المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من فوائد الآية الكريمة: - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌من فوائد الآية الكريمة:

فإن قال قائلٌ: قولُهُ تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30]، ما الفَرْقُ بَيْنَه وبَيْنَ البَلاءِ الموجِبِ؟

فالجوابُ: أنَّ هذا لمن أُصِيبَه فيبَيِّنُ لهم أنَّ هذا بما كَسَبَت أيديهم؛ لعلَّهم يَتُوبون ويَرْجِعون إلى اللهِ، وأمَّا الإصابةُ بدونِ ذنبٍ فهذه لرِفْعَة الدَّرَجاتِ؛ لأنَّ الإصابَةَ يقابِلُها الصَّبْرُ، لا بُدَّ من صَبْرٍ عليها، والصَّبْرُ دَرَجَةٌ عاليةٌ لا ينالُهَا إلَّا من وُفِّقَ لها ولا يُمْكِنُ أن يُقَالَ: صابرٌ لمن لم يَمَسَّه أذًى، ولهذا كان البَلاءُ الَّذي للأنبياءِ مضاعَفًا على البَلاءِ الَّذي لغيْرِهِم حتَّى في الأمراضِ، فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ كان يُوعَكُ - يَعْنِي تأتيه الوَعْكَاتُ - كما يُوعَكُ الرَّجُلانِ منا، وشُدِّدَ عليه في المَوْتِ عليه الصلاة والسلام حتى يَكُونَ آخِرُ حياتِه على أتَمِّ مَقاماتِ الصَّبْرِ، أمَّا إذا قِيلَ ذلك في المذنبين فالمُرادُ أن يَنْتَهوا عن ذُنُوبِهِم.

‌من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: إثباتُ الأسبابِ لقوْلِه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَجْهُ ذلك: أنَّ الباءَ هنا للسَّببيَّةِ ففيه إثباتُ الأسْبابِ، وإثْباتُ الأسبابِ ثابِتٌ شَرْعًا وعَقْلًا وحِسًّا، وإنكارُه ضلَالٌ في الدِّينِ، وَسَفَهٌ في العَقْلِ.

أقولُ: تأثيرُ الأسبابِ ثابتٌ بالشَّرعِ والعقْلِ والحِسِّ، ثلاثةُ أدِلَّةٍ. وإنكارُهُ ضلالٌ في الدِّينِ وسَفَهٌ في العقْلِ.

أمَّا ثبوتُ الأسبابِ في الشَّرْعِ فكما في الآيةَ، والأدلَّةُ على هذا لا تُحْصى لا في القرآنِ، ولا في السُّنَّةِ، وأمَّا ثُبُوتُها بالعقْلِ؛ فإننا نَعْلَمُ أن كلَّ شيءٍ حادثٍ لا بُدَّ أن يَكُونَ له سببٌ يُحْدِثُه، إمَّا معلومٌ لنا، وإمَّا مجهولٌ، لا بدَّ من هذا، فالطِّفلُ لا يُمْكِنُ

ص: 252

أنْ يَنْبُتَ على ظهرِ بَطْنِ أُمِّهِ، لا بدَّ أنْ يكُونَ له سببٌ لوجودِه وبقائِهِ، وكذلك كلُّ الحوادِثِ لا بدَّ لها من سببٍ إمَّا معلومٍ، وإمَّا مجهولٍ.

أمَّا الحِسُّ فظاهرٌ أنَّ للأسبابِ تأثيرًا، لو أنَّكَ رَمَيْتَ زجاجةً بحَجَرٍ تَكَسَّرَت، فالَّذي كسرها هو الحَجَرُ. إذن لها سببٌ. لو أَوْقَدْتَ على الماءِ الباردِ صار حارًّا السَّببُ أَوْقَدْتَ عليه، هذا شيءٌ معروفٌ حسًّا، يرى بعضُ العلماءِ من سَفَاهَتِهم أنَّ الأسبابَ ليس لها تأثيرٌ إطلاقًا، سبحانَ اللهِ ليس لها تأثيرٌ، قالوا: نعم ليس لها تأثيرٌ، أليس إذا رَمَيْتَ الزُّجاجةَ بِحَجَرٍ انكسرت الزُّجاجةُ؟ قالوا: نعمْ، لكن حَصَلَ الإنكسارُ عند وُجودِ الرَّمْيِ، لا بوجودِ الرَّامي، كيف هذا؟ يقولون: لمَّا لمَسَ الحَجَرُ المقذوفُ الزُّجاجةَ انكسرت، هل هذا صحيحٌ؟ ليس صحيحًا، بدليلِ أنَّه لو أَتَيْتَ بِحَجَرٍ أَكْبَرَ من الزجاجةِ ثلاثَ مرَّاتٍ وَوَضَعْتَه جانبَ الزُّجاجةِ وَضْعًا ما انْكَسَرَت.

احتراقُ ما يَقْبَلُ الإحتراقَ في النارِ لسببٍ، وَضْعُ وَرَقَةٍ في النارِ تحترقُ فهذا أمرٌ معقولٌ مُدْرَكٌ بالحِسِّ، يقولُ: لا أبدًا لو أنك أَثْبَتَّ تأثيرَ الأسبابِ في مُسَبِّباتِها لكُنْتَ مُشْركًا باللهِ العظيمِ - أعوذُ باللهِ - لأنَّك جَعَلْتَ مع اللهِ خَالِقًا.

أقولُ: لم أَجْعَلْ مع اللهِ خالقًا، لكني أقولُ: إنَّ السَّبَبَ يؤثِّرُ لا بنفْسِه، ولا بما أَوْدَعَه اللهُ من قوَّةٍ ليس هو بنفْسِه، والدَّليلُ على هذا أنَّ نارَ إبراهيمَ وهي نارٌ عظيمةٌ أَحْرَقَتْ، جَمَعوا حطبًا عظيمًا وأَوْقَدوا عليها، حتى إنَّهم رَمَوْا إبراهيمَ بالمنجنيقِ؛ لأنَّهم لا يستطيعون أن يَحُومُوا حول هذه النارِ من حرارتِها، ماذا كانت؟ قال اللهُ تعالى لها:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانتْ بَرْدًا وسلامًا عليه فلم تؤثِّرْ.

إذن نحن نقولُ: إنَّها سببٌ لما أَوْدَعَ اللهُ فيها من قوَّةٍ، وليست المؤثِّرَةَ بنفْسِها.

ص: 253

هناك طَرَفٌ آخَرُ تَطَرَّفَ قال: الأسبابُ مؤثِّرَةٌ بنفْسِها، وهذا هو الَّذي نقولُ: إن في قولِهِ نوعًا من الشِّرْكِ، وليستِ الأسبابُ مؤثِّرَةً بنفْسِها، والدَّليلُ هو نارُ إبراهيمَ.

وعلى كلِّ حالٍ: نحن نُؤْمِنُ بأنَّ للأسبابِ تأثيرًا بما أَوْدَعَه اللهُ فيها من القُوَّةِ المؤثِّرَةِ، وأنَّ هذه القوى قد لا تُؤَثِّرُ إذا أراد اللهُ عز وجل.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الإنسانَ يُجَازَى على كَسْبِه بمثْلِ كَسْبِه؛ لأنَّه إذا كان بما كَسَبَ فلا بدَّ أن يكُونَ على قَدْرِ ما كَسَبَ، فإن كان أَزْيَدَ كان ظُلمًا، واللهُ سبحانه وتعالى لا يَظْلِمُ أحدًا.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: جوازُ التعبيرِ بالبعضِ عن الكلِّ؛ لقولِهِ: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} مع أنَّه يَشْمَلُ ما كَسَبَه الإنسانُ برِجْلِه كمَشْيِه إلى بيوتِ الدِّعارةِ والخَمْرِ، وما أَشْبَهَ ذلك، فإنَّه يُؤاخَذُ عليه.

فإذا قال قائلٌ: هل كلُّ بعضٍ يَجُوزُ أن يُعَبَّرَ به عن الكُلِّ؟

فالجوابُ: لا، ولكنْ بشَرْطِ أن يَكُونَ لهذا البعضِ تأثيرٌ على الكلِّ، فكسْبُ اليدِ له تأثيرٌ بلا شكٍّ؛ لأن أكثرَ الأعمالِ بها، أَعْتِقُ رَقَبةً، هل المرادُ أن أَضْرِبَ بصفحةٍ رَقَبَةَ العتيقِ وأقولُ: أنتِ أيَّتُها الرَّقبةُ عتيقةٌ؟ الجوابُ: لا، لكنْ عَبَّرَ بالرَّقبةِ عن الكلِّ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يُمْكِنُ أن يعيشَ بدونِ رَقَبةٍ؛ ولأنَّ الرَّقَبةَ محلُّ القتْلِ الَّتي إذا فُصِلَتْ عن البَدَنِ هَلَكَ الإنسانُ.

الخُلاصةُ: جوازُ التَّعبيرِ بالبعضِ عن الكلِّ بِشَرْطِ أن يَكونَ له أَثَرٌ فيما عُبِّرَ عنه به.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ اللهَ يَعْفُو عن كثيرٍ من الذُّنوبِ، فلا يُؤَاخِذُ بها؛ لقولِهِ:

ص: 254

{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} لكن هل هذا العَفْوُ غيرُ مضمونٍ، والدَّليلُ قولُهُ تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّساءِ: 48]، فلا يَأْخُذْكَ الأمْنُ من مَكْرِ اللهِ أن تقولَ: إنَّ هذا الذَّنْبَ ممَّا يعفو اللهُ عنه وَتَفْعَلُ الذَّنْبَ، هذا غرورٌ واغترارٌ؛ لأنَّ قَوْلَه:{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} مُقَيَّدٌ بقوْلِه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّساءِ: 48].

قال المفسِّرُ: [وهو تعالى أَكْرَمُ من أن يُثَنِّيَ الجزاءَ في الآخرةِ]. مرادُهُ رحمه الله أن المصائِبَ الَّتي تُصِيبُنا بذُنُوبِنا لا نُعَاقَبُ على ذنوبِنا في الآخرةِ، تكفي المصائبُ، هذا ظاهرُ الآيةِ؛ لأنَّ قولَهُ:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يَدُلُّ على أنَّ هذه المُصِيبةَ هي الجزاءُ، وإذا كانت هي الجزاءَ فَلَنْ يُثَنِّيَ اللهُ الجزاءَ في الآخرةِ؛ لأنَّه أَكْرَمُ من أن يُثَنّيَ الجزاءَ، وهذا صحيحٌ أنَّ ما أُصِيبُ به الإنسانُ في الدُّنْيا فهو كَفَّارةٌ عن ذُنُوبِه.

إذا أُقِيمَ عليه الحَدُّ في معصيةٍ فيها حدٌّ فهو كفَّارةٌ، إذا عُذِّرَ على ذَنْبٍ ليس فيه حدٌّ فهو كفَّارةٌ، إذا أصابتْه مُصِيبةٌ عن هذه الذُّنُوبِ فهي كفَّارةٌ، فلا يُعِيدُ اللهُ عليه العُقوبةَ في الآخرةِ إلا ذَنْبًا واحدًا وهو السَّعْيُ في الأرضِ فسادًا.

قال اللهُ تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

فهذا مُسْتَثْنًى؛ وذلك لفَداحةِ هذا النوعِ من الذُّنوبِ، فإنَّ الفَسادَ في الأرضِ ليس بالأمْرِ السَّهْلِ، فَجَعَلَ اللهُ هؤلاء المحارِبين المُفْسِدين في الأرضِ لهم عُقُوبتانِ، العقوبَةُ الأولى بقطْعِ الأعضاءِ، والثَّانيةُ {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدةِ: 33 - 34].

ص: 255

قال المفسِّرُ رحمه الله: [أمَّا غَيْرُ المُذْنِبِين فما يُصِيبُهم في الدُّنْيا لرَفْعِ درجاتِهِم في الآخرةِ]. هذا الكلامُ يُوحي بأنَّ هناك أناسًا كثيرين غَيْرَ مُذْنِبِين، وهذا عند التأمُّلِ فيه نَظَرٌ؛ لأنَّه ما من إنسانٍ إلا ويُصابُ بذَنْبٍ، حتَّى إن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ قال:"لولا لم تُذْنِبوا لَذَهَبَ اللهُ بكم ولجَاءَ بقومٍ يُذْنِبون فيستغْفِرون اللهَ فَيَغْفِرُ لهم"

(1)

، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ:"كلُّ بني آدَمَ خَطَّاءٌ وخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُوِنَ"

(2)

.

وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ عن نفْسِه: "اللهُمَّ اغْفِرْ لي ذنبي كُلَّه دِقَّه وَجِلَّه علانِيَتَه وسِرَّه وأوَّلَه وآخِرَه"

(3)

، وقال اللهُ تعالى يُخَاطِبُ نَبِيَّه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتحِ: 1 - 2] فهل يُمْكِنُ أن يَجْرُؤَ أَحَدٌ فيقولَ: إنَّ الرسولَ لم يُذْنِبْ واللهُ عز وجل يقولُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لا يُمْكِنُ أن تقولَ: لا ذَنْبَ له حتَّى يَمُنَّ اللهُ عليه بمغْفِرَتِه له. نعم الرسُلُ معصومون من شيْءٍ ليس لغيْرِهِم، وهو الإستمرارُ في الذَّنْبِ، هذا لا يُمْكِنُ، لا بدَّ أن يَعْفُوَ اللهُ عنهم، إمَّا باستغفارِهِم وتَوْبَتِهم إلى اللهِ، وإمَّا بمِنَّةِ اللهِ عليهم. قال اللهُ عز وجل لنبِيِّه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التَّحريمِ: 1 - 2]، وقال اللهُ له:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التَّوبةِ: 43]،

(1)

أخرجه مسلم: كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالإستغفار توبة، رقم (2749)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 198)، والترمذي: كتاب صفة القيامة، رقم (2499)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم (4251)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (483)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 256

هذا هو النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقولُ اللهُ له: اسْتَعْجَلْتَ فَأَذِنْتَ لهم، وهذه آيةٌ عظيمةٌ تُرَتِّبُ سَيْرَ الإنسانِ ألَّا يَتَعَجَّلَ في الأمورِ إذا كان اللهُ عاتَبَ نَبِيَّهَ؛ لأنه أَذِنَ لهم قَبْلَ أن يَتَبَيَّنَ له الأمْرُ، فما بالُكُم بغيْرِه؟ وقال اللهُ تبارك وتعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزابِ: 37].

نعم الرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ معصومون من كبائِرِ الذُّنُوبِ، معصومون من الشِّرْكِ، معصومون من سفاسِفِ الأخلاقِ، أمَّا المعاصي الَّتي دُونَ ذلك فإنَّهم غَيْرُ معصومين منها، ولكنَّهم معصومون من الإستمرارِ فيها، وهذا شيءٌ ليس لغيْرِهم. نسألُ اللهَ تعالى أن يَجْعَلَنا وإيَّاكم من أتْباعِهِ، إنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

إذن قوْلُ المفسِّرِ رحمه الله: [أمَّا غيْرُ المُذْنِبِين] غيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنَّه ما من أحدٍ إلَّا ويُذْنِبُ، كما جاء في الأحاديث، وعليه فهذا الكلامُ من المفَسِّرِ غيْرُ واردٍ، نعم من النَّاسِ من تَكُونُ له ذُنوبٌ وله أعمالٌ صالحةٌ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ دون أن يُصَابَ بمُصِيبةٍ، هذا واقِعٌ كثيرًا.

حكى رجُلٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى امرأةً، وأصاب منها ما يُصيبُ الرجُلُ من امرأتِهِ، غَيْرَ أنَّه لم يَزْنِ بها فقال:"أَشَهِدْتَ معنا صلاةَ الفَجْرِ؟ قال: نعم، قال له: إنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"

(1)

، فصلاتُهُ الفَجْرَ أَذْهَبَت السَّيِّئاتِ.

وكذلك قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَواتُ الخمْسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورمضانُ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب إذا أقر بالحد ولم يبين، رقم (6823)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، رقم (2764)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 257

إلى رمضانَ، مُكَفِّراتٌ لمَا بَيْنَهُنَّ مُجَنِّباتٌ للكبائِرِ"

(1)

.

فائدةٌ: أوَدُّ أن أُنَبِّهَكم! فأنتم طَلَبَة عِلْمٍ جئتُم من بلادِكم إلى هنا لطَلَبِ العِلْمِ، وأنتم في بلادِكم تَطْلُبُون العِلْمَ؟ لكن ما فائدةُ العِلْمِ؟ هل فائدةُ العِلْمِ أن يَكُونَ الإنسانُ نُسْخةً من كِتابٍ يَجْمَعُ في دماغِهِ ما يَجْمَعُ، أم فائدةُ العِلْمِ العَمَلُ؟ الجوابُ: الثَّاني، ولا خَيْرَ في عِلْمٍ لا عَمَلَ فيه، والعِلْمُ بدونِ عمَلٍ به حُجَّةٌ على الإنسانِ؛ لقولِ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ:"الُقْرآنُ حُجَّةٌ لك أو عَلَيْكَ"

(2)

لا يُوجَدُ قسْمٌ ثالثٌ، وإذا عَمِلَ الإنسانُ بعِلْمٍ وَرَّثَهُ اللهُ تعالى عِلْمَ ما لم يَكُنْ يَعْلَمُهُ من قَبْلُ، كما قال اللهُ تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} [محمَّدٍ: 17]{زَادَهُمْ هُدًى} ؛ أيْ عِلْمًا {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمَّدٍ: 17] أيْ: صاروا مُتَّقِين للهِ عز وجل فالعملُ بالعِلْمِ مُهِمٌّ، والمقصودُ من العِلْمِ أن يتربَّى الإنسانُ به حتَّى يَكُونَ عالِمًا ربانيًّا.

أنا أَنْقِمُ من بَعْضِ الطَّلبة شيئًا مهمًّا وسهلًا وهو إفشاءُ السَّلامِ. نشاهدُ الآن الواحدَ يمرُّ بزميلِه وهو واقفٌ ولا يقولُ: السَّلامُ عليكم، لماذا؟ أرغبةً عن السُّنَّةِ، أم زُهْدًا في الأجْرِ، أنا لا أدري، أم إيجادَ سببٍ للكراهةِ والعداوةِ؟ لأنَّ الإنسانَ إذا مرَّ بك ولم يُسَلِّمْ لا بُدَّ أن يَكُونَ في قلْبِك شيءٌ إلَّا من تَحَجَّرَ قَلْبُه واعتاد عَدَمَ السَّلامِ، فهذا ميِّتٌ، ثمَّ إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْسَمَ قال: "واللهِ لا تَدْخُلُوا الجنَّةَ حتى تُؤْمِنوا ولا تُؤْمِنوا حتى تَحَابُّوا - داخل في القَسَمِ - أفلا أَدُلُّكُم أو قال: أخُبْرِكم - بشيءٍ إذا

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، رقم (233)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم (223)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 258

فَعَلْتُمُوه تَحَابَبْتُم أفشُوا السَّلامَ بَيْنكم"

(1)

.

لماذا لا نُفْشِيه بَيْنَنا مع أنَّ المُسَلِّمَ إذا سَلَّم يأتيه عَشْرُ حسناتٍ، وأظنُّ لو أنَّ أحدًا قيل له: كلما سَلَّمْتَ أَعْطَيْنَاكَ دِرْهمًا ريالًا واحدًا يُسَلِّمُ، ويتردَّدُ مَرَّةً ومرَّةً ومرَّةً كيْ تَكْثُرَ الدَّراهمُ، مع أنَّ هذه الدَّراهمَ الَّتي حَصَّلَها زائلةٌ في الواقِعِ، كلُّ ما تَمْلِكُه في الدنيا فإمَّا أن يَزُولَ عنك، وإمَّا أن تَزُولَ عنه ولا بدَّ، لكنَّ الحسنَةَ تبقى لك وتَجِدُها أشدَّ ما تكونُ حاجةً إليها.

أوصيكم: بالعملِ بالعِلْمِ، فإن لم تَعْلَمُوا فأنتم نُسَخٌ كالكُتُبِ في الجدرانِ، ومع ذلك الكُتُبُ في الجدرانِ سالمةٌ، أمَّا أنتم إذا لم تَعْمَلُوا فَغَيْرُ سالِمين، واللهِ غَيْرُ سالمِين، اعْمَلُوا، تَرَبَّوْا بالعِلْمِ في عبادةِ اللهِ، وفي معامَلةِ عبادةِ اللهِ، وفي معامَلةِ أنْفُسِكم، هذه نصيحةٌ أرجو ألَّا تَغِيبَ عن بالِكُم فإنَّها إن شاء اللهُ مفيدةٌ، واللهُ المُوَفِّقُ.

فإن قال قائلٌ: يكونُ الشَّخصُ في مكانٍ يقرأُ أو يكتبُ، ثمَّ الإنسانُ يريدُ حاجةً من مكانٍ آخَرَ يَمُرُّ عليه، هل كلما مرَّ يُسَلِّمُ عليه ولو كان يخشى أن يقاطِعَه؟

الجوابُ: أوَّلًا، إذا رأيْتَ إنسانًا مشغولًا وتخشى أنك لو سَلَّمْتَ عليه شَوَّشْتَ عليه فلا تُسَلِّمْ؛ لأنَّ هذا من مَصْلَحَتِه، ولهذا قال الفقهاءُ: يُكْرَهُ السَّلامُ على إنسانٍ مُشْتَغِلٍ بِذِكْرٍ، أو أَكْلٍ، أو غَيْرِه، لكن لا أريدُ أنا هذه الحال، فهذه ربَّما يكونُ الَّذي لم يُسَلِّمْ أَفْرَحَ منه ممن لو سَلَّمَ عليه، لكن إذا كان يَلْبَسُ حذاءَهُ ومَرَّ إنسانٌ من عنده فتَجاوَزَه ولم يُسَلِّمُ فلماذا لا يُسَلِّمُ؟ واللهِ أكادُ أَتَقَطَّعُ أن أرى طَلَبةَ عِلْمٍ يرى بعضُهُم البعضَ ولا يُسَلِّمُ.

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، رقم (54)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 259

فإن قال قائلٌ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ إذَا سَلَّمْتَ عليه جَعَلَ يَنْظُرُ إليك.

فالجوابُ: هذا صحيحٌ، والسَّببُ أنَّ هذه السُّنَّةُ مَيِّتةٌ عندنا، أمَّا العوامُّ فنعم بعضُ العوامِّ إذا سَلَّمْتَ عليه حَيَّاكَ؛ لأنَّهم لم يعتادوا هذا، أمَّا طالبُ العِلْمِ في هذا ليس له حَقٌّ.

فإن قال قائلٌ: هل أُسَلِّمُ لو مَرَرْتُ على ناسٍ كثيرين؟

فالجوابُ: إذا كانوا جالسين هكذا صفًّا سَلِّمْ عند أَوَّلهِمْ يكفي.

فإن قال قائلٌ: بعضُ الطَّلبةِ حريصون على السَّلامِ، وبعضُهُم قد ينسى أحيانًا، لكنَّ الشَّخصَ لا تَدْري إما سَلَّمَ أو تَنَحْنَحَ؟

فالجوابُ: الإشتباهُ بَيْنَ التَّنحنحِ والسَّلامِ غَيْرُ واردٍ. وهناك من لا يَنْطِقُ بها شيئًا، ربَّما يَهْمِسُ بها همسًا، وهذا غَلَطٌ، سَلِّمْ سلامًا واضحًا، كما أنَّ بعضَ النَّاسِ بالسَّيَّاراتِ الآن يَضْرِبُ بمنبِّه السَّيارة، وهذا غَلَطٌ أيضًا، لكن ربَّما يقولُ بعضُ النَّاسِ: يضرب بمنبِّه السَّيارة كي أَنْتَبِهَ وأُسَلِّمَ.

* * *

ص: 260