الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
القسم الأول: المتواتر
…
النوع الرابع: أقسام الخبر من حيث التواتر وعدمه
أَنَّ الْخَبَرَ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيءِ الْوَاحِدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ بِفَتْرَةٍ بَيْنَهُمَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَتْرِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ.
وَقِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: هُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ.
وَقِيلَ: خَبَرُ جَمْعٍ عَنْ مَحْسُوسٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ من حيث كثرتهم فقولهم مِنْ حَيْثُ كَثْرَتِهِمْ لِإِخْرَاجِ خَبَرِ قَوْمٍ يَسْتَحِيلُ كَذِبُهُمْ بِسَبَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْكَثْرَةِ كَالْعِلْمِ بِمُخْبِرِهِمْ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا، وَكَمَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ بِذَلِكَ الْقَيْدِ مَا ذَكَرْنَا كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ قَيْدِ بِنَفْسِهِ فِي الْحَدِّ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالتَّوَاتُرِ هَلْ هُوَ ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلى أنه ضروري.
وقال الكعبي1 وأبو الحسن الْبَصْرِيُّ: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ أَوَّلِيًّا وَلَا كَسْبِيًّا، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْقَضَايَا الَّتِي قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا "وَقَالَتِ السَّمْنِيَّةُ2 وَالْبَرَاهِمَةُ3: إِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَصْلًا"*، وَقَالَ المرتضى4 والآمدي بالوقف.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
1 هو عبد الله بن أحمد بن محمود، أبو القاسم البلخي، شيخ المعتزلة، العلامة، المعروف بالكعبي، من نظراء أبي علي الجبائي، توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة هـ، من آثاره:"المقالات""الجدل""السنة والجماعة"، وذكر صاحب الشذرات: أنه توفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة هـ، والصواب على ما ذكره الذهبي: من أنه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ا. هـ. سير أعلام النبلاء "14/ 313 "، الكامل في التاريخ "6/ 217".
2 وهم أصحاب سمن، وهم عبدة أوثان، يقولون بقدم الدهر، وبتناسخ الأرواح، وأن الأرض تهوي سفلًا أبدًا، وكان الناس على وجه الدهر سمنيين وكلدانيين وبقايا السمنية بالهند والصين. ا. هـ. مفاتيح العلوم للخوارزمي "55".
3 هم الذين ينتسبون إلى رجل منهم يقال له براهم، وقد مهد لهم نفي النبوات أصلًا، وقرر استحالة ذلك من وجوه، والبراهمية هم من أمم الهند، لعض الناس يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا خطأ لما ذكرنا. ا. هـ. الملل والنحل "2/ 251".
4 هو علي بن حسين بن موسى، القرشي العلوي، العلامة الشريف المرتضى، أبو القاسم، من ولد موسى الكاظم، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هـ، وتوفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة هـ. من آثاره:"الشافي في الإمامة""الذخيرة في الأصول""التنزية" ا. هـ. سير أعلام النبلاء "17/ 588"، معجم الأدباء "13/ 143"، هدية العارفين "1/ 688".
وَالْحَقُّ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّا نَجِدُ نُفُوسَنَا جَازِمَةً بِوُجُودِ الْبِلَادِ الْغَائِبَةِ عَنَّا، وَوُجُودِ الْأَشْخَاصِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَنَا، جَزْمًا خَالِيًا عَنِ التَّرَدُّدِ، جَارِيًا مَجْرَى جَزْمِنَا بِوُجُودِ الْمُشَاهَدَاتِ، فَالْمُنْكِرُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالتَّوَاتُرِ كَالْمُنْكِرِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْمُشَاهَدَاتِ وَذَلِكَ سَفْسَطَةٌ1 لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الْمُكَالَمَةَ.
وَأَيْضًا: لَوْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا لَافْتَقَرَ إِلَى تَوْسِيطِ2 الْمُقَدِّمَتَيْنِ3، وَاللَّازِمُ4 منتفٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِذَلِكَ قَطْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِحُصُولِهِ بِالْعَادَةِ لَا بِالْمُقَدِّمَتَيْنِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّرْتِيبِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِقَوْلِهِمْ: لَا نُنْكِرُ حُصُولَ الظَّنِّ الْقَوِيِّ بِوُجُودِ مَا ذَكَرْتُمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْيَقِينِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا وُجُودَ الْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّةِ أَوِ الشَّخْصِ الْفُلَانِيِّ مِمَّا جَاءَ التَّوَاتُرُ بِوُجُودِهِمَا وَعَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَجَدْنَا الْجَزْمَ بِالثَّانِي أَقْوَى مِنَ الْجَزْمِ بِالْأَوَّلِ، وَحُصُولُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى تَطَرُّقِ النَّقِيضِ إِلَى الْمَرْجُوحِ.
وَأَيْضًا: جَزْمُنَا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ جَزْمِنَا بِأَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الَّذِي رَأَيْتَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي رَأَيْتَهُ أَمْسِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِيَقِينٍ وَلَا ضَرُورِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ شَخْصٌ مساوٍ لَهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْجَوَابَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْمُشَاهَدَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ، فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ الْمَرْئِيَّ الْيَوْمَ غَيْرُ الشَّخْصِ الْمَرْئِيِّ أَمْسِ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِلتَّشْكِيكِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. و"استدل"* والقائلون بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ضَرُورِيُّ.
وَأُجِيبَ: بِالْمُعَارَضَةِ بِأَنَّهُ لَوْ كان نظريًّا لعمل بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ نَظَرِيًّا كَغَيْرِهِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ "وَبِالْحِسِّ"**، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ صِفَتَانِ لِلْعَمَلِ، وَلَا يلزم من ضرورية العلم ضرورية صفته.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": بالحل. وهو تحريف.
_________
1 قياس مركب من الوهميات، والغرض منه: تغليط الخصم، وإسكاته كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجود في الذهن قائم بالذهن عرض، لينتج أن الجوهر عرض. ا. هـ. التعريفات "158".
2 توسيط: التوسيط والواسطة هي المقدمة الغربية التي لا تكون مذكورة في القياس.
3 المقدمتين: تثنية مقدمة: وهي قضية جعلت جزء قياس أو يتوقف عليه صحة دليل القياس.
4 اللازم: هو كون العلم بالتواتر غير ضروي.
الْجُمْهُورُ أَيْضًا: بِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالتَّوَاتُرِ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا لَمَا حَصَلَ لِمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَالصِّبْيَانِ الْمُرَاهِقِينَ وَكَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَظَرِيِّ.
وَكَمَا يَنْدَفِعُ بِأَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، يَنْدَفِعُ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وَقْفِهِ لَيْسَ إِلَّا تَعَارُضَ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فَلَا وَقْفَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَلَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَمَا رُوِيَ مِنَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ عَنِ السَّمْنِيَّةِ، وَالْبَرَاهِمَةِ فَهُوَ خِلَافٌ بَاطِلٌ لَا يستحق قائله الجواب عليه.
شروط إفادة الخبر المتواتر للعلم الضروي:
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ إِلَّا بِشُرُوطٍ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى السَّامِعِينَ:
فَالَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ:
الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ غَيْرَ مُجَازِفِينَ، فَلَوْ كَانُوا ظَانِّينَ لِذَلِكَ فَقَطْ لَمْ يُفِدِ الْقَطْعُ، هَكَذَا اعْتَبَرَ هَذَا الشَّرْطَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ وُجُوبُ عِلْمِ الْكُلِّ بِهِ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُخْبِرِينَ بِهِ مُقَلِّدًا فِيهِ أَوْ ظَانًّا لَهُ أَوْ مُجَازِفًا وَإِنْ أُرِيدَ وُجُوبُ عِلْمِ الْبَعْضِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِمْ مُسْتَنِدِينَ إِلَى الْحِسِّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ عَنْ ضَرُورَةٍ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ دُخُولَ الْغَلَطِ فِيهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: فَأَمَّا إِذَا تَوَاتَرَتْ أَخْبَارُهُمْ عَنْ شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوهُ، وَاعْتَقَدُوهُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، أَوْ عَنْ شُبْهَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ تَوَاتُرِهِمْ يُخْبِرُونَ الدَّهْرِيَّةَ1 بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَتَوْحِيدِ الصَّانِعِ، وَيُخْبِرُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَقَعُ لَهُمُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ الاضطرار انتهى.
1 هم فرقة خالفت ملة الإسلام، وادعت قدم الدهر، وأسندت الحوادث إليه كما حدث القرآن الكريم عنهم فقال:{إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] ، وذهبوا أيضًا إلى ترك العبادات لزعمهم أنها لا تفيد، والدهر بما يقتضيه مجبول من حيث الفطرة على ما هو عليه فما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وسماء تقلع، وسحاب يقشع، وهواء يقمع. نعوذ بالله من ذلك. ا. هـ. الفصل في الملل والأهواء والنحل "1/ 47".
وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الشَّرْطِ: أَنْ لَا تَكُونَ الْمُشَاهَدَةُ، وَالسَّمَاعُ عَلَى سَبِيلِ غَلَطِ الْحِسِّ، كَمَا فِي أَخْبَارِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ عليه السلام، وَأَيْضًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يُوثَقُ مَعَهَا بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ أَخْبَرُوا مُتَلَاعِبِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُهُمْ إِلَى مَبْلَغٍ يَمْنَعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَا يُقَيَّدُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ ضَابِطُهُ: حُصُولُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرَيِّ: يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْأَرْبَعَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ لَمَا احْتَاجَ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ: ذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ فَمَا زَادَ، وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنِ الْجُبَّائِيِّ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخَمْسَةَ عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ1 مِنَ الرُّسُلِ "وَهُمْ"* عَلَى الْأَشْهُرِ، نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الضَّعْفِ، مَعَ عَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِمَحَلِّ النِّزَاعِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا سَبْعَةً، بِعَدَدِ أَهْلِ الْكَهْفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ عَشَرَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا دُونَهَا جَمْعُ قِلَّةٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا اثْنَيْ عَشَرَ بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ لِمُوسَى عليه السلام لِأَنَّهُمْ جُعِلُوا كَذَلِكَ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا عِشْرِينَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُون} 2، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جُعِلُوا كَذَلِكَ لِيُفِيدَ خَبُرُهُمُ الْعِلْمَ بإسلامهم، فإن المقام ليس مقام "إخبار"**، خبر وَلَا اسْتِخْبَارٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أبي الهذيل3 وغيره من المعتزلة.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": خبر.
_________
1 أولو العزم: أصحاب الحزم والصبر واختلف في عددهم فقيل خمسة أنبياء وقيل ثمانية عشر وقيل كل الأنبياء. ا. هـ. انظر تفسير القرطبي "16/ 220".
2 جزء من الآية "65" من سورة الأنفال.
3 محمد بن الهذيل بن عبيد الله البصري، العلاف، شيخ الكلام، رأس الكلام، رأس الاعتزال، صاحب التصانيف والذكاء البارع، عاش قريبًا من مائة سنة، وخرف وعمي، توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين هـ، وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائة هـ، من آثاره:"الرد على المجوس ورد على الملحدين" و"رد على السوفسطائية". ا. هـ. سير أعلام النبلاء "11/ 173""10/ 542" الأعلام "7/ 171".
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعِينَ كَالْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْجُمْعَةِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بَاطِلُ الْأَصْلِ، فَضْلًا عَنِ الْفَرْعِ.
وقيل: يشترط أن يكونوا سبعين لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} 1، وَهَذَا أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، بِعَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَهَذَا أَيْضًا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ، خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مائة، "بعدد أهل بيعة الرضون"*، وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ.
وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعَ الْأُمَّةِ كَالْإِجْمَاعِ، حُكي هَذَا الْقَوْلُ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو2، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ.
وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ جري أقلام الْعِلْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ وَلَا نَقْلٍ، وَلَا يُوجَدُ بَيْنَهَا وبين محل النزاع جامع، وإنما ذكرناه لِيَعْتَبِرَ بِهَا الْمُعْتَبِرُ وَيَعْلَمَ أَنَّ الْقِيلَ وَالْقَالَ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ جِنْسِ الْهَذَيَانِ فَيَأْخُذُ عِنْدَ ذَلِكَ حَذَرَهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَيَبْحَثُ عَنِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ لَهُمْ إِلَّا مَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
وُجُودُ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي كُلِّ الطَّبَقَاتِ، فَيَرْوِي ذَلِكَ الْعَدَدُ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَقَدِ اشْتُرِطَ عَدَالَةُ النَّقَلَةِ لِخَبَرِ التَّوَاتُرِ فَلَا يصح أن يكونوا أو بعضهم غير
* في "أ": بعدد بيع أهل الرضوان.
_________
1 جزء من الآية "155" من سورة الأعراف.
2 هو ضرار بن عمرو الغطفاني، شيخ الضرارية، من رءوس المعتزلة، وكان ينكر الجنة والنار أن تكونا خلقتا، وقال عنه ابن حزم: كان ينكر عذاب القبر، فأبيح دمه، وأمر القاضي سعيد بن عبد الرحمن بضرب عنقه، توفي سنة تسعين ومائة هـ، ا. هـ، سير أعلام النبلاء "10/ 215".