المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات (1 - 3) - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌الآيات (1 - 3)

‌الآيات (1 - 3)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 1 - 3].

* * *

{حم (1) عسق} هذه خمسةُ أحرفٍ (حاء)(ميم)(عين)(سين)(قاف) خمسة أحرف، لكنها أحرفٌ هجائيةٌ يعني هي مثلُ:(ألف)(باء)(تاء)(ثاء)(جيم)(حاء)(خاء) هذه (حاء)(ميم)(عين)(سين)(قاف) ليس لنا أن نتكلمَ لماذا اختار اللهُ عز وجل هذه الحروفَ بعينِها دونَ غيرِها؟ هذا ليس إلينا، ولا يمكننا أن نحيطَ بذلك علمًا.

لكن لنا أن نسأل: هل لهذه الحروفِ معنًى؟

الجواب: المُفسِّر رحمه الله يقولُ: [اللهُ أعلمُ بمرادِه به]، وهذا يقتضي أنه أثبتَ لهذه الحروفِ معانيَ لكنها غيرُ معلومةٍ، وهذه الحروفُ الهجائيةُ التي ابتُدئت بها بعضُ السُّوَرِ اختَلف فيها العلماءُ رحمهم الله سلفًا وخَلفًا ما معناها، وهل هي رموزٌ أو أسماءٌ للسورِ التي ابتُدئت بها؟ ولكنَّا إذا طبَّقْنا ذلك على ما تقتضيه الأدلةُ وَجَدْنا أنها حروفٌ هجائيةٌ ليس لها معنًى.

الدَّليلُ: أنه لا يُوجَدُ في القرآنِ شيءٌ ليس له معنًى معلومٌ لجميعِ الناسِ؛ لأنَّه لو قدر أن في القرآن شيئًا مجهولًا لجميعِ الناسِ لم يكنْ هذا القرآنُ بيانًا للناسِ؛

ص: 12

لأنَّ مقتضَى البيانِ ألا يكُونَ فيه شيءٌ إلا كان معلومًا للناسِ جميعًا أو لبعضِ الناسِ، أمَّا أن يوجد فيه ما ليس معلومًا لجميع الناسِ فهذا لا يمكنُ، وقد قال اللهُ تعالَى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]، وهذا يشملُ البيانَ اللفظيَّ والبيانَ المعنويَّ.

إذَن: أولًا: اعلم أنه لا يوجَدُ شيءٌ في القرآنِ لا يَفْهَمُ الناسُ معناه أبدًا، لا بُدَّ أن يفهموا معناه، فإذا وُجِدَ شيءٌ لا يُعْرَفُ معناه يعني ذلك أنه ليس له معنًى، هذه واحدةٌ.

ثانيًا: إذا طَبَّقْنا هذه الحروفَ على قولِ اللهِ تبارك وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]، وقولِهِ تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزُّخرف: 3]، قلْنا: هذه الحروفُ في لغةِ العربِ ليس لها معنًى، إذن فمقتضَى كوْنِ القرآنِ باللسانِ العربيِّ المبينِ ألا يكونَ لهذه الحروفُ معنًى، لأنَّ هذه الحروفَ ليس لها معنًى في اللغةِ العربيةِ، وهذا هو الذي نَقَلَه ابْنُ كثيرٍ رحمه الله عن إمامِ المفسِّرِين في عهْدِه مجاهدِ بنِ جبرٍ رحمه الله الذي أَخَذ تفسيرَ القرآنِ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ.

فقال: إن هذه الحروفَ الهجائيَّةَ ليس لها معنًى

(1)

نَجْزِمُ بذلك، لا تَخَرُّصًا ولكن استدلالًا بالقرآنِ، واستدلالًا بحالِ القرآنِ، استدلالًا بالقرآنِ، لأنَّه نَزَلَ باللغةِ العربيةِ وهذه الحروفُ الهجائيَّةُ ليس لها معنًى في اللغةِ العربيَّةِ، واستدلالًا بحالِ القرآنِ أنَّ القرآنَ ليس فيه شيءٌ لا يَعْرِفُ الناسُ معناه كُلَّهُ، لا بُدَّ أن يَكُونَ فيه شيءٌ معلومٌ.

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 209)، وانظر: تفسير ابن كثير (1/ 70).

ص: 13

وعلى هذا فإننا نَجْزِمُ بأنَّ هذه الحروفَ ذاتَها ليس لها معنًى، لكن إذن يَرِدُ علينا إشكالٌ، إذا قلنا: ليس لها معنًى صار إنزالُها وكلامُ الرَّبِّ بها عز وجل عبثًا، واللهُ تبارك وتعالى لا يَفْعَلُ شيئًا عبثًا، فنقولُ: ليس بعبثٍ، هي ذاتُها ليس لها معنًى، لكن لها مغزًى يقترنُ بالتحدي، وهو أن يُقالَ: إنكم أيها العربُ تركِّبون كلامَكم من هذه الحروفِ والقرآنُ لم يأتِ بحرفٍ لم تتكلموا به، بل كُلُّهُ من الحروفِ التي تتكلمون بها، وهذا مثالٌ:(ح)(م)(ع)(س)(ق)، ومع هذا عَجَزْتُمْ أن تأتوا بمثْلِهِ، فيكون بهذا مغزًى عظيمٌ، وهو أنَّ القرآنَ الذي أَعْجَزَكُم أيها العربُ مع أنكم أئمَّةُ الفصاحةِ، هل أتى بحروف جديدة، تقولون: واللهِ لا نعرف هذه الحروف، أو هو من الحروفِ التي أنتم تنطقون بها؟ فالجوابُ: الثاني ومع ذلك أَعْجَزَكُم.

ويدُلُّ لهذا المغزى الذي أقرَّهُ شيخُ الإسلامِ

(1)

رحمه الله ومن سَبَقَه ومن لَحِقَه، يدُلُّ على هذا: أنك لا تكادُ تجدُ سورةً مبدوءةً بهذه الحروفِ إلا وبعدها ذِكْرُ القرآنِ الكريمِ، أو ذِكْرُ ما لا يُمْكِنُ إلا بوحيٍ، ننظرُ الآنَ:{الم} [البقرة: 1]، في أوَّلِ البقرةِ بَعْدَهَا:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، وفي آلِ عمر {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمرانَ: 1 - 3]، و {المص} [الأعراف: 1] {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} وهلمَّ جرًّا، ليس هناك إلا سورتان أو ثلاثٌ، لكنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّ الذي يلي هذه الحروفَ لا يتأتَّى العلمُ به إلا عن طريقِ الوحيِ.

فقولُهُ: {حم (1) عسق} نقولُ في تفسيرِها: هذه حروفٌ هجائيَّةُ ليس لها معنًى، لكن لها مغزًى.

قال المُفسِّر رحمه الله: [{كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلك الإيحاءِ {يُوحِي إِلَيْكَ} وأوحى

(1)

انظر تفسير ابن كثير (1/ 71).

ص: 14

إلى الذين من قبلِك، اللهُ فاعلُ الإيحاءِ] {كَذَلِكَ} تأتي في القرآنِ كثيرًا، وإعرابُها في جميعِ المواطنِ إلا يسيرًا أن تقول: الكافُ بمعنى (مثل) منصوبةٌ على أنها مفعولٌ مطلقٌ عاملُها ما يأتي بَعْدَهَا. حوّل الكافَ إلى مثلٍ تقولُ: مِثْلَ ذلك، والعاملُ فيها {يُوحِي} أي: يوحي إليك مثلَ ذلك الإيحاءِ اللهُ العزيزُ الحكيمُ.

وقولُهُ: {كَذَلِكَ} (ذلك) المشارُ إليه الوحيُ النازلُ على الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يوحي إليك: الوحيُ في اللغةِ الإعلامُ بسرعةٍ وخفاءٍ، ويُطْلَقُ على الرمزِ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، ويُطْلَقُ على الإلهامِ؛ كما في قولِهِ:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7].

أمَّا في الإصطلاخ: فالوحيُ إعلامُ اللهِ تعالى بالشرعِ لأنبيائِهِ ورسُلِه.

وقولُهُ: {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك} الواوُ حرفُ عطْفٍ {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} معطوفةٌ على {إِلَيْكَ} وإذا كانتْ معطوفةً على {إِلَيْكَ} كان تقديرُ الفعلِ: ويوحي إلى الذين من قَبْلِك. لكنْ لاحظوا أنَّ المُفسِّر رحمه الله صَرَفَهَا فقال: [وأوحى إلى الذين من قَبْلِك]، فَقَدَّرَ فعلًا ماضيًا، مع أنها معطوفةٌ على معمولِ فعلٍ مضارعٍ؛ لأنَّ إيحاءَ اللهِ إلى رسولِهِ محمَّدٍ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم - مستمرٌّ، وإيحاؤه إلى من سَبَقَه ماضٍ منتهٍ؛ فلهذا قَدَّرَ المُفسِّر فعلًا ماضيًا.

ولكننا نقولُ: الأصلُ عدمُ التقديرِ؛ لأنَّ القرآنَ كاملٌ لا يحتاجُ إلى تقديرٍ إلا ما دعتِ الضَّرُورةُ إليه، ولا ضرورةَ هنا، ونقولُ: كذلك يوحي إليك ويوحي إلى الذين من قَبْلِك، ويكونُ ذِكْرُ الإيحاءِ لمن سَبَقَنَا من بابِ ذِكْرِ صورةِ الحالِ، فإنه سبحانه وتعالى حين وحْيِهِ إلى من سبق، و {يُوحِي} فعلٌ مضارعٌ، فيكونُ هذا على حكايةِ الحالِ.

ص: 15

وقولِهِ: {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} المرادُ بهم الأنبياءُ والرسلُ، قال المُفسِّر رحمه الله:[{اللَّهُ} فاعلُ الإيحاءِ] لو قال: فَاعِلُ {يُوحِي} كان أَحْسَنَ من حيث البيانُ الإعرابيُّ، فعلى هذا نقولُ:{يُوحِي} فعلٌ مضارعٌ، و {اللَّهُ} فاعلٌ: يوحي اللهُ.

فـ {اللَّهُ} هو عَلَمٌ على ربِّنَا عز وجل قيل: وأصلُهُ (الإلهُ) فحُذفت الهمزةُ؛ لكثرةِ الإستعمالِ كما حُذفت الهمزةُ من خيرٍ وشرٍّ في قولهم: فلانٌ خيرٌ من فلانٍ، أو فلانٌ شرٌّ من فلانٍ، والتقديرُ: أَخْيَرُ وَأَشَرُّ.

{اللَّهُ} معنى هذه الكلمةِ العظيمةِ قيلَ: إنه اسمٌ جامدٌ ليس له معنًى فهو غيرُ مشتقٍّ، لكن هذا القولَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، والإسمُ المجرَّدُ عن معنًى لا يَدْخُلُ في الحسنى، بل ولا في الحَسَنِ، فكلُّ اسمٍ من أسماءِ اللهِ، فإنه متضمنٌ لصفةٍ من صفاتِ اللهِ أو أكثرَ، وليس في أسماءِ اللهِ اسمٌ جامدٌ لا يحملُ معنًى أبدًا، وعلى هذا فنقول: اللهُ مشتقٌّ من الألوهيَّةِ، والألوهيَّةُ هي: التذلُّلُ للمألوهِ مع المحبَّةِ والتعظيمِ؛ إذنْ فاللهُ بمعنى المتألَّهِ إليه حبًّا وتعظيمًا.

قال المُفسِّر رحمه الله: [{اللَّهُ الْعَزِيزُ} قال: في مُلْكِه، {الْحَكِيمُ} الحكيمُ في صُنْعِه].

أولًا: قال رحمه الله: [{الْعَزِيزُ} في مُلْكِه] لكنْ لم يفسرْ معنى العزَّةِ، العزيزُ في الأصلِ: الغالبُ، العزيزُ يعني: الغالبَ القاهرَ لمن سِوَاه عز وجل، واستمعْ إلى قولِ اللهِ تعالى عن المنافقين:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، يريدون بالأعزِّ أَنْفُسَهُمْ، ويريدون بالأذلِّ الرسولَ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم - وأصحابِهِ.

ص: 16

قال اللهُ ردًّا عليهم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]؛ أي: للهِ الغلبةُ ولرسولِهِ وللمؤمنين، وتَأَمَّلْ قولَهُ:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} ولم يَقُلْ: واللهُ الأعزُّ، مع أنهم هم يقولون: الأعزُّ والأذلُّ، لم يَقُلْ: واللهُ أعزُّ قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} ؛ لأنَّه لو قال: واللهُ هو الأعزُّ لأثبت للمنافقين عزةً مفضولةً، لكنَّ الحقيقةَ أنه لا عِزَّةَ للمنافقِ، بل هو مغلوبٌ دائمًا، بل حالُهُ تَدُلُّ على أنه مغلوبٌ؛ لأَنَّه مختفٍ جبانٌ يُظْهِرُ أنه مُسْلِمٌ وليس بمُسْلِمٍ.

ولهذا نقولُ: إن الكافرين الْخُلَّصَ الصرحاءَ أشجعُ من المنافقين؛ لأنَّهم يُصَرِّحُون ويُعْلِنون، أمَّا المنافقُ فذليلٌ يُظْهِرُ الإسلامَ خوفًا من المسلمين ويُبْطِنُ الكفرَ؛ لأنَّه كافرٌ، والعياذُ باللهِ.

مسألة: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّساء: 145] لا تدلُّ على أنَّ غيْرَهم لا يكونُ فيها، كما لو قلتَ مثلًا: فلانٌ في بيتِ فلانٍ، لا ينافي أن يَكُونَ أحدٌ في هذا البيتِ.

الخلاصةُ: {الْعَزِيزُ} المُفسِّر رحمه الله لم يُبَيِّنْ معناها، فنقولُ: العزَّةُ يعني: الْغَلَبَةَ.

{الْحَكِيمُ} يقولُ المُفسِّر رحمه الله: [في صُنْعِه]، وهذا ناقصٌ جدًّا؛ لأنَّ حِكْمَةَ اللهِ تعالى في صُنْعِه وفي شَرْعِه، فهو حكيمٌ في صُنْعِه؛ أي: في خَلْقِه، وهو حكيمٌ في شَرْعِه.

واقرأْ قولَ اللهِ تعالى في سورةِ المُمْتَحَنَةِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] كُلُّ هذه أحكامٌ شرعيَّةُ، ثم قال:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

ص: 17

فهو جَلَّ وَعَلَا حكيمٌ في شَرْعِه وحكيمٌ في صُنْعِه؛ يعني: في خَلْقِه، كُلُّ ما خَلَقَه اللهُ تعالى فالحكمةُ تقتضي وجودَه، وكلُّ ما أَعْدَمَهُ اللهُ تعالى فالحكمةُ تقتضي عَدَمَهُ، هذا أمرٌ مُسَلَّمٌ به، كلُّ ما شَرَعَه اللهُ إيجابًا، أو تحريمًا، أو تحليلًا، فالحكمةُ تقتضي شَرْعَه، كذلك الواجبُ تقتضي الحكمةُ إيجابَهُ، والمُحَرَّمُ تقتضي الحكمةُ تحريمَه، والمباحُ تقتضي الحكمةُ إباحَتَهُ، لكنْ لا يَلْزَمُ من وُجُودِ الحكمةِ في ذلك أن تكونَ معلومةً لنا، هناك حكمةٌ لكنْ قد نَعْلَمُها وقد لا نَعْلَمُها. وإذا حُجِبَ عنا عِلْمُهَا لا يعني العَدَمَ؛ لأننا قاصرون، إننا قاصرون بكلِّ شيءٍ، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، في كلِّ شيءٍ ضعيفٌ؛ في قوتِهِ، في إدراكِهِ، في عِلْمِهِ، في كلِّ شيءٍ.

ولهذا لما قالوا: ما هي الرُّوحُ يا محمَّدُ؟ قال اللهُ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، خَتَمَ الآيةَ بقولِهِ:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} كأنه يقول: لم يَبَقْ عليكم من العلم إلا الروحُ حتى تسألوا عنها، بل الذي فاتَكُم من العِلْمِ أكثرُ من الذي أدركتُمُوه؛ ولهذا قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، ولذلك واجبُ المسْلمِ تجاه خَلْقِ اللهِ وتجاه شَرْعِ اللهِ أن يستسلمَ تمامًا، وأن يقول: هذا هو الحكمةُ.

أَضْرِبُ مثلًا في الشرائعِ: لماذا يأتي الناسُ بحصى حجراتٍ صغيرةٍ يضربون بها مكانًا معينًا؟ قد يقولُ قائلٌ: ما الحكمةُ من هذا؟

فنقول: مجرَّدُ كوْنِ اللهِ شَرَعَ ذلك دليلٌ على الحكمةِ، ونكتفي بهذا. مع أن من أعظمِ الحِكَمِ فيه كمالُ التعبُّدِ أن يأتيَ الإنسانُ بحجرٍ يَضْرِبُ بها مكانًا لمجرد امتثالِ أمْرِ اللهِ، ففيه كمالُ التعبُّدِ؛ لأنَّ انقيادَ النفسِ لما تَعْلَمُ فائدتَهُ أسهلُ من انقيادِها لما لا تَعْلَمُ فائدتَهُ، وانقيادُها لما لا تَعْلَمُ فائدتَه أَبْلَغُ في التذلُّلِ والتعبُّدِ للهِ عز وجل مع أن

ص: 18

هذا العملَ مقرونٌ بِذِكْرِ كلِّ حَصاةٍ ترميها تقولُ: اللهُ أكبرُ. مقرونٌ أيضًا باتباعِ، كلِّ حصاةٍ ترميها وأنت تَشْعُرُ أنك متبِّعٌ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.

ونقولُ: إنَّ قَصْرَ المُفسِّر (الحكيمَ) على حِكمةِ الصنعةِ قاصرٌ بلا شكَّ، فهو حكيمٌ في صُنْعِه، وحكيمٌ في شَرْعِه تبارك وتعالى.

ولا بُدَّ أن نَعْرِفَ ما هي الحكمةُ؛ يقولُ العلماءُ: إن الحكمةَ هي وَضْعُ الأشياءِ في مواضِعِها؛ بمعنى: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى إذا خَلَقَ شيئًا، أو شَرَعَ شيئًا، فإنه في مكانِهِ اللائقِ به؛ ولهذا قال بعضُ السَّلَفِ: إنَّ اللهَ تعالى لم يأمُرْ بشيءٍ فيقولُ العقلُ: ليته لم يَأْمُرْ به، ولم يَنْهَ عن شيءٍ فيقولُ العقلُ: ليْتَه لم يَنْهَ عنه، فكلُّ ما ثَبَتَ بالشرعِ فإنه لا ينافي العقلَ، بل إن العقلَ يؤيِّدُ ويَشْهَدُ بصِحَّتِه.

فالحكيمُ إذن هو واضعُ الأشياءِ مواضِعَها، سواءٌ الشرعيَّةُ أو الكونيَّةُ، فما أمرَ اللهُ بشيءٍ فقال العقلُ: ليْتَه لم يَأْمُرْ به، وما نهى عن شيءٍ فقال العقلُ: ليته لم يَنْهَ عنه.

أمَّا في الأمورِ الكونيَّةِ؛ فإن اللهَ سبحانه وتعالى ربَّما يُقَدِّرُ أشياءَ تظنُّها فسادًا فإذا بها تكونُ صلاحًا وخيرًا، قال اللهُ تبارك وتعالى:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، فاللهُ سبحانه وتعالى قد يُقَدِّرُ أشياءَ إذا نَظَر إليها الإنسانُ أوَّلَ وَهْلَةٍ قال: هذه لا فائدةَ فيها. أو قال: هذه مُضِرَّةٌ، لكنْ إذا تأمل وجد أن الحكمةَ تقتضي ذلك.

وأنت أيها العبدُ إذا آمنْتَ أن اللهَ حكيمٌ في شرْعِه وحكيمٌ في خَلْقِه، فإنه لا يبقى لك شَكٌّ في أن ما شَرَعَه خيرٌ، ومما قَدَّرَه خيرٌ.

وللحكيمِ معنًى آخرُ غيرُ الحكمةِ، وهو الحاكمُ؛ لأنَّ هذه المادةَ (حاء)(كاف)

ص: 19

(ميم) تدلُّ على المَعْنيَيْن: على الحكمةِ وعلى الحُكْمِ، فهو سبحانه وتعالى الحاكمُ، يَحْكُمُ في الناسِ ويَحْكُمُ بين الناسِ، يَحْكُمُ في الناسِ بما يُلْزِمُهُم به من الأحكامِ الشرعيَّةِ، ويَحْكُمُ بَيْنَ الناسِ فيما يختصمون فيه، فهو الحاكمُ وحُكْمُهُ مبنيٌّ على العدلِ التَّامِّ لا ظُلْمَ ولا جَوْرَ، لا بالنسبةِ لما يَحْكُمُ فيه بين النَّاسِ، ولا بالنسبةِ لما يُحْكَمُ به في الناسِ، كُلُّه عدلٌ، كلُّهُ خيرٌ. إذن الحكيمُ له معنًى آخرُ: الْحُكْمُ.

والحُكْمُ ينقسمُ إلى: حُكْمٍ قَدَرِيٍّ، وحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، ولهذا إذا أُصيبَ الإنسانُ بمصيبةٍ قال: هذا حُكْمُ اللهِ. هذه اللغةُ تعبيرٌ عامِّيٌّ، هذا حُكْمُ اللهِ، يعني القَدَرِيَّ، لكنْ إذا قيل له: يجبُ عليك كذا وكذا قال: لماذا يَجِبُ؟ قال: هذا حُكْمُ اللهِ الشرعيُّ، وكلاهما في القرآنِ.

فمن الأولِ - أعني الحُكْمَ الْقَدَرِيَّ - قولُ اللهِ تبارك وتعالى عن أخي يوسفَ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف: 80]؛ أي: يُقَدِّرُ لي، لم يَقُلْ: يَحْكُمُ فيَّ، قال:{أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} ، فالحُكْمُ هنا قَدَرِيٌّ.

ومثالُ الثاني - الحُكْمِ الشرعِيِّ - قولُ اللهِ تبارك وتعالى حينما ذَكَرَ أحكامَ الكافرات اللاتي يأتين من الكفارِ إلى المؤمنين قال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10]، أي: حُكْمَ اللهِ الشرعيَّ.

والفَرْقُ بين الحُكْمِ القَدَريِّ والشرعيِّ أن الحُكْمَ القدريَّ يكونُ فيما يرضاه اللهُ وفيما لا يرضاه اللهُ، الحكمُ الكونيُّ يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه الله، يسرقُ الرجلُ، يزني، يشربُ الخمرَ، هذا حُكْمُ اللهِ القدريُّ، وهذا لا يرضاه اللهُ، يصلي الإنسانُ، يتصدقُ، يصومُ، يَحُجُّ، هذا حكمُ اللهِ الْكَوْنِيُّ، يرضاه الله، إذن الحكمُ الكونيُّ أو القدريُّ إن شئتَ يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه.

ص: 20