الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا عَرَفْتَ مَا حَرَّرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالرُّدُودِ "لَهَا"* فَاعْلَمْ: أَنَّ الْأَرْجَحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، فَإِنَّ اللَّازِمَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ تَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ مَعًا كَافِيًا فِي الْجَزْمِ بِاللُّزُومِ، بِخِلَافِ اللَّازِمِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمَلْزُومِ هُنَاكَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِاللَّازِمِ، وَهَكَذَا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ بالمعنى الأعم.
* في "أ": بها.
الفصل السابع: الإتيان بالمأمور به
اعْلَمْ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ قَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، هَلْ يُوجِبُ الْإِجْزَاءَ أم لا؟ وقد فُسِّرَ الْإِجْزَاءُ بِتَفْسِيرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الِامْتِثَالِ بِهِ.
وَالْآخَرُ: سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِهِ، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ "لَا شَكَّ"* أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وجهه يقتضي تحقق الإجزاء الْمُفَسَّرِ بِالِامْتِثَالِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَعْنَى الامتثال وحقيقته ذلك، وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه: فقال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ به على وجهه يَسْتَلْزِمُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: لَا يَسْتَلْزِمُ.
اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالِاسْتِلْزَامِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ سُقُوطَ الْقَضَاءِ لَمْ يُعْلَمِ امْتِثَالٌ أبدًا، واللازم منتفٍ فالملزوم مِثْلُهُ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَسْقُطَ عَنْهُ بَلْ يجب عليه فِعْلُهُ مَرَّةً أُخْرَى قَضَاءً، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ إِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَسْقُطْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا وَاتِّفَاقًا.
وَأَيْضًا إِنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِدْرَاكِ مَا قَدْ فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ على وجهه، ولم يَفُتْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَصَلَ الْمَطْلُوبُ بِتَمَامِهِ، فَلَوْ أَتَى بِهِ اسْتِدْرَاكًا لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ.
قَالَ فِي "الْمَحْصُولِ": فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ، خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ وَأَتْبَاعِهِ.
لَنَا وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أنه أتى بما أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ لأن
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
الْمَسْأَلَةَ مَرْفُوضَةٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَبَقِيَ إما متناولًا للمأتي أَوْ لِغَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يكون الأمر قد كان متناولًا لِغَيْرِهِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ مَأْتِيًّا بِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَأْتِيُّ بِهِ تَمَامَ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ هَذَا خَلْف.
والثاني: أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانيا، وثالثًا، أو ينقصى عَنْ عُهْدَتِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالْأَوَّلُ باطل لما بينا على أن الأمر لا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ لَا معنى للإجزاء إِلَّا كَوْنُهُ كَافِيًا فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الأمر.
والثالث: أنه لو لم يقتض الإجزاء لَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: افْعَلْ فإذا فعلت لا يجزئ عنك، لو قال ذلك أحد لَعُدَّ مُنَاقِضًا.
احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ بِمُجَرَّدِهِ فَالْأَمْرُ يجب أن لا يدل على الإجزاء بمجرده.
والثاني: أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ فيها إتمامها، والمضي فيها، ولا تجزئه عن المأمور به كَالْحُجَّةِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، فَأَمَّا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ يَكُونُ سَبَبًا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بمجرد الأمر.
والجواب عن الأول: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ أن نقول: النهي يدل على "أنه"* مَنْعِهِ مِنْ فِعْلِهِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنْ يقول: إنك لو أتيت به لَجَعَلْتَهُ سَبَبًا لِحُكْمٍ آخَرَ، أَمَّا الْأَمْرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إِلَّا عَلَى اقْتِضَائِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بتمام المقتضى فوجب أن لا يَبْقَى الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِشَيْءٍ.
وَعَنِ الثاني: أن تلك الأفعال مُجْزِئَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْوَارِدِ بِإِتْمَامِهَا، وَغَيْرُ مُجْزِئَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ اقْتَضَى إِيقَاعَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا عَلَى حد الوجه الذي وقع، بل عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَذَلِكَ الْوَجْهُ لَمْ يُوجَدْ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِتَمَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ يوجب أن لا يَبْقَى الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ هُوَ المراد بالإجزاء.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".