المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من فوائد الآية الكريمة: - تفسير العثيمين: الشورى

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (22، 23)

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (32 - 35)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (44، 45)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية: (46)

- ‌من فوائدِ الآية الكريمةِ:

- ‌(الآية: 47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان: (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائِدِ الآية الكريمةِ:

- ‌الآيتان (52، 53)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌من فوائد الآية الكريمة:

قال المُفسِّر رحمه الله: [{مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} يَدْفَعُ عنهم العذابَ] أي: {مِنْ وَلِيٍّ} يَتَوَلَّاهم ويَتَحَمَّلُ عنهم، {وَلَا نَصِيرٍ} يَدْفَعُ عنهم، فليس لهم من يُسَلِّيهم في حالِ المصيبةِ، ولا من يَدْفَعُ عنهم إذا وَقَعَتْ.

‌من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: إثباتُ مشيئةِ اللهِ عز وجل؛ لقولِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8].

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ، والقدرَّيةُ هم الذين يقولون: إن اللهَ سبحانه وتعالى لا عَلَاقَةَ له في فعلِ العبدِ، يقولون: العبدُ مستقلٌّ ليس للهِ فيه إرادةٌ، وغُلاتُهُم يُنْكِرُونَ عِلمَ اللهِ بأحوالِ العبدِ إلا ما وقع منها، يقولون: إن اللهَ لا يَعْلَمُ ماذا يَصْنَعُ العبدَ، لكن إذا صَنَعَهُ العبدُ عَلِمَ به، وهؤلاء لا شكَّ في كُفْرِهِم؛ لأنَّهم أنكروا عِلْمَ اللهِ، مُقْتَصِدُوهم يُنْكِرُونَ المشيئةَ والخَلْقَ، هذا الذي استقرَّ عليه رأيُهُم، يقولون: إن اللهَ لا مشيئةَ له في فعلِ العبْدِ، وليس خالقًا لفعلِ العبدِ، العبدُ حرٌّ، يقولُ وَيسْكُتُ، يَفْعَلُ ويتركُ، ينامُ ويستيقظُ استقلالًا ليس للهِ فيه مشيئةٌ؛ ولهذا سُمُّوا مجوسَ الأمةِ المحمَّدِيَّةِ؛ لأنَّهم بهذه العقيدةِ يجعلون للحادثِ خَالِقَيْنِ، حوادثُ العبادِ خَلَقَهَا العِبادُ، وحوادثُ اللهِ خَلَقَها اللهُ، ولهذا يُسَمَّوْنَ مجوسَ الأمةِ الإسلاميَّةِ.

ففي الآياتِ الكريمةِ ردٌّ عليهم، وَجْهُ الرَّدِّ:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} كما قال تعالى في سورةِ هودٍ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119].

وهذا فيه الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ، وفيه حُجَّةٌ للجَبْرِيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ قال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} إذن هُمُ انقسموا بمشيئةِ اللهِ، وما شاء اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، فهذا دليلٌ على أنَّ الإنسانَ لا اختيارَ له، بل فِعْلُهُ بمشيئةِ اللهِ.

ص: 68

فيقالُ: هذا مما احتجَّ به مَن في قلوبِهِم زَيْغٌ؛ لأنَّ الذين في قلوبِهِم زيغٌ يتبعون المتشابِهَ ويَدَعُونَ المُحْكَمَ، يَتَّبِعُون المتشابِهَ في مثلِ هذه الآيةِ، ويقولون: هذا دليلٌ على أن فِعْلَ العبدِ بمشيئةِ اللهِ ولا يُمْكِنُ لأحدٍ أن يُغَيِّرَ مشيئةَ اللهِ.

نقولُ: سبحانَ اللهِ! أنتم نظرْتُمْ إلى الأدلَّةِ بعينِ أعورَ، والعينُ الباقيةُ عليها غبشٌ أو غمشٌ

(1)

ليستْ جيدةً، فنظروا بعينِ أعورَ وَرُبُعٍ أو أَكْثَرَ، هناك آياتٌ صريحةٌ في إضافةِ العملِ إلى الإنسانِ نفسِهِ، وأنه بمشيئةِ الإنسانِ، أليس اللهُ يقولُ:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]؟ أليس اللهُ تبارك وتعالى يقولُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]؟ والآياتُ في هذا كثيرةٌ.

أليس الإنسانُ يُحِسُّ بنفْسِهِ أنه يفعلُ الفعلَ ولا مُكْرِهَ له، أنت تأتي إلى المسجدِ بدونِ أن يُكْرِهَكَ أحدٌ، تَدْخُلُ المسجدَ بدونِ أن يُكْرِهَك أحدٌ، تَخْرُجُ من المسجدِ بدونِ أن يُكْرِهَك أحدٌ، وهذا شيءٌ ملموسٌ، إذن ما معنى كونِنا فِعْلُنَا بمشيئةِ اللهِ؟ نقولُ: معنى فِعْلُنَا بمشيئةِ اللهِ: أننا مَهْمَا فعلنا من شيءٍ فاللهُ قد شاءه، ومشيئتُهُ له سابقةٌ لمشيئتِنا، لكننا لا نعلمُ بمشيئةِ اللهِ إلا بَعْدَ وقوعِ الشيءِ، فنعرفُ أن اللهَ قد شاءه.

فنحن الآن نشاءُ، أنا الآن أشاءُ أن أَتَكَلَّمَ معكم، وأشاءُ أن أُحَرِّكَ يدي، فهل شاء اللهُ أن أَتَكَلَّمَ وأن أُحَرِّكَ يدي؟ نعم. عَرَفْنا ذلك بوقوعِه، لأني أعلمُ علمَ اليقينِ أنه لا يُمْكِنُ أن يكونَ في مُلكِ اللهِ ما لا يشاؤه، وأنا في مُلْكِ اللهِ، والسَّمواتُ والأرضُ كُلُّهَا في مُلكِ اللهِ، فإذنْ لا يُمْكِنُ أن يكونَ في مُلكِهِ ما لا يشاءُ، لكن أنا لا أعلمُ بمشيئةِ اللهِ إلا بَعْدَ وقوعِ الشيءِ؛ ولهذا قال بعضُ العلماءِ: إنَّ القَدَرَ سِرٌّ مَكْتُومٌ لا يَعْلَمُ به العبادُ؛ لأنَّ العِبادَ لا يَعْلَمون به إلا بعد وقوعِهِ.

(1)

الغبش والغمش، إظلام الرؤية. انظر: تاج العروس (غبش، غمش).

ص: 69

فالخلاصة: أن الناسَ انقسموا بالنسبةِ لأفعالِ العبدِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

قِسْمٍ يقولون: إن العبدَ لا اختيارَ له ولا إرادةَ ولا مشيئةَ، وأنه يفعلُ الفعلَ الإختياريَّ كالفعلِ الإجباريِّ، وهؤلاء هم الجبرَّيةُ وهم الجهميَّةُ، الجهميَّةُ جبريَّةٌ بالنسبةِ لأفعالِ العبدِ، فحركةُ الإنسانِ الإختياريَّةُ، كقيامِهِ وقعودِهِ وأكلِهِ وشربِهِ ونومِهِ واستيقاظِهِ مُجْبَرٌ عليه، فهو في هذه الحركاتِ كالمريضِ الذي يرتعشُ من الحرارةِ بغيرِ اختيارِهِ، وهؤلاء ضالُّون؛ لأَنَّه على قاعدتهم يكونُ اللهُ عز وجل إذا عُذِّبَ الإنسانُ المخالفُ يكونُ ظالمًا له؛ لأنَّه ليس اختيارَهُ، هم يَرَوْنَ أن الظُّلْمَ في حقِّ اللهِ مُحَالٌ مستحيلٌ؛ لأنَّ الظُّلْمَ تصرُّفُ الفاعلِ في غيرِ مِلْكِهِ، واللهُ عز وجل له مُلْكُ السَّمواتِ والأرضِ؛ ولهذا كان الظُّلْمُ عندهم مستحيلًا هذه طائفةٌ.

طائفةٌ أخرى يقولون: الإنسانُ مستقلٌّ بعمَلِهِ يَفْعَلُ ما يشاءُ، ولا علاقةَ للهِ تعالى في عملِهِ، وهؤلاء هم القَدَرِيَّةُ الذين سمَّاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم "مجوسَ هذه الأمَّةِ"

(1)

؛ لأنَّ هؤلاء يقولون: الحوادثُ الكونيَّةُ لها خالقان، حوادثُ العِبَادِ هم يَخْلُقُونها، وحوادثُ الكونِ يَخْلُقُها اللهُ عز وجل، فجعلوا للحوادثِ خالِقَيْنِ كما أن المجوسَ جعلوا للحوادثِ خالِقَيْنِ؛ ولهذا سَمَّاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم "مجوسَ هذه الأمَّةِ".

وعلى رأيِهِم يَكُونُ في مُلْكِ اللهِ ما لا يشاؤُهُ اللهُ، لكن قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [التوبة: 116]، فإذا كانتْ أفعالُ العبادِ بغيرِ مشيئةِ اللهِ وإرادتِهِ صار في مُلْكِه ما لا يشاءُ وهؤلاء ضالُّونَ غالِطُونَ؛ لأنَّه كيف يكونُ اللهُ هو الخالقَ للعبْدِ ونقولُ: العبدُ مستقلٌّ عن اللهِ ولا للهِ فيه دخلٌ ولا شيءٌ.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (2/ 86)، وأبو داود: كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4691)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 70

أمَّا أهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيقولون: إنَّ الإنسانَ يفعلُ باختيارِهِ وإرادتِهِ والقرآنُ دلَّ على ذلك: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15]، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152].

يقولون: الإنسانُ له إرادةٌ واختيارٌ، ويُفَرِّقُ بَيْنَ الفعلِ الإختياريِّ والفعلِ الإجباريِّ ولا شكَّ، الإنسانُ يقومُ وَيقْعُدُ، ويأكلُ ويشربُ، وينامُ ويستيقظُ، كلُّ ذلك لا يَشْعُرُ أنَّ أحدًا يُجْبِرُهُ عليه، ولكنْ مع ذلك هذا الفعلُ وهذه الإرادةُ مخلوقةٌ للهِ عز وجل لأنَّ الإنسانَ نفْسَه مخلوقٌ للهِ، فإراداتُهُ التي تكونُ في نفْسِهِ، وأفعالُهُ التي تَكُونُ في جوارحِهِ تكونُ مخلوقةً؛ لأنَّ أوصافَ المخلوقِ وأفعالَ المخلوقِ هي مخلوقةٌ، كما أن أوصافَ الخالقِ غيرُ مخلوقةٍ؛ ولهذا نقولُ: القرآنُ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّه كلامُ اللهِ.

إذن أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ - والحمدُ للهِ - هداهم اللهُ للحقِّ، فكانوا وسطًا بين متطرفين.

إذن الآيةُ الكريمةُ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8]، تَرُدُّ على القدريةِ الذين يقولون: إن الإنسانَ مستقلٌّ بعمَلِهِ، على رأيِهِم لا يستطيعُ اللهُ عز وجل أن يَهْدِيَ الناسَ جميعًا، أو يُضِلَّهُمْ جميعًا.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن من حكمةِ اللهِ عز وجل أن يَنْقَسِمَ الناسُ إلى مؤمنٍ وكافرٍ، من قولِهِ:{وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8]، لأنه لا يُمْكِنُ أن يَظْهَرَ أثرُ الرحمةِ إلا إذا انقسمَ الناسُ إلى مرحومٍ وغير مرحوم، فكان من حكمةِ اللهِ عز وجل أن اختلفَ الناسُ، ونحن نَعْلَمُ لولا اختلافُ الناسِ لم يَتَمَيَّزْ مؤمنٌ من كافرٍ، لولا

ص: 71

اختلافُ الناسِ ما قام الجهادُ ولا قام الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، ولم يكن فائدةٌ في خَلْقِ الجنةِ والنارِ، إلى غيرِ ذلك.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ الرحمةِ للهِ عز وجل؛ لقولِهِ: {فِي رَحْمَتِهِ} واعلمْ أن الرحمةَ نوعان: مخلوقةٌ، وغيرُ مخلوقةٍ. أما غيرُ المخلوقةِ: فهي رحمةُ اللهِ التي هي وصفُهُ؛ لأنَّ جميعَ صفاتِ اللهِ غيرُ مخلوقةٍ. وأما المخلوقةُ: فهي الرحمةُ التي هي من آثارِ رحمةِ اللهِ التي هي وصْفُهُ. فالمخلوقةُ الشيءُ البائنُ عن اللهِ الذي كان من آثارِ رحمتِهِ التي هي وصفُهُ؛ قال اللهُ عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]، هذه مخلوقةٌ، و (في) للظرفيَّةِ، ولا يُمْكِنُ أن تكون رحمةُ اللهِ التي هي وصفُهُ ظرفًا لهؤلاء الذين آمنوا؛ إذن {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}؛ أي: المخلوقةُ، والرحمةُ المخلوقةُ هي الجنَّةُ؛ لقولِهِ تعالى للجنَّةِ:"أنتِ رحمتي أَرْحَمُ بكِ من أشاءُ"

(1)

، وقولُهُ:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، المرادُ بالرحمةِ هنا الصفةُ. إذن؛ من صفاتِ اللهِ تعالى الرحمةُ.

والعَجَبُ من قومٍ يَدَّعُونَ أنهم مُنَزِّهُونَ للهِ يقولون: إن اللهَ لا يُوصَفُ بالرحمةِ - نسألُ اللهَ ألَّا يُزيغَ قلوبَنَا - يقولون: إن اللهَ ما يُوصَفُ بالرحمةِ؛ لأنَّ الرحمةَ انفعالٌ وانكسارٌ كما ترَحَّمَ الصبيُّ تَرَحُّمَ اليتيمِ، واللهُ عز وجل مُنَزَّهٌ عن ذلك، ماذا نفعلُ في الآياتِ التي لا تُحْصَى المُثْبِتَةِ لرحمةِ اللهِ؟ قالوا: فَسَّرَ الرحمةَ بالإنعامِ، فيفسرونها بالرحمةِ المخلوقةِ، أو فَسَّرَ الرحمةَ بإرادةِ الإنعامِ فيفسرونها بالإرادةِ، وهؤلاء الأشاعرةُ؛ لأنَّهم يُقِرُّونَ بالإرادةِ على أنها صفةٌ للهِ، وسبحانَ اللهِ حُجَّتُهُم في هذا يقولُ: الإرادةُ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، رقم (4850)، ومسلم: كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، رقم (2846)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 72

دلَّ عليها العقلُ، والرحمةُ لَمْ يَدُلَّ عليها العقلُ، بل دلَّ العقلُ على خلافِها. فنقولُ لهم: ما هو العقلُ الذي دلَّ على الإرادةِ؟ قالوا: العقلُ الذي دلَّ على الإرادةِ التخصيصُ، تخصيصُ المخلوقاتِ، الجَمَلُ له صورةٌ معيَّنَةٌ، الشاةُ لها صورةٌ معيَّنَةٌ، بنو آدمَ لهم صورةٌ معيَّنةٌ، فَكَوْنُهُ يجعلُ البعيرَ على هذه الصفةِ، والشاةَ على هذه الصفةِ وبني آدمَ على هذه الصفةِ تَدُلُّ على الإرادةِ.

وهناك أدلةٌ عقليَّةٌ على الرحمةِ أكثرُ دلالةً من دلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ، كلُّ ما في الكونِ من النِّعَمِ يَدُلُّ على الرحمةِ، ولهذا العامِّيِّ إذا أمطرتِ السماءُ قال: مُطِرْنَا بفضلِ اللهِ ورحْمَتِه. فدلالةُ هذه الأشياءِ على الرحمةِ أقوى من دلالةِ التخصيصِ على الإرادةِ.

فنحن نُؤْمِنُ بأن للهِ رَحْمَةً، فإذا قال: إن الرحمةَ انكسارٌ وانفعالٌ، قلنا: هذا بالنسبةِ لرحمةِ المخلوقِ أما رحمةُ الخالقِ فهي تليقُ به عز وجل لا انكسارَ فيها، ولا نَقْصَ فيها، ولا عَيْبَ فيها.

أرأيتُمُ الغضبَ، الغضبُ انفعالٌ يَحْدُثُ للإنسانِ حتى يَفْقِدَ أعصابَهُ ويتصرَّفَ تَصَرُّفَ المجانين، حتى ربما كَسَرَ مَالَهُ، وَضَرَبَ أولادَهُ، وطَلَّقَ زوجَتَه، وربما يؤدِّي إِلى أن يرميَ بنفسِهِ في الماءِ؛ لأنَّه جمرةٌ يلقيها الشيطانُ في قلبِ الإنسانِ حتى يَفُورَ دَمُه.

هل نقولُ: إن غضبَ اللهِ كغضبِ الإنسانِ؟ أبدًا حاشا إن غضبَ اللهِ صفةٌ تليقُ به، تدُلُّ على كمالِ سلطانِهِ وقدرتهِ على الإنتقامِ، لكنها لا يُمْكِنُ أن يَنْتُجَ عنها سوءُ تَصَرُّفٍ أبدًا، بخلافِ غضبِ المخلوقِ.

المهمُّ أن نقولَ: هناك قومٌ أنكروا رحمةَ اللهِ، وفسروا الرحمةَ بواحدٍ من أمْرَيْنِ:

ص: 73

إمَّا الإنعامُ، أو إرادةُ الإنعام. وهذا لا شكَّ من ضَلَالهِم وبِدْعِهم وإرجاعِهِم أمورَ الغيبِ إلى ما تقتضيه عقولُهُم القاصرةُ، والحقيقةُ أن هذه العقولَ ليست عقولًا، بل هي أوهامٌ، وإلا فنحن نَعْلَمُ عِلْمَ اليقينِ أن ما جاءت به الشريعةُ لا يمكن أن يخالفَ صريحَ المعقولِ أبدًا، صحيحٌ المنقولُ لا يخالفُ صريحَ المعقولِ أبدًا، ولشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رحمه الله كتابٌ مجلَّداتٌ في بيانِ موافقةِ صريحِ المعقولِ لصحيحِ المنقولِ ويسمى:(دَرْءُ تَعَارُضِ العقلِ والنقلِ).

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن اللهَ تعالى يَمُنُّ على من يشاءُ من عبادِهِ فيُدخلُهُم في رحمتِهِ؛ لقولِهِ: {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنه ليس في الجنةِ ما يُكَدِّرُ، وجهُ ذلك قولُهُ:{فِي رَحْمَتِهِ} والرحمةُ تستلزمُ حصولَ المطلوبِ والنجاةَ من المرهوبِ؛ ولهذا ينادى أهلُ الجنةِ: أن لهم أن يَصِحُّوا فلا يَسْقَموا، وأن يَشِبُّوا فلا يَهْرَموا، وأن يَحْيَوْا فلا يَمُوتوا، وأيضًا أن نقولَ: وأن يُسَرُّوا فلا يَحْزُنُوا.

جميعُ النعيمِ كاملةً لأهلِ الجنةِ، وليس فيها تنغيصٌ ولا خوفٌ من مرضٍ، ولا خوفٌ من موتٍ، بل إنهم لا ينامون، حتى النومُ لا ينامون من القلقِ والألمِ؟ لا واللهِ، لا ينامون من الفرحِ والسرورِ، حتى تكونَ أوقاتُهُم كلها مستغرقةً في الفرحِ والسرورِ، وعدمُ نومِهِم دليلٌ على كمالِ حياتِهِم؛ لأنَّ النومَ إنما نحتاجُ إليه لنقضِ التعبِ السابقِ واستجدادٍ لقوةٍ لاحقةٍ؛ ولهذا كلما تَعِبَ الإنسانُ احتاج إلى النومِ وإذا نام قام نشيطًا.

إذن نحن محتاجون إلى النوم في الحياة الدنيا؛ لنقصِ حياتِنا، لكن في الآخرةِ لا نقصَ، دائمًا هُمْ في سرورٍ - اللهمَّ اجعلْنا منهم -، دائمًا هم في سرورٍ؛ ولذلك قال:

ص: 74

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} الرحمةُ لا شيءَ فيها يُحْزِنُ ولا يُكَدِّرُ، وإنما كُلُّها خيرٌ.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن الكفارَ ظَلَمَةٌ، بل هم أَظْلَمُ الظَّلَمةِ، فأعظمُ الذنبِ الكفرُ: أنْ تَجْعَلَ للهِ ندًّا وهو خَلَقَك، فأظلمُ الظالِمين هم الكفارُ، وإذا كنا نؤمنُ بهذا - ويجبُ علينا أن نؤمنَ بهذا - فهل نرجو من الكفارِ خيرًا وهم أظلمُ الظَّلَمةِ؟ لا واللهِ لا نرجو خيرًا للإسلامِ أبدًا؛ لأنَّهم أظلمُ الظَّلَمةِ.

ولهذا يجبُ أن تَغْرِسَ في قلبِك بُغضَ الكافرين والكُفْرِ، يجبُ أن تجعلَه غريزةً مستقرَّةً كامنةً تُبْغِضُ كلَّ كافرٍ وكلَّ كُفرٍ، وإذا كان في الإنسانِ خصالُ كُفْرٍ وخصالُ إيمانٍ، القسطُ والعدلُ أن أُحِبَّهُ على ما معه من الإيمانِ وأُبْغِضَهُ على ما معه من الكُفْرِ، والإنسانُ قد يكونُ فيه خصلةُ إيمانٍ وخصلةُ كُفْرٍ، قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"اثنتان في الناسِ هما بهم كُفْرٌ: الطعنُ في النَّسَبِ، والنِّياحةُ على الميِّتِ"

(1)

، وهذان لا يُخْرِجَانِ الإنسانَ من الإيمانِ.

إذن؛ الكفَّارُ أَظْلَمُ الظالمين، ومن كان أَظْلَمَ الظالمِين فإنه لا يُمْكِنُ أن يُرْجى منه خيرٌ ولا عدلٌ، واعلم أنه إن عَدَلَ فلاستغلالِ الفرصةِ ليأْخُذ بدلَ العدلِ مرةً الظلمَ مَرَّاتٍ.

الآن اليهودُ نَعْلمُ أنهم أشدُّ الناسِ حرصًا على المالِ، ومع ذلك نَجِدُهُم يَبْذُلُون، لكنهم يَبْذُلُون قرشًا ليأخذوا دينارًا، فلا تُفَكِّرْ أبدًا أنهم يَبْذُلُون شيئًا إلا لينالوا أكثرَ منه، وهذا شيءٌ معلومٌ {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96].

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ الظالمين لا يَجِدُون ناصرًا ولا يَجِدُون وليًّا، لا ناصرَ يَدْفَعُ

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، رقم (67)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 75

العذابَ أو يَرْفَعُه، ولا وَلِيَّ يواسيهم فيُهَوِّنَ عليهم المصائبَ، ليس لهم هذا؛ وهذا يدُلُّ على أنهم في حسرةٍ شديدةٍ؛ لأنَّهم لا يَرْجُون نفعًا، وقد قال اللهُ تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39].

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: سوءُ عاقبةِ الظُّلْمِ لقولِهِ: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8]، حتى أولياؤهم في الدنيا لا ينفعونهم في الآخرةِ، ليس لهم وَلِيٌّ يتولاهم، ولا نصيرَ يَدْفَعُ عنهم الأذى.

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أن القائمَ بالعدلِ له ناصرٌ وولِيٌّ، يُؤْخَذُ ذلك من مفهومِ المخالفةِ، إذا كان الظالمُ لا وَلِيَّ له ولا نصيرَ، فمن قام بالعدلِ فله وليٌّ ونصيرٌ.

مسألةٌ: في غيْرِ هذه البلادِ مثلًا يوجَدُ علماءُ مُتضلِّعون في بعضِ العلومِ، ممن يَكُونُ مثلًا أَشْعَرِيًّا أو معتزليًّا، ففي أثناءِ الدرسِ مثلًا قد يُقَرِّرُ مذهَبَه المذهبَ الأشعريَّ أو المعتزليَّ، هل لطالبِ العلمِ إذا كان يَعْلَمُ الحقَّ في هذه المسألة أن يناقشَ شيخَه فيها؛ خاصةً أنه يكونُ كبيرًا في السِّنِّ؟

فالجوابُ: مما لا شكَّ أنَّ الذين يدعون إلى البدعةِ هؤلاء تَجَنَّبْهُمْ والرزقُ على اللهِ، حتى لو كانوا علماءَ في النحوِ والبلاغةِ لا خيرَ فيهم - هؤلاء الذين يَدْعُونَ -، أما الذين لا يَدْعُونَ إلى بِدْعَتِهِم ويتسترون فلا بأسَ أن تجلسَ إليهم فيما ينفعُ، لكن إذا رأيْتَهم خرجوا عن الجادَّةِ، فيجبُ عليك أن تُنَبِّهَهم، لكنْ لا تُنَبِّهْهُم أمامَ الطلابِ؛ لأنَّ الإنسانَ قد تَأْخُذُه العزَّةُ بالإثمِ خصوصًا إذا رأى نفْسَهُ أنه مُبرزٌ في عِلْمٍ من العلومِ يجيءُ طالبُ علمٍ وَيَرُدُّ عليه أمامَ الناسِ، فهذا ثِقْ بأنه سينتفخُ ويكونُ أطولَ من الجبلِ ولا يرجعُ، لكن من الممكنِ أن تَكْتُبَ له كتابًا تُبَيِّنُ له الحقَّ إذا لم تستطعْ أن تناقَشُه مباشرَةً.

ص: 76

إذن؛ إن كان داعيةً لا تَقْرَبْهُ أبدًا وحَذِّرْ منه؛ لأنَّ هذا يُخْشَى منه، ثم إذا رأى الناسُ أنك أنتَ وفلانٌ وفلانٌ تجتمعُ إليه تَوَهَّمَ أنه على حقٍّ.

نسألُ اللهَ تعالى أن يَتَوَلَّانا وإيَّاكم برحمَتِهِ، وأن يُوَفِّقَنا وإيَّاكم لما يُحِبُّ ويرضى.

* * *

ص: 77