المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (5) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌ ‌الآية (5) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ

‌الآية (5)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5].

* * *

{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} {تَكَادُ} يقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [بالتاءِ والياءِ]{تَكَادُ} و (يكادُ) أمَّا {تَكَادُ} فَمُطَابَقَتُهَا لمرفوعِها ظاهرٌ؛ لأنَّ السَّمواتِ جمعٌ، وكما قال الزمخشريُّ:

..................

كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ

(1)

إذنْ {تَكَادُ} مطابقَتُها لمرفوعِها ظاهرٌ، (يكادُ) مُذَكَّرٌ للمذَكِّر والسَّمواتُ مؤنثٌ، فما هو الجوابُ؟

الجوابُ: الجمعُ المؤنَّثُ إذا كان مجازيًّا جازَ تذكيرُهُ وتأنيثُهُ؛ أي: تذكيرُ فعلِهِ وتأنيثُهُ، تقولُ: طلعَ الشمسُ وطلعتِ الشمسُ، يَجوزُ هذا وهذا؛ لأَنَّه مجازٌ، أمَّا إذا كان حقيقيًّا - وهو الذي له فَرْجٌ من بني آدمَ أو غيرِهِم - فإنه يَجِبُ تأنيثُ عاملِهِ فتقول: قامتِ امرأةٌ ولا ريبَ، {السَّمَاوَاتُ} من المؤنثِ المجازيِّ؛ ولهذا جاء فيها قراءتان {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} ومعنى {تَكَادُ}: تَقْرُبُ، فهي من أفعالِ المقاربةِ.

(1)

انظر: حاشية الصبان على شرح الأشموني (2/ 77).

ص: 37

قال المُفسِّر رحمه الله: [{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} يعني: السبعَ (يَنْفَطِرْنَ) بالنونِ، وفي قراءةٍ بالتاءِ والتشديدِ] وهي قراءةٌ سَبْعِيَّةٌ؛ لأنَّ قاعدةَ المفسِّرِ رحمه الله أنه إذا قال: في قراءةٍ، أو قال: بالتاءِ والياءِ، أو قال: بالمدِّ والقَصْر. أن القراءةَ سَبْعِيَّةٌ، إذن لك أن تقرأ (يَنْفَطِرْنَ) و {يَتَفَطَّرْنَ} .

وَالإنْفِطَارُ بمعنى الإنشقاقِ، قال اللهُ تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الإنفطار: 1].

وقولُهُ: {مِنْ فَوْقِهِنَّ} لم يقلْ: من أسفلَ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى فوقَ والسَّمواتُ تكاد يَتَفَطَّرْنَ من فوقِهِن من عَظَمَتِهِ.

قال المفسِّر رحمه الله: [أيْ: تنشقُّ كلُّ واحدةٍ فوق التي تليها من عظمةِ اللهِ عز وجل] ولولا أن اللهَ أَمْسَكَهَا لَتَفَطَّرَتْ، كما أنه جَلَّ وَعَلَا لمَّا تجلَّى للجبلِ جعله دكًّا، فالسَّمواتُ على عِظَمِها وقُوَّتِهَا وشِدَّتِها تكادُ تَنْفَطِرْنَ من عظمةِ اللهِ جلَّ وعلا سبحانَه وبحمْدِهِ.

وقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} انظرِ العظمةَ، عظمةٌ تكادُ السَّمواتُ تتفطرُ منها، عظمةٌ أخرى بجنودِهِ جَلَّ وَعَلَا، الملائكةُ يُسَبِّحُون بحمْدِ ربِّهم.

والملائكةُ عالمٌ غيبيٌّ لا يُشاهَدُون، خَلَقَهُم اللهُ تعالى من نورٍ، وسَخَّرَهم لعبادتِهِ؛ يُسَبِّحُون الليلَ والنهارَ لا يَفْتُرُونَ، قال النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ -:"أَطَّتِ السماءُ وحُقَّ لَهَا أن تَئِطَّ، ما من موضعِ أربعِ أصابعَ منها إلا وفيه مَلَكٌ قَائِمٌ للهِ، أو راكعٌ، أو ساجدٌ"

(1)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 173)، والترمذي: كتاب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا"، رقم (2312)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

ص: 38

"أَطَّتْ" يعني: صار لها صريرٌ كصريرِ الرَّحْلِ المحملِ، الرَّحْلُ على البعير إذا ثَقُلَ الحِمْلُ صار له صريرٌ مع حركةِ السيرِ، فالسماءُ لها هذا من كثرةِ من عليها من الملائكةِ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"حُقَّ لَهَا أن تَئِطَّ".

إذن الملائكةُ تفسيرُهُم: عالمٌ غيبيٌّ، خَلَقَهُم اللهُ تعالى من نورٍ، كما ثَبَتَ عن النبيِّ

(1)

عليه الصلاة والسلام، وهو سَخَّرَهُم لعبادتِهِ، يُسَبِّحُون الليلَ والنهارَ لا يَفْتُرُونَ إذا أَمَرَهُم اللهُ بشيءٍ، لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُم، ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون، ضِدَّهُم الشياطينُ، فالشياطينُ: عالمٌ غيبيٌّ، خُلِقُوا من نارٍ، عُصَاةٌ للهِ، مستكبرون عن عبادتِهِ، وأبوهم الشيطانُ الأكبرُ إبليسُ.

فإذا قال قائلٌ: أنتم قلتم: إنهم عالمٌ غيبيٌّ، أليس جبريلُ قد شاهَدَهُ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - على خِلْقَتِهِ وله ستُّ مئةِ جناحٍ قد سدَّ الأفقَ

(2)

؟

فالجوابُ: بلى، لكنَّ هذا لا ينافي أن يكون عالمًا غيبيًّا في الأصلِ، يعني: قد يُظْهِرُهُم اللهُ سبحانه وتعالى فيراهم الناسُ وقد يتشكَّلون أيضًا، يكونُ المَلَكُ بصورةِ الآدميِّ، كما جاء جبريلُ مرةً بصورةِ رجلٍ غريبٍ، لكنه لا يُرَى عليه أثرُ السفرِ، وجاء مرةً بصورةِ دِحْيَةَ الكلبيِّ، فهم قد يتشَكَّلون بصُوَرِ الآدميِّ.

فإن قال قائِل: هذا التشكُّلُ هل هو بإرادتِهِم، أو من اللهِ عز وجل؟

فالجواب: السؤالُ عن هذا بدعةٌ، يعني: هل لنا مصلحةٌ أن نَعْرِفَ أن جبريلَ

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، رقم (2996)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، رقم (3232)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، رقم (174)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 39

يُحَوِّلُ نَفْسَهُ إلى صورةِ آدمِيٍّ، أو أن اللهَ يَقْلِبُهُ إلى صورةِ آدمِيٍّ؟ ليس لنا مصلحةٌ، لكن نَعْلَمُ أنه لم يَقَعْ ذلك إلا بإرادةِ اللهِ، سواءٌ كان بفعلٍ اختياريٍّ من جبريلَ، أو بفعلٍ خِلْقِيٍّ من اللهِ عز وجل.

نحن ليس لنا حقٌّ أن نسألَ عن ذلك، كلُّ أمورِ الغيبِ لا تَسْأَلْ عنها، أَجْرِهَا على ما جاءتْ؛ لأنَّه سَبَقَك من هو أَحْرَصُ منك على العِلْمِ وأقوى منك إيمانًا، وباشر من يستطيعُ الجوابَ والرَّدَّ، وهم الصحابةُ، ومع ذلك ما سألوا، إذا لم يَسَعْكَ ما وَسِعَ الصحابةَ فلا وسَّعَ اللهُ عليك.

ولهذا يجبُ أن نقولَ لبعضِ الشبابِ الآن الذين يبحثون في أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ ويتعمقون يجبُ أن ننهاهم، ونقولَ: اتَّقُوا اللهَ، آمِنُوا بالقرآنِ والسُّنَّةِ على ما جاءَ بالكتابِ والسُّنَّةِ ولا تبحثوا، سَبَقَكم من هو خيرٌ منكم وأَحْرَصُ على العلمِ ولم يسألوا.

ثم هُمْ إذا سألوا يسألون الرسولَ الذي قد يَنْزِلُ عليه الوحيُ ويُخْبِرُهُ اللهُ عز وجل بما سألوا عنه، أمَّا أن تسألَ إنسانًا يخطئُ ويصيبُ وأنت وهو سواءٌ في عِلْمِ الغيبِ، فهذا من الغلطِ والسفهِ، ومن مخالفةِ جَادَّةِ السلفِ، وما أحسنَ ما قاله مالكٌ رحمه الله للذي سأله عن كيفيةِ الإستواءِ قال:"السؤالُ عنه بدعةٌ، وما أراك إلا مبتدعًا"

(1)

.

فنصيحتي لكم إذا أردتُمُ السلامةَ أن تَدَعُوا السؤالَ عن الأمورِ الغيبيَّةِ، اتركوها، وإلا هذا يَرِدُ عن الإنسانِ. يعني أنه هل المَلَكُ يستطيعُ أن ينقلبَ إلى صورةِ آدمِيٍّ، أو أن هذا بأمرِ اللهِ عز وجل؟ بمعنى أنه لا يستطيعُ لكن اللهَ يَقْلِبُهُ.

(1)

أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (664)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (867)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 325)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (104).

ص: 40

ونقولُ: الطريقَ السليمَ في الجوابِ عليه أن نقولَ: السؤالُ عن هذا بدعةٌ، بدعةٌ في دينِ اللهِ، ما سأل عنه من هو خيرٌ منا، دعوه.

فإذا قال قائلٌ: الملائكةُ هل هم أجسامٌ؟

الجوابُ: نعمْ لا شكَّ، قال اللهُ تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]، وأما من قال: إن الملائكةَ كنايةٌ عن قوى الخيرِ، والشياطينَ كنايةٌ عن قوى الشرِّ، فهذا يعني إنكارَ الملائكةِ والشياطين، بل نقولُ: الملائكةُ أجسامٌ ذوو أجنحةٍ، الشياطينُ أجسامٌ تأكلُ وتشربُ، قال اللهُ تعالى:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64]، أعاذني اللهُ وإياكم من الشيطانِ.

المهمُّ: أننا نؤمنُ بأن الملائكةَ أجسامٌ، وأن الشياطينَ أجسامٌ، لكنْ لا نَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهم إلا ما عَلَّمَنا اللهُ، فما عَلَّمَنا اللهُ نَعْرِفُه وما لا فلا نَعْرِفُهُ؛ لأنَّهم عالمُ الغيبِ.

قال المُفسِّر رحمه الله: [{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أيْ: مُلابِسين للحمدِ] أفادنا المُفسِّر بقولِهِ: [أي ملابسين للحمدِ] أن الباءَ هنا للملابَسةِ والمصاحَبَةِ، ومعنى (يُسَبِّحُ): أي: يُنَزِّهُ، ومعنى بِحَمْدِ: أي: تسبيحًا مَصْبُوغًا بالحمد؛ لِأَنَّ التسبيحَ تَنْزِيهٌ وتخليةٌ، والحمدُ بالعكسِ إثباتٌ؛ فقولك:"سبحانَ اللهِ وبحمْدِه" يجتمعُ فيه تنزيهُ اللهِ عن كُلِّ نقصٍ، وإثباتُ كلِّ كمالٍ له؛ أخذْنا إثباتَ الكمالِ من الحمدِ، والتنزيهَ من التسبيحِ {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .

و(رَبٌّ) هنا بمعنى: خَالِقٌ، مَالِكٌ، مُدَبِّرٌ.

وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ} المفعولُ محذوفٌ للعِلْمِ به، فمَن هو المُسْتَغَفَرُ؟ اللهُ، ويستغفرون اللهَ، والإستغفارُ طلبُ المغفرةِ؛ لأنَّ استفعل تأتي دائمًا وغالبًا بمعنى

ص: 41

الطلبِ، تقولُ: استسقى بمعنى: طَلَبَ السُّقيا، استغفرَ بمعنى: طَلَبَ المغفرةَ، استرحمَ بمعنى: طلبَ الرحمةَ، وما أشبهَ ذلك، وقد تأتي بغيرِ ذلك كما في قولِك: استكبرَ ليس فيها طلبُ استكبارٍ، لكنه بلغَ في الكبر غايتَهُ.

وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ} أي: يطلبون المغفرةَ من اللهِ، والمغفرةُ قالوا: إنها مشتقةٌ من المِغفرِ، المغفرُ: شيءٌ يجعَلُه المقاتلُ على رأسِهِ يغطي الرأسَ ويقيه السهامَ، ففيه سترٌ ووقايةٌ، فإذا قلتَ: أستغفرُ اللهَ، أو ربِّ اغفرْ لي، فأنت تَطْلُبُ شيئْين:

الشيءُ الأولُ: السترُ، سترُ عيوبِك عن الناسِ، لو عَلِمَ الناسُ ما عندك من الذنوبِ ما رَدُّوا عليكَ السلامَ، كما قال القحطانيُّ رحمه الله:

واللهِ لو علموا خَبِيءَ سَرِيرتي

لأبى السلامَ عليَّ مَنْ يلقاني

(1)

فأنت تسألُ اللهَ أن يسترَ عليك.

الثاني: تسألُ اللهَ وقايةً من الذنبِ، وقايةَ العذابِ، كُلُّ مُذْنِبٍ مستحقٌّ للعقابِ.

لو قال الإنسانُ: المغفرةُ عدمُ المؤاخذةِ على الذنبِ، نقولُ: هذا بعضُ معناها، فمعناها: سَتْرُ الذنبِ وعدمُ المؤاخذةِ عليه.

وقولُهُ: {لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} (من) هُنَا اسمٌ موصولٌ يفيدُ العمومَ، وهو ليس عامًّا، إنما هذا عامٌّ يُرادُ به الخاصُّ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7]. إذنْ {لِمَنْ} هنا عامٌّ يُرادُ به الخصوصُ.

(1)

نونية القحطاني (ص: 18).

ص: 42

لو قال قائلٌ: إنه عامٌّ خُصِّصَ. قلنا: لا؛ لأنَّه لم يُرِدِ العمومُ من الأصلِ، إنما أُريدَ الخصوصُ {لِلَّذِينَ آمَنُوا} .

فإن قال قائلٌ: ما الفَرْقُ بين العامِّ الذي أُريدَ به الخصوصُ وبيْنَ العامِّ المخصوصِ؟

فالجواب: أي العامُّ المخصوصُ هو الذي أُريدَ عمومُهُ أولًا، ثم أُخْرِجَ بعضُ أفرادِه، مثلَ أن تقولَ: قام القومُ إلا زيدٌ والعامَّ المخصوصُ الذي أُرِيدَ به الخصوصُ لم يُرَدْ عمومُهُ أصلًا، ودلالتُهُ عقليَّةٌ دلالةُ العامِّ المخصوصِ عقليَّةٌ فمثلًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} هل هم كُلُّ الناسِ؟ هل يَفهمُ أحدٌ من هذه الكلمةِ أن جميعَ الناسِ قالوا أصلًا؟ الجواب: لا يَفْهَمُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} .

ولهذا قال المُفسِّر رحمه الله: [من المؤمنين].

وقوله: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (ألا) أداةُ استفتاحٍ تبتدِئُ بها الجملةُ، وتفيدُ شيئيْن: الأولُ: التنبيهَ، والثاني: التوكيدُ.

فقوله: {إِنَّ اللَّهَ} (إنَّ) حرفُ توكيدٍ، هو ضميرُ فصلٍ، وضميرُ الفصلِ يفيدُ التوكيدَ، وحينئذٍ يحقُّ لنا أن نقول: إن هذه الجملة أُكِّدَتْ بثلاثةِ مؤكِّداتٍ: (ألا)، و (إن)، و (هو) الذي هو ضميرُ الفصلِ:{أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ؛ ولذلك طَلَبَتِ الملائكةُ منه المغفرةَ؛ لأَنَّه سبحانه وتعالى أهلٌ لذلك، كما قال تعالى:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدَّثر: 56]، {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فبمغفرتِهِ تزولُ المكروهاتُ وبرحمتِهِ تحصلُ المحبوباتُ، غفر اللهُ لنا ولكم.

ص: 43