الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني: أنَّها من أخواتِ (ظَنَّ) تنصبُ مفعولين، أين المفعولان؟ يقولُ المفسِّرُ رحمه الله:"إنَّ عَمَلَها مُعَلَّقٌ الآن"، مُعَلَّقٌ بالنفْيِ، فجملةُ النَّفيِ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين، وهذا يُعْلَمُ من درسِ النَّحْوِ؛ لأنَّ أفعالَ القلوبِ إمَّا أن تَعْمَلَ، وإمَّا أن تُعَلَّقَ، وإمَّا أن تُلْغَى، إذا أُلْغِيَتْ بَطَلَ عَمَلُها في المحلِّ واللَّفظِ، وإذا عُلِّقَتْ بَقِيَ عَمَلُها في المحلِّ دُونَ اللَّفظِ، وإذا عَمِلَتْ عَمِلَت باللَّفظِ والمحلِّ.
من فوائد الآيات الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: التَّهديدُ بإغراقِ السُّفنِ؛ لقولِهِ: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} وقد عَلِمْتُمْ قبلَ قليلٍ أنَّ الرِّياحَ بالنِّسبةِ للسُّفنِ تَنْقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: ريحٍ مناسبةٍ طَيِّبَةٍ، وريحٍ عاصفةٍ مدمِّرةٍ مُغْرِقةٍ، وريحٍ ساكنةٍ تُبْقِي السَّفينةَ راكدةً على ظَهْرِ الماءِ.
فمن فوائِدِها التَّهديدُ بإغراقِ السُّفنِ بالمعاصي.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: التَّحذيرُ من المعاصي، وأنَّها سببٌ للعقوباتِ؛ لقولِهِ:{بِمَا كَسَبُوا} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يعفو عن كثيرٍ من السَّيِّئاتِ فلا يُعَاقِبُ عليها؛ لقولِهِ: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} يعني: حتَّى مع إغراقِ السُّفنِ يعفو اللهُ تبارك وتعالى عن كثيرٍ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: تهديدُ أولئك العصاةِ بأنَّه ليس لهم مهربٌ من اللهِ عز وجل؛ لقولِهِ: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: ذَمُّ المجادَلَةِ لإبطالِ الحقِّ، تُؤْخَذُ من قولِهِ:{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} أمَّا المجادَلَةُ لإثباتِ الحقِّ فإنَّها واجبةٌ حيث كان الإنسانُ يُجيدُها ويُحْسِنُها،
قال اللهُ تبارك وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحلِ: 125]، وقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ، فالمجادَلَةُ لإثباتِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ واجبةٌ لكنْ بشَرْطِ أن يَكُونَ عند الإنسانِ عِلْمٌ بما يُجادِلُ به، فإن لم يَكُنْ له عِلْمٌ فالواجبُ أَلَّا يُجادِلَ؛ لأنَّه إذا جادل لإثباتِ الحقِّ بدون عِلْمٍ فقد تَنْعَكِسُ القضيَّةُ عليه، يُورَدُ عليه من الشُّبُهاتِ ما لا يستطيعُ دَفْعُه، وحينئذٍ ينقطعُ وانقطاعُ المجادِلِ بالحقِّ ليس ضررُه على نفْسِه، بل هو على نفْسِه وعلى الحقِّ الَّذي يجادِلُ من أجْلِ إثباتِهِ.
فالجدال المنهي عنه هو جدالُ المِراءِ الَّذي يُقْصَدُ به المُغالَبَةُ، أمَّا الَّذي يُقْصَدُ به إثباتُ الحقِّ فواجبٌ. وقولُهُ تعالى في الحجِّ:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ} [البقرةِ: 197] هذا الجدالُ الَّذي من أَجْلِ أن يمارِيَ السُّفهاءَ أو بغيرِ فائدةٍ، أمَّا لإثباتِ الحقِّ فلا بدَّ منه، ويَجِبُ للمُجَادِلِ لإثباتِ الحقِّ أن تَكُونَ نِيَّتُه إعلاءَ كلمةِ الله، فإن شَابَهُ شيءٌ من الرِّياءِ فإنَّه يَبْطُلُ، لكن يجبُ للإنسانِ أنْ يدافعَ الرِّياءَ، أو يقصدُ مثلًا بالرِّياءِ أن يَعْلُوَ على هذا العدوِّ المجادِلِ بالباطِلِ.
وهل المجادَلَةُ تحصُلُ بالغريزةِ أو بالمِرانِ؟
الجوابُ: بهما كليهما، قد يعطي اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ قُوَّةَ حُجَّةٍ وقريحةً وسرعةَ إجابةٍ، وهذا من اللهِ عز وجل، وقد يكونُ قليلًا في هذه الناحيةِ من أَصْلِ خِلْقَتِه، ولكن مع المجادَلَةِ يَتَمَرَّنُ، ولهذا كان بعضُ أهْلِ العِلْمِ إذا أراد أن يُحَرِّرَ مسألةً ويُثْبِتَها، فَرَضَ نَفْسَه على مجادلٍ فيعرضُ على نفْسِه إشكالًا ثمَّ يجيبُ عنه، ثمَّ إشكالًا ثمَّ يجيبُ عنه، حتَّى يَتَمَرَّنَ على المجادَلَةِ، ويُذْكَرُ أنَّ عامِّيًّا يجادِلُه نصرانيٌّ يقولُ له: أنتم أيُّها المسلمون ظَلَمَةٌ. قال لِمَ؟ قال: لأنَّكم تجيزون أن تتزوجوا منَّا ولا تجيزون أن نتزوَّجَ
منكم. إذا جاء هذا الإعراضُ على شخصٍ لا يعرفُ المجادَلَةَ، قال: هذا نعم صحيحٌ، فقال العامِّيُّ: إنَّنا نؤمنُ برسولِكم ولا تُؤْمِنوا برسولِنا، آمِنوا برسولِنا نُزَوِّجْكم. وهذه حُجَّةٌ صحيحةٌ بلا شكٍّ، فإذا كانت صحيحةً من عامِّيٍّ كان هذا دليلًا على أنَّ المجادَلَةَ تكُونُ غريزةً، وتكونُ بالمِراس والتَّمَرُّنِ.
مسألةٌ في مُجادلةِ أهلِ الباطِل: إذا كان لهم السُّلْطَةُ بمعنى أنك لو جادَلْتَهم علنًا لكان عليك خطرٌ، فَدَعْ هذه المجادَلَةَ، لكن لك أن تتكلَّمَ في المجالِسِ الخاصَّةِ، أو في المجالِسِ التي لا يوجَدُون فيها، وتَعْرِضُ المَذْهَبَ وتُبَيِّنُ بُطْلانَهُ، لو لم يَكُنْ من هذا العَرْضِ إلا تشكيكُ العامَّةِ في هؤلاء لكان كَافِيًا، وزحزحةُ العقيدةِ والتشكيكُ فيها مهمٌّ جدًّا، فأنت مثلًا إذا رأيتَ أناسًا على باطلٍ وبَيَّنْتَ الحقَّ، لو لم يَكُنْ من الفائدةِ إلا أن يَشُكُّوا في الأمرِ، حتى عند زعمائِهِم يَشُكُّون في قولهِم، ما دُمْتَ أنت أَتَيْتَ بالحقِّ وبَيَّنْتَهُ؛ ولهذا سَمِعْتُ عن بعضِ دعاةِ النصرانيَّةِ - قاتَلَهُم اللهُ وَلَعَنَهُم إلى يومِ القيامةِ - سَمِعْتُ أنه يقولُ لقومِهِ: يا قَوْمَنا إنكم لم تَنْقُلُوا المُسْلِمُ إلى النصرانيَّةِ هذا مستحيلٌ؛ لأنَّ دِينَنَا النصرانيَّةَ الموجودَ الآن كلٌّ يَعْرِفُ أنه خرافةٌ وليس على شيءٍ، لكن يَكْفِيكم أن تُشَكِّكُوا المُسْلِمَ في دينِه.
انْظُرِ الخُبثاءَ، يكفيكم أن تُشَكِّكُوا المُسْلمَ في دينِهِ، اجعلوه يَشُكُّ فقط، وإذا شكَّ الإنسانُ فيما يجبُ الإيمانُ به فهو كافرٌ، ما يجبُ الإيمانُ به يجبُ الجزمُ به، فانظرْ كيف أساليبُهُم ونحن - والحمدُ للهِ - عندنا من الأساليبِ أقوى منهم، لكن فقط عندنا أن الإنسانَ إذا رأى هذا العالِمَ يُمْكِنُ أن يخافَ، وشجاعةُ خالدِ بنِ الوليدِ وحمزةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ غيرُ موجودةٍ الظاهرُ إلا في قليلٍ من الناسِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّه لا مفرَّ لمن حادَّ اللهَ ورسولَهُ من عقوبةِ اللهِ؛ لقولِهِ: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} .
من المعلومِ أن (يَعْلَمَ) تَنْصِبُ مَفْعُولَيْنِ، ومفعولهُا جملةُ {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} ويُسمَّى تعليقًا، وذكَرْنَا لكم أنَّ ظنَّ وأخواتِها تكونُ عاملةً ومعلَّقَةً ومُلْقاةً.
إذن نقولُ المجادَلَةُ لإظهارِ الحقِّ وبيانِهِ مأمورٌ بها، أمَّا المجادَلَةُ الَّتي للعكسِ لإبطالِ الحقِّ وإظهارِ الباطلِ هذه هي الَّتي عليها الوعيدُ.
* * *