الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودخلت جنّته وزرت جحيمه
…
وشكرت رضوانا ورأفة مالك
والبشر في وجه الغلام نتيجه
…
لمقدّمات ضياء وجه المالك
وفي الأيام المقتفية دخل ابو الحكم المغربيّ الاندلسيّ الحكيم المرسيّ [1] العراق وهو مجهول لا يعرف ورأى في بعض تطوافه بأزقّة بغداد رجلا جالسا على باب دار يشعر بالرئاسة لساكنها وبين يديه شاب يقرأ عليه شيئا من كتاب اوقليذس فقرب منهما ابو الحكم [2] ليسمع فإذا المعلّم يهذي ما لا يعلم فردّ عليه خطأه وبيّن غلطه. وعلم الشاب الحقيقة في الردّ فاستوقف أبا الحكم الى ان يعود ودخل الدار وخرج يستدعي أبا الحكم دون المعلم فدخل الى دار سريّة فلقي والد الشاب وهو احد أمراء الدولة فأحسن ملتقاه ثم سأله ملازمة ولده فأجاب. فاشتهر ذكر ابي الحكم فتطلبه الطلبة وارتفع قدره. وكان كثير الهزل والمزاح. شديد المجون والارتياح. ثم كره العراق وفارق على نيّة قصد المغرب.
فلما حلّ بظاهر دمشق سيّر غلاما له ليبتاع منها ما يأكلانه في يومهما واصحبه نزرا يكفي رجلين. فعاد الغلام ومعه شواء وفاكهة وحلواء وفقّاع وثلج. فنظر ابو الحكم الى ما جاء به وقال له عند استكثاره: أوجدت أحدا من معارفنا. فقال: لا وانما ابتعت هذا بما كان معي وبقيت منه هذه البقيّة. فقال ابو الحكم: هذا بلد لا يحلّ لذي عقل ان يتعدّاه. ودخل وارتاد منزلا وسكنه وفتح دكان عطار يبيع به المعطر ويطبّ وأقام على ذلك الى ان اتى اجله.
(المستنجد بن المقتفي)
لما اشتدّ مرض المقتفي وكان وليّ عهده ابنه يوسف وكانت للمقتفي حظيّة هي أمّ ولده ابي عليّ فأرادت الخلافة لابنها وأحضرت عدّة من الجواري واعطتهنّ السكاكين وأمرتهنّ بقتل وليّ العهد يوسف إذا دخل على والده. وكان ليوسف خصيّ صغير يرسله كل وقت يتعرّف اخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين فعاد الى يوسف وأخبره فاستدعى أستاذ الدار وأخذه معه وجماعة من الفرّاشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف. فلما دخل ثار به الجواري فضرب واحدة منهنّ فجرحها وكذلك اخرى وصاح فدخل أستاذ الدار ومعه الفرّاشون فهرب الجواري وأخذه أخاه أبا عليّ وأمّه فسجنهما وأخذ الجواري وقتل منهنّ وغرّق منهنّ.
فلما توفّي المقتفي جلس يوسف ابنه للبيعة فبويع له ولقب المستنجد بالله وخطب له في ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
[1-) ] المرسي ر الموسي. وروى ابن ابي أصيبعة «المريي» .
[2-) ] الحكم ر هنا وفي ما بعد «الحلم» .
وفي سنة ستّ وخمسين في صفر توفّي الفائز عيسى بن الظافر اسماعيل صاحب مصر وكانت خلافته ستّ سنين وولي الأمر بعده بمصر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولقب العاضد لدين الله وهو آخر الخلفاء العلويّين بالديار المصريّة. وفي سنة تسع وخمسين وخمسمائة هرب شاور وزير العاضد صاحب مصر من ضرغام الذي نازعه في الوزارة الى الشام ملتجئا الى نور الدين ومستجيرا به وطلب منه إرسال العساكر معه الى مصر ليعود الى منصبه ويكون له ثلث دخل البلاد. فتقدّم نور الدين بتجهيز الجيوش وقدم عليها اسد الدين شير كوه فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم ووصل اسد الدين والعساكر الى مدينة بلبيس. فخرج إليهم أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم. وخرج ضرغام من القاهرة فقتل وقتل اخوه ايضا. وخلع على شاور وأعيد الى الوزارة. وأقام اسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد عمّا كان قرّره لنور الدين وأرسل الى الفرنج يستمدّهم فسارعوا الى تلبية دعوته ونصرته وتجهزوا وساروا.
فلما قارب الفرنج مصر فارقها اسد الدين وقصد مدينة بلبيس وجعلها ظهرا يتحصن به فحصره بها العساكر المصرية والفرنج ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا. فراسل الفرنج اسد الدين في الصلح والعود الى الشام فأجابهم الى ذلك وصار الى الشام.
وفي سنة ثلث وستين وخمسمائة فارق زين الدين عليّ بن سبكتكين النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار الى إربل وكان هو الحاكم في الدولة واكثر البلاد بيده. فلما عزم على مفارقة الموصل الى بيته باربل سلّم جميع ما كان بيده من البلاد الى قطب الدين مودود وبقي معه اربل حسب.
وكان شجاعا عادلا حسن السيرة سليم القلب كثير العطاء للجند وغيرهم مدحه الحيص بيص بقصيدة فلما أراد ان ينشده قال: انا لا اعرف ما تقول ولكني اعلم انك تريد شيئا. وأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة سنيّة وثياب مجموع ذلك ألف دينار ولم يزل باربل الى ان مات بها هذه السنة.
وفي سنة اربع وستين وخمسمائة ملك نور الدين قلعة جعبر. وملك اسد الدين شير كوه مصر وقتل شاور الوزير. ولما ثبت قدم اسد الدين وظنّ ان لم يبق له منازع أتاه اجله فتوفّي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وكانت ولايته شهرين.
واما ابتداء امره فانه كان هو واخوه نجم الدين أيوب ابنا شاذي من بلد دوين [1]
[1-) ] دوين بلدة من نواحي أران في آخر حدود اذربيجان بالقرب من تفليس.
وأصلهما من الأكراد الروّاديّة [1] فقدما العراق وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد.
فرأى من نجم الدين أيوب عقلا ورأيا وكان اكبر من شير كوه فجعله مستحفظا لقلعة تكريت. فسار إليها ومعه اخوه شير كوه. ثم ان شير كوه قتل كاتبا نصرانيا بتكريت لملاحاة جرت بينهما فأخرجهما بهروز من قلعة تكريت فسارا الى زنكي. ولما ملك بعلبك جعل أيوب مستحفظا لها فلما قتل زنكي وتسلّم عسكر دمشق بعلبك صار هو اكبر الأمراء بدمشق واتصل اخوه شير كوه بنور الدين فاقطعه حمص والرحبة وجعله مقدم عسكره. فلما أراد ان يرسل العسكر الى مصر لم ير هناك من يصلح لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره فأرسله فملكها.
ولما توفّي اسد الدين شير كوه طلب جماعة من الأمراء النوريّة ولاية الوزارة للعاضد العلويّ صاحب مصر فأرسل العاضد الى صلاح الدين بن أيوب بن شاذي أحضره عنده وخلع عليه وولّاه الوزارة بعد عمّه ولقبه الملك الناصر وكان اسمه يوسف. فكان الذي حمله على ذلك ان أصحابه قالوا له: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنا من يوسف فإذا ولي لا يرفع علينا رأسا مثل غيره. فثبت قدم صلاح الدين ومع هذا فهو نائب عن نور الدين وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما عن ان يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل يكتبه: الأمير الاسفهسلار صلاح الدين وكافة [2] الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال فمالوا اليه واحبّوه وضعف امر العاضد. ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين ان يرسل اليه اخوته واهله فأرسلهم اليه وشرط عليهم طاعته.
وفي سنة خمس وستين وخمسمائة في شوّال مات قطب الدين مودود بن زنكي ابن اقسنقر صاحب الموصل [3] . ولما اشتدّ مرضه اوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه الى ابنه الآخر وهو سيف الدين غازي وانما فعل ذلك لان القيّم بأمور دولته كان خادما له يقال له فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمّه نور الدين وكان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق عبد المسيح وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي وهي والدة سيف الدين عليّ صرف الملك
[1-) ] الروادية ر الراوديّة.
[2-) ] وكافة ر وكان.
[3-) ] توفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة وكان ملكه احدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصف شهر.