المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (40) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌ ‌الآية (40) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ

‌الآية (40)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].

* * *

قولُهُ: [{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} سُمِّيَت الثَّانيةُ سَيِّئَةً؛ لمُشَابَهَتِها للأُولى في الصُّورةِ، وهذا ظاهرٌ فيما يُقْتَصُّ فيه من الجِراحاتِ، قال بعضُهُم: وإذا قال له أخزاك اللهُ، فيجيبُه أخزاك اللهُ] قولُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} هذه في الحقيقةِ قاعدةٌ أنَّ للإنسانِ أن ينتقم لنفْسِه السَّيِّئَةِ بمِثْلِها لا يَزيدُ؛ لأنَّه إن زاد فقد ظَلَمَ، والزِّيادةُ قد تكونُ في الكمِّيَّةِ، وقد تكونُ في الكيفيَّةِ، وقد تكونُ في النَّوعيَّةِ.

فإذا انتصر لنفْسِه فَضَرَبَ من ظَلَمَه ثلاثًا وقد ظَلَمَه باثْنَتَيْنِ هذا من بابِ الكمِّيَّةِ. وإذا ضَرَبَ من ضَرَبَه ضَرْبًا خفيفًا فانتصر لنفْسِه بِضَرْبٍ ثقيلٍ. هذا من بابِ الكيفيَّةِ، وإذا ضَرَبَ من اعتدى عليه بسوْطٍ ضعيفٍ بسوْطٍ أكْبَرَ، هذا من بابِ النَّوعيَّةٍ.

المهِمُّ: أنَّه لابدَّ أن تكونَ المُجازاةُ بمثْلِ السَّيِّئَةِ الَّتي أُسِيءَ إليه فيها ولا تزيدُ، فإن زاد فهو ظالمُ: ولهذا يُقالُ: هذه بهذه والبادئُ أَظْلَمُ.

فإن قال قائلٌ: إذا ظُلِمَ فدعا على الظَّالِمِ فهل لا يجوزُ له أن يَدْعُوَ عليه بأكثَرَ من مَظْلمَتِهِ.

ص: 293

فالجوابُ: هذا هو الواجِبُ؛ لكن قد يَظُنُّ الظانُّ أنَّ هذه المَظْلِمَةَ لا يسوغُ أن يُتَجَاوَزَ فيها، وهي مَظْلِمَةٌ عظيمةٌ؛ كدُعاءِ سعدٍ رضي الله عنه على من ظَلَمَه، وقال: إنَّه يَظْلِمُ الرَّعيَّةَ، ولا يَقْسِمُ في السَّوِيَّةِ، ويؤخِّرُ الصَّلاةَ عن وَقْتِها. فدعا عليه بدعوةٍ عظيمةٍ: اللهمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمرَهُ، وَعَرِّضْهُ للفِتَنِ

(1)

.

فهذه قد يقولُ القائلُ: إن هذه أكبرُ من ظُلْمِه، ولكنَّها في الحقيقةِ ليست أكبرَ؛ لأنَّ ظُلْمَهُ له يَتَضَمَّنُ القَدْحَ في وَلِيِّ الأمْرِ، حيث وَلَّى على النَّاسِ مِثْلَ هذا.

مسألة: إذا ضَرَبَ مثلما ضُرِبَ يكفي، ونعلمُ أنَّ الضَّربةَ أكثرُ العُلَمَاءِ يقولون: لا قِصاصَ فيها؛ إلَّا أن يموتَ، ونَعْلَمُ أنَّ مِثْلَ هذه الضَّربةِ تَقْتُلُ غالبًا، فيُقْتَصُّ منه.

لكن لِنَقُلْ غَيْرَ هذه المسألةِ: فقيرٌ أخَذ منه غنيٌّ عَشَرَةَ ريالاتٍ، صار الفقيرُ مُعْدَمًا، هذا الَّذي أَخَذَ منه عَشَرَةُ ريالاتٍ عنده ملايينُ، إذا أُخِذَ منه عَشَرَةُ ريالاتٍ ما ضَرَّه شيءٌ، فنقولُ: العدلُ أن يُعْطى هذا مِثْلَ ما أُخِذَ منه فقط.

فإن قال قائلٌ: أحيانًا يموتُ الظَّالمُ ولم يُقتصَّ منه، فهل يجوزُ الدُّعاءُ عليه بعد موتِهِ؟

فالجوابُ: لا بَأْسَ، له أن يَدْعُوَ عليه ولو بعد موتِهِ؛ مع أنَّ المظلومَ لو فُرِضَ أنَّه لم يَدْعُ؛ فإنَّ حَقَّه سوف يأتيه يومَ القيامةِ، وهو إذا استوفى بالدُّعاءِ عليه لم يَأْخُذْ من حسناتِهِ يومَ القيامَةِ.

(1)

أخرجه عبد الرزاق (2/ 360)، والبزار رقم (1062)، وأبو يعلى رقم (693)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

ص: 294

وقوْلُ المفسِّرِ رحمه الله: [سُمِّيَتِ الثَّانيةُ سَيِّئَةً لمشابَهَتِها الأُولى في الصُّورةِ]، فيه نظرٌ واضحٌ فالمقاصَّةُ سيئةٍ، لكن ليست سيئةً بالنِّسبةِ للفاعِلِ، بل هي سيئةٌ بالنِّسبةِ لمن اقْتُصَّ منه، تسوؤُه وتؤلمُه وترُدُّ اعتبارَه إذا كان يرى أنَّه فوق صاحبِه، فهي سيئةٌ لا باعتبارِ الفاعِلِ ولكن باعتبارِ المُقْتَصِّ منه.

وأمَّا قولُهُ: [لمشابَهَتِها الأُولى] فلا يُمْكِنُ أن تُطْلَقَ السَّيِّئةُ لمُطْلَقِ المشابَهَةِ، أو لمجرَّدِ المشابَهةِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} هذا في الواقِعِ هذه قاعدةٌ في جميعِ الإقتصاصِ، فلننظرْ إذا شقَّ ثَوْبَكَ فهل تشقُّ ثوبَهُ؟ ظاهرُ الآيةِ نعم، لكن إذا كان ثوبُك رديئًا يساوي عَشَرَةً وثوبُهُ جيدًا يساوي مئةً، إذا شَقَقْتَه يَنقُصُ العُشْرَ، مثلًا هذا الثوبُ يساوي عشرةَ ريالاتٍ شَقَّه المعتدي بشقٍّ يُنْزِلُ قيمتُه العُشْرَ، أي: ريالًا واحدًا، فهل نقولُ: العِبْرةُ بالمعنى فإنه لمَّا شقَّ ثوْبَكَ أَذَلَّكَ وأنت إذا اقْتَصَصْتَ منه وشَقَقْتَ ثَوْبَهُ أَذْلَلْتَه، وهو البادئُ، فَنَشُقُّ ثَوْبَهُ ولو كان أغلى؛ لأنَّ هذا الَّذي ثوْبُهُ بعَشَرَةٍ يَنْكَسِرُ اعتبارُه كالَّذي ثوبُهُ بمئةٍ، والمقصودُ إذلالُ المعتدي وكسْرُ اعتبارِهِ. وعلى هذا فنقولُ: من شَقَّ ثَوْبَكَ فَشُقَّ ثَوْبَهُ.

وهل المُعْتَبَرُ المساحةُ أو المُعْتَبَرُ النِّسبةُ؟ يعني مثلًا: هذا إنسانٌ قصيرٌ شُقَّ ثَوْبُه بمقدارِ شِبْرٍ، الشِّبْرُ هذا يُساوي العُشْرَ مثلًا من ثوْبِه، والآخرُ طويلٌ جدًّا شُقَّ ثَوْبُهُ بمقدارِ شِبْرٍ، هل يتساوى في النِّسبةِ مع ذاك؟

الجوابُ: لا يتساوى، إذن: العدلُ أن يَكُونَ المُعْتَبَرُ النِّسبةَ؛ فإذا شُقَّ نِصْفُ هذا الثوْبِ القصيرِ، مساحتُهُ ذراعٌ، والطَّويلُ شَقَّهُ بمساحةِ ذراعٍ، لكنه طويلٌ، طولَ الأوَّلِ مرتين، لا يكفي. نقولُ شُقَّ إلى أن تَبْلُغَ النِّسبةَ، إذا كان العُشْرَ فهذا العُشْرُ؛ لأنَّ هذا هو العدلُ في الحقيقةِ، لأنَّ المعتديَ أَفْسَدَ عُشْرَ ثوبِ المُعْتَدَى عليه،

ص: 295

فَلْنُفْسِدْ عُشْرَ ثَوْبِه مع أنَّه هو المعتدي، وهذا ينطبقُ تمامًا على قولِ اللهِ تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40].

مثال ذلك: رجلٌ غاضِبٌ قال لشخصٍ: أنت حمارٌ، فهل يقولُ له: أنت الحمارُ؟

الجوابُ: يقولُهُ، لكن هل يقولُ: أنت حمارٌ وأبوك حمارٌ؟ الجوابُ: لا، هذا عُدْوَانٌ، لكن يقولُ: أنت حمارٌ.

فإذا قال له: لَعَنَكَ اللهُ، هل يقولُ: بل لعنك أنت؟

الجوابُ: معكم كتابُ اللهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فله أن يقولَ هذا؛ ولذلك إذا لَعَنَ الإنسانُ شخصًا لم يَكُنْ أهلًا له تَرْجِعُ اللَّعنةُ إلى الأوَّلِ؛ فَيُعَاقَبُ بمثلِ ما فَعَلَ.

واسْمَعْ كلامَ المفسِّرِ رحمه الله يقولُ: [وهذا ظاهرٌ فيما يُقْتَصُّ فيه من الجراحاتِ]{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الَّذي يُقْتَصُّ فيه من الجراحاتِ كُلُّ عُضْوٍ قَائِمٍ بنَفْسِه، وكلُّ جُرْحٍ ينتهي إلى عَظْمٍ، هذا فيه القِصاصُ.

وكلُّ عُضْوٍ قائمٍ بنَفْسِه مِثْلَ: العينِ والإصْبَعِ وما أَشْبَهَ ذلك، هذا يُقْتَصُّ، رَجُلٌ قَطَعَ خِنْصَرَكَ تُقْطَعُ خِنْصَرَه. أو جُرْحٌ يَنْتَهِي إلى عَظْمٍ، جَرَحَه في رَأْسِه حتَّى بان عَظْمُ رأْسِه يُقتصُّ منه، جَرَحَهُ في ساقِه حتَّى بان العظْمُ يُقْتَصُّ؛ حتَّى لو كانت طبقةُ اللَّحمِ الَّتي على العظمِ في الجاني أَغْلَظَ، يُقْتَصُّ حتَّى يَصِلَ إلى العظْمِ، فإذا كان الجُرْحُ لا يَصِلُ إلى العَظْمِ؛ مِثْلَ أن جَرَحَه في فَخِذِه جُرْحًا لم يَنْتَهِ إلى العَظْمِ؛ يقولُ الفقهاءُ: إنَّه لا يُقْتَصُّ منه، وذلك لعدَمِ انضباطِ القِصاصِ، فهو لا يَنْضَبِطُ إلَّا إذا وَصَلَ للعَظْمِ، لكن نظرًا لتقدُّمِ الطِّبِّ، نقولُ: إذا أمكن أن يُقْتَصُّ منه اقْتُصَّ منه.

ص: 296

إذا قَطَعَ يَدَه من نِصْفِ الذِّراعِ الفقهاءُ يقولون: لا يُقْتَصُّ منه؛ لعدمِ الإنضباطِ، لكن إذا كان من المِفْصَلِ، كما لو قُطِعَ كَفُّهُ من مِفْصَلِهَا، يُقْتَصُّ منه.

والصَّحيحُ: أنَّه في الصُّورةِ الأولى: إذا قَطَعَ يَدَهُ من نِصْفِ الذراعِ، أنَّه إذا أَمْكَنَ القِصَاصُ؛ فإنه يُقْتَصُّ منه.

وفي عَصْرِنا الآن يُمْكِنُ على الشَّعْرَةِ، أو أدنى من الشَّعْرَةِ؛ فإذا كان لا يُمْكِنُ، وقال المَجْنِيُّ عليه: اقطعوا يَدَهُ وأنا أعفو عما قَطَعَ من الذِّراعِ، الصَّحيحُ أنَّه يُقْتَصُّ منه؛ فتُقْطَعُ كَفُّ الجاني، وإذا أَسْقَطَ الزَّائدَ - أعني: المجنيَّ عليه - سَقَطَ. فإن قال المجنيُّ عليه: أنا أريدُ أن تَقُصُّوا كَفَّه وآخُذَ أَرْشَ الزَّائِدِ؛ له ذلك؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدةِ: 45] وهنا يقولُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .

إذن الَّذي يُقْتَصُّ به من الجراحاتِ كُلُّ عُضْوٍ مُسْتَقِلٍّ أو عَظْمٍ أو جُرْحٍ ينتهي إلى عَظْمٍ، والباقي فيه خلافُ.

قال المفسِّرُ رحمه الله: [قال بعضُهُم] يعني بعضَ العُلَمَاءِ [وإذا قال له: أخزاك اللهُ فيجيبُه أخزاك اللهُ]؛ لقولِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .

أما إذا قال: لَعَنَ اللهُ أباك فهل تقول: لَعَنَ اللهُ أباك؟ الجوابُ: لا؛ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ من لَعَنَ وَالِدَيْهِ"، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وهل يَلْعَنُ الرَّجُلُ والديه؟ قال:"نعم، يَسُبُّ أبا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أباه، ويَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ"

(1)

هذا يَدُلُّ على

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه، رقم (5973)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (90)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وليس فيهما قوله:"لعن الله من لعن والديه" وإنما أخرجه مسلم: كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، رقم (1978)، من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 297

عدمِ الجوازِ؛ لأنَّ قولَ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام هذا، لبيانِ الواقعِ لا لبيانِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ، يعني: إن جرت العادةُ في المُسَابَّةِ بين النَّاسِ أنَّ الرَّجلَ إذا سَبَّ أبا الرَّجُلِ سَبَّ أباه.

وانْزِلْ إلى الأسواقِ انظُرِ المسابَّةَ بين النَّاسِ، إذا سبَّ أباه سبَّ أباه، فيكونُ قولُ الرَّسولِ هذا بيانًا للواقِعِ، وبيانُ الواقعِ لا يعطي الجوازَ شَرْعًا، والدَّليلُ على أنَّ بيانَ الواقعِ لا يُعطِي الجوازَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ من كَانَ قَبْلَكُم"

(1)

، اليهودِ والنَّصارى، فليس لنا أن نَتَّبعَ اليهودَ والنصارى، ولكنَّ هذا لبيانِ الواقِعِ.

كذلك أيضًا أخبر أنَّ المرأةَ تُسافِرُ من كذا إلى كذا وَحْدَها، لبيانِ الواقِعِ، وليس لبيانِ الحُكْمِ الشرعِيِّ.

فإذا قال قائلٌ: ما هو الَّذي حَمَلَكَ على أن تَجْعَلَ قولَهُ: "يَسُبُّ أبا الرجُلِ فَيَسُبُّ أباه، ويَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ" لبيانِ الواقِعِ لا لبيانِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؟

فالجوابُ: الَّذي حَمَلَني على هذا أنَّه لا يجوزُ العدْوانُ على أحدٍ لم يقعْ منه عدوانٌ، هذا ظُلْمٌ، كيف أسبُّ أباه؟ ! هذا ظُلْمٌ لا شكَّ، والظُّلمُ لا يَأْذَنُ به الشَّرعُ، لكن لو قال قائلٌ: إنَّه إذا لَعَنَ والديه فلا تَطِيبُ نفسُ الَّذي لُعِنَ والداه إلَّا إذا لَعَنَ وَالِدَيِ الآخَرِ؛ لأنَّ لَعْنَ الوالدين إذلالٌ للولدِ، وهو يُريدُ أن يُطَيِّبَ نَفْسَه. نقولُ: الحمدُ للهِ، هذا ليس هناك ضرورةٌ؛ إذا لَعَنَ والديك الْعَنْه هو، وهذا أشدُّ في الإذلالِ.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (3456)، ومسلم: كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، رقم (2669)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 298

فالحاصلُ: أنَّه إذا دعا على أبيك وأُمِّكَ لا تَدْع على أبيه وأمِّهِ؛ لأنَّه لا ذَنْبَ لهما، والحديثُ تقدم الجوابُ عنه، أنَّه بيانٌ للواقِعِ لا للحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، ولكن لك أن تُحَوِّلَ السَّبَّ واللَّعْنَ إلى نَفْسِ الفاعِلِ لا إلى والديه.

فإن قال قائلٌ: هل القاتلُ يُقْتَلُ بِمِثْلِ ما قَتَلَ به أو يُقْتَلُ بالسَّيْفِ؟

فالجوابُ: يُقْتَلُ بِمِثْلِ ما قَتَلَ به؛ لأنَّ النَّبى- صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - رَضَّ رَأْسَ اليهوديِّ بين حَجَرَيْنِ، لأنَّه رَضَّ رَأْسَ الجاريةِ بين حَجَرَيْنِ

(1)

، وقال عز وجل:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرةِ: 194] لكن استثنى العُلَمَاءُ أن تكونَ الوسيلةُ مُحَرَّمَةً لذاتِها، فلا يُقْتَصُّ منه، قالوا: فلو تَلَوَّطَ رجلٌ بطفلٍ صغيرٍ، وهو يَعْرِفُ أنَّ هذا الفِعْلَ يَقْتُلُه، ثمَّ مات الطفلُ من أَجْلِ هذا، فلا نُقِيمُ رجلًا يتلوَّطُ بهذا. قال بعضُ العُلَمَاءِ: لا نَفْعَلُ. وهذا معلومٌ؛ لأنَّ اللِّواطُ مُحَرَّمٌ لذاتِهِ، لكن هل نُدْخِلُ خشبةً في دُبُرِهِ حتَّى يموتَ؟ وهذا له وِجْهَةُ نظرٍ؛ لكن عندي أنَّ فيه نظرًا، وذلك لأنَّ الْخشَبَةَ أشدُّ ألمًا من اللِّوَاطِ، فلا يُمْكِنُ القِصاصُ.

قولُهُ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (مَنْ) هذه شَرْطِيَّةٌ، وفِعْلُ الشَّرْطِ {عَفَا} ، والمعطوفُ عليه جملةُ {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} هي جوابُ الشَّرْطِ.

يقولُ اللهُ عز وجل: {فَمَنْ عَفَا} ؛ أيْ: لم يُؤاخَذْ بالذَّنْبِ، يعني: عمَّن ظَلَمَه، {وَأَصْلَحَ} قال المفسِّرُ رحمه الله:[الوُدّ بينه وبين المَعْفُوِّ عنه {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}؛ أي: أنَّ اللهَ تعالى يَأجُرُه لا محالةَ].

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص والخصومة بين المسلم واليهود، رقم (2413)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر

، رقم (1672)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 299

قال المفسِّرُ رحمه الله: [{فَمَنْ عَفَا} عن ظَالمِه] والعفوُ عنه يعني: عدمُ مؤاخَذَتِه. {وَأَصْلَحَ} يقولُ: [الوُدُّ بينه وبين ظالمِه]. وهذا تفسيرٌ قاصرٌ جدًّا، بل المرادُ أَصْلَحَ في عَفْوِه، أي: صار عَفْوُه مشتملًا على الإصلاحِ، وإنَّما قلنا ذلك؛ لأنَّ ما ذَكَرْنَاه أعمُّ وأنْفَعُ بالنِّسبةِ للمعنى.

إذن {وَأَصْلَحَ} المُفَسِّرُ يراها قاصرةً على إصلاحِ الوُدِّ بينه وبين من ظَلَمَه، والصَّوابُ: أنَّ المُرادَ أَصْلَحَ في عَفْوِهِ؛ أي: كان عَفْوُهُ إصلاحًا.

{فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يقولُ المفَسِّرُ: [أي أنَّ اللهُ يَأْجُرُه لا محالةَ] أَجْرٌ بمعنى ثوابٍ، وسمَّى اللهُ - سبحانه - الثَّوابَ أجرًا؛ لأنَّه في مُقابِلِ عملٍ؛ كأُجْرَةِ الأجيرِ إذا قام بعمَلِه، وفيه أيضًا إيماءٌ إلى أنَّ هذا الثَّوابَ واجبٌ، كما يجبُ إعطاءُ الأجيرِ أَجْرَه، وقولُ المفَسِّرِ:[أي فإنَّ اللهَ يَأْجُرُه لا محالةَ] أَخَذَ هذا المعنى؛ يعني: قولَه: [لا محالةَ] من كَوْنِ الجملةِ اسميَّةً؛ لأنَّ الجُملةَ الإسميَّةَ تفيدُ الثُّبوتَ والإستمرارَ.

قولُهُ: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قال المفسِّرُ رحمه الله: [أي: البادئين بالظُّلْمِ فَيَتَرَتَّبُ عليهم عقابُهُ].

قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ} الضَّميرُ يَعُودُ على اللهِ عز وجل {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ؛ أي: المعتدين سواءٌ ظلموا أنْفُسَهم أو ظلموا غَيْرَهم؛ فصاحبو المعاصي غَيْرُ محبوبين إلى اللهِ عز وجل والمعتدي على عبادِ اللهِ غيرُ محبوبٍ للهِ عز وجل وقولُ المفَسِّرِ رحمه الله: [أي: البادئين بالظُّلْمِ]، فيه نظرٌ؛ فالآيةُ عامَّةٌ، تَشْمَلُ الظَّالمين ابتداءً والظَّالمين في الثَّاني. بمعنى: أنَّ المبتدئَ بالظُّلمِ غيرُ محبوبٍ إلى اللهِ، وكذلك من تجاوَزَ في حَقِّهِ؛ فإنه غيرُ محبوبٍ عند اللهِ؛ فإبقاءُ الآيةِ على إطلاقِهَا أَوْلَى؛ أي:{لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ابتداءً، ولا اقْتِصاصًا.

ص: 300