المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (40) * قالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي - تفسير العثيمين: فصلت

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآيتان (2، 3)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَين الكَرِيمَتيْن:

- ‌الآية (4)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكَرِيمَةِ:

- ‌الآيتان (6، 7)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَيْن الكرِيمَتيْن:

- ‌الآية (8)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَرِيمةِ:

- ‌الآية (9)

- ‌مِن فوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (10)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (11)

- ‌مِنَ فوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (12)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَريِمَتَين:

- ‌الآيتان (15، 16)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَرِيمتين:

- ‌الآية (17)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (19 - 24)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (30 - 32)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (34 - 36)

- ‌من فوائِدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (37 ، 38)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكَريمتَينِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (41، 42)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌من فَوَائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (46)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (47)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (48)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (49)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (50)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فَوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (53، 54)

- ‌من فوائِدِ الآيَتين الكريمَتين:

الفصل: ‌ ‌الآية (40) * قالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي

‌الآية (40)

* قالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].

ثُمَّ قال جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} يَقُولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [مِن ألْحَدَ ولَحَدَ] مِن أَلحَدَ تَكونُ يُلحِدون، ولَحَدَ يَلحَدون، وأصلُ اللَّحدِ أو الإلحادِ هو المَيلُ ومنه سُمِّيَ اللَّحدُ لحدًا؛ لمَيلِه إلى جانبِ القبرِ. إذن فهذه المادَّةُ (لامٌ حاءٌ دالٌ) مأخوذَةٌ مِنَ المَيلِ، فمَعنى:{يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} أي: يَميلون فيها، وآياتُنا جَمعُ آيةٍ، وآياتُ اللهِ تَعالى تَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: آياتٍ شرعيَّةٍ وهي الوَحيُ المُنزَّلُ على الأنبياءِ والرُّسلِ، وآياتٍ قَدرِّيةٍ وهي المَخلوقاتُ، كُلُّ المَخلوقاتِ آياتٌ قَدريَّةٌ تَدُلُّ على خالِقِها وبارِئِها، وفي ذلك يَقولُ الشَّاعرُ الصَّادِقُ في قَولِه

(1)

:

فواعَجبًا كيف يُعصى الإلَهُ

أم كيف يَجحَدُه الجاحِدُ

وفي كُلِّ شيءٍ له آيَةٌ

تَدُلُّ على أنَّه واحدُ

كُلُّ المَخلوقاتِ آيةٌ من آياتِ اللهِ، والإِلحادُ في الآياتِ الكَونيَّةِ يَكونُ بواحدٍ مِن أُمورٍ ثلاثَةٍ؛ إمَّا بإِضافتِها إلى غَيرِ اللهِ، وإمَّا باعتِقادِ مُشارِكٍ للهِ فيها، وإمَّا باعتِقادِ مُعينٍ للهِ فيها.

(1)

من شعر أبي العتاهية، انظر: ديوانه (ص: 122)، ومعاهد التنصيص (2/ 286).

ص: 221

أمَّا الأَوَّلُ: فنِسبَتُها إلى غَيرِ اللهِ فتقولُ مثلًا الَّذي خَلَقَ السَّماءَ القُوَّةُ الطَّبيعيَّةُ هذا إِلحادٌ بالآياتِ الكَونيَّةِ.

والثَّاني: اعتِقادُ مُشارِكٍ للهِ فيها مِثل أن يَقولَ الَّذي يُدَبِّرُ الكَونَ هو اللهُ والإمامُ الفُلانيُّ كما تَقولُه بعضُ الرَّافضَةُ.

والثَّالثُ: اعتِقادُ مُعينٍ للهِ فيها يَعني: كأنَّ اللهَ عَجَزَ عن إِقامَةِ السَّمواتِ والأرضِ فأَعانَه آخرُ، يَعني: أن يَكونَ عز وجل مُنفَرِدًا بالخَلقِ لكنَّ هناك مَن يُساعِدُه، ولكنَّ هذا المُساعِدَ ليس له شَرِكةٌ في الخَلقِ، وبهذا نَعرفُ الفَرقَ بَينَ المُعينِ والمُشارِكِ.

هذا هو الإلحادُ في آياتِ اللهِ الكَونيَّةِ، وإلى هذا يُشيرُ قَولُه تَعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] كُلُّ الثَّلاثَةِ نَفاهُنَّ، {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} على سبيلِ الاستِقلالِ {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} على سَبيلِ المُشارَكَةِ، {وَمَا لَهُ} أي: ما للهِ منهم من ظَهيرٍ أي مُعينٍ.

والآياتُ الشَّرعِيَّةُ قُلنا: إنَّها ما نَزلَ مِنَ الوَحيِ على رُسلِ اللهِ، الإِلحادُ فيها يَكونُ أيضًا في ثَلاثةِ أُمورٍ: تَكذيبُها أو تَحريفُها أو مخُالفَتُها، هذا الإلحادُ في الآياتِ الشَّرعيَّةِ، فمَن كَذَّب وقال: إنَّ محُمدًا مثلًا لم يَنزِلْ عليه الوَحيُ وإنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ فهو مُلحِدٌ، ومَن حَرَّفَها وغَيَّرَ مَعناها أو غَيَّرَ لَفظَها فهو مُلحِدٌ؛ لأنَّ التَّحريفَ يَكونُ لفظًا وَيكونُ مَعنًى، والثَّالثُ مَن خَالفَها فهو مُلحِدٌ، فمَن عصا اللهِ فهو مُلحِدٌ لكنَّه ليس الإِلحادُ الَّذي نَفهَمُه وهو الخُروجُ مِنَ الدِّينِ، بل هو مُلحِدٌ إلحادًا بقَدْرِ ما فَعَلَ مِنَ المَعصيَةِ والمُخالَفَةِ، دَليلُ ذلك قَولُه تَعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ

ص: 222

عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] هذا سَمعيٌّ، والدَّليلُ العَقليُّ: أتَّنا قُلنا الإلحادُ في اللُّغةِ هو المَيلُ، والعاصي المُخالفُ للأوامِرِ مائلٌ بلا شَكٍّ.

هَؤلاءِ الَّذين يُلحِدون في هذا أو في هذا، يَقولُ اللهُ عز وجل:{لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} هذه صِفَةُ نَفيٍ {لَا يَخْفَوْنَ} نَفَى اللهُ عز وجل أن يَخفى عليه هَؤلاءِ؛ لِكمالِ عِلمِه.

واعلمْ أنَّه لا يُمكنُ أن يوجَدُ في صِفاتِ اللهِ نَفيٌ محَضٌ، بل كُلُّ ما نَفى اللهُ عن نَفسِه فهو مُتَضَمِّنٌ للكَمالِ والإثباتِ، وهذه ضَعْها قاعد عندَك لا تُفرِّطُ بها: لا يوجَدُ في صِفاتِ اللهِ نَفي محضٌ، بل كُلُّ ما نَفى اللهُ عن نَفسِه فإنَّه مُتضَمِّنٌ لكَمالِ، فمثلًا {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} لماذا؟ لكَمالِ عِلمِه؛ لأنَّ اللهَ تَعالى كامِلُ العِلمِ محُيطٌ بكُلِّ شيءٍ:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].

إذن {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أي: لا تَخفى عَلينا حالُهم ولا أعيانُهم لكَمالِ عِلمِه، والمُرادُ بهذه الجُملَةِ التَّهديدُ، كما تَقولُ لابنِك: يا بُنيَّ اذهبْ لما شِئتَ فإنَّه لا يَخفى عَلَيَّ فِعلُك. فالمُرادُ بها التَّهديدُ وهي في غايَةِ التَّهديدِ؛ لأنَّه إذا قال اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فسوف تَرتَعِدُ الفَرائصُ من هذا الوعيدِ.

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{فِي آيَاتِنَا} القُرآنِ بالتَّكذيبِ {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فنُجازيهم].

في تَفسيرِ المفسِّر قُصورٌ:

أَوَّلًا: أنَّه جَعلَ الآياتِ هُنا الآياتِ الشَّرعيَّةَ وهذا غَلطٌ، فالآياتُ أعمُّ.

ثانيًا: أنَّه لم يَجعلِ الإلحادَ في الآياتِ الشَّرعيَّةِ إلَّا بنَوعٍ واحدٍ منَ الإلحادِ وهو التَكذيبُ، وقد قُلنا: إنَّ الإلحادَ فيها يَكونُ بواحدٍ من ثَلاثةِ أُمورٍ؛ إمَّا التَّكذيبُ

ص: 223

أو التَّحريفُ أو المُخالفةُ.

ولم نَتَكلَّمْ على الإلحادِ في الأسماءِ؛ لأنَّه ليس في الآيَةِ، لكن إتمامًا للفائدَةِ نَقولُ: الإلحادُ يَكونُ في أسماءِ اللهِ، وهو المَيلُ بها عمَّا يَجبُ؛ وذلك أوَّلًا أن يُسمِّيَ اللهَ تَعالى بما لم يُسَمِّ به نَفسَه كتَسمِيَةِ الفَلاسِفَةِ له: عِلَّةٌ فاعلَةٌ. يَقولون: إنَّ اللهَ هو العِلَّةُ الفاعِلَةُ لهذا الكَونِ، وتَسميَةُ النَّصارى إيَّاه أبًا يُسمُّونَه الأبَ والابنَ والرُّوحَ القُدُسَ.

الثَّاني: أن يُنكِرَ شَيئًا منَ الأسماءِ، أو مِمَّا دَلَّت عليه وهذا عَكسُ الأَوَّلِ، الأَوَّلُ سَمَّى اللهُ بما لم يُسَمِّ به نَفسَه، والثَّاني أنكَرَ ما سَمَّى اللهُ به نَفسَه إمَّا إنكارًا كُلِّيًّا وإمَّا إنكارًا جُزئيًّا، أو يُنكِرُ ما تَضمَّنَته الأسماءُ مِنَ المَعاني والصِّفاتِ، فيُنكِرُ الأسماءَ أو بَعضَها أو ما دَلَّت عليه مِنَ المَعاني والصِّفاتِ، فمثلًا الَّذين يَقولون: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ليس لَه أسماءٌ ولا صِفاتٌ كغُلاةِ المُعتزلَةِ والجَهميَّةِ، هؤلاءِ مُلحِدونَ، والَّذين يَقولونَ له أسماءٌ لكن ليس لها مَعانٍ هَؤلاءِ أيضًا مُلحِدون كما هو المَشهورُ مِن مَذهَبِ المُعتزِلَةِ، والَّذين يُنكِرون بَعضَ الصِّفاتِ كالأشاعِرَةِ هم أيضًا مُلحِدونَ فيَقولون مَثلًا: إنَّ اللهَ لا يَثبُتُ له مِنَ الصِّفاتِ إلَّا سَبعُ صِفاتٍ، زَعَموا أنَّ العَقلَ دَلَّ عليها وأنَّ البَاقيَ لا يَدُلُّ عليه العَقلُ، وقد تَكلَّمنا على هذا كثيرًا ولا حاجَةَ لإعادتِهِ.

الثَّالثُ: أن يُشتَقَّ من أسمائِه أسمائِه للأصنامِ، ومنه اشتِقاقُ اللَّاتِ مِنَ الإلَهِ والعُزَّى مِنَ العَزيزِ ومَناةَ من المَنَّانِ، هذا أيضًا مِن الإلحادِ في أسماءِ اللهِ.

كُلُّ الإلحادِ هذا وغَيرُه في أسماءِ اللهِ قد تَوعَّدَ اللهُ مَن سَلَكَه في قَولِه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال اللهُ تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} استِفهامٌ مِنَ اللهِ عز وجل والجَوابُ لا شكَّ أنَّه الثَّاني.

ص: 224

وفي قَولِه: {أَفَمَنْ يُلْقَى} هذا نَتيجَةُ قَولِه: {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} إذن فالمَعنَى لا يَخفَونَ علينا وسنُلقيهم في النَّارِ، يَعني: هذه هي النَّتيجَةُ، وأخبِروني:{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} والجَوابُ أنَّ النَّاسَ بصَوتٍ واحدٍ سيَقولونَ مَن يَأتي آمِنًا يومَ القيامَةِ هو الخَيرُ.

وقَولُه: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} {يُلْقَى} يُفيدُ هذا أنَّ أهلَ النَّارِ والعِياذُ باللهِ إذا وَردوها لا يَدخُلوها طائِعينَ ولا مخُتارينَ، ولكنَّهم يُلْقَون إِلقاءً كما يُلقى الحجَرُ مِن على الجَبَلِ، قال اللهُ تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك: 8]، وقال تَعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]؛ لأنَّهم لا يُريدون أن يَذهَبوا، ولكن قد ثَبَتَ أنَّ النَّارَ تمُثَّلُ لهم كالسَّرابِ فيَأتونَ إليها سِراعًا، نَقولُ: لا مُنافاةَ هي تُمَثَّلُ لهم كالسَّرابِ وهم يُريدون الشُّربَ فيَأتونَ إليها سِراعًا، فإذا وَصَلوا إليها وعَرَفوا أنَّها النَّارُ فهُم حينَئِذٍ يَقِفونَ ثُمَّ يُدَعُّون إلى نارِ جَهنَّمَ دعًّا - أعاذَنا اللهُ وإيَّاكم منها -، ثُمَّ يُلقَون فيها إلقاءً.

وقَولُه: {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهم المُؤمِنونَ الَّذين لا يُلحِدون في آياتِ اللهِ هَؤلاءِ يَأتونَ يَومَ القيامَةِ آمِنين، قال اللهُ تَعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82] في الدُّنيا والآخِرَةِ.

{أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا} إِعرابُ {آمِنًا} حالٌ، والفاعِلُ مُستتِرٌ التَّقديرُ: أمَّن يَأتي هو آمِنًا يَومَ القِيامَةِ.

{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَعني: به يَومَ البَعثِ والنُّشورِ وسُمِّيَ يَومَ القِيامَةِ لوُجوهٍ ثَلاثَةٍ:

الأَوَّلُ: أنَّ النَّاسَ يَقومون فيه مِن قُبورِهم لرَبِّ العالمَينَ، كما قالَ تَعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6].

ص: 225

الثَّاني: أنَّه يُقامُ فيه العَدلُ كما قالَ تَعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].

والثَّالثُ: أنَّه يُقامُ فيه الأشهادُ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ} [غافر: 51]، فلهذا سُمِّيَ يَومَ القيامَةِ.

قال اللهُ تَعالى: {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} يَعني بَعدَ هذا الإنذارِ والتَّهديدِ والوَعيدِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وهذه الجُملَةُ أيضًا تُفيدُ التَّهديدَ بِلا شَكٍّ، يَعني: اعمَلوا ما شِئتم مِنَ الخَيرِ أو مِنَ الشَّرِّ، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .

إذن {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ليست إِباحةً أنَّ الإنسانَ يَعملُ ما شاءَ كما يَدَّعي هَؤلاءِ أنَّ الحُرِّيَّةَ أن تَعمَلَ ما شِئتَ، عندَ هؤلاءِ الكُفَّارِ أنَّ الإنسانَ حُرٌّ في دينِه، يَدينُ بما شاءَ، حُرٌّ في أخلاقِه، يَتَخَلَّقُ بما شاءَ، حُرٌّ بأعمالِه يَعمَلُ ما شاءَ، هكذا عِندَهم، ونحن نَقولُ: لا، الحُرِّيَّةُ المُطلَقَةُ هي الرِّقُّ المُطلَقُ؛ لأنَّك إذا تَحَرَّرت من قُيودِ الشَّرع تَقَيَّدت بقُيودِ الشَّرِّ، ولهذا يَقولُ ابنُ القَيِّمِ في النُّونيَّةِ

(1)

:

هَرَبوا مِنَ الرِّقِّ الَّذي خُلِقوا له

وبُلوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ

الرِّقُّ الَّذي خُلِقنا له هو عِبادَةُ اللهِ عز وجل؛ وقوله: "وبُلوا" يَعني: ابتُلوا.

فصاروا عَبيدًا لأنفُسِهم والشَّياطينَ. فَرُّوا من رِقِّهم للهِ إلى رِقِّهم للهَوى والشَّيطانِ.

فنَقولُ: إنَّ قَولَه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ليس إطلاقًا بمَعنى ليس إِباحَةً، ولكنَّه تَهديدٌ، وهو أُسلوبٌ عَربيٌّ مُبينٌ منذُ نَزَلَ القُرآنُ وإلى يَومِنا هذا، ولهذا أَكَّدَه بقَولِه:

(1)

النونية (ص: 308).

ص: 226