الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحتملُ العليَّ عليهم بالسلطانِ والسيطرةِ، فيكون علوًّا وصفيًّا، ويحتملُ أنه علا عليهم بذاتِهِ.
فلا يَجُوزُ لنا أن نرميَ المُفسِّر بأنه أَنْكَرَ الْعُلُوَّ، ولا أن نَشْهَدَ بأنه أَثْبَتَهُ؛ لأنَّ المُفسِّر رحمه الله من الأشاعرةِ، فلا ندري، لكننا يَجِبُ علينا إذا سَمِعْنَا كلامًا من إخوانِنا المسلمين يُمْكِنُ أن يَكُونَ له محملٌ صحيحٌ أن نَحْمِلَهُ على المحملِ الصحيحِ ما لم تُوجَدُ قرينةٌ تَمْنَعُ ذلك، وإلا فالأصلُ إذا سَمِعْتَ من أخيك كلمةً فاحْمِلْها على المعنى الصَّحيحِ، حتى لو أنك سَمِعْتَ كلمةً وقلتَ: هذا الرجلُ يَسْخَرُ بي مثلًا أو يستهزئُ لا تَحْمِلْهَا على هذا، احْمِلْها على المعنى الحقِّ.
وأمَّا {الْعَظِيمُ} فيقولُ المُفسِّر رحمه الله: [الكبيرُ] وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكبيرَ غيرُ العظيمِ، العظيمُ يعني: ذُو العَظَمَةِ، وعَظَمَةُ الشيءِ أو عَظَمةُ العظيمِ يعني: قُوَّةَ السلطانِ، قُوَّةَ العِلْمِ، قوةَ أيِّ شيءٍ يحتمل من المعاني فهو داخلٌ في كلمةِ العظيمِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: عمومُ مُلْكِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ لقولِهِ: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ؛ لأنَّ (ما) اسمٌ موصولٌ يفيدُ العمومَ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن ذلك مختصٌّ باللهِ لا يشارِكُهُ فيه أحدٌ، وذلك بتقديمِ الخبرِ، والقاعدةُ البلاغيةُ: أن تقديمَ ما حقُّهُ التأخيرُ يفيدُ الحصرَ والإختصاصَ.
فإن قال قائلٌ: يَرِدُ على قولِكم هذا أن اللهَ تعالى أَثْبَتَ للإنسانِ المُلْكَ، فقال:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، وقال:{أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61]، وما أَشْبَهَ ذلك.
فالجوابُ: أن مُلْكَ الإنسانِ في الشيءِ ليس مُلْكًا مطلقًا، ولا مُلْكًا عامًّا، فهو ليس مُلْكًا مطلقًا، إذ إن الإنسانَ لا يَمْلِكُ أن يَتَصَرَّفَ في مالِهِ كما شاء، لو أراد أن يَحْرِقَ مالَه، فليس له ذلك، ولو أراد أن يستعمِلَه في الحرامِ لم يكن له ذلك. وليس أيضًا عامًّا، فمُلْكُ كلِّ إنسانٍ منا خاصٌّ به، أنت لا تَمْلِكُ مالي، وأنا لا أَمْلِكُ مالك.
أما مُلْكُ اللهِ عز وجل فمطلقٌ عامٌّ، فَظَهَرَ الفَرْقُ بين مُلكِ الربِّ عز وجل ومُلكِ المخلوقِ، وحينئذٍ لا معارضةَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثباتُ عددِ السَّمواتِ؛ حيث جاءت بالجمْعِ، وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى في مَوْضِعٍ آخَرَ أنها سبعُ سَمواتٍ، أما الأرضُ فجاءت في القرآنِ مُفْرَدةً، لكنَّ اللهَ أشار إلى أنها جَمْعٌ في قولِهِ:{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ عُلُوِّ اللهِ عز وجل في قولِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن العُلُوَّ صفةٌ لازمةٌ، ليست من صفاتِ الأفعالِ التي إنْ شاء فَعَلَها، وإنْ شاء لم يَفْعَلْها؛ وَجْهُ الدلالةِ أن العليَّ صفةٌ مُشَبَّهَةٌ والصفةُ المُشَبَّهَةُ تفيدُ الثبوتَ وعدمَ التحوُّلِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: عمومُ علوِّ اللهِ عز وجل الشاملِ لعلوِّ الذاتِ وعلوِّ الصفةِ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثباتُ عَظَمةِ اللهِ سبحانه وتعالى في قولِهِ: {الْعَظِيمُ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إثباتُ هذين الإسمين للهِ عز وجل العَلِيُّ والعظيمُ.
واعلمْ أنَّ كلَّ اسمٍ من أسماءِ اللهِ، فإنه دالٌّ على صفةٍ، كلُّ اسمٍ دالٌّ على صفةٍ وليس كلُّ صفةٍ يُشْتَقُّ منها اسمٌ، وحينئذٍ يتبينُ أن الصِّفَاتِ أوسعُ من الأسماءِ؛ لأنَّ كلَّ اسمٍ متضَمِّنٌ لصفةٍ، وليس كُلُّ صفةٍ يُشْتَقُّ منها اسمٌ.
فمثلًا من صفاتِ اللهِ تبارك وتعالى المكرُ بمن يستحقُّ المكرَ، وهل يجوزُ أن نشتقَّ من هذه الصفةِ اسمًا من أسمائِهِ؟
الجواب: لا يجوزُ؛ لأنَّ بابَ الصفاتِ أوسعُ، من أوصافِ اللهِ أو من صفاتِ اللهِ، الصُّنْعُ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، هل يُمْكِنُ أن نشتقَّ من ذلك اسمًا للهِ هو الصانعُ؟
الجواب: لا، وعلى هذا فَقِسْ.
ثم اعلمْ أن دلالةَ الصِّفَةِ على مدلولهِا تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
دلالةِ تَضَمُّنٍ، ودلالةِ مُطَابَقَةٍ، ودلالةِ التزامٍ.
فدلالةُ الإسمِ على جميعِ معناه تسمى دلالةً مُطَابَقَةٍ، وعلى جُزْئِهِ دلالةَ تَضَمُّنٍ، وعلى شيءٍ خارجٍ لازمٍ دلالةَ التزامٍ.
ونحن نُمَثِّلُ لكم الآن بالمحسوسِ والمعقولِ إذا قلتَ: هذه دارٌ، أو هذا بيتٌ دلالتُها على جميعِ ما هُو داخِل السُّورِ دلالةُ مطابَقةٍ يعني: يَشْمَلُ الحُجَرَ - وهي الغُرفُ الأسفل - ويشملُ الغُرفَ التي في الدَّوْرِ الثاني والثالثِ، وهلمَّ جرًّا، فهذه دلالةُ مطابَقَةٍ.
ودلالةُ هذا اللفظِ على الصالةِ، وعلى المطبخِ، وما أشبهَ ذلك على واحدٍ منها دلالةُ تضمُّنٍ؛ لأنَّه يدلُّ على جزءِ المعنى.
ودلالتُهُ على بانٍ بَنَاهُ دلالةُ التزامٍ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ أن يُوجَدَ بيتٌ إلا ببانٍ. هذا مثالٌ في المحسوسِ.
أنا الآن معي هذا القلمَ دلالتُهُ على غِطائِه وعلى أصلِهِ مُطَابَقَةٌ، ودلالتُهُ على واحدٍ منها تَضَمُّنٌ، ودلالتُهُ على أن هناك مَنْ صَنَعَه دلالةُ التزامٍ.
ونأتي على أسماءِ اللهِ عز وجل نقولُ: من أسماءِ اللهِ تعالى الخالقُ البارئُ المُصَوِّرُ.
فالخالقُ دلالتُهُ على الذاتِ الإلهيَّةِ وعلى الصفةِ التي هي الخَلْقُ جميعًا دلالةُ مُطَابَقَةٍ، ودلالتُهُ على الذاتِ وَحْدَهَا أو على الخَلْقِ وَحْدَه دلالةُ تَضَمُّنٍ، ودلالتُهُ على العِلْمِ والقُدْرَةِ أنه ما من خالقٍ إلا وهو عَالِمٌ، وما من خالقٍ إلا وهو قادرٌ، هذه دلالةُ التزامٍ.
أما النوعان الأولان: دلالةُ المُطَابَقَةِ والتضمُّنِ، فهذا لا يُشْكِلُ على أَحَدٍ، كُلُّ طالبِ عِلْمٍ يُمْكِنُ أن يَعْرِفَ.
وأمَّا دلالةُ التزامٍ فهي التي تخفى على كثيرٍ من الناسِ؛ ولذلك يختلفُ فيها العلماءُ اختلافًا كثيرًا، وهنا نسألُ هل دلالةُ الإلتزامِ لازمةٌ في كلِّ قولٍ أو فيما قال اللهُ ورسولُهُ؟
الجوابُ: الثاني؛ لأنَّ دلالةَ الإلتزامِ قد يُنْكِرُهَا من تَكَلَّمَ بالكلامِ، فمثلًا نقولُ: الجهميَّةُ يقولون: إنَّ اللهَ في كلِّ مكانٍ. من لازِمِ قوْلهِم أن يكونَ في الحشوشِ والأماكِنِ القذرةِ، هم لا يلتزمون بهذا، ولو التزموا بهذا لكفروا، ولا أَحَدَ يَشُكُّ في كُفْرِهِم، لكن لا يلتزمون بهذا؛ ولذلك عَبَّرَ العلماءُ عن هذه المسألةِ: هل لازمُ القولِ قولٌ أو لا؟
نقول: أمَّا قولُ اللهِ ورسولِهِ فلازِمُهُما حقٌّ ومن قَوْلِ اللهِ ورسولِهِ، وأمَّا غيرُهُما فلا؛ لأنَّه يحتملُ إذا ألزمناه به ألا يلتزمَ، ويحتملُ إذا ألزمناه به أن يَدَعَ قَوْلَهُ؛ لئلا يلزمَ منه هذا اللازمُ الباطلُ ويحتملُ أنه حين تَكَلَّمَ لم يطرأْ على بالِهِ هذا اللازمُ.
ونحن نقولُ: أسماءُ اللهِ تعالى تدلُّ على الذاتِ الْعَلِيَّةِ على ذاتِ اللهِ، وعلى الوصفِ الذي تَضَمَّنَهُ هذا الإسْمُ، فـ (العليُّ) يدلُّ على الرَّبِّ عز وجل وعلى صفةِ العُلُوِّ، و (العظيمُ) كذلك يَدُلُّ على الرَّبِّ وعلى صفةِ العظمةِ.
والإسمُ وصفٌ - هذا لا بُدَّ في كلِّ اسمٍ -، والأثرُ. يعني: الذي يترتبُ على هذا، لا نقولُ: مقتضى الإسمِ. وليس كلُّ اسمٍ، عندنا (الحي) لا أَثَرَ فيه، فـ (الحيُّ) وصفٌ لازمٌ لذاتِهِ لا يتعدى، لكنْ إذا قلتَ: البصيرُ السميعُ هذا يتعدى إلى المسموعِ في السميعِ، وإلى المُبْصَرِ في البصيرِ.
فالضابطُ: أن الذي لا بُدَّ فيه من الإيمانِ بالأثرِ هو الإسمُ المتعدِّي.
فائدة: إذا قُلْنَا: عُلُوُّ الصفةِ شَمِلَ عُلُوَّ القَدْرِ وعلوَّ القَهْرِ، وجميعَ أنواعِ العُلُوِّ. يعني: أن هذا أَعَمُّ، وبعضُ العلماءِ يقولُ: ثلاثةُ أقسامٍ: علوُّ الذاتِ، وعلوُّ القَدْرِ، وعلوُّ القهرِ. لكن إذا قلنا: علوُّ الذاتِ وعلوُّ الصفةِ صار أشملَ وأعمَّ.
فإن قال قائلٌ: إذا كان الرجلُ مبتدعًا وأتى بكلامٍ يَحْتَمِلُ أنه على مذهبِ السلفِ أو على مذهبِ الخَلَفِ، فهل نَحْمِلُهُ على أنه على مذهبِ السَّلَفِ؟
فالجوابُ: ذَكَرْنا قبْل قليلٍ أنه يُحْمَلُ على المعنى الصحيحِ ما لم يُوجدْ قرينةٌ، فإن وُجِدَ قرينةٌ لا نَحْمِلُهُ على المعنى الصحيحِ، بل نَحْمِلُهُ على ما نَعْلَمُ من حالِ الرجلِ؛ ولهذا يقولُ البلقينيُّ: استخرجتُ اعتزالياتِ (الكشافِ) بالمناقيشِ
(1)
.
و(الكشافُ) تفسيرٌ للزمخشريِّ، تفسيرٌ جيدٌ في الواقعِ من حيث اللغةُ ومن حيث المعنى جيِّدٌ، ويتكلمُ أحيانًا عن الأمورِ الفقهيَّاتِ، وكلُّ مَن بَعْدَهُ رأيناه يستقي
(1)
انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/ 243).
منه فيما يتعلقُ بالبلاغةِ والإعرابِ، مثلَ أبي السعودِ وغيرِهِ، لكنه معتزليٌّ بَحْتٌ، ويَذُمُّ أهلَ السُّنَّةِ ويُسَمِّيهم الحشويَّةُ، تجدُ في كلامِهِ أشياءَ تَظُنُّ أنَّها جيِّدَةٌ، وتقول: هذا كلامٌ من أحسنِ ما يَكُونُ، كما في قولِ اللهِ تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] قال الزمخشري: أيُّ فوزٍ أعظمَ من أن يُزَحْزَحَ عن النارِ وَيُدْخَلَ الجنَّةَ؟
(1)
.
فهذا إذا سَمِعْتَهُ تقولُ: كلامٌ طيِّبٌ لا فوزَ أعظمُ من هذا، لكنه يشيرُ إلى نَفْيِ رؤيةِ اللهِ؛ لأنَّه من المعلومِ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى جعل رؤيتَه زيادةً على نعيمِ الآخرةِ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} هو يقولُ: أيُّ فوزٍ أَعْظَمَ من أن يُزَحْزَحَ عن النارِ وَيُدْخَلَ الجنةَ؟
الجوابُ: كلُّ واحدٍ سيقولُ: لا شيءَ، لا فوزَ أعظمُ من هذا. لكن هو يشيرُ إلى إنكارِ رؤيةِ اللهِ عز وجل؛ ولولا أننا عَرَفْنَا من مذهبِ الرجلِ أنه معتزليٌّ يُنْكِرُ رؤيةَ اللهِ عز وجل لكنا نقولُ: لا يَجُوزُ أن نَتَّهِمَه؛ لأنَّ من دَخَل الجنةَ فسوف يرى اللهَ عز وجل.
* * *
(1)
انظر: الكشاف (1/ 449).