الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ شَرْعَ الدِّينِ عندَ اللهِ عز وجل وَحْدَهُ، ولهذا أَنْكَرَ اللهُ تعالى على الذين يُشَرِّعُونَ لأقوامِهِم دِينًا لم يَأْذَنْ به اللهُ، فقال:{شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن الأصلَ في العباداتِ المنعُ، إلا بدليلٍ، ولهذا إذا رأيتَ شخصًا يعملُ عملًا يتقرَّبُ به إلى اللهِ، فَأَنْكِرْ عَلَيْهِ، إلا إذا أقام دليلًا، بخلافِ غيرِ العباداتِ فالأصلُ فيها الحِلُّ، ولهذا إذا رأيْت شخصًا يفعلُ شيئًا ليس عبادةً فأنْكَرْتَ عليه فعليك الدليلُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن أديانَ الأنبياءِ واحدةٌ؛ من نوحٍ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لقولِهِ: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} فما هذا التوحيدُ في الأديانِ؟ التوحيدُ في الأديانِ هو ما أفاده قولُهُ تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحلِ: 36]، فهذه القاعدةُ العامَّةُ في جميعِ الرسالاتِ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. أمَّا الشرائعُ والمنهجُ فلكلِّ أمَّةٍ ما يناسبُها؛ لقولِهِ تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدةِ: 48].
ولهذا نَجِدُ أنَّ بني إسرائيلَ يُشَدِّدُ اللهُ على أقوامٍ منهم بالشريعةِ، ويُخَفِّفُ بالشريعةِ الأخرى، قال عيسى ابْنُ مريمَ عليه الصلاة والسلام:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آلِ عمرانَ: 50].
إذن الأصلُ هو توحيدُ الرسالاتِ، وهذا الأصلُ هو المشارُ إليه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . أمَّا الشرائعُ والمناهجُ فهذا يُشَرِّعُ اللهُ عز وجل لكلِّ أمَّةٍ ما يُناسِبُها، حتى الأُمَّةُ الواحدةُ يُشَرِّعُ لها ما يناسِبُها
في أوَّلِ أَمْرِها، وفي آخِرِ أمْرِها، كالمنسوخِ في هذه الشريعةِ الإسلاميَّةِ.
فإن قال قائلٌ: هل شَرْعُ من قَبْلَنا شرعٌ لَنا؟
فالجوابُ: هذا فيه خلافٌ، بعضُ العلماءِ يقولُ: شرعُ من قَبْلَنا شرْعٌ لنا، وبعضُهُم يقولُ: لا، شرعُ من قَبْلَنا لهم، ولنا شَرْعُنا؛ لقولِهِ:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدةِ: 48]، والمسألةُ لها ذيولٌ طويلةٌ، وبحوثٌ عميقةٌ في أصولِ الفقهِ، والظاهرُ لي: أنَّ شَرْعَ من قَبْلَنا الذي أوحاه اللهُ إلينا شرعٌ لنا؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يُوحِ إلينا عبثًا، بل لنَعْتَبرْ ثم إنْ نُسِخَ في شريعَتِنا نُسِخَ، ولذلك تَجِدُ العلماءَ يستنبطون أحكامًا كثيرةً من قصصِ الأنبياءِ، ولشيخِنا رحمه الله فوائدُ مستنبَطةٌ من قِصَّةِ يوسُفَ عليه السلام في رسالة.
فإن قال قائلٌ: هل النَّسْخُ شاملٌ لكلِّ أمةٍ سابقةٍ، أو هو خاصٌّ لأمَّةِ محمدٍ؟
فالجوابُ: لا، بل لنا ولغيرِنا، قالَ اللهِ تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساءِ: 160]، هذا نَسْخٌ؛ كانت هذه الطَّيِّباتُ حلالًا ثم نُسِخَتْ وحُرِّمَتْ والشريعةُ واحدةٌ، أما الشريعتان فقال عيسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيلَ:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آلِ عمرانَ: 50].
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ نبوَّةِ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم السلام؛ لقولِهِ تعالى: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: عنايةُ اللهِ تبارك وتعالى بالشرائعِ؛ حيث جعل ذلك وصيَّةً، والوصيَّةُ هي العهدُ بالشيءِ المهتمِّ به.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ هذا القرآنَ الكريمَ وحيٌ أوحاه اللهُ تعالى إلى رسولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لقولِهِ: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن القرآنَ شاملٌ لجميعِ الشريعةِ؛ لقولِهِ: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .
فإن قال قائلٌ: في الشريعةِ ما لا يُوجَدُ في القرآنِ تفصيلًا؟
فالجوابُ: تكفي الإشارةُ إليه. يعني: لو أننا بَحَثْنَا هل في القرآنِ ما يدلُّ على عددِ الصلواتِ، وعلى عددِ ركعاتِها، وعلى كيفِيَّتِها لكان الجوابُ: لا يوجَدُ. لكنَّ كَوْنَ اللهِ عز وجل يأمُرُنا أن نطيعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأن نَتَّبِعَه يكفي، لأنَّ سُنَّةَ الرسولِ عليه الصلاة والسلام قد أُمِرْنَا بها، وبكلِّ ما تتضمنه، وعلى هذا تكونُ الشريعةُ كُلُّها موجودةً في القرآنِ، إما بالإشارةِ والإيماءِ، وإما بالتصريحِ.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إثباتُ رسالةِ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - حيث قال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن الأممَ جميعَهُم مأمورون بإقامةِ الدِّينِ، وعدمِ التفرُّقِ فيه؛ لقولِهِ:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ التفرُّقَ في دينِ اللهِ مُنافٍ للذي أوحى اللهُ إلى رسولِهِ صلى الله عليه وسلم ووصَّى به نوحًا وإبراهيمَ وموسى وعيسى.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أن ما يدعو إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التوحيدِ كان عظيمًا وشاقًّا على المشركين؛ لقولِهِ: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} .
ويتفرَّعُ على هذه الفائدةِ: أنه متى ما كان التوحيدُ كبيرًا على المشركين، فلا بدَّ أن يَسْعُوا بكلِّ جهودِهِم على إحباطِ هذا التوحيدِ؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ بمقتضى فِطْرَتِهِ لا بدَّ أن يسعى في إزالةِ ما يكونُ شاقًّا عليه. ويتفرَّعُ على ذلك فائدةٌ: وهو الحَذَرُ من كَيْدِ المُشْرِكين.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام كان يدعو المسلمين وغيْرِ المسلمين لدِينِ اللهِ؛ لقولِهِ: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} وهذا قد وَقَعَ تطبيقُهُ، وشاهِدْهُ في حالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان يَخْرُجُ إلى البلادِ الأخرى لِيَدْعُوَ الناسَ إلى التوحيدِ، كما خَرَجَ إلى الطائفِ، وكان في مَوْسِمِ الحَجِّ يَعْرِضُ نَفْسَهُ على القبائِلِ عليه الصلاة والسلام يأتي لكلِّ قبيلةٍ ويدعوهم، ويقولُ:"ألا أحدَ يؤويني - أو كَلِمَةً نَحْوَها - حتى أُبَلِّغَ رسالةَ ربي، فإن قريشًا منعوني أن أُبَلِّغَ كلامَ ربي"
(1)
.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أن اللهَ قد يَمُنُّ على بعضِ العِبَادِ بالإجتباءِ والهدايةِ؛ لقولِهِ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إثباتُ مشيئةِ اللهِ عز وجل لفعْلِ العبْدِ؛ لقولِهِ: {يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} فيكونُ فيها رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ، الذين يقولون: إن الإنسانَ مستقلٌّ بعمَلِه، ولا مشيئةَ للهِ تعالى في فِعْلِه.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إثباتُ الهدايةِ لكلِّ مُنيبٍ، وهذه الهدايةُ غيرُ الإنابةِ، الإنابةُ هدايةٌ سابقةٌ؛ لكن كلما أناب الإنسانُ إلى ربِّه ازداد هدايةً.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: عصمةُ اللهِ تبارك وتعالى مَن يُنيبُ من البدعِ والمخالفاتِ؛ لقولِهِ: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ} وهذا - بلا شكٍّ - ضدَّ البِدَعِ؛ لأنَّ البدعَ ليس فيها هدايةٌ إلى اللهِ، بل هي ضلالةٌ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الحثُّ على الإنابةِ إلى اللهِ عز وجل لأنَّه سببٌ للهدايةِ.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (3/ 390)، وأبو داود: كتاب السنة، باب في القرآن، رقم (4734)، والترمذي: كتاب فضائل القرآن، رقم (2925)، وابن ماجه: المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم (201)، والنسائي في الكبرى رقم (7680)، من حديث جابر رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الرَّدُّ على الجبريَّةِ؛ لقولِهِ: {مَنْ يُنِيبُ} فأضاف الفعلَ إلى العبْدِ، والجبريَّةُ لا يُضِيفونَ الأفعالَ إلى العبْدِ، يقولون: إن العبْدَ يَفْعَلُ بغيرِ إرادةٍ ولا اختيارٍ.
ففي الآيةِ إذن: ردٌّ على القَدَريَّةِ وردٌّ على الجبريَّةِ، وهما طائفتان مُبْتَدِعَتان مُتَطَرِّفَتان، والمذهبُ الوسطُ هو الذي يَقُولُ: إنَّ الإنسانَ لا يُجْبَرُ على عملِه، وأنه يفعلُ الفعلَ باختيارِه، ولا يَشْعُرُ أنَّ أحدًا أَجْبَرَهُ، لكننا نَعْلَمُ أن هذا الفعلَ الذي وَقَعَ منه واقعٌ بمشيئةِ اللهِ وإرادةِ اللهِ، ولا يُمْكِنُ أن يستقلَّ الإنسانُ بشيءٍ في الكَوْنِ من دونِ اللهِ عز وجل.
* * *