المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (11) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌ ‌الآية (11) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ

‌الآية (11)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

* * *

{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {فَاطِرُ} خبرُ المبتدأِ المحذوفِ، والتقديرُ: هو فاطرُ، وإنما قلنا هذا؛ لأنَّ اللغةَ العربيَّةَ لا يُمْكِنُ أن يَتَرَكَّبَ بها الكلامُ إلا من مبتدأٍ وخبرٍ، أو فعلٍ وفاعلٍ، أو ما ينوبُ منابَ الفعلِ.

{فَاطِرُ} ؛ أي: هو فاطرُ، والفاطرُ بمعنى: الخالقُ على غير مثالٍ سَبَقَ فهو بمعنى: بديعُ السَّمواتِ، والسَّمواتُ والأرضُ معروفان، السَّمواتُ: هي هذه السَّمواتُ السبعُ التي أَخْبَرَنَا اللهُ عنها، وبيَّنَ أنها سبعٌ شدادٌ، وبَيَّنَ أنه سبحانه وتعالى بناها بأيدٍ، فقال تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]؛ أي: بقوَّةٍ، وليس المرادُ بالأيْدِ في هذه الآية يَد اللهِ عز وجل؛ لأنَّ اللهَ لم يُضِفْهَا إلى نفْسِه لم يَقُلْ: بأيدينا، قال {بِأَيْدٍ} وَ {أَيْدٍ} مَصْدَرُ آدَ يَئِيدُ، إذا قَوِيَ، فهو كقولِهِ:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12]، هذه السَّبْعُ الشدادُ إذا كان يومُ القيامةِ فقد قال اللهُ عنها: إنها تكونُ واهيةً {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ؛ أي: ضعيفةً.

أما الأرضُ فهي أرْضُنا المعروفةُ، والسَّمواتُ مجموعةٌ؛ لأنَّها سبعٌ، والأرضُ

ص: 94

مفردةٌ يراد بها الجنسُ، وقد بَيَّنَ اللهُ عز وجل في سورةِ الطلاقِ أنها سبعٌ، فقال اللهُ تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]، فقال:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ومن المعلومِ أن المماثلةَ هنا ليست مماثلةً في الذاتِ، إذ إِنَّ بَيْنَ السَّمواتِ والأرضِ بَوْنًا شاسعًا، لكن المرادَ مِثْلُهُنَّ في العددِ، ويُؤَيِّدَ ذلك ما جاءت به السُّنَّةُ، فقد قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ:"من اقْتَطَعَ شبرًا من الأرضِ ظلمًا طَوَّقَهُ اللهُ به يومَ القيامةِ من سَبْعِ أرَضين"

(1)

.

قال المُفسِّر رحمه الله: [{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُبْدِعُهُمَا] يريدُ أن يُفَسِّرَ {فَاطِرُ} بمعنى مبدعٍ، ولكنا فَسَّرْناها بمعنى بديعٍ، وتفسيرُنَا لا ينافي تفسيرَهُ المعنى واحدٌ، لكن مُطَابَقَةَ اللفظِ لما جاء به القرآنُ أَوْلَى والذي جاء في القرآنَ {بَدِيعُ} .

{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ؛ أي: صَيَّرَ لكم من أنْفُسِكم أزواجًا، قال المفسِّر رحمه الله:[حيث خَلَقَ حواءَ من ضِلعِ آدَمَ] فكأنه يَميلُ رحمه الله إلى أن المرادَ بالأزواجِ هنا حواءُ، ولكن هذا غيرُ صحيحٍ، بل جَعَلَ من أنْفُسِنا أزواجًا يعني: نساءً مُشَاكِلَاتٍ لنا لم تَكُنِ الأنثى بعيدةً عن شَكْلِ الرجلِ؛ لأنَّها لو كانت بعيدةً عن شَكْلِ الرجلِ ما أَلِفَهَا، ولا جَعَلَ اللهُ بينهم مودةً ورحمةً.

وقولُهُ: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ؛ أيْ: من جِنْسِكم، وليس المرادُ من نفْسِ الإنسانِ جَعَلَ له زوجةً، لا لو كانت من نفْسِهِ لم تكن زوجةً؛ لأنَّها تكون بِنْتَه، ولكن المرادَ {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: من جِنْسِكُم، كما قال اللهُ تعالى: {آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (2452، 2453)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610)، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.

ص: 95

أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، وَجَعَلَ لكم أيضًا {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} الأنعامَ جَمْعُ نَعَمٍ كبهيمةِ الأنعامِ.

{أَزْوَاجًا} قال المُفسِّر رحمه الله: [أي: ذكورًا وإناثًا] من أَجْلِ الإنتاجِ والتنميةِ وغيرِ ذلك من المصالحِ.

{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} قال المُفسِّر رحمه الله: [بالمعجمةِ يَخْلُقُكم] ما معنى المعجمةِ؟ هل في القرآنِ شيءٌ عجميٌّ؟ لا، لكن يُعَبِّرُونَ عن المنقوطِ بأنه مُعْجَمٌ من بابِ تسميَةِ الشيءِ بِضِدِّهِ، وإلا فهو مُعْرِبٌ في الواقعِ؛ لأنَّه لولا هذه النقطُ مثلًا لأَشْكَلَ ولم يُفْهَمِ المعنى، إذن؛ المُعْجمُ: المُنَقَّطُ، وسُمِّيَ بذلك من باب تسميةِ الشيءِ بضِدِّهِ، كما يُسَمُّونَ التعبُّدَ بالتحنُّثِ، كما في حديثِ بدءِ الوحيِ "يَتَحَنَّثُ فيه"

(1)

؛ أي: يَتَعَبَّدُ.

المُعْجَمَةُ ضِدُّهَا المُهْمَلَةُ، فالشِّينُ ضدُّ السِّينُ، والذالُ معجمةٌ ضدَّ الدالِ، أمَّا الحركاتُ فيُسَمُّونَها مُثَلَّثَةً، أو بالوجْهَيْن، أو ما أَشْبَهَ ذلك، وأحيانًا يقولون: إذا كانت الكلمتان المشتبهتان كلتاهما معجمةٌ قالوا: بالمثلثةِ مثلَ: (التاءِ) و (الثاءِ) لو قالوا: معجمةٌ لم يَزَلِ الإشكالُ، ولكن يقولون: بالمثلثةِ، (الطاءُ) و (الظاءُ) يقولون: بالظاءِ المُشالةِ؛ يعني: الذي فيها ألفٌ، احترازًا من (الضادِ)؛ لأنَّها غيْرُ مشالةٍ. المهمُّ أنها اصطلاحاتٌ معروفةٌ عندَ العلماءِ.

وقولُ المُفسِّر رحمه الله: [{يَذْرَؤُكُمَ} يَخْلُقُكُمْ] فَسَّرَ (يَذْرَأُ) بِـ (يَخْلُقُ)، وهو تفسيرٌ ناقصٌ؛ لأنَّ يَذْرَأُ لها معنًى زائدٌ على الخَلْقِ، وهو البثُّ والإنتشارُ، كما قال اللهُ تعالى في آيةٍ أخرى:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، فالذَّرْءُ أخصُّ من

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، رقم (160)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 96

الخَلْقِ، فمعنى {يَذْرَؤُكُمْ} إذن: يَبُثُّكُم وَينْشُرُكُم.

قال المُفسِّر رحمه الله: [{فِيهِ}؛ أي: الجعلُ المذكورُ، أي يُكَثِّرُكُم بسبَبِهِ] انظرْ فَسَّرَ الأوَّلَ {يَذْرَؤُكُمْ} بـ (يَخْلُقُكُم) ثم قال [أي: يُكَثِّرُكُم] والتفسيرُ الثاني هو الأصحُّ، التكثيرُ والبثُّ والنَّشْرُ.

قال رحمه الله: [بالتوالُدِ والضميرُ للأناسيِّ والأنعامِ بالتغليبِ]{يَذْرَؤُكُمْ} يقولُ: إن الضميرَ - وهو الكافُ والميمُ - للأناسيِّ والأنعامِ، الأناسيُّ يعني: البشرَ، والأنعامَ: البهائمَ، للتغليبِ؛ لأنَّ الضميرَ هنا جاء ضميرَ العاقلِ، والأنعامُ لا يأتي لها ضميرُ العاقلِ؛ لأنَّها غيرُ عاقلةٍ، لكن جاء ذلك للتغليبِ لمَّا كان الذَّرْءُ للإنسانِ والبهائمِ قال:{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ولم يَقُلْ: يَذْرَؤُكُنَّ.

إذَن: التغليبَ قد يكونُ بتغييرِ الإسمِ، وقد يكونُ بالضميرِ، وما أَشْبَهَ ذلك، القمران للشمسِ والقمرِ تغليبٌ بتغييرِ الإسمِ؛ لأنَّ القمران لو فُكَّتْ عن التثنيةِ لكانت قمرٌ وقمرٌ، وليس كذلك المرادُ قمرٌ وشمسٌ، فهنا بتغييرِ الإسمِ.

الضميرُ هنا في قولِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ} يعودُ على ما سَبَق ذِكْرُهُ من بهائِمَ وأناسيَّ على سبيلِ التغليبِ، لولا التغليبُ لوجب أن يكونَ الضميرُ ضميرًا مؤنثًا للبهائمِ وضميرًا مذكَّرًا للأناسيِّ.

قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} قال المُفسِّر رحمه الله: [{السَّمِيعُ} لما يقالُ {الْبَصِيرُ} لما يَفْعَلُ] جلَّ وعلا.

وقوله رحمه الله: [{لَيْسَ كَمِثْلِهِ} الكافُ زائدةٌ؛ لأنَّه تعالى لا مِثْلَ له] الكافُ زائدةٌ، وزيادةُ الكافِ ليست غريبةً تأتي دائمًا زائدةً؛ ولهذا قال ابنُ مالكٍ رحمه الله في

ص: 97

الألفيَّةِ - التي ينبغي لطالبِ النحْوِ ألَّا يتركَ حِفْظَهَا - يقولُ:

شبِّه بكافٍ وبها التعليلُ قد

يُعنى وزائدًا لتوكيدِ وَرَدَ

(1)

(شبِّه بكافٍ): تشبيهٌ، (وبها التعليلُ قد يُعنى) أي: قد يُرادُ بها التعليلُ، (وزائدًا) لتوكيدِ (وَرَدَ): يعني: وقد تأتي زائدةً.

في هذه الآيةِ الكافُ زائدةٌ بمعنى أنها لو حُذِفَتِ لاستقام الكلامُ، لو قيل: ليس مِثْلَهُ شيءٌ. يستقيمُ الكلامُ لا شكَّ، لكن جاءت الكافُ للتوكيدِ؛ كأنه نفى المِثْلَ مَرَّتَيْنِ: ليس كهو ليس مثلَهُ، فالزيادةُ هنا فيها زيادةُ المعنى، وهو أن كأنه نفى المثليَّةَ مَرَّتَيْن: مرَّةً عن طريقِ الكافِ، ومرَّةً عن طريقِ مثل، وبعضُهُم يقولُ: إن الزائدَ (مثل) وإن التقديرَ: ليس كهو شيءٌ، لكن هذا قولٌ ضعيفٌ؛ لأنَّه إذا دارَ الأمرُ بين أن تكونَ الزيادةُ حرفًا أو اسمًا فالواجبُ أن تكونَ الزيادةُ حرفًا؛ لأنَّه لم يأتِ في اللغةِ العربيةِ زيادةُ الأسماءِ؛ ولأنَّ الحرْفَ معناه في غيرِهِ فمجيئُهُ زائدًا ليس بغريبٍ، والإسمُ يدُلُّ على معنًى في نفْسِه، فإتيانُهُ زائدًا بعيدٌ.

إذن عندنا قولان:

الأوَّلُ: أن الكافَ زائدةٌ، وهذا سهلٌ، وجرى في اللغةِ العربيَّةِ مِثْلُه، وتكونُ الزيادةُ هنا للتوكيدِ، وبعضُهُم قال: الزائدُ (مِثْل) وهو قولٌ ضعيفٌ، بعضُهُم يقولُ: إن المِثْلَ هنا بمعنى الصفةِ. يعني: ليس كصِفَتِهِ شيءٌ، والمِثْلُ ذاتيٌّ بمعنى الصفةِ مِثْلَ قولِهِ تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]؛ أي: صِفَتُها، وهذا أيضًا ضعيفٌ؛ لأننا نقولُ: إن اللهَ ليس مِثْلَهُ شيءٌ، لا في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، بعضُهُم يقولُ:

(1)

الألفية (ص: 35).

ص: 98

إن هذا على سبيلِ المبالغةِ؛ يعني: إذا لم يَكُنْ لمِثْلِهِ مِثْلٌ، لو فُرِضَ أن له مثلًا، فمن بابِ أَوْلَى ألا يكونَ له هو مِثْلٌ، وأن هذا مما جرى على لسانِ العربِ في المبالغةِ في الوصفِ. وأنشدوا على ذلك:

ليس كمِثْلِ الفتى زُهَيْرٍ

.................

(1)

من المبالغةِ؛ يعني هذا لا نظيرَ له إطلاقًا، وهذا الأخيرُ والأوَّلُ هما أقربُ الأقوالِ في إعرابِ هذه الجملةِ.

لكن من حيثُ المعنى والإعتقادُ نؤمنُ بأنَّ اللهَ تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاتِهِ، ولا في صفاتِهِ، ولا في أفعالِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في كلِّ شيءٍ، يجبُ علينا أن نُؤْمِنَ بهذا، فذاتُهُ مخالِفَةٌ لجميعِ الذواتِ، نحن نرى الذواتِ مختلفةً، الإنسانُ مُرَكَّبٌ من عَظْمٍ ولحمٍ وعَصَبٍ ودمٍ، هناك أشياءُ مُرَكَّبَةٌ من جواهرَ أخرى.

الرَّبُّ عز وجل مُبَايِنٌ لكلِّ شيءٍ موجودٍ في الكَوْنِ في ذاتِهِ، لا تَقُلْ مثلًا: إنه مثلُ الذَّهَبِ، مثلُ الفِضَّةِ، وما أَشْبَهَ ذلك؛ ولهذا لمَّا قال المشركون للرسولِ: يا مُحَمَّدُ، هل رَبُّكَ من ذَهَبٌ، أو من فضَّةٍ، أو من كذا، أو من كذا؛ أنزل اللهُ قولَهُ تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}

(2)

.

فلا تَتَصَوَّرْ ذات الرب جلَّ وعَزَّ أبدًا؛ لأنك مهما تَصَوَّرْتَ على أيِّ شيءٍ

(1)

ذكره أبو حيان في البحر المحيط (9/ 326)، والسمين الحلبي في الدر المصون (9/ 545) منسوبًا لأوس بن حجر، وانظره غير منسوب في درء تعارض العقل (7/ 114).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 133)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الإخلاص، رقم (3364، 3365)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

ص: 99

تَتَصَوَّرُهَا لا مثيلَ له، ولا نظيرَ له، كذلك في صفاتِهِ ليس له مثيلٌ، ليس له نظيرٌ في أيَّةِ صفةٍ من صفاتِهِ، ولْنَأْخُذِ العِلْمَ من صفاتِ اللهِ عز وجل هل له نظيرٌ في هذه الصفةِ؟ لا نظيرَ له في هذه الصفةِ أبدًا، عَلِمَ كُلِّ ذي عِلْمٍ محدودٍ، أعلمُ الناسِ عِلْمُه محدودٌ.

قال اللهُ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] فأنت بنفْسِكَ لا تدري ماذا تَكْسِبُ غدًا، قد تُقَدِّرُ أنك سوف تعملُ كذا وكذا، ولكن لا تعملُ إما لصرفِ الهمَّةِ، وإما لمانعٍ خارجيٍّ، كلُّنا نُقَدِّرُ أننا غدًا سوف نَفْعَلُ كذا وكذا، لكن لا نَفْعَلُ ولا ندري ما يكونُ، قد يُصَرِّفُ الله هِمَّتَنا عن هذا الفعلِ، أو تُوجدُ موانعُ خارجيَّةٌ من مرضٍ أو سفرٍ أو حيلولةٍ بيننا وبين مرادِنا، لا ندري عنها.

أيضًا عِلْمُكَ محدودٌ بالمشاهدةِ، الغائبُ لا تُفَكِّرْ أن عندك علمًا منه، حتى في المشاهدِ علمُك ناقصٌ، الإنسانُ لا يَعْلَمُ ماذا يَفْعَلُ ولَدُهُ في بيتِهِ، ولا أهْلُه في بيتِهِ، بل أشدُّ من هذا وأضعفُ في العِلْمِ أنك لا تَعْلَمُ عن نفْسِك؛ سبحانَ اللهِ! روحُك التي بها حياتُك وهي في جِسْمِك لا تدري عنها، لمَّا سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الرُّوحِ ألْرْلَ اللهُ تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]- ثم وَبَّخَهُم على هذا السؤالِ فقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] كأنه يقولُ سبحانه وتعالى: تسألون عن الرُّوحِ وأنتم ما أَحَطْتُمْ بالأشياءِ، ما عَلِمْتُمْ عن الأشياءِ إلا قليلًا، ما بقي عليكم إلا علمُ الروحِ حتى تسألوا عنها، فإذا كان الإنسانُ لا يَعْلَمُ رُوحَه التي بَيْنَ جنبيه وبها حياتُه؛ فهو دليلٌ على نقصانِ العِلْمِ.

وفي عِلْم اللهِ عز وجل يقولُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، كلُّ إنسانٍ، كلُّ حيوانٍ فاللهُ عز وجل يَعْلَمُ ما في نفْسِه، هل عَلِمَ المخلوقُ مثلَ

ص: 100

هذا في القدرةِ؟ ليس أحدٌ، بل لو اجتمعَ الخَلْقُ كُلُّهُم بقدرهم ما ساووا شيئًا من قُدْرَةِ اللهِ؛ فإن اللهَ عز وجل على كلِّ شيءٍ قديرٌ، قال اللهُ عز وجل:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 53] يعني: البعثُ صَيْحَةٌ واحدةٌ يصرفُهُ اللهُ بهم - {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].

كُلُّهُم في أقطارِ الدنيا، ولو في الغاباتِ والكهوفِ وأعماقِ البحارِ، كُلُّهُم يأتون في آنٍ واحدٍ، {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} هذه القدرةُ لا يُمْكِنُ أبدًا أن يشابِهَها أو يماثِلَها قدرةٌ؛ لذلك نقولُ: إن اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} واعلمْ أن هذه الآيةَ استدَلَّ بها المُعَطِّلَةُ والمُمَثِّلَةُ وأهلُ السُّنَّةِ، كلُّ الثلاثةِ.

المُمَثِّلَةُ قالوا: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إثباتٌ يدُلُّ على المماثلةِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هذه شُبْهَتُهُم - خاطَبَنَا بالقرآنِ، والقرآنُ جَعَلَهُ اللهُ بلسانٍ عربيٍّ؛ من أجْلِ أن نَعْقِلَ ونَفْهَمَ، قال اللهُ تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، قالوا: فإذا خَاطَبَنَا اللهُ بشيءٍ مما وَصَفَ به نفسَهُ وَجَبَ أن نَحْمِلَه على ما نَفْهَمُ، ونحن لا نَفْهَمُ إلا ما نُحِسُّ به، فيجبُ أن تَحْمِلَ كُلَّ صِفَةٍ للهِ على ما كان معلومًا؛ ولذلك قالوا: إن اللهَ تعالى مِثْلَ خَلْقِهِ، نسألُ اللهَ العافيَةَ.

واللهِ لو كان مِثْلَنَا ما عَبَدْنَاه ولا يُمْكِنُ أن يَعْبُدُ الإنسانُ مِثْلَه، لكن هُمْ بعقولهِم الضالَّةِ قالوا: يَلْزَمُ مما أَخْبَرَ اللهُ به عن نفْسِه من الصفاتِ أن تكونَ مِثْلَ صفاتِنا، وشُبْهَتُهُم أنَّ اللهَ خاطَبَنا بما نَفْهَمُ وَنَعْقِلُ، ونحن لا نَفْهَمُ إلا ما نُشاهدُ فإذا خاطَبَنا عن شيءٍ غائبٍ وَجَبَ أن نَحْمِلَه على المعلومِ عندنا.

والمُعَطِّلَةُ استدلُّوا بقولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقالوا: كلُّ صفةٍ أثبتها اللهُ لنفْسِه فإنها تدُلُّ على التمثيلِ فَيَجِبُ أن تكونَ مَنْفِيَّةً، والذي فتح لهم البابَ هم

ص: 101

المُمَثِّلَةٌ يقولون: كلُّ صفةٍ أَثْبَتَهَا اللهُ لنفْسِه فإنها تَسْتَلْزِمُ التمثيلَ والتمثيلُ ممتنِعٌ، إذن يجبُ أن تمتنعَ كلُّ صفةٍ، مثالُ ذلك يقولون: إن اللهَ عز وجل لم يستوِ على العرشِ الإستواءَ الحقيقيَّ؛ لأنَّه لو استوى على العرشِ لكان جسمًا، فيكونُ مماثلًا للمخلوقِ.

والرَّدُّ عليهم سهلٌ، نقولُ: هل أَثْبَتَ اللهُ لنفْسِه يدًا أو لا؟ فسيقولون: نعم. لماذا لا تُثْبِتُهَا أنت؟ قال: أخشى أن تكونَ مُمَاثِلَةً ليدِ الإنسانِ. نقولُ: لا تخش هذا، كيف تخشى هذا واللهُ يقولُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؟ ثم نقولُ له: ألستَ تُثْبِتُ لشاتِكَ يدًا؟ يقولُ: نعم. هل يَدُ شاتِك مثلُ يَدِكَ؟ لا، إذا انتفتِ المشابهةُ بين المخلوقاتِ فيما تَتَّفِقُ فيه بالأسماءِ فانتفاءُ المُشابَهَةِ في حقِّ الخالقِ من بابِ أَوْلَى، بل انتفاءُ المُشابهةِ في حقِّ اللهِ واجبٌ، وفي حقِّ المخلوقِ غيرُ واجبٍ.

الآن القِطُّ، عندنا الآن اثنان واحدٌ يقول: البَسُّ - والبَس بالفتح وإذا قلت: البِسُّ فأنت لاحنٌ، الصواب البَسُّ -، والآخرُ قال: الهِرُّ، وثالثٌ يقول: القطُّ والسِّنَّوْرُ، فما أكثرَ أسماءَ الهِرِّ والأسدِ، وسبحانَ اللهِ أيدي الهرِّ وأيدي الأسدِ متشابهتان تمامًا.

فهُمْ تَصَوَّروا أن استواءَ اللهِ على عرشِهِ كاستواءِ الإنسانِ على الأنعامِ، فلما فهموا هذا الفهْمَ أنكروا الإستواءَ، الإنسانُ يستوي على البعير كما قال تعالى:{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرفِ: 12 - 13] هم فَهِمُوا أن استواءَ اللهِ على العرشِ كاستواءِ الإنسانِ على البعيرِ، وقالوا: هذا تمثيلٌ، والتمثيلُ مستحيلٌ على اللهِ فيجبُ إنكارُهُ، وهذا قولُ المعتزلةِ والجهميَّةِ، ومَن ظَاهَرَهُم، نَفَوْا كلَّ صفةٍ للهِ وقالوا: لا يمكن أن نَصِفَ اللهَ بشيءٍ. الحُجَّةُ أن الإثباتَ يستلزمُ التمثيلَ، واللهُ عز وجل قد نفى أن يكونَ له مِثْلٌ، وأيضًا المماثلةُ مستحيلةٌ عقلًا، فيكونُ دلَّ العقلُ على زَعْمِهم، دلَّ العقلُ والشرعُ على أن اللهَ

ص: 102

ليس له مثيلٌ، فيجبُ أن ننفيَ جميعَ الصفاتِ.

هؤلاء حقيقةُ أَمْرِهِم أنهم مَثَّلوا أولًا، ثم عَطَّلوا ثانيًا، مَثَّلوا أولًا حيث اعتقدوا أن الأدلةَ تَدُلُّ على التمثيلِ، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ، ثم بعد ذلك عَطَّلوا وأَنْكَرُوا، ولكنَّ هذه الشُّبهةَ دَفْعُها يسيرٌ، نقولُ لهم: هل تُثْبِتُون للهِ وُجُودًا؟ إما أن يقولوا: لا، وإما أن يقولوا: نعم. لا يُمْكِنُ أن يَخْرُصُوا، إما أن يقولوا: نعم، أو يقولوا: لا، فإذا أثبتوا للهِ وُجُودًا نقولُ: هل هو وجودٌ حقيقيٌّ أو وهميٌّ؟ إن قالوا: وهميٌّ، كَفَرُوا بلا إشكالٍ، وإن قالوا: حقيقيٌّ، قلنا: هل تُثْبِتُون لأنفُسِكم وُجُودًا؟ إما أن يقولوا: نعم أو يقولوا: لا إن قالوا: لا، قلنا: ما نخاطبُ أشباحًا بلا شيءٍ، لكن لن يقولوا: لا، يقولون: نعم نثبتُ لأنفُسِنا وجودًا، نقولُ: إذن يَلْزَمُكُم التمثيلُ؛ لأنكم أَثْبَتُّمْ للهِ تعالى صفةً هي ثابتةٌ للمخلوقِ، فيلزَمُكُم التمثيلُ، انظر الباطلَ لا بُدَّ أن يندحرَ، لكنِ انْفَكَّ قومٌ عن هذا الإلزامِ من الغلاةِ قالوا: لا نقولُ: إن اللهَ موجودٌ. أعوذُ باللهِ تعبدون مَن؟ قالوا ما نقولُ: إنه موجودٌ. قلنا: معدومٌ؟ إذا قلتُم: غيرُ موجودٍ لزمَ أن تقولوا: إنه معدومٌ، وإنْ قلتُم: إنه معدومٌ مَثَّلْتُم؛ لأنَّ الموجودَ من الخَلْقِ يكونُ معدومًا قبلَ وجودِهِ وبعد وجودِهِ، قال اللهُ تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسانِ: 1].

وهذا حقيقةٌ، الواحدُ منا قبل ولادتِه بسنتين ليس بشيءٍ، معدومٌ، فإن قلتُم: إن اللهَ معدومٌ شَبَّهْتُم ومَثَّلْتُم على قاعدَتِكُم، قالوا: إذن نقولُ: لا موجودٌ، ولا معدومٌ. أعوذُ باللهِ لا موجودٌ ولا معدومٌ، نقولُ: اللهُ أكبرُ، هل يُمْكِنُ أن يكونَ الشيءُ لا موجودًا ولا معدومًا؟ كلُّ شيءٍ فهو إما موجودٌ أو معدومٌ؛ لأنَّ تقابُلَ الوجودِ والعدمِ تقابُلُ تناقُضٍ، والمتناقضان لا بدَّ من وجودِ أحدِهِما، لا يُمْكِنُ أن يجتمعَا،

ص: 103

ولا أن يمتنعَا، فإذا قالوا: لا موجودٌ ولا معدومٌ. نقولُ: شَبَّهْتُمُوه الآنَ بالمستحيلاتِ والممتنِعاتِ.

فأهلُ الباطلِ لا مَفَرَّ لهم من لوازِمِهِم الباطلةِ.

تَكَايَسَ قومٌ وقالوا: نحن لا نقولُ: إنه لا يتصفُ بصفةٍ، لكننا نَصِفُهُ بما نَحْكُمُ به عليه، ولا يَحْكُمُ به على نفْسِهِ. انتبهْ قالوا: لا نُنْكِرُ الصفاتِ لكن نَصِفُهُ بما نَحْكُمُ به عليه لا بما يَحْكُمُ به على نفْسِه، وهؤلاء المتكايسون هم الأشعريَّةُ أثبتوا بعضَ الصفاتِ، وأنكروا أكثرَ الصفاتِ، أثبتوا من الصفاتِ سبعًا وأنكروا الباقيَ، أثبتوا الحياةَ، والعِلْم، والقُدْرَةَ، والسَّمْعَ، والبصرَ، والإرادةَ، والكلامَ، وأنكروا الباقيَ قالوا: لا نُثْبِتُ من الصفاتِ على وجهِ الحقيقةِ إلا هذه الصفاتِ السبعَ: الحياةَ، والعِلْمَ، والإرادةَ، والقدرةَ، والسمعَ، والبصرَ، والكلامَ. هذه ثابتةٌ حقيقةً على اختلافٍ بَيْنَهُم وَبَيْنَ أهلِ السُّنَّةِ في بعضِها، الكلامُ عندهم غيرُ الكلامِ عندَ أهْلِ السُّنَّةِ، والباقي لا نُثْبِتُهُ. فماذا تَعْمَلُون فيه؟ قالوا: لنا فيه طريقان: إما التفويضُ بأن نقولَ: لا ندري ما معناه، وإما التأويلُ الذي يُسَمُّونه تأويلًا وهو في الحقيقةِ تحريفٌ.

والأشاعرةُ هم أكثرُ الناسِ انتشارًا في البلادِ الإسلاميَّةِ؛ ولهذا يجبُ أن نَعْرِفَ مَذْهَبَهُم تمامًا ونَعْرِفُ الرَّدَّ عليهم حتى يتقلَّصَ هذا المَدُّ، أو يزولَ بالكُلِّيَّةِ - ونسألُ اللهَ تعالى أن يُزِيلَهُ إلى الحقِّ - يقولون: نُثْبِتُ هذه الصفاتِ السَّبْعَ وغيْرُها لا؛ ولذلك يقولون في استعمالهِم للنصوصِ ما سوى هذا إما أن نُفَوِّضَه ونقولَ: لا ندري معناه، وإما أن نُؤَوِّلَهُ، ونحن نُسَمِّي تأويلَهُم تحريفًا؛ لأنَّ التأويل الذي لا دليلَ عليه تحريفٌ، وفي ذلك يقول ناظمُ عقيدتِهِم:

وكلُّ نصٍّ أَوْهَمَ التشبيهَا

أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ تَرُمْ تنزيهًا

ص: 104

واللهُ عليمٌ إن فَوَّضْنَاه، أو أَوَّلْنَاه بمعنى التحريفِ فإننا لم نَرُمِ التنزيهَ، بل وَقَعْنَا في العيبِ، وَجْهُهُ أننا إذا قلنا: لا نَعْلَمُ هذا المعنى، فهذا يعني أن اللهَ أَنْزَلَ علينا كتابًا مجهولًا لا يُدرى معناه، وَلَيْتَه لا يُدْرى معناه في الأمورِ التي تتعلَّقُ بفعلِ العبدِ كالصلاةِ والطهارةِ في العقيدةِ، وإن حَرَّفْنَاه وَقَعْنا أيضًا في بلاءٍ في اتهامِ اللهِ عز وجل أنه لم يُبَيِّنْ لعبادِهِ إلا ما كان خلافَ الحقِّ، وكلاهما شيءٌ كبيرٌ.

حتى إن شيخَ الإسلامِ

(1)

رحمه الله يقولُ: إن قَوْلَ أهلِ التفويضِ من شرِّ أقوالِ أهلِ البدعِ والإلحادِ، وأنه هو الذي فَتَحَ للفلاسفةِ القَدْحَ في الدِّينِ وقالوا: إذا كنتم لا تعرفون المعنى وأنتم عَجَمٌ بالنسبةِ للقرآنِ العربيِّ نحن نَعْرِفُ، وصاروا يَخْبِطُونَ خَبْطَ عَشْوَاءَ.

فالأشاعرةُ يُثْبِتُونَ للهِ سبعَ صفاتٍ: الحياة، والعِلْمَ، والإرادةَ، والقدرةَ، والسمعَ، والبصرَ والكلامَ، ومع ذلك إثباتُهُم لها ليس كإثباتِ أهلِ السُّنَّةِ، نَضْرِبُ مثلًا بالكلامِ، الكلامُ يقولون: إن اللهَ عز وجل لا يتكلَّمُ بصوتٍ مسموعٍ أبدًا، وإنما كلامُهُ هو المعنى القائمُ بنفْسِه، وما يَسْمَعُهُ العِبادُ فإنما هو عبارةٌ عن الكلامِ المخلوقِ؛ فلما قال اللهُ لنبِيِّه صلى الله عليه وسلم:"إني فرضتُ عليك خمسين صلاةً"

(2)

بهذا اللفظِ أو معناه، اللهُ لمْ يَقُلْها؛ لأنَّ الكلامَ هو المعنى القائمُ بنفسه، لكن خلق أصواتًا سَمِعَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم تُعَبِّرُ عما في نَفْسِهِ! ! سبحانَ اللهِ! .

الآن لو تَفَكَّرْنَا لَوَجَدْنَا قولَهم هذا أَخْبَثُ من قولِ الجهميَّةِ، الجهميَّةُ عندهم

(1)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (1/ 205).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، رقم (349)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (163)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

ص: 105

صراحةٌ قالوا: كلامُ اللهِ مخلوقٌ ومسموعٌ، لكنه مخلوقٌ، هؤلاء قالوا: كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ لكنه غير مسموعِ هو المعنى القائمُ بنفْسِه ويَخْلُقُ أصواتًا تُسْمَعُ تُعَبِّرُ عما في نفْسِه.

فَأَصْرَحُهُمَا الجهميَّةُ، فالقرآنُ الذي بين أيدينا، الجهميَّةُ يقولون: هذا كلامُ اللهِ حقيقةً لكنه مخلوقٌ، أما الأشاعرةُ فيقولون: لا هذا ليس كلامَ اللهِ حقيقةً، هذا عبارةٌ عن كلامِ اللهِ، وكلامُ اللهِ هو المعنى القائمُ بالنفْسِ. إذن أَحْسَنُهُما الأوَّلُ، وكلاهما غيرُ حَسَنٍ، ولكننا نقولُ: الأوَّلُ أَحْسَنُ، كما قال اللهُ عز وجل:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقانِ: 24]، مع أنه لا خيرَ في مستقرِّ أهلِ النارِ.

فالأشعريةُ أثبتوا سبعَ صفاتٍ، ولمَّا قيلَ لهم: ما هو الدليلُ على إثباتِ الصفاتِ السبعِ ونفيِ ما سواها؟ قالوا: الدليلُ العقلُ، فالعقلُ دلَّ على إثباتِ هذه الصفاتِ، ولم يَدُلَّ على إثباتِ غيرها، إذن حكَّموا العقلَ فيما يُثْبِتُونَ للهِ ولم يُحَكِّمُوا اللهَ فيما يُثْبِتُ لنفْسِه، وهذا عدوانٌ في حقِّ اللهِ عز وجل.

من الذي يَحْكُمُ بنفْسِهِ على نَفْسِه؟ اللهُ عز وجل أنتم تَتَحَكَّمُونَ على اللهِ؟ ! قالوا: اللهُ خاطَبَنَا ولنا عقولٌ، ولا بُدَّ لنا من أن نُعملَ العقولَ. قلنا: أعطونا دليلًا عقليًّا على هذه الصفاتِ السَّبْعِ، قالوا: نعم نعطيكم أدلةً عقليَّةً، الإيجادُ يَدُلُّ على القدرةِ؛ لأنَّ العاجزَ لا يُوجِدُ شيئًا، ومعلومٌ أننا نرى المخلوقاتِ تتواجدُ شيئًا فشيئًا، قالوا: إيجادُها يدلُّ على القدرةِ، المخلوقاتُ الكائنةُ بعضُها إنسانٌ، وبعضُها حصانٌ، وبعضُها جَمَلٌ، وبعضُها شمسٌ، وبعضُها قمرٌ، وبعضُها سماءٌ، وبعضُها أرضٌ، وهذا التخصيصُ يدلُّ على الإرادةِ، لولا الإرادةُ ما صار هذا كذا وهذا كذا. إذن أثبتنا الإرادةَ والقدرةَ، وهذه المخلوقاتُ مُحْكَمةٌ متقنةٌ ما فيها تناقضٌ ولا تصادمٌ، لم نر

ص: 106

الشمسَ في يومٍ من الأيامِ اصطدمت بالأرضِ أو بالقمرِ أو بالنجومِ، مُحْكَمٌ متقنٌ يدلُّ على العِلْمِ.

إذن ثَبَتَتْ ثلاثُ صفاتٍ عن طريقِ العقلِ وهي: العِلْمُ والإرادةُ والقدرةُ، قالوا: وهذه الصفاتُ لا يُمْكِنُ أنْ تقومَ إلا بحيٍّ، فثبتتْ بذلك صفةُ الحياةِ، قالوا: والحيُّ إما أن يكونَ سميعًا بصيرًا متكلمًا، أو أصمَّ أعمًى أخرسَ، والأولُ كمالٌ والثاني نقصٌ، واللهُ تعالى منزَّهٌ عن النقصِ، فوجب أن يكونَ سميعًا بصيرًا متكلمًا.

فنحن قد نوافِقُهم على هذا ونقولُ: العقلُ دلَّ على ذلك، لكنْ ما سوى هذه دلَّ عليها الشَّرْعُ، ونحن نتنزَّلُ معهم إلى آخرِ شيءٍ، نقولُ: ما سوى ذلك دلَّ عليه الشرعُ.

ومن المعلومِ أن انتفاءَ الدليلِ المُعَيَّنِ لا يستلزمُ انتفاءَ المدلولِ؛ لأنَّ الأدلةَ قد تتعدَّدُ على مدلولٍ واحدٍ، فإذا قَدَّرْنَا أن العقلَ لم يَدُلَّ على الصفاتِ التي أَثْبَتَهَا اللهُ لنفسِه سوى السبعِ، فقد دلَّ عليها الشرْعُ، والشرْعُ يَثْبُتُ بدليلٍ واحدٍ، وبدليلين، وبثلاثةٍ، المهمُّ أن يكونَ له دليلٌ، هذا جوابٌ.

جوابٌ آخرُ: أن نَمْنَعَ من كَوْنِ العقلِ لم يدلَّ على بقيَّةِ الصفاتِ، ونقولُ: بقيَّةُ الصفاتِ منها ما دلَّ عليه العقلُ، ومنها ما دلَّ عليه السَّمْعُ فقط، فمثلًا: إنزالُ المطرِ، إنباتُ النباتِ، رَفْعُ الوباءِ، بَسْطُ الرزقِ، هذا من اللهِ عز وجل ويَدُلُّ على الرحمةِ دلالةً واضحةً أقوى من دلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ؛ لأنَّ دلالةَ التخصيصِ على الإرادةِ لا يَفْهَمُ ذاك عن بيانٍ إلا طالبُ العلمِ المختصُّ، حتى طلبةُ العلمِ أحيانًا يقولون: كيف دلَّ التخصيصُ على الإرادةِ؟ ! لكن كَوْنَ هذه الأمورِ النافعةِ - حصولِ النِّعَمِ، واندفاعِ النِّقَمِ - تدلُّ على الرحمةِ هو واضحٌ حتى للعامِّيِّ، فالعامِّيُّ يَخْرُجُ

ص: 107

من بيتِه في الصباح وقد جاء المطرُ في الليلِ، فيقولُ: مُطِرْنَا بفضلِ اللهِ ورحمَتِه وهو عامِّيٌّ! .

فنقولُ لهم: الآن ما نَفَيْتُمُوهُ زاعمين أن العقلَ لا يَدُلُّ عليه فَلَنَا عنه جوابان:

الجوابُ الأوَّلُ: أننا لا نُسَلِّمُ أن العقلَ لا يدلُّ عليه، بل نقولُ: إن العقلَ يدُلُّ عليه، وإن كان لا يدلُّ على كلِّ الصفاتِ لكن في الجملةِ.

ثانيًا: أن نقولَ: هبْ أن العقلَ لا يدلُّ عليه، لكن دلَّ عليه السمعُ - القرآنُ والسُّنَّةُ - ولا يلزمُ من انتفاءِ دلالةِ العقلِ ألا يَثْبُتَ الشيءُ بدليلٍ آخَرَ؛ لأنَّ انتفاءَ الدليلِ المُعَيَّنِ لا يستلزمُ انتفاءَ المدلولِ، وهذه قاعدةٌ مفيدةٌ، وأَضْرِبُ لكم مثلًا بشيءٍ محسوسٍ، مَكَّةُ كم لها من طريقٍ؟ طرقٌ متعددةٌ، فإذا قُدِّرَ أن هذا الطريق يمتنعُ السيرُ معه؛ لوجودِ قُطَّاعِ طريقٍ، أو وجودِ أمطارٍ أَفْسَدَتْهُ، أو ما أَشْبَهَ ذلك، ألا يُمْكِنُ أن نَصِلَ إلى مَكَّةَ من طريقٍ آخَرَ؟ بلى، هكذا المعاني، إذا انتفى دليلٌ من الأدلَّةِ لكن وَجَدْنَا دليلًا آخرَ، هل ننكرُ هذا المدلولَ؛ لأنَّ أحدَ الأدلةِ غيرُ قائمٍ؟ لا، نقولُ: ما دام هذا الدليلُ غَيْرَ قائمٍ فهناك دليلٌ آخَرُ؛ ولذلك هَدَى اللهُ أَهْلَ السُّنَّةِ والجماعةِ إلى القولِ الوسطِ: لا تمثيلَ ولا تعطيلَ.

قالوا: نُثْبِتُ للهِ عز وجل جميعَ ما وَصَفَ به نَفْسَهُ في القرآنِ، أو فيما صَحَّتْ به السُّنَّةُ، لاحظْ لا بُدَّ من القيدِ بالنسبةِ للسُّنَّةِ: فيما صَحَّتْ به السُّنَّةُ؛ لأنَّ من الأحاديثِ ما هو ضعيفٌ أو موضوعٌ، أمَّا القرآنُ فلا تَقُلْ: ما صحَّ في القرآنِ، فكُلُّهُ صحيحٌ، إنما السُّنَّةُ لا بُدَّ أن تُقُيَّدَ: ما صَحَّتْ به السُّنَّةُ.

نُثْبِتُ كُلَّ صفةٍ، ولا نتحاشى، ولا نَتَهَيَّبْ إذا كان اللهُ عز وجل أثبَتَ لنفْسِه يدًا، وقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدةِ: 64]، هل علينا أن نَتَهَيَّبَ من إثباتِ اليدِ؟ بل هل

ص: 108

لنا أن نَتَهَيَّبَ؟ لا يَجُوزُ أبدًا، بل الهيبةُ أن نخالفَ، أَثْبِتِ اليدَ ولا تُبَالِ.

أَثْبَتَ رَبُّكَ لنفْسِه وَجْهَه، فلا تَتَهَيَّبْ من إثباتِ الوجْهِ، فالتهيُّبُ حقيقةٌ من نفيِ الوجْهِ، أما ما أَثْبَتُه اللهُ فيجبُ أن نُثْبِتَه لكن على هذه القاعدةِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فنقولُ: للهِ وجهٌ وليس كوجهِ المخلوقِ يقينًا.

فإن قال قائلٌ: ما دليلُك؟ ولماذا لا تَحْمِلُ الوجهَ على وجهٍ معروفٍ؟

فالجوابُ: دليلي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

أَثْبَتَ اللهُ سبحانه وتعالى أنه يأتي يومَ القيامةِ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجرِ: 22] أَتَتَهَيَّبُ أن تَصِفَ اللهُ بالمجيءِ؟ لا نَتَهَيَّبُ، نقولُ: نَصِفُ اللهَ بالمجيءِ لكن هل هو كمجيءِ المَلِكِ على فَرَسٍ، أو سَيَّارةٍ، أو ما أَشْبَهَ ذلك؟

الجواب: لا، يقينًا ليس كذلك، لكنه مجيءٌ يليقُ بجلالِهِ.

أَثْبَتَ اللهُ لنفْسِه أنه استوى على العرشِ في عِدَّةِ مواضعَ من القرآنِ تَبْلُغُ سبعًا بهذا اللفظِ {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هل تَتَهَيَّبُ أن تُثْبِتَ ذلك للهِ؟ لا، بل هو مستوٍ حقيقةً، أَتهَيَّبُ أن أقولَ:{اسْتَوَى} بمعنى استولى؛ لأنَّ {اسْتَوَى} بمعنى استولى تحريفٌ للكَلِمِ عن مواضِعِه، لكنني أؤمنُ إيمانًا لا شكَّ فيه أن هذا الإستواءَ لا يُمَاثِلُ استواءَ المخلوقين في أيِّ حالٍ من الأحوالِ، استوائي على الفلك، أو على البعير لو أُزيلَ ما استويتُ عليه لسقطْتُ لا شكَّ، لكن استواءَ اللهِ على العرشِ ليس كذلك، ليس استواءَ احتياجٍ. أعني استواءُ اللهِ على العرشِ ليس استواءَ احتياجٍ إلى العرشِ؛ لأنَّ اللهَ غنيٌّ عن العرشِ وعن غيرِهِ، لكنه استواءُ عظمةٍ وسلطانٍ.

حَقِّقُوا العقيدةَ، لا تَغُرَّكُم الأوهامُ، وما ذنبُ الإنسانِ إذا قال: أنا أؤمنُ بكلِّ

ص: 109

ما أَثْبَتَه لنفْسِه؟ ليس ذَنْبًا، بل هذا حقيقهُ الإنقيادِ والإستسلامِ للهِ عز وجل، لكن يجبُ شيءٌ واحدٌ، وهو أن تُؤْمِنَ بأنه لا مثيلَ له؛ لأنَّ اللهَ قال:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحلِ: 74]، وقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرةِ: 22]، وأشباهُ ذلك، وأنت يا أخي لا تَعْلَمُ الغيبَ، اللهُ عز وجل هو الذي يَعْلَمُ، وهو أَخْبَرَكَ عن نفْسِه بكذا، فقل: آمَنَّا وَصَدَّقْنَا.

وقد ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ

(1)

رحمه الله أن المُعَطِّلَةَ أقسامٌ: قِسْمٌ عَطَّلوا البعضَ، وقِسْمٌ عَطَّلُوا الصفةَ دون الإسمِ، وقسْم عطَّلُوا الإسمَ والصفة، نفيًا لا إثباتًا؛ يعني بمعنى قالوا: لا نَصِفُ اللهَ بشيءٍ ثابتٍ، لكن نَصِفُه بالنَّفْيِ.

وقسمٌ قالوا: لا نَصِفُهُ لا بالنفيِ ولا بالإثباتِ، إن وصفناه بثابتٍ شَبَّهْنَاه بالموجوداتِ، وإن وَصَفْنَاه بمنفيٍّ شَبَّهْنَاه بالمعدوماتِ.

فائدةٌ: يجبُ أن نعرفَ أن التأويلَ يُرادُ به التفسيرُ، فيدخلُ فيه التضمينُ، وهذا هو الذي قال فيه الرسولُ صلى الله عليه وسلم لابنِ عباسٍ:"اللهمَّ فَقِّهْهُ في الدينِ وعَلِّمْه التأويلَ"

(2)

يعني: التفسيرَ.

أما التأويلُ المنهيُّ عنه في الصفاتِ، فهذا لا يسمى تأويلًا، هذا يسمى تحريفًا ولا يجوزُ أن نُسَمِّيَه تأويلًا، وإن سَمَّوْه هم تأويلًا، لكن هم يقولون: تأويلٌ كيلا ينفرَ الناسُ من صنيعِهِم، لو قالوا: أهلُ التحريفِ والسلفِ لا يَقْبَلُهُم أحدٌ، فجاؤوا بالتأويلِ تلطيفًا.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (3/ 7 - 8).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، رقم (143)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رقم (2477)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. دون قوله:"وعلمه التأويل"، وأخرجه الإمام أحمد (1/ 266) بلفظه.

ص: 110

ولهذا نظائرُ النصارى سموا في الأخير أنفسَهم مسيحيين؛ ليضْفُوا على مِلَّتِهم المنسوخةِ أنها شرعيةٌ، وأنهم أتباعُ المسيحِ والمسيحُ عليه الصلاة والسلام أبرأُ الناسِ منهم، ولو خرج لقاتَلَهم، وهم كاذبون على المسيحِ فيما يدَّعون، لكن سَمُّوا أنفسَهم بالمسيحيين يُضْفُون على أنفسِهم الشرعيَّةِ.

ونظيرُ ذلك أيضًا: الرافضةُ يرفضون اسمَ الرافضةِ ويغضبون عليك فسمُّوا أنفسَهم شيعةً، وأحقُّ أن يكونَ شيعيًّا أهلُ السنَّةِ؛ لأنَّهم هم الذين يحبون آلَ البيتِ محبَّةً سُنِّيَّةً شرعيَّةً، أما هؤلاء الرافضةُ فإنهم يحبون آلَ البيتِ محبَّةً شِرْكِيَّةً، أهلُ البيتِ يتبرؤون منهم بلا شكٍّ؛ ولهذا لما قال عبدُ اللهِ بنُ سبأٍ وجماعتُهُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ:"أنت اللهُ حقًّا"، تبرأ منه، وأمرَ بالأخاديدِ فخُدَّت ومُلِئَتْ حطبًا وألقاهم في النارِ

(1)

حرَقَهم من شدةِ ما أصابه منهم، إذن هل يُقالُ لهؤلاء الذين غالوا في آلِ البيتِ حتى أنزلوهم فوق منزلتِهم، هل يُقالُ: إنهم شيعةٌ لآلِ البيتِ؟ أبدًا واللهِ، هم أعدى عدوٍّ لآلِ البيتِ؛ لأنَّهم أنزلوهم فوق منزلتِهم، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"ما أحبُّ أن تُنْزِلُوني فوق منزلتي التي أَنْزَلَني اللهُ"

(2)

، وآلُ البيتِ مثلُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام لا يحبون أن يُنْزَلُوا فوق منزلتهم التي أنزلهم اللهُ أبدًا.

فالضابط: أن دلَّ عَلَيْهِ الدليلُ فهو تأويلٌ، وإن لم يدلَّ عَلَيْهِ الدليلُ فهو تحريفٌ.

فإذا لَبِسْتَ ثوبَك، فقلتَ: أكلتُ خبزةً، تعني لَبِسْتَ ثوبك! هل له وجهٌ؟ فإذا كان التأويلُ ليس له وجهٌ، لا لغةً ولا شرعًا؛ فهو كُفرٌ؛ لأنَّه تكذيبٌ، ولهذا

(1)

أخرجه ابن الأعرابي في معجمه رقم (67، 1553)، والآجري في الشريعة (5/ 2520 - 2521)، ويشهد له ما أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، رقم (3017).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 153)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 111

نقولُ: جَحْدُ الصفاتِ نوعان: إما تأويلًا، وإما تكذيبًا. إن كان تكذيبًا، فلا شكَّ أنه كُفْرٌ، لو قال قائلٌ:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: إنه لم يستوِ على العرْشِ. فكَذبٌ، فنقولُ: كُفْرٌ؛ لأنَّه مُكَذَّبٌ لو قال نعم: استوى على العرش لكن معناه استولى، قلنا: هذا تأويلٌ، ينظرُ إن كان للتأويلِ مساغٌ، إن دلَّ عَلَيْهِ دليلٌ أخذْنَا به، وإن لم يدلَّ عَلَيْهِ دليلٌ رَدَدْناه، لكن إن كان له مساغٌ لم يَكْفُرْ، وإن لم يَكُنْ له مساغٌ فإنه يَكْفُرُ.

فمثلًا: الَّذي أوحاه اللهُ إلى الرَّسولِ هو القرآنُ، إذن لم نُؤَوِّلُ، فهذا هو الَّذي أُوحِيَ إلى الرَّسولِ وسمَّاه اللهُ رُوحًا؛ لأنَّه تحيا به القلوبُ، واعلمْ أنَّنا نحن لا نُنْكِرُ التَّأويلَ فقد نُؤَوِّلُ، لكن إذ دلَّ الدَّليلُ على التَّأويلِ فلا بَأْسَ، فنقولُ في قولِهِ تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النَّحْلِ: 98] نقولُ: إذا أَرَدْتَ أن تَقْرَأَ. وظاهِرُ الآية: إذا فَرَغْتَ من القراءةِ فاسْتَعِذْ، والسُّنَّةُ بَيَّنَتْ هذا، فنحن لا نُنْكِرُ التَّأويلَ؛ لأنَّ التَّأويلَ الَّذي دلَّ عَلَيْهِ اللفظُ تفسيرٌ، إنَّما نُنْكِرُ التَّأويلَ الَّذي هو التَّحْريفُ، وهو التَّأويلُ بدونِ دليلٍ.

وقولُهُ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نرى في بعضِ الكتبِ: إن اللهَ لا شبيهَ له. فهل هذا التعبيرُ يماثلُ قولَنا: إن اللهَ لا مثيلَ له؟ لا؛ ولهذا التعبيرُ بقولِنا: نؤمنُ بإثباتِ ذلك بلا تمثيلٍ خيرٌ من التعبيرِ بقولِنا: نُثْبِتُ ذلك بلا تشبيهٍ، مع أننا نرى أكثرَ الكُتُبِ التي بأيدينا أنهم يقولون: بلا تشبيهٍ، لكن هذا نَقْصٌ، التعبيرُ بلا تمثيلٍ أَوْلَى:

أولًا: لأنه تعبيرُ القرآنِ، وكلما أَمْكَنَك أن تُعَبِّرَ بالقرآنِ أو السُّنَّةِ عن المعاني التي تريدُ فهو أَوْلَى.

ص: 112

ثانيًا: أن التشبيهَ عند قومٍ يَعْنُون به إثباتَ الصفاتِ، ويقولون: كلُّ من أَثْبَتَ للهِ صفةً فهو مُشَبِّهٌ، فإذا قلتَ: بلا تشبيهٍ، وكان هذا المخاطَبُ لا يَفْهَمُ من التشبيهِ إلا الإثباتَ، فَهِمَ منك أنك لا تُثْبِتُ شيئًا، ثم إن التشبيهَ أيضًا له احتمالاتٌ، إن نَفَيْتَ التشبيهَ من كلِّ وجهٍ فهذا لا يُمْكِنُ؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يشتركَ الخالقُ والمخلوقُ في أصلِ الصفةِ، فالحياةُ مثلًا عندنا حياةٌ، واللهُ تعالى حيٌّ، أصلُ الحياةِ موجودٌ، لكن المنفيَّ هو أن تكونَ حياتُنا مماثلةً لحياةِ اللهِ، السمعُ موجودٌ فينا وموجودٌ عند اللهِ عز وجل فإن اللهَ تعالى سميعٌ، فلا بدَّ من اشتراكٍ في الأصلِ، وُجُودُنا: نحن موجودون والرَّبُّ عز وجل كذلك واجبُ الوُجُودِ، وهلمَّ جرًّا، فصار التعبيرُ بنفيِ التمثيلِ أَوْلى من التعبيرِ بنفيِ التَّشْبِيهِ.

ونقُولَ لهؤلاء القوم قُولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمرانَ: 8] فالقلبُ إذا زاغ - والعياذُ باللهِ - انقلب الحقُّ عنده باطلًا، وانقلب الباطلُ حقًّا، وإلا فكيف نقولُ: يقصدُ التمثيلَ؟ فأنت لو أَخْبَرْتَنِي أنك رأيتَ الفيلَ، هل أَتَصَوَّرُ أن الفيلَ مثلُ الإنسانِ؟ لا أَتَصَوَّرُ هذا، إن كنتُ قد رأيتُ الفيلَ عَرَفْتُ الفَرْقَ، وإن لم أَكُنْ رأيْتُه، فأنا أَعْلَمُ بأن بينهما فَرْقًا؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ فَرْقٌ لكان الفيلُ آدميًّا، ولا تَسْتَغْرِبُ الإنسانُ - والعياذُ باللهِ - إذا طَمَسَ اللهُ على قَلْبِهِ رأى الباطلَ حقًّا، والحقَّ باطلًا.

والآنَ ما أَعْظَمَ كلامَ الرَّبِّ عز وجل وقد قال اللهُ تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطفِّفين: 13] حِكاياتٌ لا يُتَصَوَّرُ لها معنًى يُوجِبُ الإيمانَ، قال اللهُ عز وجل:{كَلَّا} يعني ليست أساطيرَ الأوَّلِينِ {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطفِّفين: 14].

ص: 113

مسألة: خطباءُ الأشاعرةِ يُحَدِّثُون بمذهبِهم، وَيذْكُرُون أنَّ عُلماءَهم ابْنَ حجرٍ والنَّوَوِيَّ والعزَّ بْنَ عبدِ السلامِ! .

فالجوابُ: إذا قالوا: ابْنُ حجرٍ والنووِيُّ، أما ابْنُ حجرٍ رحمه الله فأنا رأيي فيه أنه ليس على طريقةِ الأشعريَّةِ، فالرجلُ متذبذبٌ أحيانًا يتكلَّمُ بكلامٍ هو كلامُ أهلِ السُّنَّةِ مئةً بالمئةِ، وأحيانًا يَنْقُلُ كلامَ الأشاعرةِ وهو أحيانًا يَنْقُلُ عن شيخِ الإسلامِ مقرِّرًا قولَهُ.

وأما النووِيُّ رحمه الله فصحيحٌ على مذهبِ الأشاعرةِ في جميعِ ما قرأْتُ له من كتبٍ، لكن إذا قابلونا بفلانٍ وفلانٍ نقولُ: هل أنتم تعرفون الحقَّ بالرجالِ أم الرجالَ بالحقِّ؟

إن قالوا: نعرفُ الحقَّ بالرجالِ كان عندنا شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّةَ، وابنْ القَيِّمِ، والإمامُ أحمدُ، وغيرُهُم من العلماءِ الفحولِ، فهؤلاء مقابلَ هؤلاء، ثم لدينا شيءٌ فوق الجميعِ الصحابةُ رضي الله عنهم ائتونا بدليلٍ واحدٍ يؤيِّدُ مذهبَ الأشاعرةِ، يقولُ: استوى بمعنى استولى، لا أحدَ منهم قال: استوى بمعنى استولى، كُلُّهُم يقول: استوى بمعنى علا. عَلِمْنا هذا بأنهم يقرؤون القرآنَ، ويعرفون معناه ولم يأتِ عن أحدٍ منهم قولٌ بصرْفِ اللفظِ عن ظاهِرِه، الحمدُ للهِ الحقُّ واضحٌ، فلو قال لنا قائلٌ: إن الصحابةَ أجمعوا على أن معنى قولِهِ تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} علا عَلَيْهِ، فلا يُمْكِنُ لأحدٍ أن ينازعَ ويقولَ: لم يُجْمِعوا؛ لأننا نَعْلَمُ أن الصحابةَ يقرؤون القرآنَ ويُنْزِلُون معناه على اللغةِ العربيَّةِ، واللغةُ العربيةُ في جميعِ موارِدِها أنه إذا تَعَدَّتْ (استوى) بـ (علا) فالمرادُ العُلُوُّ.

أمَّا مَن قالَ عَن كُتب النَّووي رحمه الله: يَجب أن تُحرقَ، فهذا غلَط منه؛ فكيف

ص: 114

نَدَعُ الإستفادةَ من هذه الكُتُبِ العظيمةِ والخطأُ فيها لا يُمَثِّلُ ولا عُشْرَ عُشْرِ المِعشارِ، قال ابنُ رجبٍ رحمه الله في كتابِهِ (القواعدُ الفقهيَّةُ)

(1)

: "ويأبى اللهُ العِصْمةَ لكتابٍ غير كتابِهِ، والمُنْصِفُ من اغتفر قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابِه". صحيحٌ هذا الإنصافُ، ولا تكادُ تَجِدُ مؤلفًا إلَّا وفيه الخطأُ إمَّا متعمَّدًا أو غيرَ مُتَعَمَّدٍ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النَّساءِ: 82].

ثم قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا ردٌّ على المُعَطِّلَةِ، والجملةُ الأولى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} على المُمَثِّلَةِ، السميعُ أي: ذو السمعِ، وسَمْعُ الله عز وجل له معنيان:

المعنى الأوَّلُ: الإستجابةُ؛ كقولِهِ تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيمَ: 39]، معنى سميعٌ: أي: مستجيبٌ، وليس المرادُ أنه يَسْمَعَه فقط؛ لأنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ يَسْمَعُه ولا يستجيبُ قليلُ الفائدةِ، لكنَّ {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي: مستجيبُهُ واستجابتُهُ إياه تستلزمُ سَمَاعَه لا شَكَّ.

ومن ذلك أيضًا - أي: من كونِ السماعِ بمعنى الإستجابةِ - قولُ المصلِّي: سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه، ومعنى سَمِعَ أنه استجابَ له؛ لأَنَّهُ كما قُلْتُ لكم: مجرَّدُ سماعِ الصوتِ لا يفيدُ شيئًا بالنسبةِ للداعي؛ ولهذا لو قال لك إنسانٌ: يا فلانُ أرجو أن تساعدَني تقولُ: أسمعُ يعني أسمعُ بأذني، فلا يستفيدُ من هذا؛ لأَنَّه سيقولُ لك: إذا كنتَ تَسْمَعُ فأعطِنِي، فصار كلُّ ما أضيفَ للدعاءِ من السمعِ معناه الإستجابةُ.

النوعُ الثاني من السمعِ: إدراكُ المسموعاتِ: بمعنى أنه لا يخفى على اللهِ أيُّ صوتٍ، قَرُبَ أم بَعُدَ خَفِيَ أم بانَ، فإن اللهَ يسمعُ كلَّ شيءٍ، أرأيتُم قولَهُ تعالى:

(1)

القواعد الفقهية (ص: 3).

ص: 115

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادَلةِ: 1]؟ اللهُ في السماءِ على العرشِ، والمكانُ الذي كانت هذه تشتكي فيه في الأرضِ، تقولُ عائشةُ رضي الله عنها: الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ لقد كانت تجادلُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام وإني لفي الحُجْرَةِ يخفى عليَّ بعضُ حديثِها

(1)

، وهي في الحجرةِ واللهُ عز وجل لم يَخْفَ عَلَيْهِ شيءٌ، سَمِعَ المجادِلَةَ، وسمعَ التحاوُرَ، وأَنْزَلَ حلَّ المُشْكِلةِ.

إذن السمعُ بمعنى: سَمْعُ الإدراكِ شاملٌ لكلِّ صوتٍ، ثم هذا السمعُ إما أن يكونَ للتأييدِ، أو للتهديدِ، أو للإحاطةِ، ثلاثةُ أقسامٍ:

الأول: التأييدُ: مِثْلُ قولِهِ تبارك وتعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] لماذا قال اللهُ عز وجل: {أَسْمَعُ وَأَرَى} تأييدًا لهما. يعني أَسْمَعُ ما تقولان وما يقالُ لكما، والأمرُ أَمْرُهُ عز وجل. هذا سماعٌ يُرادُ به التأييدُ.

الثاني: ما يُرادُ به التهديدُ: مِثْلَ قولِ اللهِ تبارك وتعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزُّخرُفِ: 80] ليس المرادُ بهذه الآيةِ مُجَرَّدَ أن اللهَ يُخْبِرُ أنه يَسْمَعُ سِرَّهم ونجواهم، المرادُ بذلك التهديدُ، ونظيرُ هذا قولُهُ تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آلِ عمرانَ: 181]، فهذا تهديدٌ، بدليلِ قولِهِ:{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آلِ عمرانَ: 181].

الثالثُ: الإحاطةُ: أن يُخْبِرَ مِثْلَ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا إخبارٌ بأنه تعالى

(1)

علقه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، (9/ 117). ووصله الإمام أحمد (6/ 46)، والنسائي: كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم (3460)، وابن ماجه: في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم (188).

ص: 116

محيطٌ بكلِّ شيءٍ سمعًا، وكما في قصةِ المجادِلَةِ فإن اللهَ تعالى أَخْبَرَ بذلك؛ لِيُعْلِمَنَا أنه محيطٌ بها.

وقولُهُ تعالى: {الْبَصِيرُ} له معنيان: المعنى الأوَّلُ: إدراكُ الشيءِ بالبصرِ، والثاني: العِلْمُ.

فهنا البصيرُ تَشْمَلُ المعنَيَيْن، فَبَصَرُ اللهِ تعالى محيطٌ بكلِّ شيءٍ لا يخفى عَلَيْهِ، والدليلُ على أنَّ البصيرَ تَتَضَمَّنُ البصرَ قولُهُ في الحديثِ الصحيح:"حِجَابُهُ النورُ لو كَشَفَه لأحرقتْ سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خَلْقِهِ"

(1)

. يعني لأَحْرَقَتْ كلَّ شيءٍ؛ لأنَّ بَصَرَ اللهِ ينتهي إلى كلِّ شيءٍ، فالمعنى لأحرقتْ هذه السُّبُحَاتُ - والسُّبُحَاتُ هي البهاءُ والعظمةُ - كلَّ شيءٍ، لا إلهَ إلا اللهُ، بصيرٌ بمعنى عليمٌ، مِثْلَ قولِهِ تعالى:{بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحُجُراتِ: 18]، ومعلومٌ أننا نَعْمَلُ أشياءَ لا تُرى، في قلوبِنَا أشياءُ لا تُرى واللهُ يَعْلَمُها.

فإذن البصيرُ من أسماءِ اللهِ عز وجل أي: ذو البصرِ، وله معنيان:

الأول: بصيرٌ بمعنى إدراكُ المَرْئِيَّاتِ لِبَصَرِه.

والثاني: بمعنى العليمِ.

فإذا سَمِعْت أسماءَ اللهِ وصفاتِهِ فليس المقصودُ أن نَعْلَمَ المعنى فقط، بل أن نَتَعَبَّدَ للهِ بها، فإذا عَلِمْنَا أنه سميعٌ أَوْجَبَ لنا أن نخافَ من قولٍ يُغضبُ اللهَ؛ لأنَّ اللهَ يسمعُ، إذا عَلِمْنَا أنه بصيرٌ أَوْجَبَ لنا أن نَحْذَرَ من كلِّ فعلٍ يُغْضِبُ اللهَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُبْصِرُهُ ويَرَاه.

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام"، رقم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

ص: 117

ففي هذه الأسماءِ - التي يُخْبِرُنَا اللهُ بها - تربيةٌ للإنسانِ أن يَحْذَرَ اللهَ عز وجل من أن يخالفَه بقولٍ أو فِعْلٍ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولَعَلَّنا أَشْبَعْنَا إن شاءَ اللهُ الكلامَ في هذا، وأهمُّ شيءٍ أن تَبْنِيَ عقيدَتَك على أَمْرَيْنِ: إثباتِ ما أَثْبَتَهُ اللهُ لنفْسِه في القرآنِ أو السُّنَّةِ، والثاني: نَفْيُ المماثَلَةِ، أنه لا مثيلَ له.

بَقِيَ شيءٌ آخرُ هل علينا أن نُكَيِّفَ الصفةَ بدونِ أن نَذْكُرَ مماثلًا؟

الجوابُ: لا يَجُوزُ أن نُكَيِّفَ الصفةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراءِ: 36]، وقال عز وجل:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، هل أنت عَلِمْتَ كيفيَّةَ صفاتِ اللهِ عز وجل؟

الجواب: لا، أنا أؤمنُ بأنه يَنْزِلُ، لكن لا أدري كيف يَنْزِلُ، أؤمنُ بأنه استوى على العرشِ، ولكن لا أدري كيف استوى، فالكيفيَّةُ لا يجوزُ للإنسانِ أن يتخيَّلَها، ولا يجوزُ أن ينطقَ بها؛ لأنَّ اللهَ تعالى أعظمُ من كلِّ تَخَيُّلٍ تتخيَّلُه؛ ولأنك لو تَخَيَّلْتَ فإنك سوف تعبُدُ صنمًا؛ لأنَّ هذا المتخيَّلُ لا بُدَّ أن يكونَ عندك تَصَوُّرٌ أنك تَعْبُدُ هذا الذي تَخَيَّلْتَهُ، فتكونُ من جنسِ المُمَثِّلِين. وفي مُقَدِّمَةِ النونيَّةِ لابْنِ القَيِّمِ قال:"المُعَطِّلُ يَعْبُدُ عدمًا، والمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صنمًا"

(1)

.

إذن: لا تَتَخَيَّلِ الْكَيفيَّةَ؛ ولهذا جاء في الأثرِ: "تَفَكَّرُوا في آياتِ اللهِ، ولا تُفَكِّرُوا في ذاتِ اللهِ"

(2)

، الآياتُ تُفَكِّرُ فيها؛ السماءُ، الأرضُ، النجومُ، البَشَرُ، المخلوقاتُ

(1)

النونية (1/ 12) ط. عالم الفوائد، وانظر: الصواعق المرسلة (1/ 148).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2219)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (1)، والطبراني في الأوسط رقم (6319)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (927)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (119)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 118

الأخرى، تُفَكِّرُ فيها بِقَدْرِ ما تستطيعُ؛ لِتَسْتَدِلَّ بها على الخالِقِ عز وجل، لكن في ذاتِ اللهِ لا تَتَفَكَّرْ.

فإن قال قائلٌ: هل لنا أن نَتَفَكَّرَ في معاني أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ؟

فالجوابُ: نعمْ، بل يجبُ أن نَتَفَكَّرَ في المعنى، والمعنى غيرُ الكيفيَّةِ، سُئِلَ الإمامُ مالكٌ رحمه الله قيلَ له وهو يُدَرِّسُ في الحلْقَةِ: يا أبا عبدِ اللهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقام الإمامُ مالكٌ يتصبَّبُ عرقًا، وأَطْرَقَ رأسَهُ حياءً وخجلًا، ومن كان باللهِ أَعْرَفَ كان منه أَخْوَفَ، نحن تَمُرُّ علينا هذه الكلمةُ مرَّ الرياحِ لا تُؤَثِّرُ في القلوبِ شيئًا، لكنَّ أهلَ المعرفةِ باللهِ الذين هم أهلُهُ، لا بدَّ أن يتأثروا، أَطْرَقَ برأسِهِ وقام يتصبَّبُ عرقًا، ثم رَفَعَ رَأْسَه وقال: يا هذا الإستواءُ غير مجهولٍ، والكيفُ غير معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، وما أُراك - يعني ما أَظُنُّكَ - إلا مُبْتَدِعًا، ثم أمرَ به فأُخْرِجَ

(1)

، فلا مقامَ له عنده.

هؤلاء هم الرجالُ، فالمعاني معلومةٌ ولا يُمْكِنُ أن يخاطِبَنا اللهُ عز وجل بما لا نَعْلَمُ أبدًا، لكن الكيفيَّاتِ مجهولةٌ.

فإن قال قائلٌ: كيف أَتَصَوَّرُ المعنى ولا أَتَصَوَّرُ الكيفيَّةَ؟

قلنا: هذا سهلٌ، الآن لو أقولُ لك: فلانٌ صَعِدَ على السَّطْحِ. تَعْرِفُ معنى صَعِدَ، لكن لا تَعْرِفُ كيف صَعِدَ، مع أنه مِثْلُكَ، لا تَعْرِفُ كيف صَعِدَ فمن الممكنِ أنه صَعِدَ على يديه ورِجْلَيْهِ، أو صَعِدَ بسيَّارَةٍ، أو صَعِدَ محمولًا.

(1)

أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (664)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (867)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 325)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (104).

ص: 119