المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (13) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌ ‌الآية (13) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ

‌الآية (13)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].

* * *

قوله: {شَرَعَ لَكُمْ} الخطابُ لهذه الأُمَّةِ - وللهِ الحمدُ - ومعنى {شَرَعَ لَكُمْ} ؛ أي: سَنَّ لكم، وجَعَلَ لكم شريعةً هي {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ، قال الشارحُ رحمه الله:[هو أوَّلُ أنبياءِ الشريعةِ]، وتَسَاهَلَ رحمه الله في هذا، والصوابُ أن يقولَ: هو أوَّلُ رُسُلِ الشريعةِ؛ لأنَّه جاء في الحديثِ الصحيحِ: "أنَّ الخَلْقَ يومَ القيامةِ يأتون إلى نوحٍ لِيَشْفَعَ لهم، فيقولون له: أنت أوَّلُ رسولٍ أرسله اللهُ"

(1)

ولأنَّ الرسولَ أخصُّ من النَّبيِّ، ولا ينبغي أن نَعْدِلَ عن الأخصِّ إلى الأعمِّ.

إذن: الصوابُ أن نقولَ: هو أوَّلُ رُسُلِ الشريعةِ، أما أوَّلُ أنبياءِ الشريعةِ فهو آدمُ عليه الصلاة والسلام نبيٌّ مُكَلَّمٌ، لكنه ليس برسولٍ، والحكمةُ من كونِهِ غيرَ رسولٍ: أنَّ الناسَ لم يختلفوا بَعْدُ، واللهُ تعالى أرسل الرُّسلَ لِيَحْكُمُوا بَيْنَ الناسِ فيما اختلفوا فيه، كما قال جَلَّ وَعَلَا: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله عز وجل:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه} ، رقم (3340)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم (194)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 128

مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرةِ: 213].

لكن في عَهْدِ آدَمَ لا اختلافَ، فالعددُ قليلٌ، وليس هناك مُغْرِيَاتٌ، ولا أشياءَ تُوجِبُ أن يختلفَ الناسُ، فلذلك كان آدمُ يَتَعَبَّدُ للهِ تعالى بشريعَتِه التي شَرَعَهَا اللهُ لهم، أبناؤُهُ يَتَّبِعُونه، لمَّا كَثُروا وانتشروا واختلفوا، حينئذٍ جاءتِ الحاجةُ، بل الضرورةُ إلى الرُّسُلِ. إذن الأولى أن نقولَ هو أوَّلُ رُسلِ الشريعةِ؛ لأنَّ أَوَّلَ أنبياءِ الشريعةِ من آدمَ.

وقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني: وشَرَعَ لكم الذي أوحينا إليك، {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} معطوفةٌ على ما في قولِهِ {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} .

والوصيَّةُ: هي العهدُ بالشيءِ الذي يُهْتَمُّ به {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وهو: القرآنُ، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} اللهُ أَكْبَرُ، ذَكَرَ اللهُ تعالى أوَّلَ الأنبياءِ الذين هم الرُّسُلُ وآخِرَهم، ثم ذَكَرَ ما بَيْنَ ذلك؛ لِيَجْمَعَ سبحانه وتعالى بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ والوسَطِ، أوَّلُ هؤلاء الرسلِ الكرامِ نوحٌ، وآخِرُهُم مُحَمَّدٌ - صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعليهم وسلَّمَ - هؤلاء الخمسةُ هم أولو العَزْمِ من الرسلِ، قال اللهُ تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقافِ: 35] وذُكِرُوا في القرآنِ في مَوْضِعَيْنِ؛ هذا واحدٌ، والثاني قولُهُ تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزابِ: 7]، وهذه الآياتُ في سورةِ الأحزابِ.

فإن قال قائلٌ: هل من فائدةٍ أو حكمةٍ في تخصيصِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالوحْيِ وباقي الأنبياءِ بالوصيَّةِ؟

فالجوابُ: نعم، الحكمةُ هي إثباتُ أنَّ هذا القرآنَ موحًى به.

ص: 129

مسألةٌ: إذا مرَّ الإنسانُ بآيةٍ فيها ذِكْرُ الأنبياءِ سواءٌ في الصلاةِ أو خارجَ الصلاةِ، فهل يُشْرَعُ له أن يُصلِّيَ عليهم؟

فالجوابُ: لا، إلا الرسولَ صلى الله عليه وسلم ولو خارجَ الصلاةِ؛ لأنَّه لا نعلمُ أن الرَّسولَ إذا مرَّ برسلٍ سَلَّمَ عليهم؛ أما نبيُّنا صلى الله عليه وسلم فإذا مرَّ عليك فصلِّ عَلَيْهِ في أيِّ حالٍ أنت؛ إلا إذا كنتَ على الخلاءِ فلا.

وقوله: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} (أنْ) هذه تفسيريَّةٌ، بمعنى (أي)؛ ولذلك لا تَعْمَلُ شيئًا؛ لأنَّها لمجرَّدِ التفسيرِ والتبيينِ.

وقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} {أَقِيمُوا الدِّينَ} يعني: ائتوا به مُستقيمًا، غَيْرَ مُنْحَرِفٍ.

والدِّينُ القَيِّمُ هو الدِّينُ الذي شَرَعَهُ اللهُ عز وجل فيجبُ علينا أن نُقِيمَ الدِّينَ كما أقامه اللهُ عز وجل لا نغلو فيه، ولا نُقَصِّرُ عنه، ولذلك كان الناسُ في دينِ اللهِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قِسْمِ غَلَوْا، وقِسْمٍ قَصَّرُوا، وقِسْمٍ اعْتَدَلُوا. فما الذي أُمِرْنَا فيه؟ الإعتدالُ، {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} غَيْرَ مُتَجَاوِزِينَ ولا قَاصِرِينَ عنه.

ولذلك هَلَكَ أقوامٌ ممن قَصَّروا أو تجاوزوا، والأخطرُ التجاوُزُ وهو الغُلُوُّ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنما أَهْلَكَ من كان قَبْلَكُم الْغُلُوُّ"

(1)

ولأن الغاليَ، يعتقدُ أنَّ هذا دينٌ فلا يكادُ يُقْلِعُ عنه، والمُقَصِّرُ يَعْتَرِفُ أنه مُقَصِّرٌ، فرُبَّما حاسَبَ نفْسَه يومًا من الأيامِ وأتمَّ، فالغُلوُّ أخطرُ، ولذلك تَجِدُ بِدَعَ المبتدعةِ، أشدُّها الغلوُّ؛ فالرَّافضةُ مثلًا

(1)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 215)، والنسائي: كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، رقم (3057)، وابن ماجه: كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، رقم (3029)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 130

غَلَوْا في آلِ البيتِ، وتجاوَزُوا الحدَّ، والمُؤَلِّهَةُ للرَّسولِ عليه الصلاة والسلام الذين يعتقدون أنه أشدُّ من الإلهِ عز وجل غَلَوْا في الرسولِ، وهَلَكوا. والغاليةُ في الدِّينِ الذين يُريدونَ من الناسِ أن يستقيموا على الدِّينِ، وألا يَفْعَلوا كبيرةً أيضًا غَلَوْا؛ كالخوارجِ.

المُهمُّ أنكَ إذا تأمَّلْتَ البدعَ وجدْتَ أنَّ الغُلُوَّ فيها أشدُّ خطرًا على الإنسانِ؛ لأنَّ الغاليَ يعتقدُ أن ما عَلَيْهِ دِينٌ، والمقصِّرُ يَعْرِفُ أنه مقصِّرٌ، وربما استقام بعد ذلك.

قال اللهُ تبارك وتعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الدِّينُ يُطْلَقُ على مَعْنَيَيْنِ، المعنى الأوَّلُ: الجزاءُ. والمعنى الثاني: العملُ. يعني: يُطْلَقُ على العملِ وعلى الجزاءِ، فمن إطلاقِهِ على العملِ؛ قولُ اللهِ تبارك وتعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، يعني: لكم عَمَلُكم ولي عملي؛ كقولِهِ تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} [يونُسَ: 41]، ومن إطلاقِهِ على الجزاءِ قولُهُ تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطارِ: 17 - 18]، وما نقرأه نحن في كلِّ صلاةٍ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} المرادُ به الجزاءُ.

وقولُهُ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} هنا المرادُ به العملُ {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} يعني: لا تَتَفَرَّقوا في دينِكم؛ فتكونوا أحزابًا، فنهى اللهُ عز وجل عن التفرُّقِ في الدِّينِ، وهذا يَسْتَلْزِمُ وجوبَ الإجتماعِ عليه؛ لأنَّ النَّهْيَ عن الشَّيْءِ أمرٌ بضدِّه إذا لم يَكُنْ له إلا هذا الضِّدُّ، وحينئذٍ يَجِبُ على المسلمين أن يجتمعوا في دِينِ اللهِ، وألا يتفرَّقُوا فيه.

وما اختلف العلماءُ فيه من الآراءِ، فإنَّ الهدفَ منه واحدٌ، لمن صَلَحَتْ نِيَّتُه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المُختلفين إنما يُريدُ الوصولَ إلى الحَقِّ، لكن اختلفوا في الطريقِ،

ص: 131

وإذا كان الهدفُ واحدًا، وهو الوصولُ إلى الحقِّ؛ فإنه لا يَجوزُ أن يُجْعَلَ هذا الإختلافُ سببًا للتفرُّقِ في الإتجاهِ، لا يَجُوزُ هذا إطلاقًا، بل تَجِبُ الوحدةَ والإجتماعَ، حتى مع اختلافِ الآراءِ.

ولهذا كان السادةُ الغُرَرُ الصحابةُ رضي الله عنهم يختلفون في أشياءَ كثيرةٍ مُهِمَّةٍ، ومع ذلك فالقلوبُ واحدةٌ، ولمَّا وَصَلَ الإختلافُ بهم إلى تَفَرُّقِ القلوبِ، حَصَلَ ما حَصَلَ من الفِتَنِ بين معاويةَ وعليٍّ، وعائشةَ والزُّبيرِ، وما أَشْبَهَ ذلك، في وقتِنا الحاضرِ لا شكَّ أنَّ الناسَ مختلفون، فمنهم من يتجهُ اتجاهًا سياسيًّا، ومنهم من يتجهُ اتجاهًا صوفيًّا، ومنهم من هو مُعتدلٌ. اختلافاتٌ كثيرةٌ فالواجبُ علينا أن نَنْزِعَ فتيلَ هذا الإختلافِ، وأن نَكُونَ أمَّةً واحدةً؛ حتى لا نتفرَّقَ فنفشَلَ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} يعني: ولا يَكُنْ لكمْ قيمةٌ. {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفالِ: 46].

ولهذا نَجِدُ الآنَ - مع الأسفِ الشديدِ - أن ما يُسَمَّى بـ (الصحوةِ الإسلاميَّةِ) أُصيبَت بهذا البلاءِ، وصار نَفْسُ المُتَدَيِّنِينَ يَلْمِزُ بعضُهُم بعضًا، ويُضَلِّلُ بعضُهُم بعضًا، ويُبَدِّعُ بعضُهُم بعضًا، وربما يُكَفِّرُ بعضُهُم بعضًا، فضاعت تلك الصحوةُ، وصار الذين يُرادُ منهم أن يكونوا حزبًا على أعداءِ اللهِ، وحربًا على أعداءِ اللهِ، صاروا حربًا على أنْفُسِهم، وأحزابًا بأنفُسِهم، وهذا ما يَبْذُلُ فيه العدوُّ أغلى ما يكونُ ليَحْصُلَ، وقد حَصَلَ له مجَّانًا؛ فالواجبُ علينا أن نُزيلَ هذه الإختلافاتِ، وأن نَدَعَهَا، وأن نَتْرُكَ ما يُعَمِّرُ به كثيرٌ من الناسِ مجالسَهُم في سبِّ فلانٍ وفلانٍ، أو ذمِّ فلانٍ وفلانٍ، أو الغلوِّ في فلانٍ وفلانٍ؛ لأنَّ هذا يُضَيِّعُ الأوقاتَ، ويولِّدُ الأحقادَ، ولا يُفيدُ شيئًا، بل يَضُرُّ، ما لنا ولفلانٍ، إن كان ميتًا فقد واجه الحسابَ، وإن كان حيًّا فنرجو له

ص: 132

الإستقامةَ، وأمَّا أن نَجْعَلَ أَكْبَرَ هَمِّنا هو هذا الكلامُ الذي لا يَعُودُ إلى الأمَّةِ إلا بالشَّرِّ فلا! .

ولهذا يَنْهَى اللهُ عز وجل عن التفرُّقِ في عدَّةِ آياتٍ، كما في هذه الآيةِ:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .

فإذا اختلفْتَ أنت وصاحبُكَ في رأيٍ من الآراءِ، وهو محَلٌّ للإجتهادِ؛ فالواجبُ أن تعتقدَ أنَّ صاحِبَك لم يخالفْك؛ لأنَّه سَلَكَ السبيلَ الذي تسلُكُه أنت، هو اجتهد فقال هذا هو الصوابُ، وأنت اجتهدْتَ فقلْتَ: هذا هو الصوابُ، إذن: مرادُ كلِّ واحدٍ منكما الوصولُ إلى الحقِّ، ولا يُمْكِنُ أن يكونَ اجتهادُكَ حُجَّةٌ عليه، ولا اجتهادُهُ حُجَّةً عليكَ، وحينئذٍ نكُونُ في الواقعِ مُتَّفِقين، حتى لو خالفني فأنا أعتقدُ أنه يوافقني؛ لأننا كلنا نقصدُ الحقَّ، ولا نريدُ مخُالفةَ الحقِّ.

لكن مع الأسَفِ الآنَ بعضُ الناسِ يَتَّخِذُ من هذا الخلافِ، الذي هو محلُّ الإجتهادِ، يَتَّخِذُ منه سُلَّمًا للتفرَّقِ والطَّعْنِ، قبل سنواتٍ في منًى حَضَرَتْ طائفتانِ إفريقيَّتَانِ، كلُّ واحدةٍ تَلْعَنُ الأخرى وتُكَفِّرُها، فأتوا إلى مدير التَّوعِية التي أنا من ضِمْنِ أعضائِها، أتوْا إليه مُتشاكِسِينَ جدًّا جدًّا في منًى، في أيامِ الحَجِّ في شهرٍ حرامٍ في بلدٍ حرامٍ؛ فهو - جزاه اللهُ خيرًا - حَضَرَ إليَّ معهم، وسألته فقال: هؤلاء كفارٌ، هؤلاء رَغِبوا عن سُنَّةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مني"

(1)

ونحن نَبْرَأُ منهم كلامٌ طويلٌ عريضٌ.

والخلافُ أن إحدى الطائفتين تقولُ: إذا قام يصلي فإنه يضعُ اليدَ اليمنى

(1)

أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (5063)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم (1401)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 133

على اليسرى، والطائفةُ الأخرى تقولُ: إذا قام يُصلي يُرسلُ يديه. والمسألةُ ليست خلافًا في العقيدةِ، وإنما المسألةُ خلافٌ في سُنَّةٍ من سننِ الصلاةِ، وهي محلُّ اجتهادٍ، كلُّ واحدٍ يقولُ للآخرِ إنه كافرٌ؛ لأنَّه رَغِبَ عن سُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مني". انْظُرِ البلاءَ.

الآن الشبابُ صار خلافُهُم في أمرٍ آخَرَ في الأشخاصِ، يجعلون الشخصَ هدفًا، ما تقولُ في فلانٍ؟ إن قال: واللهِ فلانٌ من خيرِ عبادِ اللهِ، انشرح صدرُه، وكأنما أُعْطِيَ الجنَّةَ، وإذا قال: واللهِ هذا الرجلُ عنده انحرافٌ في المَسْلَكِ، إنسانٌ فيه كذا وفيه كذا انقبض، وضاق صَدْرُه، وتَرَك صاحبَه.

وهذا غَلَط يا إخوانُ! فالرجالُ إن أخطؤوا فاسألِ اللهَ أن يَعْفُوَ عنهم خَطَأَهم؛ لأنَّهم مسلمون مَهْمَا كانوا لا يخرجون من الإسلامِ، وإن أصابوا فخُذْ بصوابِهِم واحمَدْهم، وخَطَؤُهم لا تَأْخُذْ به، أما أن تَجْعَلَهُم مَحَكًّا للولاءِ والبَرَاءِ، فهذا غَلَطٌ عظيمٌ.

فإن قال قائلٌ: في بعضِ الأحيانِ قد يُسألُ الإنسانُ من بعضِ العوامِّ، أو من المستقيمين الذين ليس عندهم عِلْمٌ: ما رأيُكَ في فلانٍ وفلانٍ ممن هم معيَّنون، فما هو موقفُ طالِبِ العِلْمِ؟

فالجوابُ: إذا قال: ما رأيُكَ في فلانٍ وفلانٍ؟ فنحن نَعْرِفُ الآن أنَّ هناك رؤوسًا هي الناقوسُ للناسِ، هذه إذا سألني أقولُ:"ما لك ولفلانٍ؟ دَعْه إن كان ميتًا فقد واجه رَبَّه، وإن كان حيًّا فنسألُ اللهَ له الإستقامةَ"، فقط؛ أمَّا إذا حَدَّدَ فقال: ما تقولُ في رأيِ فلانٍ، هنا يجبُ أن أتكلَّمَ، أقولُ: هذا صوابٌ أو خطأٌ، حسبما يكون عندي.

ص: 134

فلذلك أنا أدعو إخوانَنَا من السُّعُودِيِّين وغَيْرِهم، إلى نَبْذِ هذه الطريقِ، والبُعْدِ عنها، وأن نعتقدَ أننا إخوانٌ، وأنَّ كلَّ واحدٍ منا مَجْزِيٌّ بعملِه، وألا نجعلَ هذا سببًا للتفرُّقِ، لأنَّ اللهَ نهانا، ونحن نعلمُ علمَ اليقينِ أنَّ اللهَ لا ينهانا إلا عن شيءٍ فيه ضَرَرُنَا.

فائدةٌ: الشِّيعَةُ خلافُهُم متبايِنٌ مع أهْلِ السُّنَّةِ، ليس خلافُ الشيعةِ مع أهلِ السُّنَّةِ كخلافِ الشافعيَّةِ مع المالكيَّةِ مثلًا، لا أبدًا، اختلافٌ عظيمٌ، اختلافٌ في أصْلِ العقيدةِ؛ فمثلًا من أصولِ عقيدةِ الشِّيعَةِ أنَّ عندهم رؤوسًا يُسَمُّونهم الأئمَّةَ، يدَّعون أن من هؤلاءِ الأئمةِ من يَعْلَمُ الغيْبَ، ويُدَبِّرُ الكوْنَ، وأن من أئمَّتِهِم من يَبْلُغُ منزلةً لا يبلُغُها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، يعني: معناها منزلةُ الربوبيَّةِ، هذا لا يُمْكِنُ أن نَتَّفِقَ معهم بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، ومنهم من يَسُبُّ الصحابةَ عمومًا إلا نفرًا قليلًا، ومنهم من يَلْعَنُ أبا بكرٍ وعمرَ، ويقول: إنهما ماتا على النفاقِ.

والعجيبُ أني رأيتُ في كتابِ ابْنِ حزمٍ رحمه الله (المِلَل والنِّحَل)

(1)

رأيتُ شِيعَةً تُكَفِّرُ عليًّا وتُكَفِّرُ أبا بكرٍ، كلا الإثنين، أمَّا أبو بكرٍ فتقول: لأنه ظَلَمَ بأخْذِ الخلافةِ، وأمَّا عليٌّ فإنه تراخى عن الواجبِ عليه، لماذا لم يَمْنَعْ أبا بكرٍ، فهذا معتدٍ وهذا مُفَرِّطٌ، وكلاهما كافرٌ؛ لم يبق إلا أن يقولوا الرسولُ عليه الصلاة والسلام لماذا لم يُعَيِّنْه من البدايةِ ويقطعُ النِّزاعَ، شيءٌ عجيبٌ.

وأقولُ: هذا لا يُمْكِنُ الإتفاقُ معه، لكنَّ الإتفاقَ مع المالكيَّةِ والشافعيَّةِ والحنابلةِ، هذا ممكنٌ، فالخلافَ بيْنَ المالكيَّةِ والشافعيَّةِ والحنابلةِ والأحنافِ، وما أَشْبَهَهم هذا ليس خلافًا في الواقعِ، إلا إنسانًا مُتعصبًا نقولُ: هذا الحقَّ، ويقولُ: لا.

(1)

الملل والنحل (1/ 174).

ص: 135

وهنا يقولُ الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} يعني: غَيْرُ مُغالين فيه، ولا مُقَصِّرِينَ. {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} اجتمعوا عليه.

وقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} قال المُفسِّر رحمه الله: [{كَبُرَ} بمعنى: عَظُمَ]، واشتدَّ عليهم، {عَلَى الْمُشْرِكِينَ} يعني: باللهِ، ما تدعوهم إليه من التوحيدِ؛ لأنَّ المُشركَ ما يَكْبُرُ عَلَيْهِ هو التوحيدُ، أَكْبَرُ شيءٍ عنده هو التوحيدُ، يعني: أكبرُ شيءٍ يشقُّ عَلَيْهِ هو التوحيدُ، ولهذا قالوا في الرسولِ صلى الله عليه وسلم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6] انظرْ صَبَّرُوا أنْفَسَهم على الشِّرْكِ - والعياذَ باللهِ - وقالوا في التوحيدِ: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ؛ أيْ: عجيبٌ جدًّا، والشيءُ العُجابُ حقيقةً هو إشراكُهُم باللهِ عز وجل الذي يُقِرُّونَ هم أنه خالِقُهُم، ولا خالقَ سواه.

من هنا نَأْخُذُ أن المشركين يَعْظُمُ عليهم التوحيدُ، وأقولُ لكم: إذا كان يَعْظُمُ عليهم التوحيدُ فلا بدَّ أن يفعلوا كلَّ سببٍ يَحُولُ بَيْنَ هذا التوحيدِ وقيامِهِ وانتشارِهِ، فكلُّ شيءٍ عظيمٌ عليك لا بدَّ أن تدافعَ عنه، فهم الآن حربٌ على التوحيدِ وأهْلِه.

ولهذا تَسْمَعُ الآن مُخططاتِ النصارى - على ما في ديانتِهم التي هم عليها من الضلالِ والمخالفةِ للمعقولِ والمحسوسِ -، تَجِدُهُم يَبُثُّون الإذاعاتِ القويَّةَ التي ليس فيها تشويشٌ، والتي تأتي في أوقاتٍ مناسبةٍ للدعوةِ إلى الدِّينِ الذي هم عليه، ما أقولُ إلى دينِ المسيحِ، فالمسيحُ بريءٌ منه، لكن إلى الدِّينِ الذي هم عليه، تَجِدُ بعضَ أهلِ البدعِ يَكْبُرُ عليهم جدًّا من يدعو إلى السُّنَّةِ، ويُحاربون من يدعو إلى السُّنَّةِ، ويُشَوِّهُونَ السُّمْعَةَ؛ لأنَّه عظيمٌ عليهم، فهنا يقول:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} .

ص: 136

يقولُ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ} {يَجْتَبِي} بمعنى: يختارُ ويصطفي، وقولُهُ:{إِلَيْهِ} قال المُفسِّر رحمه الله: [إلى التوحيد]. أعاد رحمه الله الضميرَ إلى التوحيدِ، ولكنْ فيه احتمالٌ أقوى مما قال، وهو أنَّ الضميرَ يعودُ إلى اللهِ عز وجل أي: اللهُ يجتبي إلى نَفْسِهِ عز وجل من يشاءُ، ويهدي إلى نفْسِه من يُنيبُ، وهذا أحسنُ مما سلك المُفسِّر؛ فاللهُ تعالى يختارُ إليه من يشاءُ - نسألُ اللهَ تعالى أنْ يَجْعَلَنا وإياكم ممن اختارهم إليه، وَيكْرَهُ آخرين - فالأوَّلُون يَهْدِيهم صِراطَهُ المستقيمَ، والآخرون يُضِلُّهُم؛ لأنَّهم هم الذين فعلوا السَّبَبَ.

وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} تقدَّم آنفًا قريبًا جدًّا أنَّ كلَّ شيءٍ عَلَّقَه اللهُ بالمشيئةِ فإنه مقرونٌ بالحكمةِ، لا يشاءُ شيئًا إيجادًا أو إعدامًا، أو تغييرًا إلا لحكمةٍ.

وقوله: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} قال المُفسِّر رحمه الله: [أي: من يُقْبِلُ إلى طاعته] يقولُ الشارحُ: من يُقْبِلُ إلى طاعتِه فهو يَهْدِيه اللهُ إليه. وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربِّهِ؛ أن اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: "ما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضْتُهُ عليه". يعني: الفرائضَ أحبُّ إلى اللهِ من النوافلِ "ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها"

(1)

وكذلك قال تبارك وتعالى في الحديثِ القدسيِّ: "من تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إليه ذراعًا، ومن تَقَرَّبَ إليَّ ذراعًا تَقَرَّبْتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"

(2)

فمن أناب إلى اللهِ، فإن اللهَ يَهديه إليه؛ ويُعِينُه ويُسَدِّدُه.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، رقم (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب الحث على ذكر الله تعالى، رقم (2675)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 137