الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاخْتَلَفُوا هَلِ التَّكْلِيفُ بِهِ بَاقٍ حَالَ حُدُوثِهِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ: هُوَ بَاقٍ.
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجُوَيْنِيُّ: لَيْسَ بِبَاقٍ.
وَلَيْسَ مُرَادُ مَنْ قَالَ بِالْبَقَاءِ: أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَصْلًا، وَلَا أَنَّ تَنْجِيزَ التَّكْلِيفِ بَاقٍ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا غَيْرَ حَاصِلٍ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَلَا أَنَّ الْقُدْرَةَ مع الفعل، لاستلزمه أَنْ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَ مُكَلَّفٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ.
بَلْ مُرَادُهُمْ: أَنَّ التَّكْلِيفَ باقٍ عِنْدَ التَّأْثِيرِ لَكِنَّ التَّأْثِيرَ عَيْنُ الْأَثَرِ عِنْدَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْفِعْلَ مَقْدُورٌ حَالَ حُدُوثِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْقُدْرَةِ فَيُوجَدُ مَعَهَا، وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا حِينَئِذٍ فَيَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ إِلَّا عَدَمُ الْقُدْرَةِ وَقَدِ انْتَفَى.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مُحَالٌ.
وَيُرَدُّ: بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ إِنَّمَا هُوَ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ بِوُجُودٍ سَابِقٍ، لَا بِوُجُودٍ حَاصِلٍ.
المبحث الرابع في المحكوم عليه وهو المكلف
…
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ
اعْلَمْ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرْعِيَّاتِ فَهْمُ الْمُكَلَّفِ لِمَا كُلِّفَ بِهِ، بِمَعْنَى تَصَوُّرِهِ، بِأَنْ يَفْهَمَ مِنَ الْخِطَابِ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، لَا بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ1، وَلَزِمَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ، لِعَدَمِ حُصُولِ التَّصْدِيقِ "لَهُمْ"*.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ الْفَهْمِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَزِمَ الْمُحَالُ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ اسْتِدْعَاءُ حُصُولِ الْفِعْلِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً وَشَرْعًا مِمَّنْ لَا شُعُورَ لَهُ بِالْأَمْرِ.
وَأَيْضًا: يَلْزَمُ تَكْلِيفُ الْبَهَائِمِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ تَكْلِيفِهَا إِلَّا عَدَمُ الْفَهْمِ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ "وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى كَوْنِ الْفَهْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
* ساقطة من "أ".
_________
1 تقدم الكلام على الدور في الصفحة "20".
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْضُ مَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ* وَقَدْ تَقَدَّمَ 1 بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ.
فَتَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ الْمَجْنُونَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْهَمَانِ خِطَابَ التَّكْلِيفِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ.
وَأَمَّا لُزُومُ أَرْشِ2 جِنَايَتِهِمَا وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَمِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ، لَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ.
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، لَكِنَّهُ تَمْيِيزٌ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمْيِيزِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَأَيْضًا: وَرَدَ الدَّلِيلُ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ"3.
وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِ مَقَالٌ، لَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ طُرُقِهِ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ، وَبِاعْتِبَارِ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، لِكَوْنِهِمْ بَيْنَ عَامِلٍ بِهِ، وَمُؤَوِّلٍ لَهُ، صَارَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا.
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: "مَنِ اخْضَرَّ مِئْزَرُهُ فَاقْتُلُوهُ" 4 وَأَحَادِيثُ: النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ حَتَّى يَبْلُغُوا كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي وَصَايَاهُ لِأُمَرَائِهِ، عِنْدَ غَزْوِهِمْ لِلْكُفَّارِ5، وأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان لا
* ما بين قوسين ساقط من "أ".
_________
1 انظر صفحة "33".
2 الأرش هو دية الجراحات والجمع أروش ا. هـ المصباح المنير مادة أرش.
3 أخرجه أحمد عن عائشة بلفظ: "رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفق""6/ 100، 101" والدارمي عن عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة "2/ 171".
ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة: أخرجه أحمد "6/ 144"، وأبو داود في الحدود: باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا "4398". وأخرجه النسائي في الطلاق: باب من لا يقع طلاقه من الأزواج "6/ 156". وابن ماجة في الطلاق: باب طلاق المعتوه النائم والصغير. "2041".
وابن الجارود في المنتقى "148" من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة. وصححه الحاكم "2/ 59" من طريق أبي الوليد الطيالسي، وموسى بن إسماعيل.
وابن حبان في "صحيحه" كتاب الإيمان باب التكليف رقم "142".
4 الحديث: أخرج بنحوه ابن حبان في صحيحه "4782" وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه "18743" وابن ماجه في كتاب الحدود باب من لا يجب عليه الحد "2541" بلفظ" "سمعت عطية القرظي يقول: عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلى". وأخرجه البيهقي كتاب الحجر باب البلوغ بالإنبات. "6/ 58".
وقوله من أخصر مئزره كتاب عن قوله: من نبت شعر عانته. ومثله قول سيدنا عثمان حينما أتي بغلام قد سرق فقال: انظروا إلى مؤتزره، فنظروا فوجدوه لم ينبت فلم يقطعه. ا. هـ. انظر مصنف عبد الرازق "18735".
5 أخرجه البيهقي في السنن في كتاب السير باب ترك قتل من لا قتل فيه من البرهان والكبير وغيرها 6/ 90. عن ابن عباس رضي الله عنهما. بلفظ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا |أصحاب الصوامع" والطبراني في المعجم الكبير من حديث جرير "2304". وأبو يعلى في مسنده "2549". وأحمد في مسنده 1/300.
يَأْذَنُ فِي الْقِتَالِ إِلَّا لِمَنْ بَلَغَ سِنَّ التَّكْلِيفِ1.
وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَلَمْ يَأْتِ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ لِإِيرَادِهِ كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ صَحَّ طَلَاقُ السَّكْرَانِ، وَلَزِمَهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، وَقِيمَةُ مَا أَتْلَفَهُ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ سَاقِطٌ، لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فِي أحكام التكليف، لَا فِي أَحْكَامِ الْوَضْعِ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَضْعِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون} 2، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَقُولُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، فَقَدْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَفْهَمُ التَّكْلِيفَ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ السُّكْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، فَالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ.
وَرُدَّ أَيْضًا بِغَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ.
وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ: هَلِ الْمَعْدُومُ مُكَلَّفٌ أَمْ لَا؟.
فَذَهَبَ الْأَوَّلُونَ إِلَى الْأَوَّلِ وَالْآخِرُونَ إِلَى الْآخَرِ.
وَلَيْسَ مُرَادُ الْأَوَّلِينَ بِتَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ أَنَّ الْفِعْلَ، أَوِ الْفَهْمَ مَطْلُوبَانِ مِنْهُ حَالَ عَدَمِهِ، فَإِنَّ بُطْلَانَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مَا أَوْرَدَهُ الْآخَرُونَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ تَكْلِيفُ النَّائِمِ، وَالْغَافِلِ، امْتَنَعَ تَكْلِيفُ الْمَعْدُومِ "بطريق الأولى"*، بل مرادهم التعليق الْعَقْلِيُّ، أَيْ: تَوَجُّهُ الْحُكْمِ فِي الْأَزَلِ إِلَى مَنْ عَلِمَ اللَّهُ وُجُودَهُ، مُسْتَجْمِعًا شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ.
* في "أ": بالأولى.
_________
1 مثاله: ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم "عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمسة عشر سنة فأجازه". أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب غزوة الخندق وهي الأحزاب "4097". والنسائي في الطلاق باب متى يقع طلاق الصبي "3431""6/ 156"، والترمذي في كتاب الأحكام باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة "1361" وابن ماجه في كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد "2543"، وأبو داود، في كتاب الخراج والفيء والإمارة باب متى يفرض للرجل في المقاتلة "2957"، وأحمد في المسند "2/ 17".
2 جزء من آية طويلة في سورة النساء "43".
وَاحْتَجُّوا: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقِ التَّكْلِيفُ بِالْمَعْدُومِ، لَمْ يَكُنِ التَّكْلِيفُ أَزَلِيًّا؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْوُجُودِ الْحَادِثِ، يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَادِثًا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ، لِحُصُولِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُمَا كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ أَزَلِيٌّ.
وَهَذَا الْبَحْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَاحْتَجَّ الْآخِرُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَعْدُومُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْخَبَرُ، وَالنِّدَاءُ، وَالِاسْتِخْبَارُ، مِنْ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ مَوْجُودٍ، وَهُوَ مُحَالُ.
وَرُدَّ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مُحَالًا بَلْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
وَتَطْوِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ قَلِيلُ الْجَدْوَى، بَلْ مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ طَالَتْ ذُيُولُهَا، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِيهَا فِرَقًا، وَامْتُحِنَ بِهَا مَنِ امْتُحِنَ، مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، لَيْسَ لَهَا "كبير"* فَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ مِنْ فُضُولِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا صَانَ اللَّهُ سَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، والتابعين، وتابعيهم عن التكلم فيها.
* في "أ": كبير.