم بإخراج كل من بالمدينة الى ظاهرها فخرجوا ودخل هو وولده تولي الى المدينة فوقف على باب مسجد الجامع وقال: هذا دار السلطان. فقالوا: لا بل خانة يزدان اي بيت الله. فنزل ودخل الجامع وصعد الى المنبر وقال لاكابر بخارا: ان الصحراء خالية عن العطف فأنتم اشبعوا الخليل
[1-) ] ويروى: كشكي خان.
مما عندكم في الأنبار. ففتحوها وصاروا ينقلون ما فيها من الغلّات ورموا ما في الصناديق من الكتب وجعلوا اواريّ للخيل واحضروا الطعام والشراب هناك وأكلوا وشربوا وطربوا.
ثم خرج جنكزخان الى منزله وجمع الايمّة والمشايخ والسادات والعلماء وقال لهم: ان الله ملك الكلّ وضابط الكلّ أرسلني لا طهّر الأرض من بغي الملوك الجائرة الفسقة الفجرة وذكر لهم ما فعله امير اترار باذن سلطانه بالتجار الى غير ذلك ثم أمرهم ان يعتزلوا الأغنياء واصحاب الثروة بمعزل عن الفقراء فعزلوهم وكانوا مائتي ألف وثمانين ألفا. فقال لهم: ان الأموال التي فوق الأرض لا حاجة بنا الى استعلامها منكم وانما نريد ان تظهروا لنا الدفائن التي تحت الأرض. فقبلوا بالسمع والطاعة. ووكلوا مع كل قوم باسقاها يستخرج المال وأشار سرّا الى المستخرجين ان لا يكلفوهم ما لا يطيقونه ويرفقوا بهم وذلك لما رأى من حسن اجابتهم الى ما أمروا به. ولأن جماعة من عسكر السلطان كانوا مختفين بالمدينة امر فرموا في محالها النار فاحترقت المدينة بأسرها لان جلّ عمائرها من خشب فبقيت عرصة بخارا قاعا صفصفا وتفرّق أهلها منتزحين الى خراسان.
وفيها في ربيع الاول نزل جنكزخان على مدينة سمرقند وكان قد رتّب السلطان محمد فيها مائة ألف وعشرة آلاف فارس يقومون بحراستها. فلما نازلها منع أصحابه عن المقاتلة وانفذ سنتاي نوين ومعه ثلثون ألف محارب في اثر السلطان محمد. وغلاق نوين وبسور [1] نوين الى جانب طالقان. وأحاط باقي العسكر بالمدينة وقت سحر فبرز إليهم مبارزو الخوارزمية ونازعوهم القتال وجرحوا جماعة كثيرة من التاتار وأسروا جماعة وأدخلوهم المدينة.
فلما كان من الغد ركب جنكزخان بنفسه ودار على العسكر وحثهم على القتال فاشتدّ القتال ذلك اليوم بينهم ودام النهار كله من اوله الى أول الليل ووقف الابطال من المغول على أبواب المدينة ولم يمكّنوا أحدا من المجاهدين من الخروج فحصل عند الخوارزمية فتور كثير ووقع الخلف بين أكابر المدينة وتلوّنت الآراء فبعض مال الى المصالحة والتسليم وبعض لم يأمن على نفسه وان أومن خوفا من غدر التاتار فقوي عزم القاضي وشيخ الإسلام على الخروج فخرجا الى خدمة جنكزخان وطلبا الامان لهما ولأهل المدينة فلم يجبهما الّا الى أمان أنفسهما ومن يلوذ بهما. فدخلا الى المدينة وفتحا أبوابها فدخل المغول واشتغلوا ذلك اليوم بتخريب مواضع من السور وهدم بعض الابرجة ولم يتعرضوا الى احد الى ان هجم الليل فدخلوا الى المدينة وصاروا يخرجون من الرجال والنساء مائة [2]
[1-) ] بسور ر يسورس [؟](انظر السطر 5 من الصفحة 255 من هذا الكتاب) .
[2-) ] من الرجال والنساء مائة ر الرجال من النساء من مائة.
مائة بالعدد الى الصحراء ولم ينكفّوا الّا عن القاضي وشيخ الإسلام وعمّن التجأ إليهما فاحتمى بهما نيّف وخمسون ألفا من الخلق. ولما أصبح الصباح شرع المغول في نهب المدينة وقتل كل من لحقوه مختبئا في المغائر ومتواريا بالستائر وقتلوا تلك الليلة نحو ثلثين ألف تركيّ وقنقليّ وقسموا بالنهار ثلثين ألفا على الأولاد والأمراء وأطلقوا الباقي ليرجعوا الى المدينة ويجمعوا من بينهم مائتي ألف دينار ثمن أرواحهم وكان المحصّل لهذا المال ثقة الملك والأمير عميد وهما من أكابر سمرقند والشحنة طايفور [1] . ومن هناك توجّه جنكزخان بعساكره الى نواحي خوارزم وانفذ الرسل إليهم يدعوهم الى الايلية [2] والدخول في طاعته وشغلهم أياما بالوعد والوعيد والتأميل والتهديد الى ان اجتمعت العساكر ورتّب آلات الحرب من منجنيق وما يرمى بها. ولأن صقع خوارزم لم يكن فيه حجر كان المغول يقطعون من أشجار التوت قطعا كالحجارة ويرمون بها وملأوا الخندق بالتراب والخشب والهشيم وانشبوا الحرب والقتال على المدينة من جميع جوانبها حتى عجز من فيها عن المقاومة فملكوا سورها واضرموا النار في محالهّا فأتت على اكثر دورها وما فيها فأيس المغول من الانتفاع بشيء من غنائمها فاعرضوا عن الحريق وصاروا يملكون محلّة محلّة لان أهلها كانوا يمتنعون فيها اشدّ امتناع. ولم يزالوا كذلك الى ان ملك المغول كل المحالّ واخرجوا الخلائق كافة الى الصحراء وفرزوا الصنّاع والمحترفين الى الناحية وكانوا مائة ألف وأسروا البنين والبنات والنساء اللواتي ينتفع بهنّ وقسموا الباقي من الرجال والنساء العجائز على العسكر ليقتلوهم فقتل كل واحد منهم أربعا وعشرين شخصا. وفي أوائل سنة ثماني عشرة وستمائة عبر جنكزخان نهر جيحون وقصد مدينة بلخ فخرج اليه أعيانها وبذلوا الطاعة وحملوا الهدايا وأنواعا من الترغو اي المأكل والمشرب.
فلم يقبل عليهم بسبب ان السلطان جلال الدين بن السلطان محمد كان في تلك النواحي يهيّي اسباب الحرب ويستعدّ للقتال فأمر بخروج اهل بلخ الى الصحراء ليعدّوهم كالعادة فلما خرجوا بأسرهم رمى فيهم السيف. ومن هناك توجه نحو الطالقان وقتل اكثر أهلها وأسر من صلح للاسر وأبقى البعض. وسار الى الباميان فعصى أهلها وقاتلوا قتالا شديدا واتفق ان أصيب بعض أولاد جغاتاي بسهم جرح فقضى نحبه وكان من احبّ أحفاد جنكزخان اليه فعظمت المصيبة بذلك واضطرمت النيران في قلوب المغول وجدّوا في القتال الى ان فتحوها وقتلوا كل من فيها حتى الدوابّ والبقر والاجنّة التي في بطون
[1-) ] ويروى: كايفور.
[2-) ] كذا في الأصل. والصواب الأليّة اي القسم.
الحبالى ايضا ولم يأسروا منها أحدا قط وتركوها أرضا قفرا ولم يسكنها احد الى اليوم وسمّوها ما وباليغ اي قرية بؤس.
ولما فرغ جنكزخان من تخريب بلاد خراسان سمع ان السلطان جلال الدين قد استظهر بالعراق فسار نحوه ليلا ونهارا بحيث ان المغول لم يتمكنوا من طبخ لحم إذا نزلوا.
فحين وصلوا الى غزنة أخبروا بان جلال الدين من خمسة عشر يوما رحل عنها وهو عازم على ان يعبر نهر السند. فلم يستقرّ جنكزخان ورحل في الحال وحمل على نفسه بالسير حتى لحقه في أطراف السند فطاف به العسكر من قدامه ومن خلفه وداروا عليه دائرة وراء دائرة كالقوس الموتورة ونهر السند كالوتر وهو في وسط. وبالغ المغول في المكاوحة وتقدم جنكزخان ان يقبض حيا ووصل جغاتاي واوكتاي ايضا من جانب خوارزم.
فلما رأى جلال الدين انه يوم عمل شهم وضرغم إبطال المغول وتطلّب اطلابهم وحمل عليهم حملات وشقّ صفوفهم مرّة بعد مرّة وطال الأمر بمثل ذلك لامتناع المغول عن رميه بالنشّاب ليحضروه غير مؤوف بين يديّ جنكزخان امتثالا لمرسومه فكانوا يتقدمون اليه قليلا قليلا. فلما عاين تضييق الحلقة عليه نزل فودّع أولاده بل اكباده من نسائه وخواصّه باكيا كئيبا ثم رمى عنه الجوشن وركب جنيبه وهو كالأسد الغيور وهمّ بالعبور وافحم فرسه النهر فانقحم وعام وخلص الى الساحل وجنكزخان وأصحابه ينظرون اليه ويتأملونه حيارى. ولما شاهد ذلك جنكزخان وضع يده على فمه متعجبا والتفت الى ولديه وقال لهما: من اب [1] مثل هذا الابن ينبغي ان يولد. إذا نجا من هذه الوقعة فوقائع كثيرة تجري على يديه. ومن خطبه لا يغفل من يعقل. وأراد جماعة من البهادوريّة ان يتبعوه في الماء فمنعهم جنكزخان قائلا: انكم لستم من رجاله لأنه كان يرامي المغول بالسهام وهو في وسط الشط. فلما فاتهم أخذوا امر الخان بإحضار حرمه وأولاده وتقدم بقتل جميع الذكور حتى الرضّع. ولأن جلال الدين عند ما أراد الخوض في النهر القى جميع ما كان صحبته من آنية الذهب والفضة والنقرة فيه امر الغوّاصين فاخرجوا منها ما أمكن إخراجه. وكان هذا الأمر الذي هو من عجائب الأنام ودواهي الأيام في رجب فقيل في المثل: عش رجبا تر عجبا.
وفيها اعني سنة ثماني عشرة وستمائة كان اجتماع الملك المعظم والملك الأشرف مع نجدة صاحب ماردين وعسكر حلب والملك الناصر صاحب حماة والملك المجاهد صاحب حمص واتصال الجميع بالملك الكامل على عزم قصد الفرنج وردّ دمياط منهم. فأحاطوا
[1-) ] من اب ر من الأب.
بهم وضيقوا السبيل عليهم فأجابوا الى الصلح على تسليم دمياط واطلاق ما بأيديهم من أسراء المسلمين واطلاق ما بأيدي المسلمين من أسراهم وقرّر الصلح عاما مع الدكاد نائب البابا وملك عكا وملوك فرنجة ومقدمي الداوية والاسبتارية [1] . وتسلّم الكامل دمياط يوم الأربعاء تاسع عشر رجب. وكانت مدة مقام الفرنج بها سنة كاملة واحد عشر شهرا. وفي سنة احدى وعشرين وستمائة توفي الملك الأفضل عليّ بن صلاح الدين وقد نزل عن ملك مصر والشام وقنع بسميساط كرها [2] . وكان عنده علم وفطنة لكنة كان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عمّا يجب للدول وتدبير الممالك. ولما أخذت منه البلاد كتب الى الخليفة الناصر كتابا ضمّنه شكاية عمّه العادل وأخيه العزيز حيث أخذا منه البلاد ونكثا عهد أبيه له بها. وكتب في أول الكتاب بيتين من الشعر عملهما واحسن فيهما وهما:
مولاي انّ أبا بكر وصاحبه
…
عثمان قد أخذا بالسيف حقّ علي
فانظر الى حرف هذا الاسم كيف لقي
…
من الأواخر ما لاقى من الاول
يريد بأبي بكر عمه وبعثمان أخاه وبعلي نفسه. فأجابه الناصر عن كتابه بكتاب كتب فيه:
وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا
…
بالصدق يخبر ان أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه ان لم يكن
…
بعد النبي له بيثرب ناصر
فاصبر فانّ غدا عليه حسابهم
…
وابشر فناصرك الامام الناصر
وكان الملك الأفضل قد شغله أبوه في صباه بشيء من العلم فحصل منه طرفا من العربية والشعر وكان ينظمه ويعتني به بالنسبة الى حاله.
وفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة توفي الخليفة الناصر لدين الله ابو العباس احمد في ليلة عيد الفطر وكان عمره سبعين سنة ومدّة خلافته ستا وأربعين سنة واحد عشر شهرا.
وكان في الأيام الامامية الناصريّة الحكيم عبد السلام بن جنكي دوست الجبلي
[1-) ] .
[2-) ] كان الملك الا فضل بعد وفاة والده سنة (589) ملك مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام فأخذ منه كل هذه المدن سنة اثنتين وتسعين. وكان ملك سنة خمس وتسعين ديار مصر فأخذت منه سنة ست وتسعين فانتقل الى سميساط واقام بها.
البغدادي قد قرأ علوم الأوائل واجادها واشتهر بهذا الشان شهرة تامة وحصل له بتقدمه حسد من ارباب الشرّ فثلبه أحدهم بانه معطّل فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم الفلاسفة وبرزت الأوامر الناصريّة بإخراجها الى موضع ببغداد يعرف بالرحبة وان يحرق الجمّ منها بحضور الجمع ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التيمي المعروف بابن المارستانية وجعل له منبر وصعد عليه وخطب خطبة لعن بها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن هذا بشرّ وكان يخرج الكتب التي له كتابا كتابا يتكلم عليه ويبالغ في ذمّه وذمّ مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار. قال القاضي الأكرم الوزير. جمال الدين بن القفطي رحمه الله: اخبرني الحكيم يوسف السبتي الاسرائيلي قال: كنت ببغداد يومئذ تاجرا وحضرت المحفل وسمعت كلام ابن المارستانية وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم وهو يقول: وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصمّاء والمصيبة العمياء. وبعد إتمام كلامه خرقها وألقاها في النار. فاستدللت على جهله وتعصبه إذ لم يكن في الهيئة كفر وانما هي طريق الى الايمان ومعرفة قدر الله جلّ وعزّ فيما أحكمه ودبّره. واستمرّ الركن عبد السلام في السجن معاقبة على ذلك الى ان أفرج عنه سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
وفي هذه السنة توفي يحيى بن سعيد بن ماري الطبيب النصراني صاحب المقامات الستين صنفها واحسن فيها وكان فاضلا في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطبّ. ومن شعره في الشيب:
نفرت هند من طلائع شيبي
…
واعترتها سآمة من وجومي
هكذا عادة الشياطين ينفر
…
ن إذا ما بدت نجوم الرجوم
ومن أطباء الدار الامامية الناصريّة صاعد بن هبة الله بن المؤمل ابو الحسن النصرانيّ الحظيري المتطبّب واخوه ابو الخير الاركيذياقون وهما اخوا الجاثليق المعروف بابن المسيحي. اما صاعد فخدم الخليفة الناصر وتقرّب قربا كثيرا وكانت له المعرفة التامة بالطبّ والمنطق وصنّف كتابا صغير الحجم سمّاه الصفوة جمع فيه أجزاء الطبّ علميّها وعمليّها وألحق في آخر الفنّ الاول من الجزء الثاني ثلثة فصول في الختانة لكونها منوطة بالاطبّاء ببغداد وان كان لا يسمع لأحد من المتقدمين ولا المتأخرين فيها قولا بل فيما يطول القلفة. وكان ينسخ بخطه كتب الحكمة. ومات في آخر سنة احدى وتسعين وخمسمائة. واما الاركيذياقون وكان ايضا فاضلا صنّف كتابا مختصرا لخص فيه
مباحث كتاب الكليات من القانون سمّاه الاقتضاب ثم اختصره وسمّى المختصر انتخاب [1] الاقتضاب. وحكى لي بعض الاطبّاء ببغداد ان أباه حمله وهو مترعرع الى ابن التلميذ ليشغله فقال: هذا ابنك صغير جدا. فقال: غرضي التبرّك منك. فأقرأه المسئلة الاولى من مسائل حنين.
وفي سنة اربع وتسعين وخمسمائة توفي محمد بن عبد السلام المقدسيّ ثم الماردينيّ كان أبوه قاضي ماردين وجدّه قاضي دنيسر قرأ الطبّ على ابن التلميذ فبلغ منه الغاية حتى ان الملوك كانت تخطبه من النواحي والأقطار وكان على علوّ السنّ يكرّر على كتب كبار. وقرأ عليه الشهاب السهرورديّ شيئا من الحكمة. ولم يصنّف كتابا مع غزارة علمه وتمكنه وحسن تصرّفه فيه الّا انه شرح أبيات ابن سينا التي أولها:
هبطت إليك. وكان ابو الخير بن المسيحي يفخم امره ويعظم شأنه.
وفي سنة خمس وستمائة مات موسى بن ميمون اليهوديّ الاندلسيّ وكان قد قرأ علم الأوائل بالأندلس وأحكم الرياضيات وقرأ الطبّ هناك فاجاده علما ولم يكن له جسارة على العمل. وأكره على الإسلام فأظهره وأسرّ اليهودية. ولما التزم بجزيات الإسلام من القراءة والصلاة فعل ذلك الى ان أمكنته الفرصة في الرحلة بعد ضمّ أطرافه فخرج عن الأندلس الى مصر ومعه اهله ونزل مدينة الفسطاط بين يهودها فأظهر دينه وارتزق بالتجارة في الجوهر وما يجري مجراه. ولما ملك العزيز [2] مصر وانقضت الدولة العلوية اشتمل عليه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني ونظر اليه وقرّر له رزقا وكان يشارك الأطباء ولا ينفرد برأيه لقلّة مشاركته ولم يكن وقفا في المعالجة والتدبير. وكان عالما بشريعة اليهود وصنّف كتابا في مذهب اليهود سمّاه بالدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمّه ويسمّيه الضلالة. وغلب عليه النحلة الفلسفية وصنّف رسالة في المعاد الجسماني وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها الّا عمّن يرى رأيه. ورأيت جماعة من يهود بلاد الفرنج الغتم بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمّونه كافرا. وله تصنيفات حسنة في الرياضيات ومقاربة في الطبّ. وابتلي في آخر زمانه برجل من الأندلس فقيه يعرف بابي العرب وصل الى مصر وحاققه على إسلامه ورام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له: رجل يكره لا يصحّ إسلامه شرعا. ولما قرب وفاته تقدّم الى مخلفيه ان يحملوه
[1-) ] انتخاب ر انتخاب.
[2-) ] العزيز ر الغز.- ويروى: الغز والمعز وكلاهما غلط. والملك العزيز هو عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.
إذا انقطعت رائحته الى بحيرة طبرية فيدفنوه هناك لما فيها من قبور صالحيهم ففعل به ذلك.
وفي سنة ست وستمائة في ذي الحجة توفي بهراة الامام الفخر الرازيّ محمد بن عمر المعروف بابن الخطيب بالريّ. وكان من أفاضل اهل زمانه بزّ القدماء في الفقه وعلم الأصول والكلام والحكمة وردّ على ابي عليّ بن سينا واستدرك عليه. وكان يركب وحوله السيوف المجذبة وله المماليك الكثيرة والمرتبة العالية والمنزلة الرفيعة عند السلاطين الخوارزمشاهية.
وعنّ له ان تهوّس بعمل الكيمياء وضيّع في ذلك مالا كثيرا ولم يحصل على طائل.
وسارت مصنفاته في الأقطار واشتغل بها الفقهاء. ورحل الى ما وراء النهر لقصد بني مارة ببخارا ولم يلق منهم خيرا وكان فقيرا يومئذ لا جدة له فخرج من بخارا وقصد خراسان واتفق اجتماعه بخوارزمشاه محمد بن تكش فقرّبه وأدناه ورفع محلّه وأسنى رزقه.
واستوطن مدينة هراة وتملك بها ملكا وأولد أولادا واقام بها حتى مات ودفن في داره.
وكان يخشى ان العوام يمثلون بجثة لما كان يظنّ به من الانحلال. وفي مسيرة الى ما وراء النهر يقصد بخارا في حدود سنة ثمانين وخمسمائة اجتاز بعبد الرحمن بن عبد الكريم [1] السرخسيّ الطبيب ونزل عليه فأكرمه وقام بحقه مدّة مقامه بسرخس فأراد ان يفيده مما لديه فشرع له في الكلام على كليات القانون وشرح المستغلق من ألفاظ هذا الكتاب ورسمه باسمه وذكره في مقدمته ووصفه واثنى عليه. وفي سنة ثماني وستمائة توفي المسيحي ابن ابي البقاء النيلي نزيل بغداد وكنيته ابو الخير ويعرف بابن العطار وكان خبيرا بالعلاج قيّما به له ذكر وقرب من دار الخليفة يطبّ النساء والحواظي عاش عمرا طويلا وحصل مالا جزيلا وخلف ولدا طبيبا لم يكن رشيدا يكنى أبا عليّ. ولما مات أبوه اتفق ان كان على بعض مسرّاته إذ كبس في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الاول من سنة سبع عشرة وستمائة وعنده امرأة مسلمة تعرف بستّ شرف. فلما قبض عليه اقرّ على جماعة من المسلمات كنّ يأتينه لأجل دنياه من جملتهنّ زوجة ابن البخاري صاحب المخزن اسمها اشتياق. فخرج الأمر بسجن المرأتين بسجن الطرّارات وفدى ابو عليّ نفسه بستة آلاف دينار.
وفي سنة تسع عشرة وستمائة في المحرّم توفي عليّ بن احمد ابو الحسن الطبيب المعروف بابن هبل وكان من اهل بغداد عالما بالطبّ والأدب ولد ببغداد ونشأ بها ثم جاز الى الموصل وخرج الى اذربيجان واقام بخلاط عند صاحبها شاه ارمن يطبّه وقرأ
[1-) ] الكريم ر الرحيم.
الناس عليه. وفارق تلك الديار لسبب وهو ان بعض الطشتدراية قال له يوما وقد نظر قارورة الملك في بعض امراضه: يا حكيم لم لا تذوقها. فسكت عنه. فلما انفصل المجلس قال له في خلوة: قولك هذا اليوم عن اصل أم من قول غيرك او هو شيء خطر لك. فقال: انما خطر لي لأني سمعت ان شرط اختبار القارورة ذوقها. فقال:
الأمر كذلك ولكن لا في كل الأمراض وقد اسأت اليّ بهذا القول لان الملك إذا سمع هذا ظنّ اني قد أخللت بشرط واجب من شروط خدمته. ثم انه عمل على الخروج لأجل هذه الحركة والخوف من عاقبتها بعد ان رشا الطشت دار حتى لا يعود الى مثلها.
وخرج وعاد الى الموصل وقد تموّل فأقام بها الى حين وفاته. وعمّر حتى عجز عن الحركة وعدم بصره فلزم منزله قبل وفاته بسنتين ومات وعمره خمس وتسعون سنة. وكان الناس يترددون ويقرأون عليه. وصنّف كتابا حسنا في الطبّ سماه المختار يجيء في اربع مجلدات.
وفي سنة عشرين وستمائة ثامن وعشرين جمادى الاولى ليلة الخميس قتل ابو الكرم صاعد بن توما النصرانيّ الطبيب البغداديّ ويلقب بأمين الدولة. كان فاضلا حسن العلاج كثير الاصابة وكان من ذوي المروآت تقدّم في ايام الامام الناصر الى ان صار في منزلة الوزراء واستوثقه على حفظ أمواله وخواصّه وكان يودعها عنده ويرسله في امور خفيّة الى الوزير ويظهر له كلّ وقت. وكان حسن الوساطة جميل المحضر تقضى على يده حاجات الناس. وكان الامام الناصر في آخر أيامه قد ضعف بصره وأدركه سهو في اكثر أوقاته. ولما عجز عن النظر في القصص استحضر امرأة من النساء البغداديات تعرف بستّ نسيم وقرّبها وكانت تكتب خطا قريبا من خطه وجعلها بين يديه تكتب الاجوبة [1] وشاركها في ذلك خادم اسمه تاج الدين رشيق فصارت المرأة تكتب في الاجوبة ما تريد فمرّة تصيب ومرارا تخطئ. واتفق ان كتب الوزير القمّيّ المدعو بالمؤيّد مطالعة وعاد جوابها وفيه إخلال بيّن فتوقف الوزير وأنكر ثم استدعى الحكيم صاعد بن توما وسأله عن ذلك سرا. فعرّفه ما الخليفة عليه من عدم البصر والسهو الطارئ في اكثر الأوقات وما يعتمده المرأة والخادم من الاجوبة. فتوقّف الوزير عن العمل بأكثر الأمور الواردة عليه. وتحقّق الخادم والمرأة ذلك وحدسا ان الحكيم هو الذي دلّه على ذلك. فقرّر رشيق مع رجلين من الجند ان يغتالا الحكيم ويقتلاه وهما رجلان يعرفان بولدي قمر الدين من الأجناد الواسطية. فرصدا الحكيم في بعض الليالي الى ان خرج
[1-) ] الاجوبة. يروى بعدها «ما تريد» .
ابن العربي- 16