الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولُه: [{رَبُّ الْعَالَمِينَ} جمع عالَم وهُو ما سِوى اللهِ] عز وجل فكلُّ ما سِوى اللهِ فهُو عالَم، وسمِّي عالمًا، لأنَّه عَلَم على خالِقِه جَلَّ وَعَلَا، فإنَّ كلَّ شيْء فِيه آيَةٌ تدلُّ على وَحْدانيَّة الله وقُدرَتِه وحِكمَتِه وعِزَّتِه، وغيرِ ذلِك.
قال رحمه الله: [وجمَعَ لاختِلافِ أنْواعِه] يَعنِي: لمْ يَقُلْ: العالَم، بلِ أَتَى بالعالمَين [بالياءِ والنُّونِ تغْلِيبًا لِلعُقلاءِ]، فإنْ قال قائِلٌ: هلِ العُقَلاءُ أكثَرُ أو غيرُ العُقلاءِ؟
فالجَوابُ: إنْ قِيلَ: إنَّ العُقَلاءَ أكثَر، فيُحتاجُ إلَى دلِيلٍ، ورُبَّما يَكونُ دلِيلُه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ، ما مِن مَوضِعِ أربَع أصابِعَ مِنها إلَّا وفِيه مَلَكٌ قائِمٌ للهِ أو راكعٌ أو ساجِدٌ"
(1)
، والسَّماءُ واسِعةٌ عظِيمةٌ، كلّ سماءٍ أوسَعُ ممَّا تحْتَها، فمَن يُحصي هؤُلاء! هَذا شيْءٌ عظِيم، والبَيْت المَعمُور في السَّماء السَّابِعةِ يدْخُلُه كلُّ يومٍ منَ المَلائِكةِ سبعُون ألْف مَلكٍ لا يعُودُون إلَيه، فمَن يُحصِي الأَيَّامَ، كُلُّ يَومٍ يُضرَبُ في سَبعِين ألفِ مَلَكٍ! فإذا رأَينا هَذا قُلْنا: العُقلاءُ أكثَرُ.
وإنْ نظَرْنا إلى ما في الأرْضِ قُلنا: غيرُ العُقَلاءِ أكثر، فعلى هَذا التَّقدِيرِ - أنَّ المرادَ مثلًا من في الأرضِ - نقولُ: إنه غلَّبَ العُقلاءَ لشرَفِهم، والحاصِلُ: أنَّ تغلِيبَ العُقلاءِ إنْ كانَ العُقلاءُ أكثَرُ فغُلِّبوا لِكَثرَتِهم، وإنْ قُلنا: غيرُ العُقلاءِ أكثرُ، فغُلِّبَ العُقلاءُ، يُغلَّبُ مَن لَيْس بمُمَيِّزٍ لِشرَفِهم.
مِن فوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: في هَذا دَلِيلٌ على وُجُوبِ إعْلانِ المُؤمِنِ ما علَيه الكُفَّارُ مِنَ الكُفرِ باللهِ؛ لِقولِه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} .
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 173)، والترمذي: كتاب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا"، رقم (2312)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
ويتَفرَّعُ على هَذه الفائدَةِ: أَنَّه لا تجُوزُ مُداهَنةُ الكُفَّارِ، وإنْ كانَت المُداراةُ تَجُوزُ لكِنَّ المُداهَنةَ لا تجوزُ.
والفَرقُ بينَهما: أنَّ المُداهَنةَ سُكوتُ الإنسانِ عَن مَعصِيةِ العاصِي، كأنَّه يَقولُ: لَك مَعصِيتُك ولِي طاعَتي، فأنتَ اعْمَلْ وأنا أعمَلُ، فهَذه مُداهَنةٌ ومُصانعةٌ لا تَجُوزُ؛ قال اللهُ تَعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وممن لا يَجُوزُ لِلمُؤمنِ أنْ يُداهِنَ.
أمَّا المُداراةُ فمَعناها: أنْ يَنقُلَ الإنْسانَ ممَّا هُو عليْه مِن المَعصِيةِ شيئًا فشَيئًا وهُو غيرُ راضٍ بها، بلْ هُو كارِهٌ، ولا يَرى أَنَّه يجوزُ إقْرارُها، بِخلافِ المُداهِنِ.
وأمَّا المُداهَنةُ في الحَقِيقةِ فأشْبَه ما لَها في وقتِنا الحاضِرِ ما يُسمُّونه بالمُجامَلةِ أو بالعَلمَنة، فإنَّ العلمانيِّين يقُولُون: دع كلَّ إنْسانٍ وشأنَه، الدَّولةُ دولَةُ، والدِّينُ دِينٌ، فالدَّولةُ لا بُدَّ أن تتَّحِدَ، وأما الدِّينُ فلكلٍّ دِينُه، فلا تُنكِر على الكافِرِ ولا على الفاسِقِ، دعْ كلَّ إنسانٍ يعمَلُ ما شاء! !
المُهمُّ: أنَّ هذِه الآيَةَ صرِيحةٌ في أَنَّه يجِبُ أنْ نُنكِرَ على الكافرين كُفرَهم، وَألَّا نُداهِنهم. {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ}
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّه يَنبَغي تأكِيدُ ما يُمكِنُ أنْ يُنْفَى أو يُشَكَّ فِيه؛ وجْهُه: أَنَّه أكَّد ذلِك بقَولِه: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} ، وإلَّا فيكْفي أنْ يقُولَ: قلْ لقَد كفرْتُم، أو قلْ كفرْتُم، لكِن لمَّا كان هَذا أمْر يُشَكُّ فِيه ويُقالُ: هؤُلاء لمْ يكفُروا بالله بلْ آمَنوا به؛ لأنَّهم يؤمِنُون بأنَّ اللهَ مَوجُودٌ وبأنَّ اللهَ خالِقُ السَّمواتِ والأرْضِ، لكِن إذا لم يتَّبِعوا شَرعَه فهُم كافِرون به، ولَو أقرُّوا بِوجُودِه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بيانُ قُدر اللهِ عز وجل وبيانُ حِكمَتِه في خلْقِ السَّمواتِ والأرْضِ، حيثُ خلَق هذِه الأجْرامَ العَظيمَةَ الكَبيرَةَ الواسِعةَ في خِلال ستَّةِ أَيَّامٍ.
أمَّا الحِكمَةُ فوجْهُها: أنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا كان قادِرًا على أنْ يخْلُقها بلَحظَةٍ واحِدَةٍ: كُن فيكُونُ، لكنَّه جَلَّ وَعَلَا ربَطَ الأسبابَ والمُسبَّباتَ، وجَعلَها تتَفاعَلُ شيئًا فشَيئًا حتَّى تنتَهِي، هَذا مِن وجْهٍ.
ومن وجْهٍ آخرَ: أَنَّه أخَّرَ ذلِك لِيُعَلِّم عِبادَه التَّأنِّي في الأُمُورِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ خلْقَ الأرْضِ قبْل خلْقِ السَّماءِ؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ خلْقَ الأرْضِ في أربَعةِ أَيَّامٍ قالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وَهَذا كقَوْلِه تَعالى في سُورةِ البَقَرةِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29].
ولكِن هَذا يُعارِضُه ظاهِرُ قولِه تَعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30] فهُنا ذَكَرَ أنَّ الأرْضَ دُحِيت بَعدَ خلْقِ السَّماءِ، فهلِ المُرادُ بالدَّحْوِ شَيءٌ سِوى الخلْقِ، أو أنَّ البَعْديَّةَ هُنا بَعدِيةُ ذِكرٍ؛ يعنِي كما يَقولُون: هَذا تَرتِيبٌ ذِكري، ولَيس ترتِيبًا زمَنِيًّا؛ الجَوابُ: في هَذا وجْهان:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ الدَّحْو ليْس الخلْقَ، بلْ هُو شَيْءٌ آخَرُ، فسَّرَه اللهُ بِقولِه:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31] فهَذا الدَّحوُ، وإخْراجُ الماءِ والمَرْعى شَيءٌ زائِدٌ على الخلْقِ والتَكوينِ.
وأمَّا الوجْهُ الثَّاني: فإنَّ البَعدِيةَ هُنا بَعديَّةُ ذِكرٍ، وهُو ما يُعرفُ عِند عُلَماءِ النَّحوِ بالترتيبِ الذِّكريِّ، ومِنه قَولُ الشَّاعِر
(1)
:
(1)
البيت لأبي نواس الحسن بن هانئ، يمدح به العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر. انظر: ديوانه ط. آصاف (ص: 122)، وخزانة الأدب (11/ 40).
إنَّ مَن سادَ ثُمَّ سادَ أَبُوه
…
ثمَّ سادَ مِن بعْدِ ذلِك جَدُّه
فتجِدُ أنَّ التَّرتيبَ على خِلافِ التَّرتيبِ الزَّمنيِّ، لكِنَّ هَذا يُسمَّى ترتيبًا ذِكريًّا، يَحتَمِلُ الوَجهَين.
ولكنَّ الوجْهَ الأوَّلَ أوْلَى؛ أنْ يُقالَ: إنَّ الدَّحوَ ليْس الخَلْقَ، الخلْقُ والتَّكوِينُ شيْءٌ، والدَّحْوُ شيْءٌ آخَرُ.
والدَّلِيلُ: أنَّ اللهَ تَعالى قال فَي الدَّحوِ مُفسِّرًا إيَّاه: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} .
إذَنْ: لا مُعارَضةَ بيْن الآيتَين؛ لتَنزِل كلّ واحِدةِ مِنهُما على وجه لا يُعارِضُ الوجْهَ الآخَرَ.
واعْلَمْ أَنَّه ينبَغي للإنسانِ إذا رأَى آيتَيْن ظاهِرهُما التَّعارُضُ ألَّا يُسرِعَ في الحُكْمِ بالتَّعارُضِ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أنْ تَتعارَضَ آيتان مِن كلِّ وجْهٍ - كما ذكَرْنا ذلِك في أصُولِ التَّفسِيرِ - ولكِن ليَتأنَّى وليَتأمَّل وليُفكِّرْن، فإنَّ أدْرَك أنْ لا تَعارُضَ فهَذا المَطْلُوبُ، وإلَّا وجَب أنْ يَسْألَ أهلَ العِلْمِ، فإنْ لمْ يَتبيَّن لَه الأمْرُ وجَب علَيه التَّوقّفُ، وصارَتْ هَذه مِن الآياتِ المُتشابِهاتِ الَّتي يجِبُ أنْ يقُولَ فِيها:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].
وقد ذَكَرنا لكُم فِيما مَضَى أنَّ مِن العُلماءِ مَن ألَّف في الآياتِ الَّتي ظاهِرُها التَّعارُضُ وجمَع بيْنها، وذَكَرْتُ لكُم أنَّ مِن أحْسنِ ما رأيْتُ ما ألَّفَه الشَّيخُ الشّنقِيطيّ (دَفْع إيْهام الاضْطِراب عَن آيِ الكِتاب).
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ نوْعَ الكُفرِ الَّذي حصَل مِن هؤُلاء المُخاطَبين هو الشَّركُ؛ لِقولِه: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} [فصلت: 9]، وجعَلوا الأندادَ لَه أنواعًا كثيرَةً؛ إمَّا أنْ يجعَلَ
لَه أندادًا في الذَّاتِ، فيَقولَ: إنَّ اللهَ لَه مَثِيلٌ كما فعلَتِ النَّصارَى، حيثُ قالُوا:{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وكما فعَلَ المُمثِّلَةُ الَّذِين مَثَّلوا صِفاتِ الله بصِفاتِ خَلْقه، فإنَّ هَذا مِن الشِّركِ.
وقدْ يَكون نِدًّا في العِبادةِ يَعبُده وإنْ كان لا يَرى أَنَّه مِثل اللهِ عز وجل لكِن يَعبُده، ويدَّعي أَنَّه إنَّما عبَده لِيُقرِّبَه إلى الله عز وجل وقَد يَكون هُناك أنْداد في المَحبَّة بأنْ محبَّ الشَّيءَ كما يُحِبُّ اللهَ.
والعَجَبُ أنَّ الشَّيطانَ يَجرِي مِن ابْن آدَم مجَرَى الدَّم، فيُحِبُّ الشَّخصَ، ويتَعلَّقُ به كَثيرًا، ويَقولُ: أنا أُحِبُّه للهِ، والحَقِيقةُ أَنَّه يُحِبُّه مَع اللهِ ولَيسَ للهِ. فالَّذِي محبُّ الشَّخْصَ لله تَكونُ المَحبَّةُ الأصلِيَّةُ هي محَبَّةَ اللهِ؛ فهَذا أحبَّه؛ لِأَنَّهَ يُحِبُّ اللهَ، لكِنَّ الَّذي يَجعَلُ قَلْبه مُنْصرفًا إلى هَذا المَحبُوبِ لا يُفكِّرُ إلَّا به، ولا ينامُ إلَّا على ذِكْرِه، ولا يَستَيقِظُ إلَّا بذِكْرِه؛ هَذا لَم محبَّه للهِ، بَلْ أحبَّه مَع اللهِ، وهَذا شِركٌ كَما قال تَعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165].
وكذَلِك مِن النِّدِّ أنْ يَتَعلَّقَ قَلْبُ الإنْسانِ بِالمَخْلُوقِ خَوفًا ورَجاءً، لا محَبَّةَ خوفٍ ورَجاءٍ، بِحَيثُ يَعتَمِدُ علَيه في تَحصِيلِ مَعاشِه، أو في دَفْعِ الضَّرَر عنْه، وهَذا يَقَعُ كثِيرًا ولا سِيَّما بعْد فتْحِ المُستَشفَياتِ؛ فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ يَتَعلَّقُ قلبُه بالمُستَشفى، تَجِدُه إذا مرِضَ أخَذ حبَّةً أو حبَّتيْن، ولا يقُولُ: يا ربِّ عافِني! أو يلْجَأُ إلَى اللهِ، مَع أَنَّه رُبَّما يَكون هَذا الطَّبِيبُ الَّذي اعتَمدَ علَيه ورَجاه كافِرًا مُلْحدًا، فهَذا أيْضًا مِن اتِّخاذِ النِّدِّ للهِ.
ولِهَذا كان ضرَرُ بعضِ المُستشفِياتِ الآن - مَع ما فِيها مِن النفْعِ والخَيرِ الكَثِيرِ والحمدُ للهِ -: أنَّ النَّاسَ صاروا يُعلِّقون آمالَهم، ويجْرُّون آلامَهم إلَيْها، فلَو تُصيبُ الإنْسانَ الشَّوكةُ، أو المَرْأةُ إذا جاءَها الطَّلقُ، وصارَت تُطلِق طلْقًا عاديًّا - واللهِ هذِه
مَسألَةٌ خَطيرَةٌ - قالُوا: لا بُدَّ مِن قيْصَريَّة، والقَيصَريَّةُ تعنِي شقَّ البَطنِ، ثمَّ إذا وَلَدتْ عَشرةَ أولادٍ يَكون في بَطنِها عشْرَةُ شُقوقٍ؛ فلا يَتَحمَّل هذا البطنُ أيَّ حمل، بلْ لو حمَلت لانفجر.
وكلُّ هذا مِن نوعِ مِن الشِّركِ، فلا تَلجَأُ إلى المُستَشفى إلَّا لِلضَّرُورة القُصوى، اجْعَلْ رجاءَك دائِمًا مُعلَّقًا بِاللهِ، وقُلْ: إنَّ الَّذي خلَقنِي وأوجَدَني أوَّلَ مرَّة قادِرٌ على أنْ يُزيلَ ما بِي مِن مرَضٍ، وهُو أقدَرُ مِن كُلِّ أحَدٍ يُزيلُها عز وجل بدُون أيِّ عمَليَّة، وبدُون حُبوب، وبدُون مِياه، وبدُون إبَرٍ.
المهِمُّ: أنَّ اتِّخاذَ الأَنْدادِ لَيْس خاصًّا بشَيءٍ مُعيَّنٍ، بل يَكونُ في أشْياءَ كَثيرَةٍ، فإيَّاك أنْ يَكونَ لكَ نِدٌّ، حتَّى إنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قال:"تعِسَ عبْدُ الدِّينارِ، تعِسَ عبْدُ الدِّرهَمِ، تعِسَ عبْدُ الخَميصَةِ، تعِسَ عبْدُ القَطِيفة"
(1)
؛ وهلِ الإنْسانُ يضَعُ الدِّينارَ فَوقَه وَيَسْجُدُ له وَيركَعُ؟ !
الجوابُ: لا، وكذَلِك الدِّرهَمُ والخَمِيصةُ والخَمِيلةُ، لكِن لمَّا كان قلْبُه معلَّقًا بهَذا الشَّيءِ؛ إنْ أُعطِي رضيَ، وإنْ لمْ يُعطَ سخِطَ، صارَ عَبدًا لها، نَسْألُ اللهَ أنْ يُعيذَنا وإيَّاكم مِن ذلِك.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: بيانُ امتِناعِ النِّدِّ للهِ عز وجل؛ لِقولِه: {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]، وجْهُ الِامتِناعِ أَنَّه ربُّ العالَمِين وأيُّ نِدٍّ لا بدَّ أن يكُونَ ربَّ العالمَين؛ فلا أحدَ يُمكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّه ربُّ العالمَينَ؛ فهُو ربٌّ وما سِواه مرْبُوبٌ؛ إذَن: ما سِواه لا يصِحُّ أنْ يكُونَ نِدًّا له.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، رقم (2886، 2887) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: عُمومُ ربُوبيَّةِ اللهِ عز وجل لكلِّ العالَمِ، لِقولِه:{ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: وُجوبُ الخُضوعِ له شَرعًا كما أَنَّنا نخْضعُ لَه قدَرًا، لأنَّ هَذا مُقتَضى الرَّبوبيَّةِ أنْ تخضَعَ لهِذا الرَّبِّ شَرعًا كما أَنَّك خاضِعٌ لَه قدَرًا، فكلٌّ خاضِعٌ للهِ قدَرًا، قال تَعالَى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، وهَذا السُّجودُ قَدَريٌّ؛ فيجِبُ أنْ تَخضَع لَه شرعًا، وأنْ تَتذلَّلَ لَه، فَتَكونَ أمامَه ذلِيلًا كما كُنت أمامه ذلِيلًا في قَدَرِه.
* * *