الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمحفَّة تحمل بين الرجال. ولم يزل على ذلك الى ان مات المعظم صاحبه ومات هو بعده بقليل.
ومن الأطباء المشهورين في هذا الزمان الحكيم ابو سالم النصرانيّ اليعقوبيّ الملطيّ المعروف بابن كرابا [1] خدم السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم وتقدّم عنده وكان قليل العلم بالطبّ الّا انه كان أهلا لمجلسه لفصاحة لهجته في اللسان الروميّ ومعرفته بأيام الناس وسير السلاطين. وفي سنة اثنتين وثلثين ولما سار علاء الدين من ملطية الى خرتبرت ليملكها تخلّف عنه ابو سالم هذا ولم يسر في ركابه وكان السلطان لا يصبر عنه ساعة. ولما بات السلطان على الفرات ولم يأته الحكيم امر الشحنة الذي على الزواريق ان نهار غد ان جاء ابو سالم قبل الزوال فليعبر وان جاء بعده لا تمكنه من العبور.
فلما كان من الغد تأخّر مجيئه الى العصر فأخبره الشحنة بمرسوم السلطان فأحسّ بتغيّر فعاد الى منزله وشرب سما ومات. ومنهم الحكيم شمعون الخرتبرتي وكان ايضا ضعيف العلم لكنه كان خيّرا ديّنا كثير الصوم والصلاة. وانتشى له ولد حسن محصّل وأجاد الخطّ العربيّ وصار فيه طبقة ومات في حداثة سنة ففجعت مصيبته أباه.
وفي هذا الزمان كان جماعة من تلامذة الامام فخر الدين الرازي سادات فضلاء اصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة كزين الدين الكشي وقطب الدين المصري بخراسان وأفضل الدين الخونجي بمصر وشمس الدين الخسروشاهي بدمشق واثير الدين الابهري بالروم وتاج الدين الارموي وسراج الدين الارموي بقونية. حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق عن الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل ابن أيوب صاحب الكرك انه كان يتردّد الى شمس الدين الخسروشاهي يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة للشيخ ابي عليّ بن سينا وكان إذا وصل الى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ الى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفا بمنديل ويجيء الى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عمّا خطر له ثم يقوم ولم يمكّن الشيخ من القيام له.
(المستعصم بن المستنصر) :
وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر وكان صاحب لهو وقصف شغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء وكان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول وكان إذا نبّه علي ما ينبغي ان يفعله في امر التاتار اما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم او تجيّش
[1-) ] ويروى: كرايا.
العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول: انا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا ايضا يهجمون عليّ وانا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله.
وفي سنة احدى وأربعين غزا يساور نوين [1] الشام ووصل الى موضع يسمّى حيلان على باب حلب وعاد عنها لحفي أصاب خيول المغول واجتاز بملطية وخرّب بلدها ورعى غلّاتها وبساتينها وكرومها وأخذ منها أموالا عظيمة حتى خشل النساء وصلبان البيع ووجوه الأناجيل وآنية القداس المصوغة من الذهب والفضة ثم رحل عنها. وطلب طبيبا يداويه في سحج عرض له فأخرج اليه والدي وسار معه الى خرتبرت فدبّره حتى برأ. ثم جاء ولم يطل المقام بملطية ورحل بنا الى انطاكية فسكنّاها. وأقحطت البلاد بعد ترحال التاتار ووبئت الأرض فهلك عالم وباع الناس أولادهم باقراص الخبز.
وفي سنة اثنتين وأربعين أغار التاتار على بلد بغداد ولم يتمكنوا من منازلتها. وفيها سيّر السلطان غياث الدين جيشا عظيما الى مدينة طرسوس فحاصروها مدة وضيّقوا عليها وكادوا يفتحونها عنوة فاتفق ان مات السلطان غياث الدين في تلك الأيام. فلما بلغهم موت السلطان رحلوا عنها خائبين وكان الوقت خريفا وتواترت على الروميّين الأمطار وتوحّلت خيولهم فنال منهم رجّالة الأرمن وغنموا اثقالهم. وكان السلطان غياث الدين مقبلا على المجون وشرب الشراب غير مرضيّ الطريقة منغمسا في الشهوات الموبقة تزوّج ابنة ملك الكرج فشغفه حبّها وهام بها الى حدّ ان أراد تصويرها على الدراهم فأشير عليه ان يصوّر صورة اسد عليه شمس لينسب الى طالعه ويحصل به الغرض. وخلّف غياث الدين ثلثة بنين عزّ الدين وأمّه روميّة ابنة قسيس وركن الدين وأمّه ايضا روميّة وعلاء الدين وأمّه الكرجية. فولي السلطنة عزّ الدين وهو الكبير وحلف له الأمراء وخطب له على المنابر وكان مدبّره والاتابك له الأمير جلال الدين قرطاي [2] رجل خيّر ديّن صائم الدهر ممتنع عن أكل اللحم ومباشرة النساء لم ينم في فراش وطيء وانما كان نومه على الصناديق في الخزانة [3] أصله روميّ وهو من مماليك السلطان علاء الدين وتربيته وكان له الحرمة الوافرة عند الخاصّ والعامّ. وفي سنة ثلث وأربعين تردّدت
[1-) ] ويروى: نساور. ويروى: في نسخة تاريخ مخطوط: بساور.
[2-) ] ويروى: قراطي وقراطاي.
[3-) ] في الخزانة ر والخزانة.
رسل المغول في طلب السلطان عزّ الدين ليحضر بنفسه في خدمة قاان. فتعلّل محتجّا بمعاداة من يحاوره من ملوك اليونانيّين والأرمن ايّاه وانه متى فارق بلاده ملكها هؤلاء وكان يرضي الرسل بالهدايا وبذل الأموال ويدافعهم من وقت الى وقت. ثم سيّر أخاه ركن الدين وفوّض تدبيره الى بهاء الدين الترجمان وجعله اتابكه وأرسله صحبته واستوزر عزّ الدين لنفسه رجلا اصفهانيّا وهو صاحب علم وفضل يلقّب. بشمس الدين فتمكّن من الدولة الى حدّ أن تهيّأ له التزوّج بأمّ السلطان عزّ الدين فثقل ذلك على الأمراء طرّا.
وفيها مرض قاان ولما اشتدّ مرضه سيّر رسولا في طلب ابنه كيوك فاهرع اليه من غير توقّف فلم يمهل القضاء ليجتمع بالوالد فأقام بالمكان الذي بلغه فيه وفاته وكانت والدته توراكينا خاتون ذات دهاء كافية فطنة فاتّفق جغاتا وباقي الأولاد على انها تنصرّف في تدبير الممالك الى وقت القوريلتاي لأنها أمّ الأولاد الذين لهم استحقاق الخانيّة. وفي سنة اربع وأربعين وستمائة تمّ اجتماع الأولاد والأحفاد وأمراء المغول في وقت الربيع وحضر في المجمع من غير المغول ايضا ممّا وراء النهر وتركستان الأمير مسعود بيك ومن خراسان الأمير ارغون اغا [1] وصحبته أكابر العراق واللور واذربيجان وشروان.
ومن الروم السلطان ركن الدين [2] . ومن الأرمن الكندسطبل أخو التكفور [3] حاتم.
ومن كرجستان الداودان الكبير والصغير. ومن الشام أخو الملك الناصر صاحب حلب.
ومن بغداد فخر الدين قاضي القضاة ومن علاء الدين صاحب الالموت محتشمو قهستان.
فإذ تمّ هذا المجمع العظيم [4] الذي لم يعهد مثله وقع الاتفاق على كيوك. وكان له اخوان آخران أحدهما يسمّى كوبان والآخر طفل يسمّى سيرامون. وانما اختير هو من دونهما لكونه مشهورا بالغلبة والشطط والاقتحام والتسلط وكان هو اكبر الاخوة فأهل للولاية وأجليس على سرير الملك وخدموه ودعوا له كالعادة وأطاعوه وكيوك خان سمّوه.
وفي سنة خمس وأربعين وستمائة ولّى كيوك خان على بلاد الروم والموصل والشام والكرج [5]
[1-) ] اغا ر اقا.
[2-) ] هو أخو سلطان قونية.
[3-) ] الكندسطبل بن كانت تعني أولا وظيفة امير الاخور ثم عنوا بها امير الجيوش. وتكفور لفظة ارمنية [؟] معناها ملك.
[4-) ] فات المؤلف ان يذكر فيمن حضر في هذا المجمع العظيم الراهب يوحنا دي بلان كاربين سفير الباب اينوشنسيوس الرابع وكان من رهبنة مار فرنسيس.
[5-) ] وفي رواية: والكرج والأرمن.
نوينا اسمه ايلجيكتاي. وعلى ممالك الخطا الصاحب يلواج. وعلى ما وراء النهر وتركستان الأمير مسعود. وعلى بلاد خراسان والعراق واذربيجان وشروان واللور وكرمان وفارس وطرف الهند الأمير ارغون اغا. وقلّد سلطنة بلد الروم السلطان ركن الدين. وامر بعزل السلطان عزّ الدين. وجعل داود الصغير المعروف بابن قيز ملكا محكوما لداود الكبير صاحب تفليس. واما رسول الخليفة فخاطبه خطاب واعد وموعد بل واعظ ومنذر.
واما رسل الملاحدة [1] فصرفهم مذلّين مهانين. وكتب يراليغ عهد وأمان للتكفور والملك الناصر صاحب حلب.
وكان بمقام الاتابكية لكيوك خان امير كبير اسمه قداق وكان معمّدا مؤمنا بالمسيح وشاركه في ذلك امير آخر اسمه جينقاي [2] فهذان أحسنا النظر الى النصارى وحسّنا يقين كيوك خان ووالدته واهل بيته بالمطارنة والاساقفة والرهابين فصارت الدولة مسيحية وارتفع شأن الطوائف المنتمية الى هذا المذهب من الفرنج والروس والسريان والأرمن.
والتزم الخاص والعام من المغول وغيرهم ممن هو بينهم ان يقولوا في السلام برخمر [3] وهو لفظ مركب سرياني معناه بارك مالكى.
وفي سنة ستّ وأربعين وستمائة وصل السلطان ركن الدين وبهاء الدين الترجمان الى بلد الروم ومعهما ألفا فارس من المغول. فهمّ الوزير شمس الدين الاصفهانيّ ان يأخذ السلطان عزّ الدين ويصعد الى بعض القلاع التي على البحر ويقيما هناك عاصيين الى ان يفعل الله ما يشاء. فعلم بذلك جلال الدين قرطاي [4] الرجل الصالح فقبض على الوزير الاصفهانيّ وسيّر فاعلم بهاء الدين الترجمان بذلك فانفذ جماعة من أمراء المغول فأتوا الى قونية وقرّروا الوزير على الأموال والخزائن ثم قتلوه. واجتمع بهاء الدين الترجمان بجلال الدين قرطاي واتفقا على ان توزّع البلاد على الأخوين فتكون قونية واقسرا وانقرة وانطاكية وباقي الولايات الغربية لعزّ الدين. وقيسارية وسيواس وملطية وارزنكان وارزن
[1-) ] الملاحدة ويقال لهم الاسماعيلية والباطنية ايضا هم من بقايا القرامطة الخوارج واصحاب حسن بن صبّاح ويعرفون عند الاوروبيين بهذا الاسم. فبعد موت السلطان ملكشاه قويت شوكتهم وتغلّبوا على عدة حصون وخصوصا حصن الالموت بالقرب من مدينة قزوين. وبث حسن أصحابه الى الجهات فأتى قوم منهم سورية وتحصنوا في الجبال المجاورة لطرسوس وعليهم امير اسمه ابو طاهر ويعرف بشيخ الجبل يطيع للأمير الكبير الذي في بلاد فارس. ودامت سلطة الاسماعيلية من السنة 483 الى سنة 653 هـ (1090- 1255 م) .
[2-) ] ويروى: جنبقاي.
[3-) ] برخمر ر يارخ مار.
[4-) ] قرطاي ر قراطاي وقراطي س [؟] قراطاي.
ابن العبري- 17
الروم وغيرها من الولايات الشرقية لركن الدين. واقطعا لعلاء الدين الأخ الصغير من الاملاك الخاصّة ما يكفيه وضربوا السكة باسم الثلاثة وكتبوا السلاطين الأعاظم عزّ وركن وعلاء.
وفي سنة سبع وأربعين وستمائة توفيت توراكينا خاتون امّ كيوك خان فتشاءم [1] كيوك خان بذلك المقام ورحل عنه متوجها الى البلاد الغربية. ولما وصل الى ناحية قمستكي وبينها وبين مدينة بيش بالغ خمس مراحل أدركه اجله في تاسع ربيع الآخر فأرسلت زوجته المسمّاة اغول غانميش رسولا الى باتوا وأعلمته بالقضية وتوجهت هي الى جانب قوتاق وايميل وأقامت بالمكان الذي كان يقيم به كيوك خان أولا. فسيّرت سرقوتني بيكي زوجة تولي خان وهي اكبر الخواتين يومئذ إليها رسولا تعزّيها وحمل إليها ثيابا وبوقتاقا [2] . وفيها سار باتوا من بلاده الشمالية متوجها الى المشرق ليجتمع بكيوك خان لأنه كان يلجّ اليه بالمسير اليه فلما وصل الى موضع يقال له الاقماق وبينه وبين مدينة قياليق [3] ثماني مراحل بلغه وفاة كيوك خان فأقام هناك وسيّر رسولا الى اغول غانميش زوجة كيوك خان واذن لها بالتصرّف في الممالك الى ان يقع الاتفاق على من يصلح ان يلي الأمر وأرسل ايضا الى الجوانب ليجتمع الأولاد والعشائر والأمراء.
وفيها خرج ريدافرنس [4] ملك فرنجة قاصدا للديار المصرية فجمع عساكره فأرسلها وراجلها جموعا عظيمة وأزاح عليهم فسار عن بلاده بأموال جزيلة وأهبة جميلة وأرسى بعكّا وانبثّ أصحابه في جميع بلاد الساحل. فلمّا استراحوا جاءوه حاشدين حافلين وساروا في البحر الى دمياط وملكوها بغير تعب ولا قتال لان أهلها لم بلغهم ما هم عليه الفرنج من القوة والكثرة والعدّة الكاملة هالهم أمرهم فرحلوا عنها مخفّين. فوصل إليها الفرنج ولقوها خالية عن المقاتلين غير خاوية من الأرزاق فدخلوا وغنموا ما فيها من الأموال. وكان الملك الصالح بن الملك الكامل صاحب مصر يومئذ بالشام يحاصر مدينة حمص. فلما سمع بذلك بأنّ الفرنج قد ملكوا دمياط رحل عن حمص وسار مسرعا الى الديار المصرية ومرض في الطريق وعند وصوله الى المنصورة عرض له في فخذه الداء الذي يسمونه
[1-) ] ويروى: فسئم.
[2-) ] ويروى: بوقتايا.
[3-) ] قياليق س قياليغ [؟] .
[4-) ] ريدافرنس لفظة مركّبة معناها عند الفرنج ملك فرنسا وقد أراد بها الملك لويس التاسع.
الأطباء غانغرانا ثم استحكم الفساد فيها حتى آل أمرها الى سفاقلس وهو موت العضو أصلا فقطعوها وهو حيّ. وبينما هو يكابد الشدائد في هذه الحالة وافاه مقدّمو دمياط الذين اخلوها منهزمين فلما قيل له ما صنعوا لأنهم فرّوا عنها من غير ان يباشروا حربا وقتالا عظم ذلك عليه فأمر بصلبهم وكانوا اربعة وخمسين أميرا فصلبوا كما هم بثيابهم ومناطقهم وخفافهم. ثم مات من غد ذلك اليوم. وتولّى تدبير المملكة الأمير عزّ الدين المعروف بالتركمانيّ وهو اكبر المماليك الترك. وكان مرجوعه في جميع ذلك ممّا يعتمده من الأمور الى حظيّة الملك الصالح المتوفّي المسّماة شجر الدرّ وكانت تركية داهية الدهر لا نظير لها في النساء حسنا وفي الرجال حزما. فاتفقا على تمليك الملك المعظم بن الملك الصالح. وكان يومئذ مقامه بحصن كيفا من ديار بكر فأرسلا رسولا في طلبه وحثّاه على المصير إليهم. فسار الى الديار المصرية من غير توقف فبايعوه وحلفوا له وسلموا اليه ملك أبيه.
وفي سنة ثماني وأربعين وستمائة سيّر ريدافرنس عسكرا نحو الفي فارس نحو المنصورة ليجسّ بهم ما هم عليه المصريون من القوة. فلقيهم طرف من عسكر المسلمين فاقتتلوا قتالا ضعيفا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنج المنصورة ولم ينالوا منها نيلا طائلا لأنهم حصلوا في مضايق ازقّتها وكان العامة يقاتلونهم بالحجارة والاجرّ والتراب وخيولهم الضخمة لم تتمكن من الجولان بين الدروب. وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن السيف احد الأمراء المصريين شيخ كبير أحاط به الفرنج وهو في الحمام يصبغ لحيته فقتلوه هناك. وعادوا الى ريدافرنس واعلموه بما تمّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمع من معه من البطارقة ظانّين انه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبّى جيوشه وسار بهم طالبا ارض مصر. فصبر المصريون الى ان عبر الفرنج الخليج من النيل المسمى اشمون وهو بين البرّين برّ دمياط وبرّ المنصورة. فتوجهوا نحوهم والتقى العسكران واقتتل الفريقان قتالا شديدا. وانجلت الحرب عن كسرة الفرنج وهزموا افحش هزيمة ومنعهم الخليج المذكور من ان يفوزوا وينجوا بأرواحهم فغرق منهم خلق كثير وقتل آخرون وأسر الملك ريدافرنس ومعه جماعة من خواصّه واكابره. فلما حصل ملك الفرنج في قبضة الملك المعظم قال له المماليك الصغار اقرانه: اننا نرى الأمر كله الى شجر الدرّ والأمراء وليس لك من السلطنة الّا اسمها فلو كنت في الحصن كنت ارفه خاطرا منك وأنت صاحب مصر والحكم لغيرك والسبب في هذا ليس الّا حاجتك إليهم في مقاومة الفرنج وليس لك
عدوّ سواهم فالرأي ان تصالح هذا الملك ومن معه من أمرائه الى ايّ مدّة شئت فانه لا يخالفك في جميع ما تريد منه إذا اصطنعته ووهبت له روحه وتأخذ منه الأموال والجواهر التي له في دمياط ويسلّم إليك دمياط ويذهب في حال سبيله وتأمن شرّه وشرّ اهل ملّته وتستريح من الأمراء واستخدام الجند وتبقي في ملكك من اخترت وتزيل من كرهت. فصغا المعظم الى قولهم واستصوب رأيهم ودبّر الأمر مع ريدافرنس وحلّفه كما أراد من غير ان يشاور الأمراء الكبار في شيء من ذلك. فاحسّوا بالقضية وتحققوا تغيّر المعظم عليهم وما قد نوى ان يفعل بهم فنقموا عليه ووثبوا به فهرب منهم وصعد الى برج من خشب كان هناك فضربوا فيه النار فلما وصلت اليه وشاطته رمى نفسه الى الخليج النيلي. فجاؤوا اليه ورموه بالنشاب وهو في الماء فمات غريقا جريحا.
واتفق الأمراء الترك وقدموا عليهم أميرا منهم يلقب بعزّ الدين التركماني ونهضوا الى ريدافرنس وجددوا معه اليمين وافتدي منهم بألف ألف دينار وتسليم دمياط فاطلقوه ثم سار التركماني من المنصورة الى مصر واقطع الاسكندرية لأمير من الترك يقال له فارس اقطاي وتزوّج شجر الدرّ وصار ملك مصر في قبضتهما. واما ريدافرنس لما وصل الى دمياط أخذ اهله ومن تخلف من أصحابه وخرج عنها وسلمها الى المسلمين واقام هو بعكا وبنى مدينة قيسارية وأصلحها وأسكنها جماعة ثم سار الى بلده.
ولما ولي التركماني الديار المصرية كان الأمر كله الى شجر الدرّ لا تمكّنه التصرّف الّا فيما يصدر عن رأيها فكره ذلك ولم يطق احتماله وهمّ بإهلاكها. فشعرت بذلك وسبقته. ففعلت به ما أراد ان يعمل بها وأشلت عليه المماليك الصغار. وفي بعض الأيام لمّا دخل الحمام وكانوا يسكبون على رأسه الماء ليغتسل جرحوه بالسكاكين فقتلوه. وقيل مقلوا رأسه في الماء داخل الخزانة الى ان اختنق مغطوطا. وأمرت شجر الدرّ ان يخرج ويدفن فأخرجوه ودفنوه في الدار. ولما بلغ ذلك الأمراء الكبار عظيم عليهم فعلها فوثبوا بها وقتلوها ورموها في الخندق فأكلتها الكلاب. وقدموا عليهم واحدا منهم اسمه قوتوز فحلفوا له وملكوه ولقبوه الملك المظفر. ولما استولى المماليك على الديار المصرية سار الملك الناصر صاحب حلب بجريدة الى دمشق فسلمها اليه أهلها فملكها واقام بها وصارت دار مملكته. ثم راسله بعض المماليك من مصر ليسير إليهم فيسلموا له مصر فعبّى عسكره وسار الى نحو الديار المصرية ليملكها كما ملك دمشق. فلما بلغ أمراء الترك ذلك بادروا اليه في عساكرهم والتقوا الشاميين بناحية غزّة وكسروهم وهزموهم فعاد الملك الناصر فيمن
معه خائبا خاسرا. وفيها ملك بدر الدين لؤلؤ جزيرة ابن عمر [1] وأسر صاحبها الملك مسعود بن الملك المعظم من بيت أتابك زنكي وسيّره في ركوة الى الموصل وتقدّم الى من وكل به ليرميه ليلة في دجلة فغرقوه وأخبروا انه رمى نفسه وهم نيام ولم يحسّوا بما فعل.
وفيها اجتمع أولاد الملوك وأمراء المغول فوصل من حدود قراقورم مونككا [2] بن تولي خان.
واما سيرامون وباقي أحفاد وخواتين قاان فسيّروا قنقورتقاي وكتبوا خطهم انه قائم مقامهم وان باتوا هو اكبر الأولاد وهو الحاكم وهو راضون بما يرضاه. واما اغول غانميش خاتون زوجة كيوك خان ومن معها من أولاد الملوك فوصلوا الى خدمة باتوا ولم يقيموا عنده اكثر من يوم بل رجعوا الى أوردوهم واستنابوا أميرا منهم يقال له تيمور نوين وأذنوا له ان يوافق ما يتفق عليه الجمع كله وان اختلفت الأهواء لا يطيع أحدا حتى يعلمهم كيفية الحال. فبقى جغاتاي ومونككا وسائر من كان حاضرا من الأولاد والأحفاد والأمراء يتشاورون أياما في هذا الأمر وفوضوا الأمر الى باتوا لأنه اكبر الجماعة واشدّهم رأيا. فبعد ثلثة ايام من يوم التفويض قال: ان مثل هذا الخطب الخطير ليس فينا من يفي بحق القيام به غير مونككا فوافقوه كلهم على ذلك وأجلسوه على سرير المملكة وباتوا مع باقي الأولاد والأكابر خدموه جاثين على ركبهم كالعادة. وانصرف كل واحد الى مقامه على بناء انهم يجتمعون في السنة المقبلة ويعملون مجمعا كبيرا ليحضره من الأولاد والأكابر من لم يحضر الآن. وفي سنة تسع وأربعين وستمائة في وقت الربيع حضر اكثر الأولاد مثل بركة اغول واخوه بغاتيمور وعمهم الجتاي الكبير والأمراء المعتبرين من اردو جنكزخان. وفي اليوم التاسع من ربيع الآخر كشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم ورفعوا مونككا على سرير المملكة ومونككا قاان سمّوه وجثوا على ركبهم تسع مرات. وكان له حينئذ سبعة من الاخوة: قبلاي، هولاكو، اريغبوكا، موكا، بوجك، سبكو، سونتاي، فترتبوا جالسين على يمينه والخواتين على يساره وعملوا الفرحة سبعة ايام. وبينما هم يحسرون ويسرّون إذ وصل قدغان اغول وابن أخته [3] ملك اغول وقراهولاكو وقاموا بمراسم التهنئة وشرائط الخدمة. وكان الجماعة بانتظار اغول غانميش زوجة كيوك خان وولدها خواجة اغول وامرائهم ولم يصل بعد احد منهم. وفي سنة
[1-) ] هي بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة ايام يحيط بها دجلة الّا من ناحية واحدة فعمل هناك خندق اجرى فيه الماء فأحاط بها الماء من جميع جوانبها.
[2-) ] مونككا ر مونككان س [؟] مونكا خان.
[3-) ] أخته ر أخيه.
خمسين وستمائة توجهت اغول غانميش وجماعتها في عساكرهم نحو اردو مونككا خان.
وكان المقدّم على جيوشهم سيرامون وناقوا. ولما قربوا اتفق ان رجلا من اردو مونككا قاان من الذين يربّون السباع لأولاد الملك هرب منه اسد فخرج في طلبه دائرا عليه بالجبال والصحاري فاجتاز بطرف من عسكر سيرامون ولقي صبيا منهم قد انكسرت عجلته وهو جالس عندها. فلما رأى السبّاع المذكور مجتازا استدعاه ليستعين به في ترميم عجلته فأجابه السبّاع الى ذلك ونزل من فرسه وأخذ يصلح معه العجلة. فوقع بصره على اسلحة مستورة في باطن العجلة فسأل الغلام عنها. فقال له: ما أغفلك كأنك لست منا كيف لم تعرف ان كل العجل التي معنا كهذه مشحونة بآلات الحرب. فلما تحقق ذلك ترك طلب الأسد الآبق وسار مسيرة ثلثة ايام في يوم واحد عائدا الى أصحابه وأعلمهم بما رأى وسمع. فأمر مونككا قاان ان يمضي إليهم منكسار في الفي فارس ويستكشف حالهم.
فمضى وذكر لهم ما نقل عنهم فلم يتمالكوا وداخلهم الرعب ولم يسعهم الّا التسليم لما يقضى عليهم. ولما حضر الكبير منهم والصغير وقع السؤال وثبتت الجريمة عليهم فجوزوا بما استوجبوا من الهلاك وتقسيم عساكرهم على الأولاد والأمراء. ولما فرغ خاطر مونككا قاان من امر المخالفين شرع في ترتيب العساكر وضبط الممالك فأقطع بلاد الخطا من حدّ الميري الى سليكاي وتنكوت وتبّت لقبلاي اغول أخيه. والبلاد الغربية لهولاكو أخيه الآخر ومن جهة تحصيل الأموال. وولّى على البلاد الشرقية من شاطئ جيحون الى منتهى بلاد الخطا الصاحب المعظم يلواج وولده مسعود بيك. وعلى ممالك خراسان ومازندران وهندوستان والعراق وفارس وكرمان ولور وارّان واذربيجان وكرجستان والموصل والشام الأمير ارغون اغا. وامر ان المتموّل الكبير ببلاد الخطا يؤدي في السنة خمسة عشر دينارا والوضيع دينارا واحدا. وببلاد خراسان يزن المتموّل في السنة عشرة دنانير والفقير دينارا واحدا. ومن مراعي ذوات الأربع الذي يسمّونه قويجور يؤخذ من كل من له مائة رأس من جنس واحد رأس واحد ومن ليس له مائة لا يؤخذ منه شيء.
واطلق العباد وارباب الدين من الوثنيين والنصارى والمسلمين من جميع المؤونات والأوزان والتكليفات.
وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة وثلث وستين للإسكندر توجّه حاتم ملك الأرمن الى خدمة مونككا قاان أخذ قربان خميس الفصح ورحل عن مدينة سيس يوم الجمعة [1] الصلبوت وخرج متنكرا مع رسول له بزيّ بعض الغلمان وأخذ على يده جنيبا يجذبه خلف
[1-) ] الجمعة ر جمعة.
الرسول لأنه كان خائفا من السلطان صاحب الروم. وذكر الرسول اين ما جاء واجتاز من بلد الروم انه قد أرسله الملك حاتم ليأخذ له الامان من مونككا قاان فإذا امّنه توجّه هو بنفسه الى حضرته. حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين [1] من عودته من خدمة مونككا قاان قال: عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني احد من أهلها قط الّا لما دخلنا مدينة ارزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا فقال: ان كانتا هاتان عينيّ فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت اليّ ولطمني على خدي وقال: يا نذل صرت تتشبّه بالملوك. فاحتملت اللطمة لازيل بها ظنّ من كان ظنّه يقينا.
وفي سنة احدى وخمسين وستمائة توجّه هولاكو ايلخان من نواحي قراقورم الى البلاد الغربية. وسيّر معه مونككا قاان الجيوش من كل عشرة اثنين وصحبه اخوه [2] الصغير سنتاي اغول ومن جانب باتوا بلغاي [3] بن سبقان وقوتار اغول وقولي [4] في عساكر باتوا. ومن قبل جغاتاي تكودار [5] اغول بن بوخي اغول. ومن جانب جيحكان بيكي بوقا تيمور في عسكر الاويرات [6] . ومن ناحية الخطا ألف بيت من صنّاع المنجنيقات واصحاب الحيل في إصلاح آلات الحرب. فكان امير الترك كيدبوقا [7] الباورجي. وكان القائم مقام هولاكو بأردو مونككا قاان ولده جومغار بسبب ان امه اكبر خواتين هولاكو أبيه. وأخذ صحبته ابنه الكبير اباقا وابنه الآخر يسمون [8] ومن الخواتين الكبار دوقوز [9] خاتون المؤمنة المسيحية والجاي خاتون. وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة تواترت الايلجية في طلب السلطان عز الدين صاحب الروم ليحضر هو بنفسه في خدمة مونككا قاان. فتجهز وسار حتى وصل الى مدينة سيواس. ولما سمع ان الأمراء قد مالوا الى ركن الدين أخيه ويرومون تمليكه عاد مسرعا الى قونية وأرسل
[1-) ] سنين ر سنتين.
[2-) ] اخوه ر أخاه. سنتاي س سبتاي [؟]
[3-) ] بلغاي س بولغاي [؟] .
[4-) ] ويروى: يلغاي عوض بلغاي وتولا عوض قولي.
[5-) ] ويروى: توكدار.
[6-) ] الاويرات ر الاويزات.
[7-) ] كيدبوقا س [؟] .
[8-) ] يسمون س [؟] اشموط. لعل الصواب «يشموت» انظر الصفحة 277.- ويروى: تسمرون.
[9-) ] ويروى: طقز. ويروى: قوز.
أخاه علاء الدين وكتب معه كتاب يذكر فيها: انني قد سيّرت اخي علاء الدين وهو سلطان مثلي وانا لم يمكنني المجيء بسبب ان اتابكي ومدبري جلال الدين قرطاي قد مات وظهر لي [1] اعداء من ناحية المغرب فإذا كفيت شرّهم جئت المرّة الاخرى.
فلما سار علاء الدين توفي في الطريق ولم يصل الى الاردو. وأراد عزّ الدين ان يقتل ركن الدين أخاه الآخر ويأمن غائلته فأحسّ الأمراء بذلك وهرّبوه بأن ألبسوه ثياب بعض غلمان الطباخين ووضعوا على رأسه خوانجه فيها طعام وأخرجوه من الدار والقلعة في جماعة من الصبيان قد حملوا طعاما الى بعض الدور. فلما خرج اركبوه فرسا وساروا به حتى اوصلوه الى قيسارية وانضم اليه هناك جماعة من الأمراء وجيشوا وتوجهوا نحو قونية ليحاربوا عزّ الدين. فبرز إليهم عزّ الدين بمن معه من العسكر فكسرهم وهزمهم وأسر ركن الدين أخاه واعتقله بقلعة دوالوا. وفي سنة ثلث وخمسين وستمائة وصل رسول بايجو نوين الى السلطان عزّ الدين يطلب منه مكانا يشتي به لان بلد موغان الذي كان يشتو به صار مشتى لهولاكو. فأبى السلطان ان يجيبه الى ذلك وطمع فيه وظنّه منهزما بين يدي هولاكو وجيّش وحاربه عند خان السلطان بين قونية واقسروا وانكسر عزّ الدين وهرب متوغلا في بلاده الداخلة. فأخرج بايجو أخاه ركن الدين من الحبس وملكه على جميع بلاد الروم.
وفيها وصل الملك حاتم ودخل بلده أول أيلول وكان مجيئه صحبة بايجو نوين. وفيها في شهر شعبان نزل هولاكو بمروج مدينة سمرقند واقام بها أربعين يوما. وهناك أدرك أخاه سنتاي اغول اجله وأخبر بوفاة أخيه الآخر في طرف بالدر فتكدر خاطره لهاتين الوقعتين فوصل اليه الأمير ارغون واكثر أكابر خراسان وقوّوا عزمهم فعبروا ماء جيحون وكان الوقت شتاء شديد البرد لا يقشع الغيم ولا ينقطع وقوع الثلج من تلك البقاع الى وقت حلول الشمس برج الحمل. فأمر الأمراء ان يقصدوا في عساكرهم قلاع الملاحدة وكان مقدم الإسماعيلية يومئذ ركن الدين خوزشاه بن علاء الدين فأخرب خمس قلاع من قلاعه التي لم يكن فيها ذخائر للحصار. واقبل رسول هولاكو الى حدّ قصران.
وكان كيدبوقا قد سبق ففتح قلعة شاهديز [2] وثلثا أخر من قلاعهم. ولما وصل ايلخان الى عباساباذ سيّر ركن الدين الى العبودية صبيا عمره نحو سبع او ثماني سنين وذكر انه ولده. فلم يخف صنيعه على هولاكو ولكن لم يكاشفه في ذلك بل اعزّ الصبي وأكرمه
[1-) ] ويروى: وظهري.
[2-) ] شاهديز ر شاهدين س [؟] شاهدير.
ثم اعاده اليه. وبعد وصول هذا الابن المزوّر الى ركن الدين سيّر أخاه شيران شاه في ثلاثمائة رجل على سبيل الحشر. فسيّر هولاكو الثلاثمائة الى جمالاباذ من بلد قزوين وأعاد أخاه محملا رسالة اليه وهي انه الى خمسة ايام ان لم يصل بنفسه الى الخدمة يحكم قلعته ويستعد للحرب. فأرسل رسول يقول: انه لا يتجاسر على الخروج خوفا من حشمه الذين معه داخل القلعة لئلا يثبوا به فإذا وجد فرصة جاء. فعرف هولاكو انه مماطل مدافع من وقت الى آخر فرحل رابع عشر شوال من سنة اربع وخمسين وستمائة من بيشكام [1] ونزل على القلعة المحاذية لميمون دره وتقدم بقتل الثلاثمائة رجل من الملاحدة الذين كانوا بجمالاباذ قزوين سرّا وصار اهل قزوين يضربون بذلك مثلا لمن يقتل فيقولون: انبعث الى جمالاباذ. ولما عاين ركن الدين نزول هولاكو بالقرب سيّر رسولا يقول: ان سبب تماطلي لم يكن غير انني ما كنت احقق وصوله المبارك والآن انا نازل اليوم او غدا. وكان تلك الليلة ليلة الميلاد. فلما عزم على الخروج ثاوره العلاة [2] من الملاحدة وواثبه الفدائيون ولم يمكّنوه من الخروج. فسيّر الى هولاكو واعلمه ما هم عليه من التمرّد. فأمره ان يداري الوقت معهم محافظا نفسه منهم وكيف ما كان يحتال للنزول ولو متنكرا. وتقدم الى الأمراء ليحتفّوا بالقلعة وينصبوا المنجنيقات ويقاتل كل منهم من يقاتله من الإسماعيلية. فلما اشتغل الملاحدة بقتال المغول نزل ركن الدين ومعه ولده وخواصه الى عبودية هولاكو واظهر الخجلة بل الندامة معترفا بما اقترفه في الأيام الماضية من الجرائم والآثام. فشملته لطائف عواطف ايلخان وبدل ما عند ركن الدين من الاستيحاش والاستنفار بالاستيناس والاستبشار. ولما تحقق من بالقلعة ما نال صاحبهم من الطمأنينة والكرامة سلموا القلعة ونزلوا عنها فحاول المغول هدمها وفتحوا ايضا جميع القلاع التي في ذلك الوادي. وتوجّه ايلجي الى متولّي قلعة ألموت ليتبع مولاه ركن الدين في توخي الايلية وتسليم القلعة. فأبى الّا العصيان الى ان نازله بلغاي اغول في عساكر جمة فطلب الامان وسلمها وخرج عنها في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وفي تلك الأيام وصل شمس الدين محتشم قلاع قهستان وأخذ يرليغا وسار معه اصحاب ركن الدين الى قهستان ليخرب جميع القلاع التي هناك وهي تزيد على خمسين حصنا حصينا وتسلموها وفتحوها الّا قلعتين منها هما كرذكوه وكمشير [3] فإنهم
[1-) ] ويروى: بنسكله.
[2-) ] العلاة لعل الصواب «الغلاة» .
[3-) ] ويروى: كردكوه ويروى لمشير وكمسر.
لم يطيقوا فتحها في الحال الّا بعد سنتين. ووصل أكابر الديلم وصالحوا المغول على تخريب قلاعهم. وفي أواسط ذي الحجة عاد هولاكو الى الاردو بناحية همذان وسيّر ركن الدين وبنيه وبناته وأزواجه الى قزوين. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة التمس ركن الدين خوزشاه من هولاكو ان يسيّره الى عبودية مونككا قاان. فأعجبه ذلك وأرسله ومعه تسعة نفر من أصحابه صحبة الايلجية. فلما وصلوا الى مدينة بخارا خاصم الايلجية وتسافه عليهم فحقدوا عليه. فلما وصلوا الى قراقورم لم يؤذن لركن الدين ان يحضر وبرز مرسوم مونككا قاان اليه ان: يجب عليك العود الى بلدك والتقدم الى نوابك ليسلموا قلعتي كرذكوه وكمشير فإذا سلموهما واخربتهما تحضر مرة اخرى ويكون لك التليشميشي اي الإكرام والقبول. فنكص ركن الدين بهذا الرجاء على عقبه. وفي الطريق أهلك مع من كان معه من أصحابه. ووصل يرليغ مونككا قاان الى هولاكو ليقتل الملاحدة باسرهم ولا يبقى منهم اثر. فأرسل قراقاي اليبتكتجي الى قزوين وقتل بني ركن الدين وبناته واخوته وأخواته مع جميع عساكر الملاحدة واوتكوحنا نوين [1] ايضا أخرج من رعايا الإسماعيلية بحجة الحشر اثني عشر ألف رجل وقتلهم كلهم واخلى الأرض من كل من ألحد في دينه.
وفيها سيّر السلطان عزّ الدين رسولا الى خدمة هولاكو شاكيا على بايجو نوين انه ازاحه عن ملكه. فأمر هولاكو ان يتقاسما الممالك هو واخوه ركن الدين. فظهر عزّ الدين فأتى الى قونية ومضى ركن الدين مع بايجو نوين الى مخيّمه. ولخوف عزّ الدين من بايجو نوين وجّه مملوكه طفلا [2] الى نواحي ملطية وخرتبرت ليستخدم له عسكرا من الأكراد والتركمان والعرب. فوصل هذا المملوك وسيّر في طلب شرف الدين احمد ابن بلاس من بلد الهكار وشرف الدين محمد بن الشيخ عدي من بلد الموصل الكرديّين فاتياه. فاقطع ابن بلاس ملطية وابن الشيخ عدي خرتبرت. اما ابن بلاس فلم يقبله اهل ملطية لأنهم كانوا مستحلفين لركن الدين فكان يضطهدهم ويجور عليهم. فما احتملوه وآل أمرهم معه الى ان وثبوا بأصحابه وقتلوا منهم نحو ثلاثمائة رجل وهرب هو مع من تبعه من أصحابه واجتازوا ببلد قلوذيا واحرقوا دير ماذيق [3] يوم الشعانين وعبروا الى بلد آمد وهناك أدركهم صاحب ميافارقين وقتل ابن بلاس وأسر أصحابه. واما ابن
[1-) ] ويروى: وايكوجبا ويروى يوحنا.
[2-) ] ويروى: طغربلابا. س [؟] . ويروى: مملوكه الى نواحي.
[3-) ] ماذيق س [؟] ويروى: دير ماريق.
الشيخ عدي فرحل من خرتبرت ليتصل بالسلطان عزّ الدين فأدركه انكورك نوين وقتله ومن معه. ثم ولّى السلطان عزّ الدين ملطية رجلا بطلا شجاعا يقال له عليّ بهادر فقبله اهل ملطية خوفا من صرامته. وهذا عليّ حارب الاعجزية [1] وهم قوم مفسدون من التركمان كانوا يغيرون على البلاد ويقتلون أهلها ويسبون الذراري فأسر مقدمهم المسمى جوتي بك وسجنه بقلعة المنشار وهزم جيوشهم. فأمن الناس شرّهم وانفتحت السبل وامتار الناس الطعام وفرج الله عنهم غمهم قليلا. وبينما هم فرحون بذلك إذ وافاهم بايجو نوين في عساكره وصاروا يقاتلون متسلمي القلاع ليسلموها الى ركن الدين. ونزلوا على مدينة ابلستين وقتلوا من أهلها نحو ستة آلاف رجل وأسروا النساء والبنين والبنات.
وجاءوا الى ملطية فهرب عليّ بهادر الى كاختة. وخرج اهل ملطية الى خدمة بايجو نوين بأنواع بالترغو [2] والتحف. وكان ذلك في منتصف أيلول سنة ألف وخمسمائة وثماني وستين للإسكندر. فحلّفهم لركن الدين ورحل عنهم بعد ان أخذ أموالا وولّى ركن الدين على ملطية مملوكا له اسمه فخر الدين أياز [3] . ولما خرج بايجو من حدود الروم طالبا للعراق عاد عليّ بهادر الى ملطية فأغلق أهلها الأبواب ولم يمكنوه من الدخول خوفا من بايجو. فحصرها أياما واشتد الغلاء بها وبلغ المكوك من الملح الى أربعين [4] درهما والحنطة المكوك بسبعين درهما. فضجر الناس وضاقت بهم الحيلة ففتح العامة الحاكة وغيرهم بابا من أبواب المدينة في بعض الليالي فدخلها عليّ بهادر وأصحابه التركمانيون عنوة واصعد الى المنابر [5] جماعة ينادون ويقولون: ان الأمير قد امّن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحد الى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام. فلما أصبحوا قبض على فخر الدين أياز مملوك السلطان ركن الدين وسجنه واركب شهاب الدين العارض على بهيم حقير وطوّفه بملطية ثم قتله وشدّ احد طرفي رسن في رقبة المعين الايكد بشاسي [6] والطرف الآخر في رقبة كلب ومشّاه بالأسواق ثم ضرب عنقه. وعاقب المستوفي الروميّ القسيس قالويان وولده كيريوري [7] وأخويه
[1-) ] الاعجرية س [؟] .
[2-) ] الترغو ر الهدايا.
[3-) ] أياز س [؟] .
[4-) ] أربعين ص اربعمائة س اربعمائة.
[5-) ] منابر ر مناير.
[6-) ] الايكد بشاسي س [؟] .- ويروى: بشباسي.
[7-) ] ويروى: كنويري س [؟] .
باسيل ومانويل واستصفى أموالهم ثم قتلهم. وقتل ايضا الأمراء الثلاثة أولاد الأمير شهاب الدين ايسو [1] الكردي. واشتد الجوع بملطية وبلدها حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وكانوا ينقعون الجلود اليابسة التي لدم بها النعال فيأكلونها مطبوخة. واجتاز جماعة من أصحابنا بقرية اسمها با عبدون ببلد جوباس من اعمال ملطية فرأوا جماعة من النساء قد اجتمعن في بيت وقدامهنّ ميت ممدود وبأيديهنّ السكاكين وهنّ يشرحن لحمه ويشوينه ويأكلن. وامرأة اخرى شوت ابنها الصغير في تنور لها ولما كبسها مجاوروها حلفت انها لم تقتله وانما مات ففعلت به ذلك زاعمة انها به اولى من الديدان.
وبعد ما فعل عليّ بهادر تلك الرزايا بأعيان ملطية ومثّل بأماثلها لم يهنأ له بها عيش لما كان أهلها عليه من البلاء والجلاء والجدب. فخرج عنها ملمّا بالسلطان عزّ الدين.
وفيها مرض ثاوذوروس ملك الروم بمدينة نيقية [2] وكان في خدمته بطريق يقال له ميخائيل ويلقب بباليولوغس اي الكلام المتقدم [3] . وذلك ان العلماء من الروم بعد تغلب الافرنج على القسطنطينية تقدموا فقالوا ان ملكا في اسمه الميم والخاء من حروف اليونانيين ينزع الفرنج عنها ويعيدها الى الروم. فكان الملك ثاوذوروس يخاف هذا ميخائيل لئلّا يتغلب على الملك. ولما اشتدّ خوفه منه سجنه واعتقله ببعض قلاع بلد تسالونيقي ولم يمكنه إهلاكه بغير جريمة تظهر منه. وفي مرضه هذا أرسل بطريقا يقال له غاذينوس ليأتيه به. فلما وصل غاذينوس هذا الى ميخائيل قال له سرا: أنت الملك فكن لبيبا وأسلم نفسك اليّ ولا تظهر كراهية أصلا ورأسا ليزول بذلك ما حصل عند الملك من الخيالات في شأنك. فأجاب ميخائيل الى ذلك وحمله مقيدا الى الملك. ولما مثل بين يديه بكى واظهر الكآبة العظيمة. فرقّ له الملك وحنّ اليه واقبل عليه واوصى اليه في تربية قالويان ابنه وتدبيره وكان الابن وقتئذ طفلا وأشرك معه في ذلك البطريرك ارسانيوس.
وبعد مدة مديدة توفي ثاوذوروس ودفن في دير مغنيسيا. وكان له اخت تسمّى كيرايلونيا ولها ختن على ابنتها يقال له موزالون فخرجت معه الى الدير بحجة زيارة قبر الملك وأقاما به أياما يتشاوران في امر الملك واتفقا على ان يقبضا على ميخائيل ومن يرى رأيه ويتولّى تدبير الطفل موزالون. فشعر ميخائيل بدسيستهما وسيّر عليهما جماعة من جند الفرنج الذين كانوا في خدمته وأمرهم ان يقتلوهما معا حيث وجدوهما. فدخل الفرنج
[1-) ] ايسو س [؟] .- ويروى: انسو.
[2-) ] نيقية ر نيقي س [؟] نيفي.
[3-) ] ان المؤلف ترجم هذا الاسم حرفيا. وباليولوغوس عيلة قديمة شريفة.
الدير ولقوهما في البيعة وقت صلاة العشاء فقطعوهما موضعهما ونادوا بشعار ميخائيل بمدينة نيقيا قائلين: ميخائيل يا منصور ميخائيل ملك يونان باليولوغس اوطوقراطور رومانيا.
ومن هناك سار ميخائيل الى مدينة نيقية وخطب له بالمملكة بجميع تلك البلاد واعتقل الطفل قالويان ابن الملك ببعض القلاع ونفى البطريرك ارسانيوس الذي وبخه على فعله هذا. ولما تمكن من الملك لم يكن له اهتمام الّا بأخذ قسطنطينية فسار إليها مرة ولم يقدر على فتحها فصبر الى ان ثارت الفتنة بين البنادقة والجنوية بمدينة عكا فسار البنادقة أجمعين عن القسطنطينية الى عكا لنصرة أصحابهم وكانوا هم الحفظة لها. واحتال حيلة اخرى بأن أشار الى متوّلي بعض قلاع الروم ليكاتب بغدوين الفرنجي صاحب القسطنطينية ويقول له: ان هذا ميخائيل قد تغلب على مملكة الروم بغير استحقاق وهو ظالم معتدّ على بيت أستاذه وانا كاره له وأنت اولى بهذه القلعة منه لأنك ملك ابن ملك وميخائيل خارجيّ. فابعث لي عسكرا وانا أسلمها إليهم ولا بدّ من منجنيقات تكون معهم فينصبونها ويظهرون القتال والزحف ليكون لي عذر عند الناس إذا سلّمتها.
فاغترّ بغدوين الفرنجي بكلامه وقدره صادقا بما قال فأرسل من كان عنده من المقاتلين الى تلك القلعة ونازلوها واشتغلوا بنصب المنجنيقات والاستعداد للقتال. وحينئذ عبر ميخائيل في عساكره خليج القسطنطينية ونزل عليها وهي خالية عن رجال الحرب وحال بينها وبين العسكر الذي كان على القلعة المذكورة. فدلّه بعض الرعاة على باب عتيق للمدينة قد عفا اثره ولم يفتح من عهد قسطنطينوس فنبشوه ودخلوا المدينة وملكوها ليلا وتغافلوا عن بغدوين صاحبها عمدا حتى خرج في اهل بيته وصار الى بلاد الفرنج في البحر. وكان مدة بقاء القسطنطينية بيد الفرنج نحو ثلث وخمسين سنة ثم عادت الى الروم كما كانت أولا.
وفيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد. وكان في ايام محاصرته قلاع الملاحدة قد سيّر رسولا الى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة فأراد ان يسيّر ولم يقدر ولم يمكّنه الوزراء والأمراء وقالوا: ان هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجا الى نجدتنا وانما غرضه أخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة.
فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولا آخر الى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا [1] الوزير فيما يجب ان يفعلوه فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له
[1-) ] فشاوروا ر فشاور.
ولخواصّه. وعند ما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضة والمماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه: ان الوزير انما يدبّر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك.
فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيء نزر لا قدر له.
فغضب هولاكو وقال: لا بدّ من مجيئه هو بنفسه او يسيّر احد ثلثة نفر اما الوزير واما الدويدار واما سليمانشاه. فتقدم الخليفة إليهم بالمضيّ فلم يركنوا الى قوله فسيّر غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه. وأمر هولاكو بايجو نوين وسونجاق نوين ليتوجّها في مقدمته على طريق اربل وتوجه هو على طريق حلوان.
وخرج الدويدار من بغداد ونزل بجانب يا عقوبا [1] . ولما بلغه ان بايجو نوين عبر دجلة ونزل بالجانب الغربي ظن ان هولاكو قد نزل هناك فرحل عن يا عقوبا ونزل بحيال بايجو ولقي يزك [2] المغول أميرا من أمراء الخليفة يقال له ايبك الحلبي فحملوه الى هولاكو فأمّنه ان تكلّم بالصحيح وطيّب قلبه فصار يسير امام العسكر ويهديهم.
وكتب كتابا الى بعض أصحابه يقول لهم: ارحموا أرواحكم واطلبوا الامان لان لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة. فأجابوه بكتاب يقولون فيه: من يكون هولاكو وما قدرته ببيت عباس من الله ملكهم ولا يفلح من يعاندهم ولو أراد هولاكو الصلح لما داس ارض الخليفة ولما أفسد فيها. والآن ان كان يختار المصالحة فليعد الى همذان ونحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعا في هذا الأمر لعلّه يعفو عن هفوة هولاكو. فلما عرض ايبك الكتاب على هولاكو ضحك واستدلّ به على غباوتهم.
ثم سمع الدويدار ان التاتار قد توجهوا نحو الأنبار. فسار إليهم ولقي عسكر سونجاق نوين وكسرهم وهزمهم وفي هزيمتهم التقاهم بايجو نوين فردّهم وهجموا جميعا على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالا شديدا وانجلت الحرب عن كسرة الدويدار فقتل اكثر عسكره ونجا هو في نفر قليل من أصحابه ودخل بغداد.
وفي منتصف شهر المحرّم من سنة ست وخمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد وفي يوم وليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيبا اعني سوريا عاليا وبنى بوقا تيمور وسونجاق نوين وبايجو نوين بالجانب الغربي كذلك وحفروا خندقا عميقا
[1-) ] كذا في الأصل. والصواب باعقوبا ويقال لها بعقوبا ايضا وهي قرية كبيرة على عشرة فراسخ من بغداد.
[2-) ] ويروى: بركا وهو تصحيف. واليزك رئيس العسس.
داخل السيبا [1] ونصبوا المنجنيقات بازاء سور بغداد من جميع الجوانب ورتبوا العرّادات وآلات النفط. وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرّم. فلما عاين الخليفة العجز في نفسه والخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوانه وابن درنوش [2] الى خدمة هولاكو ومعهم تحف نزرة. قالوا: ان سيّرنا الكثير يقول: قد هلعوا وجزعوا كثيرا. فقال هولاكو:
لم ما جاء الدويدار وسليمانشاه. فسيّر الخليفة الوزير العلقمي وقال: أنت طلبت احد الثلاثة وها انا قد سيّرت إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو: انني لما كنت مقيما بنواحي همذان طلبت احد الثلاثة والآن لم اقنع بواحد. وجدّ المغول بالقتال بازاء برج المعجمي وبوقا تيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة وسونجاق نوين وبايجو نوين من جانب البيمارستان العضدي. وامر هولاكو البتيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية:
ان الاركاونية [3] والعلويين والداذنشمدية [4] وبالجملة كل من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها الى المدينة. واشتدّ القتال على بغداد من جميع الجوانب الى اليوم السادس والعشرين من محرم. ثم ملك المغول الأسوار وكان الابتداء من برج العجمي. واحتفظ المغول الشط ليلا ونهارا مستيقظين لئلا ينحدر فيه احد.
وامر هولاكو ان يخرج اليه الدويدار وسليمانشاه واما الخليفة ان اختار الخروج فليخرج والّا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمانشاه ومعهما جماعة من الأكابر. ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة انه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والازقّة لئلا يقتلوا أحدا من المغول فرجع وخرج من الغد وقتل. وعامة اهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الامان. ولما رأى الخليفة ان لا بد من الخروج أراد او لم يرد استأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه فأذن له وخرج رابع صفر ومعه أولاده واهله. فتقدم هولاكو ان ينزلوه بباب كلواذ [5] وشرع العساكر في نهب بغداد ودخل بنفسه الى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدّم بإحضار الخليفة فاحضروه ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلئ ودررا معبّاة في أطباق ففرّق هولاكو جميعها على الأمراء وعند المساء خرج الى منزله وامر الخليفة ان يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهنّ عن غيرهنّ ففعل فكنّ سبعمائة امرأة فاخرجهن ومعهنّ ثلاثمائة خادم
[1-) ] ويروى: عميقا ونصبوا إلخ.
[2-) ] درنوش س [؟] .- ويروى: دونوس ودرنوس.
[3-) ] اي تباع اركون ومعناه الدهقان العظيم وهي كلمة يونانية [؟] .
[4-) ] والداذنشمدية ر والدانشمدية.
[5-) ] لعلّه باب كلواذي.
خصيّ. وبقي النهب يعمل الى سبعة ايام ثم رفعوا السيف وبطلوا السبي. وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم [1] وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل وقتل ابنه الكبير ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذ وفوّض عمارة بغداد الى صاحب الديوان والوزير وابن درنوش. وأرسل بوقا تيمور الى الحلّة ليمتحن أهلها هل هم على الطاعة ام لا. فتوجّه نحوها ورحل عنها الى مدينة واسط وقتل بها خلقا كثيرا أسبوعا. ثم عاد الى هولاكو وهو بمقام سياكوه [2] .
وكان من الفضلاء المعتبرين في هذه السنين القاضي الأكرم جمال الدين بن القفطي مصنف كتاب تاريخ الحكماء مولده بقفط من اعمال صعيد مصر سنة ثماني وستين وخمسمائة رحل به أبوه طفلا واسكنه القاهرة المعزّية وبها قرأ وكتب وشدا شيئا من الأدب.
ثم خرج الى الشام فأقام بحلب وصحب بها الأمير المعروف بالميمون القصري. واجتمع في هذه المدة بجماعة من العلماء واستفاد بمحاضرتهم وفقه بمناظرتهم. ثم لازم منزله بعد وفاة الأمير المذكور الى ان ألزم بالخدمة في امور الديوان في ايام الملك الظاهر فتولّى ذلك وهو كاره للولاية متبرّم بها. فلما مات الملك الظاهر عاد فانقطع في منزله مستريحا من معاناة الديوان مجتمع الخاطر على شأنه من المطالعة والفكرة منقبضا عن الناس محبا للتفرد والخلوة لا يكاد يظهر لمخلوق حتى قلّده الملك العزيز وزارته سنة ثلث وثلاثين وستمائة. فلم يزل في هذا المنصب مدة ايام الملك العزيز والملك الناصر ابنه حتى توفي ثالث عشر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة.
ومن حكماء هذا الزمان نجم الدين النخجواني كان ذا يد قويّة في الفضائل وعارضة عريضة في علوم الأوائل تفلسف ببلاده وسار في الآفاق وطوّف ودخل الروم وولي المناصب الكبار ثم كره كدر الولاية ونصبها فارتحل الى الشام واقام بحلب منقطعا في دار اتخذها لسكناه لا يمشي الى مخلوق ولكن يمشى اليه الى ان مات بها. وكان شديد الميل الى مذهب التناسخ وله مؤاخذات على منطق الإشارات وشرحها ايضا وتناول [3]
[1-) ] كانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريبا وهو آخر الخلفاء العباسيين. وكانت مدة ملكهم خمسمائة سنة وأربعا وعشرين سنة هجرية. وعدة خلفائهم سبعة وثلاثون خليفة.
[2-) ] ويروى: سياكوا ولعلّها سياه كوه.
[3-) ] ويروى: وتناوله.
الأفضل الخونجي بالاستنقاص وزيّف أقواله في كتاب الكشف فيما يتعلق بعكس النقيض والموضوع الخارجي والحقيقي ومنعه انتاج الصغرى الممكنة في الشكل الاول وانعكاس السالبة الكلية الضرورية كنفسها الى غير ذلك.
ومنهم الحكيم ثاذري الانطاكي اليعقوبي النحلة احكم اللغة السريانية واللاطينية بأنطاكية وشدا بها شيئا من علوم الأوائل. ثم هاجر الى الموصل وقرأ على كمال الدين ابن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحلّ اوقليذس والمجسطي. ثم عاد الى انطاكية ولم يطل المكث بها لما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية الى ابن يونس وانضج ما استنهأ من علمه وانحدر الى بغداد واتقن علم الطب وقيّد أوابده وتصيّد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه [1] ولم يقبل عليه فرحل الى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للامبرور ملك الفرنج [2] فنال منه إفضالا ووجد له به نوالا واقطعه بمدينة كما هي باعمالها. فلما صلح حاله وكثر ماله اشتاق الى بلده واهله ولم يؤذن له بالتوجه فأقام الى ان أمكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته الى بلاد المغرب فضمّ أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد اعدّها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون برّ عكا. فبينما هم سائرون. ذهبت عليهم ريح رمت بهم الى مدينة كان الملك قد ارسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئا من سمّ كان معه ومات خجلا لا وجلا لان الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله.
ومن الأطباء المشاهير في هذا الزمان الحكيم مسعود البغدادي المعروف بابن القسّ طبيب حاذق نبيل خدم الخليفة المستعصم واختصّ به وطبّ حرمه وأولاده وخواصه وارتفعت منزلته لديه. ولما جرى ببغداد ما جرى انقطع عن الناس ولزم منزله الى ان مات. وخلف ولده غرس النعمة أبا نصر [3] وكان ابو نصر فاضلا عاقلا ذا فنون خبيرا بأصول الهندسة فاكّا مشكلاتها وكان ضئيلا مسقاما لا يقطع استعمال ماء الشعير صيفا وشتاء وكان غذاؤه دوائيا نزرا ومات كهلا.
ومنهم الحكيم عيسى البغدادي المعروف بابن القسيس الحظيري [4] كان أبوه طبيبا
[1-) ] وفي رواية: فاستعربه. وفي أخرى: فاستشعر به
[2-) ] كان هذا الملك فريدريكوس الثاني.
[3-) ] نصر ر ناصر.
[4-) ] الحظيري ر الخطيري.
ابن العبري- 18
فاضلا يقرأ عليه ويؤخذ منه. وكان حادّ المزاج يسرع اليه الغضب. جرى لي معه مفاوضة في امر تقديم السريان الليل على النهار مستدلّين التوراة وهو قوله تعالى: وصار مساء وصار صباح يوما واحدا. قلت: هذه الحجة عليهم لا لهم لأنها تنبئ عن تقدّم نهار آخره مساء وتأخّر ليل آخره صباح ليتمّ بمجموعهما يوم واحد لانّ الحاصل من المساء الى الصباح انما هو ليلة واحدة وهي نصف يوم لا يوم تام. فلم ينصفني في هذا ولا أجاب عنه بشيء اكثر من قوله: هذا مذهب اهل ملّتك فكيف يسعك تكذيبهم.
فقلت: انا تابع فيه لليونانيين وأقيم عذر السريانيين وهو ان شهورهم قمريّة والقمر انما يرى استهلاله مساء لا صباحا فجعلوا مبادئ تواريخهم أوائل الليل ومثلهم العبرانيون والعرب لان الليل مقدّم على النهار في نفس الأمر. ومما يستدلّ به على علوّ همّته الحكيم عيسى ابن القسيس انه نسخ كتاب القانون بخطّه في شبيبته ثم خرجت النسخة عن ملكه بحكم شرعيّ وحصلت في خزانة المدرسة المستنصرية. فلما اسنّ طلب النسخة وقابلها وصححها وأعادها الى مكانها. فنسبه باغضوه الى فضول ومحبّوه الى مثوبة يتوخّاها. فقال: كلا الفريقين مخطئ وانما فعلت ذلك لئلا يزرى عليّ بعد موتي. وعمّر طويلا ومات شيخا كبيرا.
ومنهم تقيّ الدين الرأس عينيّ [1] المعروف بابن الخطّاب [2] طبيب مشهور الذكر متقن لصناعة الطب علمها وعملها غاية الإتقان خدم السلطان غياث الدين وبعده ابنه عزّ الدين وصار له منزلة عظيمة منهما ورفعاه من حدّ الطب الى المعاشرة والمسامرة واقطعاه إقطاعات جزيلة وكان في خدمتهما بزيّ جميل وامر صالح وغلمان وخدم وصادف من دولتهما كل ما سرّه.
ومنهم شرف الدين بن الرحبي واخوه جمال الدين الدمشقيّان. اما شرف الدين فكان بارعا بالجزء النظري من الطب له معرفة تامة به واطلاع على أصوله تصدّر لافادة هذا الشأن وأخذ عنه جماعة من الطلبة وكان قليل التعرّض لمباشرة المرضى. وسمعت وقت تحصيلي بدمشق ان له تعاليق وحواشي على القانون ولم ارها. واما جمال الدين اخوه فكان له عناية تامة في الحزء العمليّ من الطبّ وتجارب فاضلة فيه ونفوذ مشهور في المعالجة. صحبته مدة أباشر معه المرضى بالبيمارستان النوري بدمشق وكان حسن الأخلاق لم ار في الجماعات احسن منه زيا وصمتا ونطقا ومبسما.
[1-) ] قال في معجم البلدان في كلامه عن مدينة رأس عين «والمشهور في النسبة إليها راسعني. وقد نسب إليها الراسي» .
[2-) ] الخطاب ر الحطاب.
ومنهم بدر الدين المعروف بابن قاضي بعلبك كان فاضلا خبيرا بالمباشرة والمعالجة جميل التحيّل للبرء وصنّف كتابا لطيف الحجم سمّاه مفرّح النفس جمع فيه جملة ما يتعلّق بالحواسّ الخمسة من المفرحات وأضاف اليه [1] الادوية المفردة القلبية ومركبات ايضا حارّة وباردة ومعتدلة للملوك والفقراء واوساط الناس وأخذ فيه على الرئيس في جعله الكسفرة عديدة المفرحات.
ومنهم نفيس الدولة الدمشقي النصراني الملكي المعروف بابن طليب وسيأتي ذكره في جملة أطباء هولاكو إذ هو أكبرهم.
ومنهم الموفق يعقوب الدمشقيّ السامريّ كان طبيبا حاذقا مصيبا في علاجه مستحضرا للشروح وكان ضنينا بما يحسنه يشارط من قصده من سائر البلاد للاستفادة على إسماعه اي كتاب أراد قراءته دراهم معلومة. وهذه خساسة مباينة للأنفس الفاضلة.
ومن فضلاء هذا الزمان في علوم الأوائل وجميع الفضائل نجم الدين الدمشقي المعروف بابن اللبودي تولّى امور الديوان وقلّد الوزارة والغالب عليه الهندسة والعدد.
ومنهم عزّ الدين الضرير كان من الأفاضل والأعيان المعدودين من حسنات الزمان.
وله مشاركة حسنة في سائر الأنواع الفلسفية والآداب العربية. وكان قويّ الذكر والتخيّل بحيث انه كان يقرأ عليه وهو مكفوف ستّ مقالات من كتاب اوقليذس وكان يحفظ الأشكال بحروفها ويتكلم في حلّها.
[1-) ] اليه
…
ومركبات ر الى
…
مركبات.