الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِاصْطِلَاحٍ، وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ، لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ فِي اصْطِلَاحِ التَّخَاطُبِ، كَانَ مَجَازًا مَعَ أَنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ.
وَزَادَ آخَرُونَ فِي هَذَا الْحَدِّ قَيْدًا، فَقَالُوا: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا لِإِخْرَاجِ مِثْلِ مَا ذُكِرَ.
وَقِيلَ فِي حَدِّ الْحَقِيقَةِ: إِنَّهَا مَا أُفِيدَ بِهَا مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي أَصْلِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهَا: إِنَّهَا كُلُّ كَلِمَةٍ أُرِيدَ بِهَا عَيْنُ مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي وَضْعِ وَاضِعٍ، وَضْعًا لَا يَسْتَنِدُ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمَجَازُ: فَهُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ مَعَ قَرِينَةٍ.
وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ.
وَزِيَادَةُ قَيْدِ: عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لِإِخْرَاجِ مِثْلِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَرْضِ فِي السَّمَاءِ.
وَقِيلَ فِي حَدِّهِ -أَيْضًا-: إِنَّهُ مَا كَانَ بِضِدِّ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ.
البحث الثالث: الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية والخلاف في ثبوتها وثمرة ذلك:
قَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ اللَّفْظُ الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنَ "الشَّرْعِ"* وَضْعُهُ لِلْمَعْنَى، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مَجْهُولَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا وَالْآخَرُ مَعْلُومًا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِوَضْعِ الشَّارِعِ، لَا بِوَضْعِ أَهْلِ الشَّرْعِ كَمَا ظُنَّ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، وَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ وَالْمُصَلِّي وَالْمُزَكِّي وَالصَّائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَحَلُّ النِّزَاعِ الْأَلْفَاظُ الْمُتَدَاوَلَةُ شَرْعًا، الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي غير "معانيها اللغوية"**.
* في "أ": الشارع.
** في "أ": ما وضع له في اللغة.
فَالْجُمْهُورُ جَعَلُوهَا حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَهَا.
وَأَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا مَعَ الشَّرْعِيَّةِ حَقَائِقَ دِينِيَّةً، فَقَالُوا إِنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ فِي مَعَانٍ غَيْرِ لُغَوِيَّةٍ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَسْمَاءُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْأَسْمَاءُ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى الْفَاعِلِينَ كَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَجَعَلُوا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً وَالْقِسْمَ الثَّانِيَ: حَقِيقَةً دِينِيَّةً، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي أَنَّهُ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَجَّحَهُ الرَّازِيُّ إِنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ غَلَبَتْ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الشَّرْعِ.
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ: أَنَّهَا إِذَا وَرَدَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرِينَةِ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ أَوْ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ؟
فَالْجُمْهُورُ قَالُوا بِالْأَوَّلِ وَالْبَاقِلَّانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ قَالُوا بِالثَّانِي.
قَالُوا أَمَّا فِي كَلَامِ الْمُتَشَرِّعَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الشَّرْعِيِّ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ بِوَضْعِ الشَّارِعِ وَتَعْيِينِهِ إِيَّاهَا بِحَيْثُ تَدُلُّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي بِلَا قَرِينَةٍ فَتَكُونُ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً أَوْ بِغَلَبَتِهَا فِي لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَقَطْ وَلَمْ يَضَعْهَا الشَّارِعُ بَلِ اسْتَعْمَلَهَا مَجَازَاتٍ لُغَوِيَّةً لِقَرَائِنَ فَتَكُونُ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً خَاصَّةً لَا شَرْعِيَّةً.
احْتَجَّ الجمهور بما هو معلوم شرعًا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ وَأَهْلِ الشَّرْعِ لِذَاتِ الْأَذْكَارِ وَالْأَرْكَانِ وَالزَّكَاةَ لِأَدَاءِ مَالٍ مَخْصُوصٍ وَالصِّيَامَ لِإِمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ وَالْحَجَّ لِقَصْدٍ مَخْصُوصٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْمَدْلُولَاتِ هِيَ الْمُتَبَادِرَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ لِلدُّعَاءِ وَالزَّكَاةُ لِلْنَمَاءِ وَالصِّيَامُ لِلْإِمْسَاكِ مُطْلَقًا وَالْحَجُّ لِلْقَصْدِ مُطْلَقًا
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ فِي مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ وَالشَّرْطُ خَارِجٌ عَنِ الْمَشْرُوطِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ مُصَلِّيًا مَنْ لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا كَالْأَخْرَسِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَبْقِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُبُوتُ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ لِجَوَازِ صَيْرُورَتِهَا بِالْغَلَبَةِ حَقَائِقَ عُرْفِيَّةً خَاصَّةً لِأَهْلِ الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً بوضع الشارع
وُرُدَّ بِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا أَنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَهُ فِي مَعْنَاهُ لِمُنَاسَبَةٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ ثُمَّ اشْتُهِرَ فَأَفَادَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ فَذَلِكَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَثَبَتَ الْمُدَّعِي وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوهُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَتَبِعَهُمُ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا مَعَانٍ حَادِثَةٌ مَا كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ يَعْرِفُونَهَا.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي وَمَنْ مَعَهُ بِأَنَّ إِفَادَةَ هذه ألفاظ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَوْ لَمْ تَكُنْ لُغَوِيَّةً لَمَا كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ عَرَبِيًّا وَفَسَادُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَلْزُومِ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إِفَادَتُهَا لِهَذِهِ الْمَعَانِي عَرَبِيَّةً لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا.
وَأَمَّا فَسَادُ اللَّازِمِ فَلِقَوْلِهِ سبحانه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1 وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} 2.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إِفَادَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً لَكِنَّهَا فِي الْجُمْلَةِ أَلْفَاظٌ عَرَبِيَّةٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْنُونَ بِهَا غَيْرَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عَرَبِيَّةً فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ جَعَلَهَا الشَّارِعُ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً لِأَنَّ المجازات عربية وإن لم "تصرح"* الْعَرَبُ بِآحَادِهَا فَقَدْ جَوَّزُوا نَوْعَهَا وَذَلِكَ يَكْفِي فِي نِسْبَةِ الْمَجَازَاتِ بِأَسْرِهَا إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِلَّا لَزِمَ "أَنَّهَا"** كُلَّهَا لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَجَازَاتِ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي صَارَتْ حَقَائِقَ بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ غَيْرَ عَرَبِيٍّ بِدُخُولِهَا فِيهِ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ فَإِنَّ الثَّوْرَ الْأَسْوَدَ لَا يَمْنَعُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْأَسْوَدِ عَلَيْهِ بِوُجُودِ شَعَرَاتٍ بِيضٍ فِي جِلْدِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَجْمُوعِهِ وَعَلَى كُلٍّ بَعْضٌ مِنْهُ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ كُلَّهُ عَرَبِيُّ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يُوسُفَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 3 وَالْمُرَادُ مِنْهُ تِلْكَ السُّورَةُ.
وَأَيْضًا: الْحُرُوفُ الْمَذْكُورَةُ في أوائل السور ليست بعربية و"المشكاة"4 لغة حبشية
* في "أ": تصرح.
** في "أ": كونها.
_________
1 جزء من الآية "28" من سورة الزمر.
2 جزء من الآية "4" من سورة إبراهيم عليه السلام.
3 جزء من الآية "2" من سورة يوسف عليه السلام.
4 قال الفراء: المشكاة: الكوة التي ليست بنافذة. ا. هـ. الصحاح مادة شكو وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في سورة النور الآية "35".
وقال في اللسان: إنها من كلام العرب، وقيل: إنها حبشية. ا. هـ. اللسان مادة شكا.