الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّاعَةَ قَرِيبٌ} ولذلك من عباراتِ الناسِ: "كلُّ آتٍ قريبٌ، وكلُّ ماضٍ بعيدٌ".
قال المُفسِّر رحمه الله: [و {لَعَلَّ} معلقٌ للفعلِ عن العملِ، وما بعده سدَّ مسدَّ مفعولين]. {وَمَا يُدْرِيكَ} تَنْصِبُ ثلاثةَ مفاعيلَ:
المفعولُ الأولُ موجودٌ، وهو قولُهُ:{وَمَا يُدْرِيكَ} .
والمفعولُ الثاني والثالث تَنْصِبُه، ولكنه عُلِّقَ عن العملِ بالإتيانِ بـ {لَعَلَّ} ؛ لأنَّ (لعل) موجِبةٌ لتعليقِ أفعالِ القلوبِ عن العملِ، فتسدُّ مسدَّ المفعوليْنِ. فـ {لَعَلَّ} معلِّقٌ للفعلِ عن العملِ، والفعلُ المعلَّقُ هو {يُدْرِيكَ} وما بَعْدَه، أي ما بَعْدَ {لَعَلَّ} سدَّ مسدَّ المفعوليْنِ، والذي بَعْدَ {لَعَلَّ} هو {السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فيكونُ هنا {لَعَلَّ} عَلَّقَتْهَا عن العملِ؛ أي أَبْطَلَتْ عَمَلَها لفظًا دونَ المحلِّ، والمعلِّقاتُ كثيرةٌ، ذَكَرَها ابنُ مالِكٍ رحمه الله في الألفيَّةِ فَلْيُرْجَعْ إليها.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: علوُّ اللهِ عز وجل؛ لقولِهِ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن القرآنَ كلامُ اللهِ؛ لأنَ القرآنَ كلامٌ وإذا أضيفَ إنزالُهُ إلى أحدٍ صار كلامًا له وصفةً من صفاتِهِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن الكتبَ التي أَنْزَلهَا اللهُ نازلةٌ بحقٍّ فليس فيها باطلٌ، الباطلُ في الأخبارِ هو الكذبُ، والباطلُ في الأحكامِ هو الظُّلمُ والجَوْرُ والفسادُ، فكلامُ اللهِ عز وجل ليس فيه كذبٌ وليس به ظلمٌ ولا جورٌ ولا فسادٌ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنها نازلةٌ من عندِ اللهِ حقًّا؛ لقولِهِ: {بِالْحَقِّ} وذَكَرْنا في معناها وَجْهَيْنِ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثباتَ القياسِ؛ لقولِهِ: {وَالْمِيزَانَ} لأن الميزانَ ما تُوزَنُ به الأشياءُ ويُقَارَنُ بينها، ففيه إثباتُ القياسِ في الشرائعِ السَّماويَّةِ، وهذه المسألةُ - أعني مسألةَ القياسِ - أَنْكَرَهَا بعضُ العلماءِ، ولا سِيَّما الظاهريَّةُ - عفا اللهُ عنا وعنهم - وإنكارُهُم هو المُنْكَرُ؛ لأنَّ القياسَ جاء في الكتابِ والسُّنَّةِ، فهنا ذُكِرَ الميزانُ، والميزانُ ما تُوزَنُ به الأشياءَ وهذا لا يكونُ إلا بالقياسِ.
واعلم أن كلَّ مثلٍ ضَرَبَه اللهُ في القرآنِ فإنه مُثْبِتٌ للقياسِ؛ لأنَّ المقصودَ به قياسُ هذه الحالِ على هذه الحالِ، فقوله:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} [يونس: 24]، إلخ. عندنا هنا مُشَبَّهٌ وَمُشَبَّهٌ به، والتشبيهُ يقتضي المماثلةَ وإلحاقَ المُشَبَّهِ بالمشبَّهِ به، وهذا تمامًا هو القياسُ، وهذه خذها قاعدةً: كلُّ مثلٍ في القرآنِ فإنه يتضمَّنُ إثباتَ القياسِ.
وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، هذا فيه قياسُ أولويَّةٍ، ورسولُ اللهِ - صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - ذَكَرَ القياسَ في عدةِ أحاديثَ منها أنه شَبَّهَ قضاءَ الحجِّ عن الميِّتِ بقضاءِ الدَّيْنِ، ومنها أن رجلًا جاء إليه وقال: يا رسولَ اللهِ إن امرأتي وَلَدَتْ غلامًا أسودَ وهو والمرأةُ أبيضان فقال له النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ -: "هل لك من إِبِلٍ؟ " قال: نعم قال: "ألوانُها؟ " قال: حُمْرٌ قال: "هل بها من أَوْرَقَ؟ " قال: نعم، قال:"أنى لها ذلك؟ " ما الذي جاء بالأوْرَقِ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، لَعَلَّه نَزَعَه عِرْقٌ قال:"فوَلَدُكَ - أو قال: فابنُك - هذا لعلَّه نَزَعَه عِرْقٌ"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، رقم (5305)، ومسلم: كتاب اللعان، رقم (1500)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فإثباتُ القياسِ لا بدَّ منه، ولا يُمْكِنُ أن تتوسَّعَ الشريعةُ إلا بالقياسِ؛ لأنَّ أكثرَ الحوادثِ لم يوجَدْ بعينِهِ في النصوصِ لكن وُجِدَتْ قواعدُ وأصولٌ تَرْجِعُ إليه هذه الحوادثُ في حُكْمِها.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الإشارةُ إلى قُرْبِ الساعةِ؛ لقولِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17]، وسَبَقَ في التفسيرِ أنَّ المرادَ بالساعةِ الساعةُ العظمى الكبرى والساعةُ الصغرى، وهي موتُ كلِّ إنسانٍ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يَعْلَمُ متى تقومُ الساعةُ؛ لقولِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ} أي ما يُعْلِمُكَ؟ وهذا حقٌّ ثابتٌ "فإن جبريلَ عليه السلام سأل النبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - قال: أَخْبِرْنِي عن الساعةِ، فقال: "ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ"
(1)
؛ يعني: كما أنك أنت تَجْهَلُها فأنا أَجْهَلُها.
ولهذا من ادَّعَى علمَ الساعةِ فإنه كاذبٌ مكذَّبٌ؛ لقولِ الله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إثباتُ علوِّ اللهِ عز وجل؛ لقولِهِ: {أَنْزَلَ الْكِتَابَ} والمرادُ بالكتابِ هنا كلامُهُ عز وجل الذي أوحاه إلى رُسُلِهِ.
وَجْهُ الدلالةِ: أنَّ النزولَ يكونُ من الأعلى إلى الأسفلِ، وعلوُّ اللهِ سبحانه وتعالى ثابتٌ بالقرآنِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والعقلِ والفطرةِ، كلُّ الأدلةِ الممكنةِ حاصلةٌ لإثباتِ علوِّ اللهِ عز وجل، وهل العلوُّ علوٌّ ذاتيٌّ أو علوٌّ وصفيٌّ؟ بمعنى أن عُلُوَّه علوُّ صفةٍ أو علوُّ ذاتٍ وصفةٍ؟
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، رقم (8)، من حديث عمر رضي الله عنه.
الجوابُ: الثاني ذاتٌ وصفةٌ؛ لقولِهِ تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقولُهُ تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ} [النحل: 60] يعني الوصفَ الأعلى.
إذن فعلوُّ اللهِ عز وجل علوُّ ذاتٍ وعلوُّ صفاتٍ، علوُّ الصفةِ لا أعلمُ أحدًا ينتسبُ إلى الإسلامِ أَنْكَرَهُ، كلُّ المُنْتَسِبِين إلى الإسلامِ من مُبْتَدِعَةٍ وسُنِّيِّةٍ كُلُّهُم يؤمنون بعلوِّ اللهِ تعالى علوَّ صفةٍ؛ وهنا تختلفُ الأفهامُ فبعضُهُم يقولُ: من علوِّ صفتِه تعطيلُ صفاتِهِ! ! .
أمَّا علوُّ الذاتِ فهذا محلُّ المُعْتَرَكِ بيْنَ السُّنّيِّينَ والبِدْعِيِّينَ، انقسمَ الناسُ فيه إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
1 -
قِسْمٍ أَثْبَتُوه.
2 -
وقسمٍ نَفَوْهُ وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى لا يُقالُ: إنه فوقَ ولا تحتَ.
3 -
وقسمٍ: نَفَوْهُ وقالوا: إنه سبحانه وتعالى في كلِّ مكانٍ في السماءِ، وفي الأرضِ، في الأسواقِ، في المساجِدِ في المراحيضِ، وأعوذُ باللهِ في كلِّ شيءٍ.
إذن فالأقوالُ ثلاثةٌ:
القولُ الأوَّلُ: علوُّ اللهِ تعالى بذاتِهِ، أنه بذاتِهِ فوقَ كلِّ شيءٍ، دلَّ عَلَيْهِ الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والعقلُ والفطرةُ، نأخذُ من كلِّ نوعٍ بدليلِ القرآنِ، ما أكثرَ ما يقولُ اللهُ عز وجل في كتابِهِ {وَهُوَ الْعَلِيُّ} [سبأ: 23] والعليُّ هنا صفةٌ مُشَبَّهَةٌ، والصفَةُ المُشَبَّهَةُ صفةٌ ثبوتيَّةٌ لا تفارقُ مَوْصُوفَها.
ويقولُ عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الأعلى اسمُ تفضيلٍ حُذِفَ المُفَضَّلُ عَلَيْهِ؛ ليَدُلَّ على العمومِ يعني الأعلى على كلِّ شيءٍ، ونكتفي بهذا وإلا ففي القرآنُ
ما لا يحصى على وجوهٍ متنوعَةٍ.
أما في السُّنَّةِ: كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام إذا سَجَدَ يقولُ: "سبحانَ رَبِّيَ الأعلى"
(1)
، وقد دلَّتِ السُّنَّةُ القَوْلِيَّةُ والفعليَّةُ والإقراريَّةُ على علوِّ اللهِ عز وجل:
فقولُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى" هذا سُنَّهٌ قَوْلِيَّةٌ. وقولُهُ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - للجاريَةِ: "أين اللهُ؟ " قالت: في السماءِ، قال:"أَعْتِقْهَا فإنها مؤمنةٌ"
(2)
، هذه إقراريَّةٌ.
ورَفْعُ يَدهِ إلى السماءِ عندَ الدعاءِ
(3)
وهو يدعو اللهَ يا ربِّ، سُنَةّ فعليّة، وقد جَرَتِ السُّنَّةُ الفعليَّةُ في أكبرِ اجتماعٍ حَصَلَ للنبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - مع أصحابهِ، وذلك في يومِ عَرَفَةَ حين قال:"ألا هل بَلَّغْتُ؟ " قالوا: نعم قال: "اللهمَّ اشْهَدْ"
(4)
، "اللهُمَّ" إشارةٌ إلى علوِّ اللهِ. "اشْهَدْ" هذا سُفْلٌ عُلُوٌّ، سُفْلٌ للخَلْقِ وعُلُوٌّ للخالِق؛ قال:"ألا هل بَلَّغْتُ؟ " قالوا: نعم قال: "اللهُمَّ اشْهَدْ" ثلاثَ مراتٍ. يُشْهِدُ اللهَ عز وجل على إقرارِ أُمَّتِه بأنَّه بَلَّغَ.
ونحن واللهِ نَشْهَدُ أنه بَلَّغَ البلاغَ المُبينَ، وأنه عانى من أَجْلِ ذلك أكبرَ عناءٍ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ، هذه سُّنَّةٌ فِعْلِيَّةٌ، إذن السُّنَّةُ بجميعِ أنواعِها كلها دَلَّتْ على علوِّ اللهِ.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، رقم (772)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم (537)، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(3)
من ذلك ما أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب الإستسقاء في الخطبة، رقم (933)، ومسلم: كتاب صلاة الإستسقاء، باب الدعاء في الإستسقاء، رقم (897)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.
أما الإجماعُ: إجماعُ الصحابةِ وأئمَّةِ المسلمين من بَعْدِهِم على علوِّ اللهِ.
فإن قال قائلٌ: أَثْبِتْ لي قولًا واحدًا عن أبي بكرٍ أو عمرَ أو عثمانَ أو عليٍّ على أنهم قالوا: إن اللهَ عالٍ بذاتِهِ؟ ! .
قلنا: إن هؤلاء يقرؤون القرآنَ ويَعْرِفُونَ من السُّنَّةِ ما عَرَفوا، ولم يَرِدْ عنهم حرفٌ واحدٌ يدلُّ على نقيضِ ما جاء في القرآنِ، وكفى بذلك دليلًا. لو كان عندهم معارضةٌ لوَرَدَ عنهم خلافُ ما في القرآنِ، وهم يقرؤون القرآنَ وهم عَرَبٌ يعرفون المعنى ويعرفون المرادَ.
وهذا من أحسنِ ما يكونُ في تقريرِ إجماعِ الصحابةِ، يعني إذا أتاك إنسانٌ وقال لك: يا أخي أَثْبِتْ لي قولًا واحدًا عن الصحابةِ أنهم آمنوا بعلوِّ اللهِ بذاتِهِ، أقولُ: لا يحتاجُ أن أُثْبِتَه، قرؤوا القرآنَ، وعَلِمُوا من السُّنَّةِ ما عَلِموا ولم يَرِدْ عنهم حرفٌ واحدٌ يقولون فيه: إن اللهَ ليس في السماءِ أبدًا ولا إنه بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ وهذا إجماعٌ. هكذا كلُّ الصفاتِ لم يَرِدْ عن الصحابةِ ما يناقضُها، فهو دليلٌ على إجماعِه.
فإن قال قائلٌ: العقلُ هل يَدُلُّ على عُلُوِّ اللهِ؟
فالجوابُ: نعم يدلُّ على علوِّ اللهِ؛ لأنك لو سألْتَ أيَّ إنسانٍ هل العلوُّ أَكْمَلُ أو السفولُ؟ لقال لك: العلوُّ أكملُ لا شكَّ، حتى في أمورِ الدنيا يقالُ: هذا اللباسُ أعلى من هذا اللباسِ، كلٌّ يَعْرِفُ أن العلوَّ صفةُ كمالٍ، وإذا كان كذلك فالرَّبُّ موصوفٌ بالكمالِ عقلًا؛ ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه محتجًّا عَلَيْهِ بدليلِ العقلِ:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، هذا ما يُعْبَدُ، هذا استدلالٌ عقليٌّ.
أيضًا نحن نقولُ: العلوُّ باتفاقِ العقلاءِ صفةُ كمالٍ، والسفولُ باتفاقِ العقلاءِ صفةُ نقصٍ، فحينئذ ثَبَتَ للهِ العُلُوُّ الذاتيُّ عقلًا .. فبَقَيْنا بالفطرةِ، والفطرةُ لا تسألُ، اسألْ عجوزًا تدورُ بالرحى تَطْحَنُ الطحينَ: اسألْها: أين اللهُ؟ وهي ما دَرَسَتِ لا العقيدةَ الواسطيَّةَ ولا الطحاويَّةَ ولا غيرَهُ، اسألْها: أين ربُّكِ؟ تقولُ: في السماءِ ولا تتوقفُ لحظةً؛ لأنَّ هذا أمرٌ مفطورٌ عَلَيْهِ الخَلْقُ.
ويقالُ: إن أبا المعالي الجوينيَّ - عفا اللهُ عنا وعنه وهو إمامُ الحرمين - كان يتكلَّمُ على الإستواءِ، ومعروفٌ أن الأشاعرةَ - وهو من أئمةِ الأشاعرةِ - معلومٌ أنهم يُنكرون استواءَ اللهِ على العرشِ، يقولون: استوى على العرش. يعني استولى عليه لا يوجَدُ علوٌّ استولى عليه؛ فقال له أبو جعفرٍ الهَمَذَانِيُّ: يا شيخُ دَعْنا من ذِكْرِ العرشِ - يعني نبحثُ بحثًا آخَرَ - أَخْبِرْنَا عن هذه الفطرةِ ما قال عارفٌ قط: يا اللهُ إلا وَجَدَ من قلبِه ضرورةً لطلبِ العُلُوِّ - كلُّ إنسانٍ يقولُ: يا اللهُ اسألْه: أين يتجهُ قلبُهُ يمينًا أم يسارًا أم فوق؟ الجوابُ: فوق - فجعل يَلْطِمُ على رأسِه حَيَّرَنِي الهَمَذَانيُّ، حَيَّرَنِي الهَمَذَانِيُّ
(1)
.
وأُحَدِّثُكُم أنا عن مجلسٍ جمعني بعوامِّ مجلسٍ عاديٍّ مَقْهًى، تَكَلَّمَ أحدُ الطلبةِ في نفسِ المجلسِ وقال: إن أهلَ التأويلِ - يعني أهلَ التحريفِ - يقولون: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يقولون: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ثم استولى عليه! ! .
فدَعَا علَيه العامِّيُّ - وهو جَمَّالٌ يَحْمِلُ على الجمالِ يسافرُ من بلدٍ إلى آخَرَ -، دعا عليه بدعوةٍ معروفةٍ عندنا في العامِّيَّةِ يقولون: غَرْبَلَه اللهُ غَرْبَلَهُ اللهُ - يعني:
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (3/ 220).
عاقَبَه -؛ العرشُ منه أمْ قَبْل هذا! .
فانظرْ - سبحانَ اللهِ! - فِطرة؛ لأنَّه خَلَقَ ثم استوى، إذن: فالفطرةُ تدلُّ عليه.
فإن هذه المسألةَ فطريَّةٌ، كالإنسانِ مفطورٌ - لولا أن الشياطينَ اجتالته - على علوِّ اللهِ تعالى بذاتِهِ فوقَ كلِّ شيءٍ.
فإذن علوُّ اللهِ سبحانه وتعالى دلَّ عَلَيْهِ الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والعقلُ والفطرةُ.
القولُ الثاني في هذه المسألةِ: أن اللهَ تعالى لا يُوصَفُ بالعلوِّ إطلاقًا. اللهُ في كلِّ مكانٍ، ثم شَبَّهوا بقولِهِ تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]{أَيْنَ مَا} هذه ظرفُ مكانٍ. أي: في أيِّ مكانٍ كُنْتُمْ فاللهُ معكم. قال: اللهُ معك في كلِّ مكانٍ. إذا كنتَ في المسجِدِ يكونُ اللهُ في المسجِدِ، والمرحاضُ كذلك، والسوقُ كذلك، والطائرةُ أيضًا، فهل هذا يقولُه عاقلٌ؟ ويلزمُ من هذا القولِ:
أولًا: وصفُ اللهِ بما لا يليقُ أن يكونَ اللهُ في المراحيضِ والحمَّاماتِ والأماكنِ القَذِرَةِ والعاليةِ والسافلةِ.
ثانيًا: يلزمُ أحدُ أَمْرَيْنِ إما تَجَزُّؤُ اللهِ، وإما تَعَدُّدُ اللهِ، إن قالوا: بالتعددِ صِحْنَا بهم صيحةً تتقطعُ منها قلوبُهُم، نقولُ لهم: كَفَرْتُمْ وصرْتُم أَعْظَمَ من النصارى الذين قالوا: {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وأنتم تقولون: ملايينُ الملايينِ. وإن قالوا: يَتَجَزَّأُ، قلنا: الآن أَبْطَلْتُمْ قولَكم إذا كان يتجزَّأُ وكان مثلًا جزءٌ منه مع فلانٍ وجزءٌ مع فلانٍ، لم يَصِرْ مع فلانٍ وهو يقولُ:{وَهُوَ مَعَكُمْ} ولم يَقُلْ: جزءٌ منه معكم.
فأنتم الآن خُذِلْتُمْ - والحمدُ للهِ - وهذا واللهِ لا أظنُّ قدمَ مؤمنٍ باللهِ تَثْبُتُ
عليه، لا أظنُّ إنسانًا يؤمنُ باللهِ حقًّا تَثْبُتُ قدمُه على القولِ بأن اللهَ بذاتِه في كلِّ مكانٍ أبدًا.
أما ما لبثوا به وشبَّهوا من قولِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} فإننا نقولُ: لا يلزمُ من المعيَّةِ أن يكونَ في نفسِ المكانِ؛ ولهذا العربِ تقولُ في لغتِها: القمرُ معنا ومكانُهُ في السماءِ وهم يقولون: معنا.
العربُ تقولُ: المرأةُ مع زوجِها. يعني في عصمتِه، ولو كان هو في أقصى المشرقِ وهي في أقصى المغرِبِ. والقائدُ يوجِّهُ جُنْدَهُ إلى المعركةِ في الميدانِ وهو يقولُ: اذهبوا واغزوا باسمِ اللهِ وأنا معكم، وهو في مكانِهِ، فالمعيَّةُ مدلولهُا واسعٌ لا تستلزمُ الإختلاطَ لا في المكانِ ولا في الذاتِ. إذنِ الحمدُ للهِ هذا القولُ بأنه بذاتِهِ في كل مكانٍ هذا باطلٌ.
بَقِيَ لنا القولُ الثالثُ الذي يقولُ: لا تَصِفِ اللهَ أنه معك، ولا أنه فوق، ولا تحت، ولا متصلٌ، ولا منفصلٌ، ولا مبايِنٌ، ولا منحرفٌ، لا تصفِ اللهَ بعلوٍّ، ولا نزولٍ، ولا يمينٍ، ولا يسارٍ، ولا متصلٍ، بالخَلْقِ ولا مبايِنٍ. إذن هو عدمٌ؛ ولهذا قال بعضُ أهلِ العلمِ: لو قيل لنا: صِفَوا العدمَ ما وجدنا أدقَّ من هذا الوصفِ. ولمَّا جيءَ بابنِ فورك إلى الأميرِ محمدِ بنِ سبكتكين رحمه الله وهو من الأبطالِ - جيءَ إليه وقال له: صِفْ لنا رَبَّكَ قال: الرَّبُّ عز وجل ليس بداخلِ العالَمِ ولا خارجَ العالَمِ، ولا يمينٌ ولا يسارٌ، ولا متصلٌ ولا منفصلٌ، قال له: وصفْتَ ربَّكَ بالعدمِ، ولو أردْتَ أن تصفَهُ بالعدمِ ما وجدْتَ أحسنَ من هذا الوصْفِ، وسكت رحمه الله
(1)
؛ فاللهُ على هذا الزعمِ غيرُ موجودٍ، معدومٌ.
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (3/ 37)، ودرء تعارض العقل والنقل (6/ 253).
نسألُ اللهَ أن يُمِيتَنَا وإيَّاكم على ملَّةِ الإسلامِ وطريقِ الذين أنعم اللهُ عليهم.
فالقولُ الذي لا يرتابُ عاقلٌ في صحَّتِه ولا يُمْكِنُ أن يُؤْمِنَ الإنسانُ بسواه - إلا من اجتالته الشياطينُ - هو أن اللهَ سبحانه وتعالى عالٍ بذاتِهِ عالٍ بصفاتِهِ، ولا يُمْكِنُ أن تستقرَّ قدمُ مؤمنٍ باللهِ واليومِ الآخِرِ إلا على هذا القولِ.
وأنا رأيتُ بعضَ الناسِ الذين تَنْقُصُهُم الدرايةُ ما هو العلمُ إذا رأى إنسانًا يظنُّه من منكري العلوِّ أوَّل ما يُسَلِّمُ يقولُ: السلامُ عليكم .. وعليكم السلامُ، كيف أصبحْتَ؟ أين اللهُ؟ كيف هذا؟ ! هل الرسولُ عليه الصلاة والسلام يبدأ الناسَ بقولِهِ: أين اللهُ؟ هذا من الغلطِ أبدًا، ألا ابْسُطْ له القولَ ولا تناقشْهُ أيضًا إلا إذا فتح البابَ، هو مُسْلِمٌ، والأصلُ في الإسلامِ السلامةُ، لا تناقشْهُ إلا إذا فتحَ البابَ أو إذا رأيتَ المسألةَ يعني صَدْرُهُ متسعٌ، وهو نَفْسُه يستطعمُ منك فحينئذ ابدأْ، فالإحسانُ في الدعوةِ والحكمهُ في الدعوةِ أمرٌ مهِمٌّ.
فالرسولُ عليه الصلاة والسلام ما قال لهذه الجارَيةِ "أين اللهُ؟ "
(1)
إلا لسببٍ يقتضيه بالنسبةِ لهذه المرأةِ، والأعرابيُّ الذي شهد أنه رأى الهلالَ ماذا قال له؟ قال:"أتشْهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ اللهِ؟ "
(2)
، ما قال له أين اللهُ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعطاه اللهُ الحكمةَ يخاطبُ كلَّ إنسانٍ بما تقتضيه حالُه.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم (537)، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود: كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان، رقم (2340)، والترمذي: كتاب الصوم، باب ما جاء في الصوم بالشهادة، رقم (691)، والنسائي: كتاب الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان، رقم (2112)، وابن ماجه: كتاب الصيام، باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال، رقم (1652)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فإن قال قائلٌ: بالنسبةِ للأشاعرةِ هل هم من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، أم لهم تقسيمان؟
فالجوابُ: أولًا: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ هم الذين اجتمعوا على السُّنَّةِ وأخذوا بها، والإنسانُ قد يكونُ من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في شيءٍ دون آخَرَ، كما أن الإنسانَ يكونُ فيه خصائلُ كفرٍ وخصائلُ إيمانٍ، كذلك يكونُ فيه سُنَّهٌ وبدعةٌ، فالأشعريَّةُ - وأعني بذلك المذهبَ الأشعريَّ - كمذهبٍ ليس على مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ؛ لمخالفتِهم إياهم في كثيرٍ من الأشياءِ الأصوليَّةِ المهمَّةِ، كمسألةِ الصفاتِ، ومسألةِ الإيمانِ باليومِ الآخِرِ فيه مخالفاتٌ كثيرةٌ، ومسألةِ الإيمانِ وأعمالِ العبدِ، وغيرِ ذلك، لكن رجلًا من الناسِ نَعْرِفُ صِدْقَه وإخلاصَهُ في دينِ اللهِ ومدافَعَتَه عنه ذَهَبَ إلى قولٍ من أقوالِ الأشعريَّةِ لا نقولُ: إنه أشعريٌّ، بل نقولُ: هو من أهْلِ السُّنَّةِ لكن نقولُ: قال في ما قالت الأشعريَّةُ في كذا وكذا، أيضًا نقولُ: المسلمون الآن انقسموا إلى سُنَّةٍ وشيعةٍ، فباعتبارِ هذا التقسيمِ كلُّ من عدا الرافضةِ فهو سُنِّيٌّ بهذا التقسيمِ فالمسألةُ لها اعتباراتٌ.
فإن قال قائلٌ: ائتِني بدليلِ أن الصحابةَ أثبتوا علوَّ اللهِ بذاتِهِ، أو أَنْكَرُوا هذا.
فالجوابُ: هذا هو الأصلُ، لكن نحن نريدُ دليلًا ثبوتيًّا، أما الدليلُ السلبيُّ فهذا لا يحتاجُ نقولُ: هاتِ دليلًا على أنهم حَرَّفُوها كما قلتَ، وقد أشرْنا إليها قبل قليلٍ قلنا: إنه لم يَرِدْ عنهم حرفٌ واحدٌ أنهم قالوا: إن اللهَ ليس في السماءِ، ولا داخلَ العالَمِ، ولا خارجَهُ بحدٍّ، كلمةُ حدٍّ، وكلمةُ جسمٍ، وما أشبهَ ذلك من العباراتِ المُبْتَدِعَةِ التي يريدُ بها أهلُ التعطيلِ إلزامَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بما لا يليقُ باللهِ، فالحدُّ نوعان، نسألُ: أولًا كلمةُ حدٍّ لمْ تردْ في الكتابِ والسُّنَّةِ لا إثباتًا ولا نفيًا فلتكن جانبًا.
ثانيًا من حيث المعنى إن أردْتَ أن اللهَ محدودٌ بمعنى أنه منحازٌ عن الخلائقِ، ووحده شيءٌ آخرُ، والمخلوقاتُ شيءٌ آخرُ فهذا صحيحٌ، وإن أردْتَ أنه محدودٌ يعني أن شيئًا من المخلوقاتِ أحاط به فهذا باطلٌ، ولا نحتاجُ أن نقولَ: بحدٍّ، ولا بغيرِ حدٍّ، حتى إن بعضَ العلماءِ أَنْكَرَ أن يقولَ القائلُ: استوى على العرشِ بذاتِهِ، لا يحتاجُ أن نقولَ بذاتِهِ، لكن بعضَ السَّلَفِ اضْطُرَّ إلى كلمةِ بذاتِهِ دفعًا للبدعةِ.
كذلك: يَنْزِلُ إلى السماءِ الدنيا بذاتِهِ. لا نحتاجُ لكلمةِ بذاتِهِ؛ لأنَّ اللهَ أَضافَ الفعلَ لنفْسِه يَنْزِلُ إلى السماءِ الدنيا، لا يحتاجُ أن نقولَ: بذاتِهِ، معروفٌ من كلمةِ (يَنْزِلُ) أنه هو الذي يَنْزِلُ، لكن احتاجوا أن يقولوا: بذاتِهِ ردًّا على المبتدعةِ الذين قالوا: يَنْزِلُ اللهُ؛ أي: أَمْرُهُ. فقابلوا أَمْرَهُ في ذاتِهِ، وكلمةُ بذاتِهِ صحيحةٌ والتعبيرُ دلَّ عليها، وكلمةُ أَمْرِهِ باطلةٌ.
وليُنتبه فإن السلفَ رحمهم الله أحيانًا يُعَبِّرُونَ بأشياءَ يُضْطَرُّونَ إلى التعبيرِ بها، لكنها لا تخالفُ الحقَّ، وإن كان الأَوْلى تَرْكُها؛ لأنَّ الصحابةَ تركوها، لكن الصحابةَ هل لم تَظْهَرْ عندهم هذه البدعُ؛ ولهذا يقولُ: استوى على العرشِ، يَنْزِلُ إلى السماءِ، يأتي للفصْلِ بَيْنَ عبادِه، ولا يقولُ: بذاتِهِ؛ لأنَّه لم يكن عندهم من يقولُ: إنه يأتي أَمْرُه، أو يَنْزِلُ أمْرُه، أو ما أَشْبَهَ ذلك.
فكلمةُ "بذاتِهِ" تحقيقٌ للمعنى، ويُضْطَرُّ الإنسانُ إليها دفعًا لقولِ أهْلِ البدعِ، ليس لأنَّ المعنى لا يتمُّ إلا بها، فالمعنى يَتِمُّ بدونِها، كلُّ فعلٍ أضافه اللهُ إلى نفْسِه فالمرادُ نفْسُه، {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ} [الشورى: 29]، فلا تَقُلْ: بذاتِه، هو نفْسُه يَنْزِلُ إلى السماءِ لا يحتاجُ إلى قَوْلٍ بذاتِهِ، ما دام يَنْزِلُ؛ أي: هو، أَيْ نَفْسُ اللهِ، يأتي إلى القضاءِ أي هو، وهلمَّ جرًّا ..
لكنَّ السلفَ رحمهم الله مُضْطَرُّونَ إلى قولٍ لا يُخالفُ المرادَ؛ دفعًا لباطلِ ابتدعه أهلُ البِدَعِ. مثلًا قال اللهُ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، ألا تعلمون أنه لم يَشْتَهِرْ عن السلفِ إلا قولُهُم: هو معهم بِعِلْمِه. قالوا هذا، كما قال عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، نقولُ: هو معهم بعِلْمِه، ولا نقولُ كما يقولُ هؤلاء هو في الأرضِ
(1)
، فَقَصْدُه معهم بِعِلْمِه ردًّا لمن قالوا: إنه معهم بذاتِهِ. يعني في المكانِ الذي هم فيه.
لكن لو رَجَعْنا إلى مدلولِ الآيةِ، بقطعِ النظرِ عن الرَّدِّ على أهلِ البِدَعِ، قلنا:{وَهُوَ مَعَكُمْ} كما عرف الله خلق إلى نفْسِه، وهو معهم أي نَفْسُه؛ لكن لا يَلْزَمُ من المعيَّةِ أن يكونَ في الأرضِ، بل هو بالنِّسبةِ للهِ تعالى مُمْتنعٌ غايةَ الإمتناعِ، انتبهوا لهذا، مع أنَّه معنا بعِلْمِه، وسَمْعِه، وَبَصَرِه، وسُلْطَانِه، وتدبيرِه، وكلُّ ما تقتضيه معاني الربوبيَّةِ؛ لكنَّ هناك ظروفًا تلجئُ الإنسانَ إلى القولِ إلى شيءٍ زائدٍ عن النصِّ؛ لتوضيحِ النصِّ، والرَّدِّ على من حَرَّفَه.
أرأيتُم التَّسَلْسُلَ مثلًا، التسلسلُ أصولُ الخلافِ فيه ثلاثةٌ: المنعُ في المستقبلِ والماضي، الجوازُ في المستقبلِ والماضي، الجوازُ في المستقبلِ والمنعِ في الماضي. والتسلسلَ في الواقعَ أنه من المُحْدَثاتِ، هل اللهُ عز وجل لم يَزَلْ ولا يزالُ فعالًا؟ أو كان في الأولِ مُعَطَّلًا عن الفعلِ ثم فَعَلَ؟ هذا واحدٌ. وهل لا يزالُ فعَّالًا؟ أو سيأتي اليومُ الذي تنتهي فيه الخلائقُ، ويفنى كلُّ شيءٍ، هذا اثنان، أو أنَّ اللهَ تعالى لم يزلْ في الماضي، ولا يزالُ في المستقبلِ فعَّالًا. الثالثُ هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه؛ أنه لم يَزَلْ ولا يزالُ فعَّالًا، لكنَّ فِعْلَه تابعٌ لمشيئتِه، إنْ شَاءَ فَعَلَ، وإن شاء لم يَفْعَلْ.
هذا القولُ وهو جوازُ التسلسلِ في الماضي والمستقبلِ هو المُتَعَيَّنُ، الجنَّةُ باقيةٌ أبدًا،
(1)
انظر: خلق أفعال العباد للبخاري (ص: 30)، والأسماء والصفات للبيهقي رقم (903).
وما يحدُث فيها من النعيمِ مُتسلسلٌ إلى ما لا نهايةَ له، وكذلك النَّارُ.
وفي الماضي لم يُخْبِرْنَا اللهُ عز وجل إلا عن خلقِ السَّمواتِ والأرضِ والعرشِ، وما أَشْبَهَ ذلك، لكن نَعْلَمُ أنَّ اللهَ عز وجل له أن يَفْعَلَ ما شاء قَبْلَ هذه المخلوقاتِ؛ لأنَّه قادرٌ، والقادرُ على الشيءِ يجوزُ أن يَفْعَلَ، وقولُهُ عز وجل:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، يَشْمَلُ الماضيَ والمستقبلَ، وهذا هو الذي دلَّ عَلَيْهِ الكتابُ والسُّنَّةُ والعقلُ، وإن كان بعضُ الناسِ أَنْكَرَ على شيخِ الإسلامِ رحمه الله حين صَرَّحَ بجوازِ التسلسلِ في الماضي
(1)
، وقالوا: هذا لا يُمْكِنُ، إذا قلتَ بالتسلسلِ في الماضي لَزِمَ أن يكونَ الخلقُ مع الخالقِ، وهذا باطلٌ إلى أَبْعَدِ الحدودِ.
هل يلزمُ أن يكونَ الفعلُ مع الفاعلِ؟ إذا قلتَ: إن اللهَ فَعَّالٌ، لا يلزمُ، بل من الضروريِّ أنَّ المفعولَ قد سَبَقَهُ فِعْلٌ، وأنَّ الفِعْلَ قد سَبَقَه فاعلٌ مُريدٌ، هذا شيءٌ عقليٌّ.
فأنا أقولُ لكم: البحثُ في التسلسلِ، وإتعابُ النفوسِ فيه، وإتعابُ الأفكارِ، وملءُ الأسفارِ منه، كلُّ هذا إنما حَدَثَ حينما قال به أهلُ البدعِ، ودخل على الأمةِ الإسلاميَّةِ حين عُرِّبَتِ الكتبُ الرومانيَّةُ واليونانيَّةُ، وإلا فالناسُ في غفلةٍ عن هذا، على فِطَرِهِمْ أن رَبَّنَا عز وجل لم يَزَلْ ولا يزالُ فعَّالًا، وأن ذلك لا يَسْتَلْزِمُ قِدَمَ الحوادِثِ؛ فالمفعُولاتُ شيءٌ، والفاعلُ شيءٌ آخرُ، انتبهوا لهذه المسائلِ، لو فَكَّرْتُم لوجدْتُم الطريقَ الأسلمَ والأعلمَ والأحكمَ طريقَ السَّلَفِ.
واستمعْ إلى القَوْلَةِ المشهورةِ الباطلةِ، التي تَجِدُونَها في كتبِ من عُرِفُوا بالصلاحِ والإصلاحِ، يقولون:"طريقةُ السلفِ أَسْلَمُ، وطريقةُ الخلَفِ أَعْلَمُ وأَحْكَمُ".
(1)
انظر: درء التعارض (1/ 368).
سبحانَ اللهِ! كيف تَكُونُ أَعْلَمَ وأَحْكَمَ ولَيْسَتْ بأَسْلَمَ، لأنَّا نعلمُ أنَّ الأعلمَ والأحكمَ يَجِبُ أن يَكُونَ الأسلمَ، ونعلمُ أيضًا أنكم إذا أَقْرَرْتُم أنَّ طريقةَ السَّلَفِ أَسْلَمُ فهي الأعلمُ والأحكمُ؛ لكن هؤلاء أتوا حيث لم يفهموا طريقةَ السَّلَفِ، ظنُّوا أنَّ طريقةَ السَّلَفِ التفويضُ، وأنْ نكونَ أمامَ آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها كالأُمِّيِّين الذين لا يَعْلَمُونَ عن الكتابِ إلا أمانِيَّ، يظنُّون أنَّ السلفيَّ إذا قلتَ له:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ما معنى {وَجَاءَ} ؟ اللهُ أعلمُ، لا أدري. {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ما معناه؟ قال: لا أدري. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ما معناه؟ قال: لا أدري.
هذا رأيُهُم في مَذْهَبِ السَّلَفِ، وهل هذا حقيقةُ مذهبِ السَّلَفِ؟ لا، أبدًا السَّلَفُ يقولُ: نَعْرِفُ المعنى، نَعْرِفُ {وَجَاءَ رَبُّكَ} أنه أتى عز وجل على وَجْهٍ يليقُ بجلالِهِ، أنَّ له وجهًا يليقُ بجلالِهِ، أنَّ له استواءً يليقُ بجلالِهِ، نَعْلَمُ هذا، ونعرفُ المعنى لكن تسأَلُنِي الكيفيَّةَ لا أستطيعُ أن أتكلَّمَ؛ لأَنَّه ليس لي عِلْمٌ بهذا.
هم لمَّا ظنوا أنَّ مذهبَ السلفِ هو التفويضُ - يعني: تفويضُ المعنى والكيفيَّةِ - قالوا: طريقةُ الخلفِ أَعْلَمُ وأَحْكَمُ. ونحن معهم، إذا كان مَذْهَبُ السلفِ أنهم لا يَفهمون المعنى؛ فالذي يَفْهَمُ المعنى أحسنُ من الذي لا يَفْهَمُ، لا شكَّ في هذا، وإن كان فَهْمَهُم خاطئًا لكن طريقَتَهُم سليمةٌ، إلا أننا نقولُ لهم: طريقةُ السلفِ إثباتُ المعاني، وهذا مشهورٌ متواترٌ عنهم، يقولون في آياتِ الصفاتِ وأحاديثِها: أَمَرُّوها كما جاءت بلا كَيْفٍ.
هذه الجملةُ التي اتفق عليها السَّلَفُ، تدلُّ على أنهم يُثْبِتُونَ المعنى من وجهين: أولًا: أنَّهم قالوا: أَمَرُّوهَا كما جاءت. ونحن نَعْلَمُ أنَّ اللهَ تعالى أتى بها، ورسولَهُ أتى بها لإثباتِ معانٍ؛ ليس لتُقْرَأَ ألفاظًا جوفاءَ.
ثانيًا: قولُهُم: بلا كيفٍ؛ يدلُّ على ثبوتِ أصْلِ المعنى؛ لأنَّ نفيَ الكيفِ عما ليس بموجودٍ لغوٌ من القولِ، فإذنْ أصلُ المعنى موجودٌ، والكيفيَّةُ مجهولةٌ، والإمامُ مالكٌ رحمه الله حين سُئِلَ عن الإستواءِ، قال: الإستواءُ غَيْرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بِدْعَةٌ
(1)
.
هم لما ظنوا أنَّ السَّلَفَ لا يُثْبِتُونَ المعانيَ قالوا: إنها أَسْلَمُ، ونحنُ نَقُولُ لهم: إمَّا أن تكونوا كاذبين على السَّلَفِ، أو جاهلين بحقيقةِ مَذْهَبِهم، لا تَخْرُجُون عن هذا، فكلامُهُم هذا عن السلفِ لا يخلو من ظُلْمٍ، وهو إما القولُ بلا عِلْمٍ، أو الكذبُ على السَّلَفِ، وكلاهما ظُلْمٌ؛ فهُم ظالمون للسلفِ بهذا الكلامِ، الذي قالوا: إنه مذهبُ السلَفِ.
فمن يقولُ: إن أَهْلَ السُّنَّةِ قِسمانِ مُفَوِّضَةٌ وَمُؤَوِّلَةٌ، نقول له: لا تَكُنْ كالغرابِ أراد أن يُقَلِّدَ كالحمامةِ ولم يَعْرِفْ، ثم أراد أن يَرْجِعَ إلى مِشْيَتِهِ وَضَيَّعَهَا، فَبَقِيَ لا شيءَ عنده؛ فمن قال: إن أهلَ السُّنَّةِ أهلُ تفويضٍ على وَجْهِ الإطلاقِ فهو كاذبٌ، بل أهلُ السُّنَّةِ مُفَوِّضَةٌ للكيفيَّةِ، غيرُ مُفَوِّضَةٍ للمعنى، وكلامُ الإمام مالكٍ رحمه الله الذي تقدَّم واضحٌ قال:"الإستواءُ غَيْرُ مجهولٍ، وَالكَيْفُ غيرُ معقولٍ". هنا نُفَوِّضُ.
والظاهرُ أن المُفَوِّضَةَ خرجوا بعدما خَرَجَتْ بِدْعَةُ التعطيلِ، فقد عجزوا أن يُقابلوا أهلَ التعطيلِ فقالوا: إذن نُفَوِّضُ، لأنَّ أهلَ التعطيلِ الجهميَّةَ صار لهم شأنٌ كبيرٌ، فضغطوا على علماءِ السُّنَّةِ، وعَجَزُوا عن مقاوَمَتِهم، فقالوا: إذن لا نقولُ لا بهذا ولا بهذا، نُفَوِّضُ الأمرَ.
(1)
أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (664)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (867)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 325)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (104).
وأما من زَعَمَ أن الإمامَ مالكًا رحمه الله مُفَوِّضٌ فقد كَذَبَ، هذا كلامُهُ قال:"الإستواءُ غيرُ مجهولٍ". يعني معلومٌ ولا يَجْهَلُهُ أحدٌ، وأما قولهم:"أَمَرُّوها كما جاءت"، فنعم - واللهِ - قالوا هكذا: أَمَرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ. هذا حقٌّ.
فإن قال قائلٌ: إذا أَمْرَرْنَاها كما جاءت، فهل نُثْبِتُ اللفظَ فقط دون المعنى؟
فالجوابُ: لا؛ لأنَّها ألفاظٌ جاءت لمعانٍ لم يُنْزِلْهَا اللهُ عز وجل ألفاظٌ جوفاءُ لا معنى لها، أو لها مئةُ معنًى ولا ندري أيها المرادُ أبدًا، فنقولُ: أَمْرَرْنَاها كما جاءت؛ أي: ألفاظًا لمعانٍ، ثم قولُهُم: بلا كَيْفٍ. يدلُّ على إثباتِ المعنى؛ لأنَّه لولا ثبوتُ المعنى ما صحَّ أن يقولوا: بلا كيفٍ؛ إذ نفيُ الكيفِ عما ليس بالموجودِ لغوٌ من القولِ، يُنَزَّهُ عنه كلامُ السلفِ.
فمن استدلَّ بقولِ السَّلَفِ هذا قلنا: هذا دليلٌ عليك وليس لك، وأنا أعطيكم فائدةً: عن شيخِ الإسلامِ ابْنِ تيميَّةَ رحمه الله كلُّ إنسانٍ يَسْتَدِلُّ بدليلٍ صحيحٍ ثبوتًا، فإنه سيكونُ دليلًا عليه، سبحانَ اللهِ! كلُّ إنسانٍ يستدلُّ بدليلٍ صحيحٍ ثبوتًا على باطلٍ فسيكونُ دليلًا عليه.
هذه قاعدةٌ، وشيخُ الإسلامِ الْتَزَمَ بها قال: أنا أَلْتَزِمُ أن كلَّ إنسانٍ يأتي بدليلٍ صحيحٍ ثبوتًا يعني: ثابتًا ثبوتًا لا شكَّ فيه على باطلٍ؛ أَلْتَزِمُ أن أَجْعَلَه دليلًا عليه؛ لأنَّ استدلالَ أهلِ الباطلِ بالدليلِ الصحيحِ معناه: أنه يَشُمُّ منه رائحةَ المعنى، ولا يُمْكِنُ أن يكونَ المعنى الذي يُشَمُّ من هذا الإستدلالِ باطلًا.
ولذلك تَأَمَّلْ - إذا فَتَحَ اللهُ عليك - جميعَ الأقوالِ الباطلةِ التي يستدلُّ قائلوها بدليلٍ صحيحٍ من الكتابِ والسُّنَّةِ، فسترى أن ما استدلوا به دليلٌ عليهم، هذه الجملةُ التي ذُكِرَتْ أَمَرُّوهَا كما جاءت بلا كيفٍ، الآن فَهِمْنَا أنها تَرُدُّ عليهم من وَجْهَيْنِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أننا إذا أَمْرَرْنَاها كما جاءت لَزِمَ من ذلك إثباتُ المعنى؛ لأننا نَعْلَمُ أن اللهَ لن يخاطِبَنَا بشيءٍ لا نَعْرِفُ معناه أبدًا، لا يُمْكِنُ هذا، لا سِيَّما في أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ التي هي العقيدةُ.
فالمُفَوِّضُ لا يُثْبِتُ معنًى أصلًا، يعني: هؤلاء المُفَوِّضَةُ نقرأُ عليهم قولَ اللهِ تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] إلى آخر السُّورةِ، سبعةَ عَشَرَ اسمًا! نقول له: ما معناها؟ فيقول: واللهِ لا ندري. ونقول: تُثْبِتُ أن له رحمةً؟ قال: لا أدري. ونقول: تُثْبِتُ أنه مَلِكٌ له المُلْكُ؟ قال: لا أدري! أنا عليَّ أن أَقْرَأَ القرآنَ فقط.
فهل يُعْقَلُ أن يكونَ هذا مذهبًا لأهلِ السُّنَّةِ، هذا مذهبٌ للجهَّالِ وعلماءُ السُّنَّةِ - والحمدُ للهِ - فيهم العلماءُ الفحولُ، الذين جمعوا بَيْنَ العِلْمِ بالمعقولِ والمنقولِ، ثم يا سبحانَ اللهِ، هل يُمْكِنُ أن نقولَ: إن أبا بكرٍ، وعُمرَ، وعثمانَ، وعليًّا، وابْنَ مسعودٍ، وابْنَ عبَّاسٍ، وغَيْرَهم يَقْرؤون القرآنَ وهم لا يعرفون معناه في أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ؟ إن كنا نعتقدُ هذا فهو أكبرُ قَدْحٍ في الصحابةِ، بل إنهم يقولون: إن الرسولَ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بالحديثِ ولا يدري معناه، أعوذُ باللهِ.
قالوا: إنه قال: "يَنْزِلُ رَبُّنا إلى السماءِ الدُّنْيا حين يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخِرُ"
(1)
ما معناها يا رسولَ اللهِ؟ أيقول: واللهِ لا أدري! فهل يُعْقَلُ هذا؟ ! لكن عند المضايقاتِ في المناظرةِ تَجِدُ الإنسانَ يرتقي مرتقًى صعبًا هو نَفْسُهُ يَعْرِفُ أنه غيرُ صوابٍ لو تَأَمَّلْ.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، رقم (1145)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، رقم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الثاني: قولُهُم: بلا كيفٍ. يدلُّ على أن المعنى موجودٌ، ولولا ثبوتُ أصلِ المعنى ما صحَّ أن يقولوا: بلا كيفٍ.
مسألةٌ: المعِيَّة إذا قُلنا أنَّ مَعناها العِلم فَسَّرْنَاها بلازِمِها، وقصَّرْنا في معناها؛ لأَنَّه معهم بعِلْمِه وسَمْعِهِ وبَصَرِه وسلطانِه، وغيرِ ذلك، كما ذكر ذلك ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ
(1)
رحمه الله وقد ذَكَرَ ابنُ رجبٍ أيضًا في جامعِ العلومِ والحِكَمِ
(2)
أنَّه ليس معهم بالعلمِ فقط، بل بكلِّ ما تقتضيه الربوبيَّةُ: من علمٍ، وسمعٍ، وبصرٍ، وقدرةٍ، وسلطانٍ، وغيرِ ذلك.
ثانيًا: المَعيَّةُ شيءٌ والعلمُ من لازِمِها ومقتضياتِها، فهي أشملُ إحاطةً ومعنًى، لكنهم يُفَسِّرُونها بالعِلْمِ، ردًّا لقولِ أولئك القومِ الذين يقولون إن اللهَ معَنا في نفسِ المكانِ، والعامِّيُ عندما تقولُ له: المَعِيَّةُ لها معنًى، والعِلْمُ مُقتضاها ولازِمُها لا يَفْهَمُ، والحملةُ الشديدةُ في ذلك الوقتِ في زمنِ الأئمةِ بالنسبةِ لتحريفِ المعيَّةِ، فلذلك أتوْا بهذا المعنى السَّهْلِ، الذي يَتَصَوَّرُه الإنسانُ عن قُرْبٍ.
* * *
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 528).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 471).