الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر: تعاقب الأمرين المتماثلين والمتغايرين
اختلفوا إذا تعاقب أمران بِمُتَمَاثِلَيْنَ، هَلْ يَكُونُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ لِلتَّأْسِيسِ1، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ الْفِعْلَ مُكَرَّرًا، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: صِلْ رَكْعَتَيْنِ، صَلِّ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ الْجُبَائِيُّ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنه لِلتَّأْكِيدِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ: إِلَى أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: بِالْوَقْفِ فِي كَوْنِهِ تَأْسِيسًا أو تأكيدا وبه قال أبو الحسن البصري.
واحتج الْقَائِلُونَ بِالتَّأْكِيدِ: بِأَنَّ التَّكْرِيرَ قَدْ كَثُرَ فِي التَّأْكِيدِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ وإلحاق الأقل به أَوْلَى، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ الْمُتَكَرِّرِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَيُجَابُ بِمَنْعِ كَوْنِ التَّأْكِيدِ أَكْثَرَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ دَلَالَةَ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى مَدْلُولٍ مُسْتَقِلٍّ هُوَ "الأصل والظاهر"*، الْأَصْلُ الظَّاهِرُ وَبِمَنْعِ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَصْلِيَّةِ الْبَرَاءَةِ أَوْ ظُهُورِهَا، فَإِنَّ تَكْرَارَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا وَظَاهِرًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ كَلَامٍ وَظَاهِرَهُ الْإِفَادَةُ لَا الْإِعَادَةُ.
وَأَيْضًا التَّأْسِيسُ "أَكْثَرِيٌّ"** وَالتَّأْكِيدُ "أَقَلِّيٌّ"*** وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ.
وَإِذَا تقرر لك رجحان هذا المذهب عَرَفْتَ مِنْهُ بُطْلَانَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ: مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ التَّرْجِيحُ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ.
أَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنِ الْفِعْلَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، صُمْ يَوْمًا، وَهَكَذَا إِذَا كَانَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ قامت القرينة الدلالة عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّأْكِيدُ نَحْوُ صُمِ الْيَوْمَ صم اليوم، ونحو صلِ ركعتين صلِ الركعتين، فَإِنَّ التَّقَيُّدَ بِالْيَوْمِ، وَتَعْرِيفَ الثَّانِي يُفِيدَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا إِذَا اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُرَادَ التَّأْكِيدُ نَحْوَ اسْقِنِي مَاءً،
* في "أ": الأصل الظاهر.
** في "أ": أكثر.
*** في "أ": أقل.
_________
1 عبارة عن إفادة معنى آخر لم يكن أصلًا قبله، فالتأسيس خير من التأكيد لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.
اسْقِنِي مَاءً، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِحَرْفِ العطف نحو: صلِ ركعتين وصلِ الركعتين؛ لِأَنَّ التَّكْرِيرَ الْمُفِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَمْ يُعْهَدْ إِيرَادُهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا والحمل على الأكثر أَوْلَى.
أَمَّا لَوْ كَانَ الثَّانِي مَعَ الْعِطْفِ معرفًا فالظاهر التأكيد نحو صلِ ركعتين وَصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّامِ عَلَى إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى إرادة التأسيس.