الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} أي: أحيا الأرضَ الخاشعَةَ {لَمُحْيِ الْمَوْتَى} الجُملَةُ مُؤكَّدَةٌ بمُؤكِّدينِ إنَّ واللَّامَ، و {الْمَوْتَى} جَمعُ مَيَّتٍ، والمُرادُ به كُلُّ مَن مات مِن بَني آدمَ وغَيرِهم، فهو قادرٌ على إِحيائِهم.
{إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أيضًا جُملَةٌ مُؤكَّدةٌ بإنَّ، و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كُلُّ شيءٍ، فاللهُ قادرٌ عليه قادرٌ على إِيجادِ المَعدومِ، وعلى إِعدامِ المَوجودِ وعلى تَغييرِ الثَّابتِ وعلى تَثبيتِ المُتغيِّرِ كُلُّ شيءٍ قادِرٌ عليه.
من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ مِن آياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على قُدرتِه أنَّ الأرضَ اليابِسةَ الهامدَةَ إذا نَزَل عليها الماءُ نَبتَتْ واهتَزَّت ورَبَت. وهل أحدٌ يَستطيعُ أن يَفعَلَ مِثلَ ذلك؟ أبدًا قال اللهُ تَعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64] لا أَحَدَ يَستطيعُ مهما بَلَغَ مِن القُوَّةِ أن يُنبِتَ ورقةً واحدةً، وقد تَحدَّى اللهُ عز وجل جَميعَ الخَلقِ فقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا} [الحج: 73] وهذا تَحدٍّ بالأمرِ الكونيِّ القَدريِّ، وتَحدَّى اللهُ الخَلقَ بالأمرِ الشَّرعيِّ فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] إذن فالإنسانُ عاجزٌ مهما كان.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الاستِدلالُ بالمَحسوسِ المَنظورِ على المَوعودِ المُنتَظَرِ، وَجهُه أنَّ اللهَ استدَلَّ بالشَّيءِ المَنظورِ المَحسوسِ وهو نَباتُ الأرضِ بعدَ أن كانت هامدَةً على شَيءٍ مُنتَظَرٍ وهو إِحياءُ المَوتَى بعد مَوتِهم، وفيه أيضًا الاستِدلالُ بالأدِلَّةِ العَقليَّةِ أنَّ
الإنسانَ يَستَدِلُّ بالمَحسوسِ على المَعقولِ يَعني: أنَّ قُدرةَ اللهِ على هذا تَدُلُّ على قُدرَتِه على الآخَرِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: استِعمالُ القِياسِ وأنَّ القياسَ ثابتٌ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى قاس إِحياءَ المَوتى على إِحياءِ الأرضِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: تَأكيدُ ما يَنبَغي تَأكيدُه سَواءٌ كان ذلك لإنْكارِ مُنكَرٍ أو شكِّ شاكٍّ أو لأهَمِّيَّةِ الأمرِ؛ لأنَّ التَّأْكيداتِ تَكونُ: إمَّا لأَهَمِّيَّةِ الأمرِ، وإمَّا لرَفعِ الشَّكِّ والتَّردُّدِ في الشَّيءِ حتَّى يَكونَ أمرًا يَقينيًّا، وإمَّا لإثباتِ الشَّيءِ المُنكَرِ. فمثلًا إذا كانت الآيَةُ تُخاطِبُ الَّذين يُنكِرونَ البَعثَ، فهذا الإِثباتُ لِإثباتِ مُنكَرٍ يَعني لإِثباتِ شَيءٍ أنكَرَه قَومٌ.
وإذا كانت الآيَةُ تُخاطِبُ مَن يَتَرَّددون في ذلك فهي لرَفعِ الشَّكِّ والتَّردُّدِ، وإذا قَدَّرنا أنَّها تُخاطِبُ مَن لا شكَّ عندَه ولا إِنكارَ، فهي لأَهَمِّيَّةِ الأمرِ أوِ المَوضوعِ؛ لأنَّ الإيمانَ بذلك هو الَّذي يَحدو الإنسانَ إلى أن يَعمَلَ لولا أنَّ الإنسانَ يُؤمنُ بأنَّه سوف يُبعثُ ويُجازى لكان غَيرَ نَشيطٍ على العَمَلِ، أكثَرُ ما يُنَشِّطُ الإنسانَ على العملِ هو خوفُ يومِ القيامَةِ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: عُمومُ قُدرةِ اللهِ عز وجل لقَولِه: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يُعجِزُه شَيءٌ لتَمامِ عِلمِه وتمَامِ قُدرتِه، قال اللهُ تَعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] لأنَّ العاجِزَ إمَّا أن يَكونَ لعَدَمِ عِلمِه، وإمَّا أن يَكونَ لعَدَمِ قُدرتِه، فنَفَى اللهُ عز وجل العَجزَ وبَيَّن ذلك بسَببِ كمالِ عِلمِه وقُدرَتِه، إذن إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٍ.
ذَكَرَ الجَلالُ السُّيوطِيُّ -غَفَر اللهُ لنا وله- في سورَةِ المائدَةِ كلامًا مُنْكَرًا قال: [وخصَّ العقلَ ذاتَه فليس عليها بقادِرٍ]. يعني: كأنَّه يَقولُ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ إلَّا على ذاتِه فليس عليها قادرًا، وهذا لا شكَّ أنَّه قَولٌ مُنكَرٌ، كأنَّه يَقولُ مثلًا هل يَقدِرُ اللهُ عز وجل على أن يُفنِيَ نفسَه على كَلامِه؟
فنَقولُ: هذا قَولٌ ساقطٌ؛ لأنَّ القُدرَةَ إنَّما تَتعلَّقُ بالشَّيءِ المُمكِنِ أمَّا الشَّيءُ المُستحيلُ فهو مُستحيل وليس مُستَحيلًا على قُدرتِنا، لا، المُستَحيلُ على قُدرتِنا غَيرُ المُستَحيلِ على قُدرةِ اللهِ، لكنَّ المُستَحيلَ لذاتِه فإنَّه لا يُمكنُ أن تتعلَّقَ به قُدرةٌ ولا غَيرُ قدرةٍ إلَّا العِلمَ؛ ولهذا قال السَّفارينيُّ في العَقيدَةِ
(1)
:
..................
…
... واقتَدَرْ
بقُدرةٍ تعلَّقت بمُمكِنٍ
…
.....................
فيُقالُ للجَلالِ عَفا اللهُ عنَّا وعنه: إن أَردتَ أنَّ اللهَ ليس بقادِرٍ على أن يُفنِيَ نفسَه فهذا أمرٌ غيرُ واردٍ إطلاقًا؛ لأنَّ القُدرَةَ لا تُعلَّقُ بهذا، وإن أَردتَ أنَّه غَيرُ قادرٍ على أن يَنزِلَ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وأن يَأتيَ للفَصلِ بَينَ عِبادِه، وأن يَستوِيَ على عَرشِه ونحو ذلك مِنَ الأفعالِ الاختِيارِيِّةِ، فهذا كَذبٌ بل هو قادرٌ على ذلك، لكنَّ السُّيوطيُّ عفا اللهُ عنَّا وعنه ممَّن يَرونَ أنَّ الأفعالَ الاختِيارِيَّةَ لا تَقومُ باللهِ، يَعني: يَقولُ: اللهُ ما يُمكنُ يَنزِلُ ولا يَستَوِي ولا يَأتي يَومَ القيامَةِ؛ لأنَّ هذه على زَعمِه حَوادثُ والحَوادثُ لا تَتعلَّقُ إلَّا بحادِثٍ.
على كُلِّ حالٍ: هذه فَلسفَةٌ جاءَ بها أهلُ الكَلامِ، وما أكثرَ ما جاؤوا به مِنَ الكَلامِ، وكَلامُهم كَلامٌ في كَلامٍ، لا فائدَةَ، تَطويلٌ بلا فائدَةٍ، إِضاعَةُ الوَقتِ
(1)
العقيدة السفارينية (ص: 52).
بلا فائدَةٍ مُؤدٍّ إلى الشَّكِّ والتَّردُّدِ بلا فائدَةٍ، ولهذا قال بعضُهم: أكثرُ النَّاسِ شكًّا عندَ الموتِ أهلُ الكَلامِ نَعوذُ باللهِ، لماذا؟ لأنَّهم لم يَبنوا عَقيدَتَهم على الكِتابِ والسُّنَّةِ بَنَوْها على وَهْمِيَّاتٍ ظَنُّوها عقليَّاتٍ، فضلُّوا وأَضَلُّوا، نحنُ نَقولُ كما قال رَبُّنا عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148] فقط ويَكفي.
أمَّا العِلمُ فهو أَوسَعُ مِنَ القُدرةِ؛ لأنَّ العِلمَ يَتعلَّقُ بالواجبِ والمُستحيلِ والمُمكِنِ، يَعني: عِلمُ اللهِ مُتعلِّقٌ بكُلِّ شيءٍ يَتعلَّقُ حتَّى بالمُستحيلِ، قال اللهُ تَعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وهذا مُستَحيلٌ، ومع ذلك تَعلَّقَ به العِلمُ:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] وهذا أيضًا مِنَ المُستَحيلِ على حِكمةِ اللهِ عز وجل.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الِاستِدلالُ بالعُمومِ على الخُصوصِ، فاللهُ تَعالى استَدَلَّ على قُدرَتِه على إِحياءِ المَوتى بدَليلَينِ أحدُهما خاصٌّ والثَّاني عامٌّ، الخاصُّ يُحيي الأرضَ بعدَ مَوتِها، والعامُّ:{إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ويَنبَني على هذه الفائدَةِ: أنَّ العامَّ يَتناوَلُ جَميعَ أفرادِهِ، وقد ذَكَرَ ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في قَولِه حينَ عَلَّمَ أُمَّتَه التَّشهُّدَ قال:"إذا فَعلتُم ذلك فقد سَلِمْتُم على كُلِّ عَبدٍ صالحٍ في السَّماءِ والأرضِ"
(1)
فمثلًا، إذا قال الرَّجلُ: دُورِي وَقفٌ، يَشمَلُ جَميعَ الدُّورِ، ولو قال: سَيَّاراتي لفُلانٍ، يَشمَلُ جَميعَ السَّيَّاراتِ، ولو قال: نِسائي طَوالقُ، يَشمَلُ كُلَّ امرأةٍ له، ولو قال: عَبيدي أحرارٌ، شَمِلَ كُلَّ عبدٍ، المُهِمُّ أنَّ العامَّ يَتناولُ جَميعَ أفرادِه.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة، رقم (831)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، رقم (402)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.