الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْحَقُّ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ غَيْرُهُ فِي التَّبَادُرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا بِمُجَرَدِهِ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِ الْحَقِيقِيِّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، مَعَ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّفْظَ يَكُونُ عِنْدَ قَصْدِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مَجَازًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ لَا مَجْمُوعُهُمَا وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ، يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عُمُومَ الْمَجَازِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ، أَوْ مَعَانِيهِ الْمَجَازِيَّةِ، فَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى مَنْعِهِ وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ كُلِّ مَجَازٍ تُنَافِي إِرَادَةَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَجَازَاتِ.
وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْكَلَامُ في المبادئ.
الخلاف في بَعْضِ حُرُوفِ الْمَعَانِي:
وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الْمَبَادِئِ مَبَاحِثَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ، الَّتِي رُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْأُصُولِيُّ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهَا مُدَوَّنَةٌ فِي فَنٍّ مُسْتَقِلٍّ، مُبَيَّنَةٌ بَيَانًا تَامًّا، وَذَلِكَ كَالْخِلَافِ فِي الْوَاوِ هَلْ هِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، أَوْ لِلتَّرْتِيبِ؟
فَذَهَبَ إِلَى الأول جمهور النحاة، والأصوليون، وَالْفُقَهَاءِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: أَجْمَعَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ، عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ1 فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ "كِتَابِهِ"2 أَنَّهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، "وَهُوَ الْحَقُّ"*.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ3 وثعلب، وأبو عبيد4: إنها للترتيب.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
1 هو عمرو بن عثمان، أبو بشر الفارسي ثم البصري، إمام النحو، حجة العرب توفي سنة ثمانين ومائة هجرية، من تآليفه:"الكتاب" المشهور بكتاب سيبويه. ا. هـ. سير أعلام النبلاء "8/ 351"، معجم الأدباء "16/ 114".
2 أي كتاب سيبويه في النحو، وهو مجلد واحد، ليس في ترتيب، ولا خطبة، ولا خاتمة، وعليه شروح وتعليقات وردود نشأت من اعتناء الأئمة واشتغالهم به وهو مطبوع في خمسة مجلدات بتحقيق عبد السلام هارون. ا. هـ. كشف الظنون "2/ 1426".
3 هو يحيى بن زياد، أو زكريا الديلمي الكوفي، ولد سنة أربع وأربعين ومائة هـ، وتوفي في طريقه إلى الحج سنة سبع ومائتين هـ، من آثاره:"مشكل اللغة""البهي""معاني القرآن"، وغيرها كثير، حتى بلغت تآليفه ثلاثة آلاف ورقة. قيل سمي بالفراء؛ لأنه كان يفري الكلام. ا. هـ. معجم الأدباء "20/ 9"، تهذيب التهذيب "11/ 212"، سير أعلام النبلاء "10/ 118".
4 هو أبو عبيد القاسم بن سلام، الإمام الحافظ، اللغوي، المحتهد ذو الفنون، ولد سنة سبع وخمسين ومائة هـ، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين هـ، من آثاره:"الأموال""كتاب الناسخ والمنسوخ". ا. هـ. تذكرة الحفاظ "1/ 417"، تهذيب "8/ 315"، سير أعلام النبلاء "10/ 490".
وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُؤَيَّدِ بِاللَّهِ1، وَأَبِي طَالِبٍ2.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْوَاوَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَمْتَنِعُ التَّرْتِيبُ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلَوْ قِيلَ: تَقَاتَلَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو، أَوْ تَقَاتَلَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، لَمْ يَصِحَّ، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ.
وَأَيْضًا: لَوِ اقْتَضَتِ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ، أَوْ رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَكَ: بَعْدَهُ يَكُونُ تَكْرَارًا لِمَا تُفِيدُهُ الْوَاوُ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَقَوْلُكَ: قَبْلَهُ يَكُونُ مُنَاقِضًا لِمَعْنَى التَّرْتِيبِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ: بِأَنَّهُ امْتَنَعَ جَعْلُ الْوَاوِ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ امْتِنَاعُهُ عِنْدَ عَدَمِهِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة} 3 فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} 4 وقوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين} 5، مَعَ أَنَّ الرُّكُوعَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ، وَقَوْلِهِ:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} 6 وقوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} 7 وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة} 8 و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 9 وَلَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرْتِيبِ وَهَكَذَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ: فَأَهْلُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ اشْتَرِ الطَّعَامَ وَالْإِدَامَ أو اشتر الإدام والطعام والترتيب أَصْلًا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتِ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَفَهِمَ الصحابة رضي الله عنهم
1 هو الحسين بن علي، الحسني، من أئمة الزيدية باليمن، ولد ونشأ بصعدة، وتوفي سنة خمس وعشرين ومائة وألف هـ، ولاه أبوه بلاد رازح. ا. هـ. الأعلام "2/ 247".
2 هو عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم، نور الدين، الفقيه الحنبلي، نزيل بغداد، ولد سنة أربع وعشرين وستمائة هـ، وحفظ القرآن بالبصرة، توفي سنة أربع وثمانين وستمائة هـ، من آثاره:"الحاوي في الفقه""الكافي في شرح الخرقي". ا. هـ. شذرات الذهب "5/ 386" الأعلام "9/ 319".
3 جزء من الآية "58" من سورة البقرة.
4 جزء من الآية "161" من سورة الأعراف.
5 جزء من الآية "43" من سورة آل عمران.
6 جزء من الآية "92" من سورة النساء.
7 جزء من الآية "33" من سورة المائدة.
8 جزء من الآية "38" من سورة المائدة.
9 جزء من الآية "2" من سورة النور.
في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} 1 أَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ مِنَ الصَّفَا، مِنْ دُونِ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكنهم سألوه فقال:"ابدأوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ"2.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّرْتِيبِ، بِمَا صَحَّ أَنَّ خَطِيبًا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ:"مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى"، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"3.
وَلَوْ كَانَ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ مَا عَلَّمَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا: بأنه إنما أمره صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَهُ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ تَعْظِيمًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْقَائِلُونَ بِإِفَادَةِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَيَسْتَدْعِي الْجَوَابَ عَنْهُ.
وَكَمَا أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ دُونِ تَرْتِيبٍ وَلَا مَعِيَّةٍ، فَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِذَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ تَعْقِيبٍ فَذَلِكَ لِدَلِيلٍ آخَرَ، مُقْتَرِنٌ مَعْنَاهُ بِمَعْنَاهَا.
وَكَذَلِكَ "فِي" لِلظَّرْفِيَّةِ إِمَّا مُحَقَّقَةٌ أَوْ مُقَدَّرَةٌ.
وَكَذَلِكَ "مِنْ" تَرِدُ لِمَعَانٍ.
وَكَذَلِكَ "الْبَاءُ" لَهَا مَعَانٍ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى التَّطْوِيلِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ، الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِتَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ قَدْ عرفت من ذلك العلم.
وَلْنَشْرَعُ الْآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ في المقاصد فنقول:
1 جزء من الآية "158" من سورة البقرة.
2 أخرجه مسلم من حديث جابر مطولًا، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم "1218". وأبو داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم "1905". وابن ماجه، كتاب المناسك باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم "3074". وابن خزيمة في صحيحه "2757". والبيهقي في السنن كتاب الحج "5/ 93". وابن حبان في صحيحه "3944".
3 أخرجه مسلم من حديث عدي بن حاتم، كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة وخطبتها "870". والنسائي، كتاب الجمعة، باب ما يكره في الخطبة "3279" 6/ 90. وأبو داود. كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس "1099". والحاكم في المستدرك، كتاب الجمعة "1/ 289" وقال: حديث صحيح. وابن حبان في صحيحه "2798". وأخرجه الإمام أحمد "4/ 379".