الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِذَلِكَ فَإِنَّ أَيَّ مَعْنًى لَا يَصِحُّ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ كَانَ مُرَادِي الثَّانِي، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ كَالْقُرْءِ فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَهُوَ مَعْنَى الِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ كون القرء حقيقة فيها لِجَوَازِ مَجَازِيَّةِ أَحَدِهِمَا وَخَفَاءِ مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَجَازَ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْقَرِينَةِ الْتَحَقَ بِالْحَقِيقَةِ وَحَصَلَ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِلَّا فَلَا تَسَاوِي، وَمِثْلُ الْقُرْءِ الْعَيْنُ فَإِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ مَعَانِيهَا الْمَعْرُوفَةِ وَكَذَا الْجَوْنُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَكَذَا عَسْعَسَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَكَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِالِاسْتِقْرَاءِ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْكِتَابِ فَقَطْ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِمَا لا في اللغة.
المسألة الرابعة: الخلاف في استعمال المشترك في أكثر من معنى
اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ1، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ2، وَالْقَاضِي جَعْفَرٌ3، وَالشَّيْخُ "الْحَسَنُ"*4، وَبِهِ قال الجمهور، وكثير من أئمة أهل
* في "أ": الشيخ حسن.
_________
1 هو محمد بن إدريس، أبو عبد الله، صاحب المذهب المعروف، ولد سنة خمسين ومائة هجرية، وتوفي سنة أربع ومائتين هـ، من آثاره كتاب "الأم". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "10/ 5"، تذكرة الحفاظ "1/ 361".
2 هو أبو الحسن، الهمداني، الأسداباذي، المعتزلي، القاضي عبد الجبار، صاحب التصانيف، وكان شافعي المذهب، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة هـ، من آثاره:"المغني في أبواب التوحيد والعدل" و"دلائل النبوة". ا. هـ. شذرات الذهب "3/ 203"، هدية العارفين "1/ 498"، إيضاح المكنون "1/ 329"، سير أعلام النبلاء "17/ 244".
3 هو جعفر بن علي بن تاج الدين الظفيري، فقيه، زيدي، نشأ بوطنه حصن الظفير، تولى القضاء، توفي بالظفر سنة تسع ومائة وألف هـ، ومن آثاره:"هداية الأكياس إلى عرفان أسرار لب الأساس" مجلد واحد ضخم. ا. هـ. معجم المؤلفين "3/ 141"، الأعلام "2/ 126".
4 هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن محمد المغربي، الصنعاني حفيد شارح بلوغ المرام، وأحد شيوخ الشوكاني، المتوفى سنة ثمان ومائتين وألف. ا. هـ. البدر الطالع "1/ 196".
الْبَيْتِ إِلَى جَوَازِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ، "وَأَبُو الحسن"*1 الْبَصْرِيُّ، وَالْكَرْخِيُّ2، إِلَى امْتِنَاعِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْقَصْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْوَضْعِ.
وَالْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى بَحْثٍ هُوَ: هَلْ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ لِمَعْنَيَيْنِ، أَوْ معانٍ عَلَى الْبَدَلِ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا أَوْ لَهَا عَلَى الْجَمْعِ، أَمْ لَا؟
فَقَالَ الْمَانِعُونَ: إِنَّ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ، وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ تَخْصِيصُ لَفَظٍ بِمَعْنًى، فَكُلُّ وَضْعٍ يُوجِبُ أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ إِلَّا هَذَا "الْمَوْضُوعَ"** لَهُ، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى تَمَامَ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، فَاعْتِبَارُ كُلٍّ مِنَ الْوَضْعَيْنِ يُنَافِي اعْتِبَارَ الْآخَرِ، فَاسْتِعْمَالُهُ لِلْمَجْمُوعِ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ وُضِعَ لِلْمَجْمُوعِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِإِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَحْدَهُ، مَعَ إِفَادَةِ أَفْرَادِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُفِيدًا إِلَّا لِأَحَدِ مَفْهُومَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَهُ بِإِزَاءِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَأَحَدُهَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ، فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي كُلِّ مَفْهُومَاتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَالْأَفْرَادِ عَلَى الْبَدَلِ، فَهُوَ مُحَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي} 3 كلا المعنيين، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك.
* في "أ": أبو الحسن وهو تحريف.
** في "أ": الموضع والصواب الموضوع.
_________
1 هو محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسن البصري، شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف الكلامية، كان فصيحًا بليغًا، يتوقد ذكاء، توفي ببغداد في ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وأربعمائة هجرية، من آثاره: كتاب "تصفح الأدلة""المعتمد". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 587"، هدية العارفين "2/ 96".
2 هو عبيد الله بن الحسين، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق ولد سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة أربعين وثلاثمائة هجرية، من آثاره:"شرح الجامع الكبير""المختصر""شرح الجامع الصغير". ا. هـ. الفوائد جزء من الآية "56" من سورة الاحزاب.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِإِيجَابِ اقْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ النَّبِيَّ، وَالْمَلَائِكَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْعُوا لَهُ، لَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى حَقِيقِيًّا، أَوْ مَعْنًى مَجَازِيًّا، أَمَّا الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ الدُّعَاءُ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَدْعُو ذَاتَهُ بِإِيصَالِ الخير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الدُّعَاءِ الرَّحْمَةُ، فَالَّذِي قَالَ: إِنَّ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، قَدْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، لَا أَنَّ الصَّلَاةَ وُضِعَتْ لِلرَّحْمَةِ.
وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَكَإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ، ثُمَّ إِنِ اخْتَلَفَ ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ، بِحَسَبِ الْوَضْعِ.
وَاحْتَجُّوا -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ1، فَإِنَّهُ نَسَبَ السُّجُودَ إِلَى الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، كَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ، فَمَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادُ، لَا وَضْعَ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا نُسِبَ إِلَى الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِانْقِيَادَ لَمَا قَالَ {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاس} 2؛ لَأَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادُ فِي الْجَمِيعِ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الناس باطل؛ لأن الكفار لم يَنْقَادُوا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ وَضَعُ الرَّأْسِ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَتِهِ مِنَ الْجَمَادَاتِ، إِلَّا مَنْ يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَةِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَبِاسْتِحَالَةِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
إِذَا عَرَفَتْ هَذَا لَاحَ لَكَ عدم جواز الجمع بين معنى الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مَعَانِيهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَنْ جَوْزَهُ بِحُجَّةٍ مَقْبُولَةٍ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ مَجَازًا، لَا حَقِيقَةً، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ،
وَقِيلَ: يَجُوزُ إِرَادَةُ الْجَمْعِ لَكِنْ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، لَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا إِلَى الْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: ما رأيت عينًا، ومراده العين
1 جزء من الآية "18" من سورة الحج.
2 جزء من الآية "18" من سورة الحج.