المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من فوائد الآية الكريمة: - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌من فوائد الآية الكريمة:

إذن {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ} يعني: إن يشاء اللهُ أن تفتريَ عَلَيْهِ كذبًا لا يلزمُ من هذا الشرطِ جوازُ افتراءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عَليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ على اللهِ كذبًا، ومن المعلومِ أن اللهَ قد شَهِدَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بالرسالةِ فقال:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساءِ: 166].

قال تعالى: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بصاحبةِ الصدورِ، وهي القلوبُ، كما قال اللهُ تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجِّ: 46].

‌من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: محاولةُ المشركين أن يُلَبِّسُوا على الخلقِ؛ حتى يُنكروا رسالةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} حتى يظُنَّ العوامُّ أنه مفترٍ على اللهِ كذبًا، فيُعرضوا عما جاء به.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بيانُ شدةِ منابذةِ الكفارِ لما جاء به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ؛ لقولهِم: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن مِثْلَ هذا الكلامِ قَدْحٌ في اللهِ عز وجل، قَدْحٌ في القرآنِ، قَدْحٌ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أما كونُه قدحًا في الله؛ فلأنه ليس من الحكمةِ أن يؤيِّدَ اللهُ تعالى هذا الذي افترى عليه كذبًا، بل الحكمةُ أن يُؤَاخِذَه ويعاقبَه ولا يؤيَّدَه، واللهُ سبحانه وتعالى قد أيَّدَ نبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ بالآياتِ الدالةِ على صدقِه.

وهو قَدْحٌ في القرآنِ؛ لأنَّه على زَعْمِهم كلامٌ مفترًى من عند الرسولِ عليه الصلاة والسلام، ولقد قالوا:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} فقال اللهُ تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحلِ: 103].

ص: 212

وهو قدحٌ في الرسولِ عليه الصلاة والسلام "أن يَجْعَلَ أصدقَ الخلقِ في مقامِ المُفْتَرِي على اللهِ، والإفتراءُ على اللهِ أشدُّ من الإفتراءِ على غيْرِه، ولهذا قال عز وجل:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [العنكبوتَ: 68].

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ المشيئةِ للهِ عز وجل، يُؤْخَذُ ذلك من قولِهِ:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ} وهل مشيئةُ اللهِ مجرَّدةٌ عن الحكمةِ أو لا يشاءُ شيئًا إلا لحكمةٍ؟ الجوابُ: الثاني؛ لقولِ اللهِ تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، فَبَيَّنَ أنه عز وجل له مشيئةٌ تامَّةٌ، وأردف ذلك بقولِهِ:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ليتبيَّنَ أن مشيئةَ اللهِ سبحانه وتعالى ليست مجرَّدَ مشيئةٍ عبثًا ولكن لحكمةٍ.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مربوبٌ للهِ يَفْعَلُ به ما شاء، يُؤْخَذُ ذلك من قولِهِ:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن القلبَ محلُّ الإدراكِ والعقلِ والتصرُّفِ؛ لقولِهِ: {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} فدلَّ هذا على أن مدارَ التصرُّفِ كُلِّه على القلبِ.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن الطبعَ على القلبِ عقوبةٌ، سواءٌ كان طبعًا على العِلْمِ، أو طبعًا على القصْدِ والإرادةِ، فإنه عقوبةٌ بلا شكٍّ؛ ولهذا كان من دعاءِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"اللهمَّ مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلوبَنا على طاعَتِكَ"

(1)

، "اللهمَّ مُصَرِّفَ القلوب صَرِّفْ قلوبَنَا إلى طاعتِكَ"

(2)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 182)، وابن ماجه: كتاب المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم (199)، والنسائي في الكبرى رقم (7738)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، بلفظ:"ثبت قلوبنا على دينك".

(2)

أخرجه مسلم: كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، رقم (2654)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 213

فالإنسانُ يجبُ ألا يعتمدَ على ما في قلبِهِ من اليقينِ؛ فإن هذا ربما يزولُ، بل عليه أن يسألَ اللهَ دائمًا التثبيتَ، يُؤْخَذُ من قولِهِ:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} .

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: حُسْنُ أدلةِ القرآنِ الكريمِ؛ حيث استدلَّ بأمرٍ واضحٍ على ما زعمه هؤلاء، وهو أنه لو شاء اللهُ أن يفتريَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ على اللهِ كذبًا لختم على قلبِهِ، وأنساه ما عنده، ثم محا اللهُ الباطلَ الذي افتراه ثم أحقَّ الحقَّ بكلماتِه.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن اللهَ تعالى لا يُقِرُّ على باطلٍ، يمحو اللهُ الباطلَ، فلا يُمْكِنُ أن يُقِرَّ اللهُ تعالى على باطلٍ.

ويتفرَّعُ على هذه الفائدةِ فائدةٌ عظيمةٌ: وهي ما فُعِلَ في عَهْدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ ولم يُعْلَمْ أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ اطَّلَعَ عليه، فهل نَحْكُمُ بجوازِه؛ لأنَّ اللهَ اطَّلَعَ عليه وسَكَتَ عنه، أو لا نَحْكُمُ به حتى نَعْلَمَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم علمه؟

الجوابُ: الأولُ؛ لأنَ اللهَ تعالى لا يُقِرُّ على باطلٍ، والوحيُ ما زال يَنْزِلُ، ولهذا يخطئُ بعضُ العلماءِ رحمهم الله إذا استدلَّ بما وقع في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَمْ. فنقولُ: هبْ أنه لم يَعْلَمْ، فإن اللهَ قد عَلِمَ.

مثالُ ذلك: قال بعضُ أهلِ العلمِ: إنه لا يصحُّ أن يكونَ الإمامُ متنفلًا والمأمومُ مفترضًا؛ يعني: لا يصحُّ أن يصليَّ الفجرَ خلفَ من يصلِّي النافلةَ، هذا هو المذهبُ عندنا، فقيل لهم: هذا قولٌ مردودٌ؛ لأنَّ معاذَ بنَ جبلٍ كان يصلِّي صلاةَ العشاءِ مع النبيِّ صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ، ثم يذهبُ إلى قومِه فيصلِّي بهم تلك الصلاةَ،

ص: 214

في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

. قالوا: لا حجةَ في هذا؛ لأننا لم نَعْلَمْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عليه، فما الجوابُ؟ الجوابُ: إذا لم يَطَّلِعْ عليه اطَّلَعَ اللهُ عليه، ولو كان باطلًا عَند اللهِ لبيَّنه، كما بَيَّنَ حالَ الذين يُبَيِّتُونَ ما لا يرضى من القولِ ويَكْتُمُونه عن الناسِ، فقال:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساءِ: 108].

إذن دَفَعْنَا شبهةَ هؤلاء الذين قالوا: لعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَمْ به، بأن اللهَ عَلِمَه، ولو كان باطلًا لم يُقِرَّه، على أننا نقولُ: يَبْعُدُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَمْ به ومعاذٌ قد شُكِيَ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم بأنه يطيلُ في الصلاةِ، لكن نريدُ أن نتنزلَ مع الخصمِ ونقولَ: هبْ أن الرسولَ لم يَعْلَمْ به فإن اللهَ قد عَلِمَ به.

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنه لا يُمْكِنُ أن يُمَكِّنَ اللهُ تبارك وتعالى لأحدٍ كافرٍ تمكينًا مطلقًا، يُؤْخَذُ ذلك من قولِهِ:{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} فلا يُمَكِّنُكَ من الباطلِ.

وقولُنا: "التمكينُ المُطْلَقُ" خرج به ما لو مَكَّنَ اللهُ تعالى للكافرِ على وجهٍ لا يستقرُّ، كما حصل في غزوةِ أُحُدٍ، فإن المشركين هزموا المسلمين، لكنه ليس هزمًا مستقرًّا، بل هو من حِكْمَةِ اللهِ عز وجل أن يُمَكِّنَ للكفارِ حتى يتشجعوا على حَرْبِ المسلمين، ثم يقضي المسلمون عليهم.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أن اللهَ سبحانه وتعالى إذا محا الباطلَ جَعَلَ مكانَهُ الحقَّ؛ لقولِهِ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ} .

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى ثم أم قوما، رقم (711)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم (465)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 215

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إثباتُ الكلماتِ للهِ؛ لقولِهِ: {بِكَلِمَاتِهِ} واللهُ سبحانه وتعالى متكلِّمٌ بكلامٍ حقيقيٍّ؛ بحروفٍ وأصواتٍ مسموعةٍ ومحاورةٍ بينه وبين من شاء من خَلْقِه، وهذا مذهبُ السلفِ الصالحِ، وعليه جرت المحنةُ العظيمةُ على أئمةِ المسلمين من أمراءِ الجَوْرِ والظُّلْمِ وعلماءِ السُّوءِ؛ حيث ابتدعت الجهميَّةُ والمعتزلةُ القولَ بأن اللهَ لا يتكلَّمُ وإنما يَخْلُقُ كلامًا، فقالوا: إن اللهَ عز وجل لا يتكلَّمُ لكن يَخْلُقُ كلامًا وكلامُهُ مخلوقٌ، فيقالُ: لو قُلْنا بأن كلامَ اللهِ مخلوقٌ لبطلت الشريعةُ؛ لأنَّه يستوي الأمرُ والنهيُ، والخبرُ والإستخبارُ، والقصصُ تستوي؛ لأنَّها مخلوقةٌ لا يمتاز بعضُها عن بعضٍ فهي باعتبارِ الصوتِ كزمجرةِ الرعدِ، وباعتبارِ الكتابةِ كنقوشُ البدعِ؛ لأنَّها مخلوقةٌ، وحينئذٍ لا أَمْرَ ولا نهيَ، ولا خبرَ ولا استخبارَ، ولا شيءَ.

وتلطفت طائفةٌ فلم تُوَفَّقْ وقالوا: إن كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، لكن كلامَهُ هو المعنى القائمُ بنفسه، وما سُمِعَ منه فهو عبارةٌ عن كلامِ اللهِ وهو مخلوقٌ.

فانظر كيف ضَلَّتْ هذه الطائفةُ حتى صارت أشدَّ ضلالًا من الذين قالوا إن الكلامَ مخلوقٌ. ما معنى كلامِهِم: يقولون: كلامُ اللهِ هو المعنى القائمُ بنفْسِه. كما أنه لو أنك في نفْسِك قَدَّرْتَ أن تَتَكَلَّمَ بقولٍ ثم قلْتَ، هم يقولون: إن اللهَ تعالى أَضْمَرَ الكلامَ في نفْسِه ثم خَلَقَ أصواتًا تدلُّ عليه. فيكونُ هذا الذي في المصحفِ ليس كلامَ اللهِ، لكنه مخلوقٌ خَلَقَه اللهُ ليعبِّرَ عما في نفسِ اللهِ، المعتزلةُ يقولون: الذي في المصاحفِ كلامُ اللهِ مخلوقٌ، والأشاعرةُ يقولون: ليس كلامَ اللهِ وهو مخلوقٌ، فأيهما أقربُ إلى الصوابِ؟

الجوابُ: المعتزلةُ أقربُ، وهؤلاء يزعمون أنهم العقلاءُ عن الأشاعرةِ، وأنهم حاولوا الجَمْعَ بين المنقولِ والمعقولِ، ولكنهم أفسدوا المنقولَ والمعقولَ، فنحن نقولُ:

ص: 216

إن اللهَ يتكلَّمُ بكلامٍ مسموعٍ وبحروفٍ متتاليةٍ، واللهُ يَفْعَلُ ما يشاءُ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: عمومُ علْمِ اللهِ عز وجل وبُطُونُ عِلْمِ اللهِ، أنه عِلْمٌ عميقٌ يصلُ إلى أخفى شيءٍ، يُؤْخَذُ ذلك من قولِهِ:{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الفائدةُ المسلكيَّةُ المهِمَّةُ: وهي أن الإنسانَ إذا عَلِمَ بأن اللهَ تعالى عليمٌ بما في قلْبِه فإنه سوف يُمْسِكُ عن كلِّ إرادةٍ سيئةٍ، ويُقْدِمُ على كلِّ إرادةٍ حسنةٍ، ومنها أنه يجبُ على العبْدِ أن يُصَحِّحَ ما في قلْبِه؛ لأنَّ المدارَ عليه، قال اللهُ تبارك وتعالى:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العادياتِ: 9 - 10].

واعلمْ يا أخي أن الحُكْمَ في الدنيا على الظاهرِ والحُكمَ في الآخرةِ على الباطنِ، فهل تُحَسِّنُ ظاهِرَك ليُحْكَمَ عليك بالدنيا بما يقتضيه هذا الظاهرُ، أو تُحَسِّنُ باطِنَك ليُحْكَمَ لك يومَ القيامةِ بما يقتضيه هذا الباطنُ أيهما؟

الجوابُ: الثاني، ولهذا لا تَغْتَرَّ بكثرةِ الركوعِ، والسجودِ، وبكاءِ العيْنِ، وما أَشْبَهَ ذلك، بل انظر إلى ما في القلبِ - وإن كانت هذه الأعمالُ التي ذَكَرْتُها علامةً على صلاحِ القلبِ لكن ثَبِّتِ الإيمانَ في القلبِ -، عليك بإصلاحِ القلبِ قبل كلِّ شيءٍ، اغرزْ في قلبِك محبَّةَ اللهِ ورسولِهِ، اغرزْ في قلبِك محبَّةَ الشريعةِ وإن ثَقُلَتْ عليك، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. اغرزْ في قلبِك محبَّةَ المؤمنين، لا تَكْرَهْ أيَّ مؤمنٍ وإن أساء إليك، إن أساء

ص: 217

إليك المؤمنُ فاكره إساءتَهُ، أما هو شخصيًّا فلا تَكْرَهْه، اغرزْ في قلبِك الولايةَ لكلِّ مسلمٍ، والعداوةَ لكلِّ كافِرٍ، وهلمَّ جرًّا.

المهمُّ أن تعتنيَ بصلاحِ قلبِك؛ لأنَّه هو الذي عليه مدارُ الحسابِ يومَ القيامةِ؛ قال اللهُ تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِر} [الطارقِ: 8 - 9]؛ أي: تُخْتَبَرُ السرائرُ، اللهمُّ أَصْلِحْ ظواهِرَنَا وبواطِنَنا يا ربَّ العالمين.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أن المدارَ على القلوبِ، وأنها في الصدورِ، القلوبُ في الصدورِ وبها العقلُ. قال اللهُ تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجِّ: 46].

وعلى هذا فيجبُ علينا أن نؤمِنَ بأن العقلَ في القلبِ؛ لأنَّ الآيةَ في هذا صحيحةٌ أو ظاهرةٌ، وأما قولُ بعضهم: إن العقلَ في الدماغِ فضعيفٌ مقابَلٌ بقولِ العالِم الخالِقِ عز وجل، ولكن الدماغَ لا شكَّ أنه إذا اختلَّ، اختلَّ تَصَرُّفُ الإنسانِ، وأصْلُ العقلِ في القلبِ لا شكَّ. قال الإمامُ أحمدُ رحمه الله: العقلُ في القلبِ وله اتصالٌ بالدماغِ

(1)

.

ونروي عن شيخِنا عبدِ الرحمنِ السّعْدِي رحمه الله: أن أحدَ المعتزلةِ حُكِمَ عليه بالقتلِ على حينِ اختلافٍ بين الناسِ في العقلِ أهو في الدماغِ أم في القلبِ؟ فقال لهم: إذا قَتَلْتُمُوني فأَبِينوا رأسي، ثم إن كان العقلُ في قلبِي حَرَّكْتُ يدي - أو قال أصبعي - وإن كان في الدماغِ راح مع الدماغِ، ففعلوا، فلما قتلوه حرَّكَ العضوَ الذي قال لهم على الوجْهِ الذي قال لهم.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (9/ 303)، والتبيان في أقسام القرآن لابن القيم (ص: 404).

ص: 218

وهذا دليلٌ حسِّيٌّ - إن ثَبَتَتِ القصةُ - على أن العقلَ في القلبِ؛ لأنَّه حَرَّكَ عُضْوَهُ، إما أصبعَه، أو يَدَه على الوجهِ الذي ذَكَرَ لهم، وهذا يدلُّ على أنه استحضرَ في قلبِهِ بعد أن بان رأسُهُ استحضر في قلبِهِ ما وَعَدَهم به وأدَّاه كما وَعَدَهم، فإن ثبتتْ هذه القصةُ فدليلٌ حسِّيٌّ، وإن لم تَثْبُتْ فعندنا دليلٌ سمعيٌّ، والدليلُ السمعيُّ عند العلماءِ هو الذي ثَبَتَ بالكتابِ والسُّنَّةِ.

* * *

ص: 219