الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني: تَعْتَمِدُ عليه عز وجل وأنت واثقٌ بأنه حَسْبُكَ وسيُعِينك، والتَّوكُّلُ على اللهِ نِصْفُ الدِّينِ، كما قال عز وجل:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحةِ: 5]، إذ لا يمكنُ للإنسانِ أن يأتيَ بشرائعِ الإسلامِ إلَّا بالتوكُّلِ على اللهِ والإعتمادِ عليه، انظرْ إلى قولِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وإلى قولِهِ:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هودٍ: 123]، تجدْ أنَّ اللهَ تعالى قَسَّمَ الدِّينَ إلى قِسْمين: عبادةٍ، واستعانةٍ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: التَّزهيدُ في الدُّنيا وأنَّها زائلةٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إنذارُ الكفَّارِ بأنَّ ما هم فيه من النَّعيمِ ليس بشيءٍ بالنِّسبةِ لنعيمِ الآخرةِ.
ويَقْرَأُ أهلُ التَّاريخِ أنَّ ابنَ حَجَرٍ رحمه الله صاحبَ فَتْحِ الباري كان قاضيَ القضاةِ في مِصْرَ، فمرَّ ذاتَ يومٍ برجُلٍ يهوديٍّ زيَّاتٍ - يعني يَعْمَلُ في الزَّيْتِ - كُلُّ ثيابِهِ وَسِخَةٌ وأوانيه، وفي تَعَبٍ شديدٍ، فمرَّ ابنُ حجرٍ العسقلانيُّ رحمه الله وهو قاضي القضاةِ بمَرْكَبِه، تجرُّهُ الخيولُ أو البغالُ وفي أُبَّهَةٍ، فأَوْقَفَه اليهوديُّ وقال: ما تقولون في قولِ نَبِيِّكُم: "إنَّ الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ"
(1)
؟ كيف يَتَّفِقُ هذا مع الحال الَّتي نحن عليها الآن، أنت مؤمِنٌ وفي هذا النَّعيمِ، واليهوديُّ يهوديٌّ وفي هذا العَنَاءِ والتَّعَبِ، كيف يَتَّفِقُ هذا؟
فأجابه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ جوابًا على البديهةِ، فقال: ما أنا فيه من النَّعيمِ بالنِّسبةِ لنعيمِ الآخرةِ سِجْنٌ؛ لأنَّ الآخرةَ خيرٌ، وهذا ليس بشيءٍ، وأنت بما أنت فيه من العناءِ
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، رقم (2956)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بالنِّسبةِ لعذاب النَّارِ في جنَّةٍ، فقال اليهوديُّ: أشهد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ
(1)
.
فآمَنَ على الفورِ؛ لأنَّ هذا دَخَلَ عَقْلَهُ، وأنَّ ما قاله الرَّسولُ حقٌّ، الدُّنْيا مهما كانت فهي بالنِّسبةِ للآخرةِ سِجْنٌ ما هي بشيءٍ، ولكنَّ الدُّنيا مهما كانت من الضِّيقِ فهي بالنِّسبةِ للنَّارِ جنَّةٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ حياتَنَا هذه دنيا، من الدُّنُوِّ؛ أي: القُرْبِ، أو من الدَّناءةِ؛ أي: الخِسَّةِ والحقارةِ، تَشْمَلُ المَعْنَيَيْنِ جميعًا، فهي قريبةٌ؛ لأنَّها سابقةٌ على الآخرةِ من حين يُولَدُ الإنسانُ وهو فيها، وهي دنيئةٌ؛ أي: حقيرةٌ بالنِّسبةِ للآخرةِ، إذن دنيا مُؤَنَّثُ أَدْوَنَ، وهي إمَّا من الدُّنُوِّ، وإمَّا من الدَّناءةِ وهي الحقارةُ، فبها تحقيرُ الدُّنيا.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ ما عند اللهِ خيرٌ من الدُّنيا بأجمَعِها؛ لقولِهِ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} إذن في الآيةِ التَّزهيدُ في الدُّنيا والتَّرغيبُ في الآخرةِ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: الثَّناءُ على من جَمَعَ بَيْنَ الإيمانِ والتَّوكُّلِ؛ لقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ التَّوكُّلَ عبادةٌ يَجِبُ إفرادُ اللهِ به، وجْهُ الدِّلالةِ: تقديمُ المعمولِ، هذا دليلُ وجوبِ إفرادِ اللهِ به، وأمَّا الدَّليلُ على أنه عبادةٌ فلأنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَهُ في مقامِ الثَّناءِ، ولا ثناءَ إلا في عبادةٍ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: فضيلةُ الجمْعِ بين هذه الصِّفاتِ المذكورةِ؛ لأنَّ كلَّ صفةٍ منها صفةُ مَدْحٍ لا شكَّ، لكنَّ اجتماعَها يَكُونُ أَكْمَلَ، أرأيْتَ لو وَصَفْتَ إنسانًا بالكرمِ
(1)
ذكر هذه القصة المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير (3/ 546).
فقلتَ: فلانٌ كريمٌ، أليس مدحًا؟ إذا قلتَ: شجاعٌ، انضمَّ الآن الكرمُ إلى الشَّجاعةِ وانضمامُ الصِّفتيْن بعضِهِما إلى بعضٍ يُوَلِّدُ صفةً ثالثةً، وهو جَمْعُهُ بين الصِّفاتِ، وهكذا نقولُ في كلِّ الصِّفاتِ المتعددةِ إن جَمْعَهَا يَزيدُ الموصوفَ بها ثناءً.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: وجوبُ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ لقولِهِ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} حيث قَدَّمَ المعمولَ.
فإن قال قائلٌ: أيجوزُ أن يَتَوَكَّلَ على الغَيْرِ فيما يَقْدِرُ عليه؟
فالجوابُ: نعم، ولكن لا يَجْعَلُ هذا التَّوكُّلَ تفويضًا يتعلَّقُ القلْبُ به؛ لأنَّ هناك فَرْقًا بَيْنَ أن أقولَ: يا فلانُ وَكَّلْتُكَ لِتَشْتَرِيَ لي كذا وكذا، هنا أعتمدُ عليه لكنِّي لا أفوِّضُ الأمرَ إليه، بل أنا حينما أقولُ: يا فلانُ اشترِ لي كذا وكذا، أعتبرُ نفْسِي فَوْقه؛ لأنَّني الآن أنا الَّذي بيدي الأمرُ، آمُرُهُ وأنهاه، لكنَّ الإعتمادَ الَّذي هو التفويضُ المُطْلَقُ، هذا لا يكُونُ إلَّا للهِ عز وجل.
فإذا أَوْرَدَ علينا إنسانٌ هذا الإيراد الَّذي ذَكَرْتَهُ نقولُ: الجوابُ سهلٌ، التَّوكيلُ في الشيءِ لا يدلُّ على التَّفويضِ المُطْلَقِ، التَّوكيلُ على الشَّيءِ لا يَتَعَلَّقُ القلبُ بنفسِ المتوكِّلِ عليه، بخلافِ التَّوَكُّلِ على اللهِ، فبهذا يَظْهَرُ الفَرْقُ، ويُقالُ للإنسانِ الَّذي وَكَّلَ غَيْرَه: إنه ليس ناقِصَ التَّوَكُّلِ؛ بدليلِ أن الرَّسولَ عليه الصلاة والسلام وكَّلَ عليَّ بْنَ أبي طالبٍ في حَجَّةِ الوداعِ أن يَنْحَرَ عنه بَقِيَّةَ هَدْيِهِ
(1)
، ووكَّلَ عُرْوَةَ بْنَ الجَعْدِ أن يشتريَ له أُضْحِيَّةً، أعطاه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دينارًا وقال: اشترِ لي به أُضْحيَّةً، فاشترى أُضْحِيَّتَيْن بدينارٍ، ثم باع واحدةً منهما بدينارٍ، فرجع إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ، الرَّسولُ
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218)، من حديث جابر رضي الله عنه.
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَنْقُصْه شيءٌ دينارُه الَّذي سَلَّمَهُ له رَجَعَ إليه، وشاتُهُ الَّتي يريدُها حَصَلَتْ له، فدعا له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالبَرَكَةِ في بَيْعِهِ
(1)
، فكان لا يَشْتَرِي شيئًا إلا رَبِحَ فيه، حتَّى لو اشترى ترابًا لَرَبِحَ فيه بِبَرَكَةِ دعوةِ النَّبيِّ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وأخذ العُلَمَاءُ رحمهم الله من هذه القصةِ جوازَ التَّصرُّفِ في مالِ الغَيْرِ لمصلحةٍ؛ لأنَّ عروةَ بْنَ الجَعْدِ تَصَرَّفَ، اشترى شاتين وهو مأمورٌ بشاةٍ واحدةٍ، باع واحدةً وهو لم يُؤْمَرْ بالبيعِ، لكن هذا لمصلحةِ الغَيْرِ، إلَّا أنَّه مع ذلك موقوفٌ على إجازتِهِ، فلو أنَّ هذا المتصرِّفَ قال له صاحبُه: لا أرضى بهذا التَّصرُّفِ، فإنَّه يُرَدُّ، لو عَلِمْنَا أنَّ فلانًا يريدُ أن يبيعَ بَيْتَه قد عَرَضَه للبيعِ، وجاء شخصٌ وبذل فيه مالًا كثيرًا بَذَلَ مِثْلَ قيمته مرَّتَيْن، فجاء رجلٌ تَقَدَّمَ وباعَ فإنَّه لا يجوزُ؛ لأنِّي أعرفُ أنَّ الرَّجُلَ عازمٌ على بيعِ البيتِ، وهو إذا عَزَمَ على بيعِ البيتِ سيكونُ بَيْعُه بثمنِ المِثْلِ، فإذا جاء إنسانٌ بَذَلَ أكثرَ من قيمةِ المِثْلِ مرَّتين مثلًا، وتَقَدَّمَ شخصٌ لم يوكَّلْ وباعه فالبيعُ صحيحٌ؛ لأنَّ هذا تَصَرَّفَ للغَيْرِ بما يحبُّه، لكن لو فُرِضَ أنَّ صاحبَ البيتِ قال: لا أجيزُ هذا، فحينئذٍ يُرَدُّ البيْعُ.
فيبقى إشكالٌ آخَرُ مع المشتري، المشتري يقول: أنا اشتريتُ، والموكِّلُ يقولُ: أنا لم أَرْضَ. والوكيلُ يقولُ: أنا راضٍ، فما الحلُّ؟
الجوابُ: الحلُّ إذا كان الوكيلُ قد أخبر المشتريَ بأنَّه وكيلٌ، وأنَّ البيت لفلانٍ ثمَّ قال فلانٌ وهو الموكَّلُ: أنا لا أرضى بهذا البيْعِ، فُسِخَ، وإلَّا بَقِيَ البيعُ، وضَمِن الوكيلُ ما يَطْلُبُه الموكِّلُ، واللهُ الموفِّقُ.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المناقب، رقم (3642)، من حديث عروة رضي الله عنه.