المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من فوائد الآيتين الكريمتين: - تفسير العثيمين: فصلت

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآيتان (2، 3)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَين الكَرِيمَتيْن:

- ‌الآية (4)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكَرِيمَةِ:

- ‌الآيتان (6، 7)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَيْن الكرِيمَتيْن:

- ‌الآية (8)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَرِيمةِ:

- ‌الآية (9)

- ‌مِن فوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (10)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (11)

- ‌مِنَ فوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (12)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَريِمَتَين:

- ‌الآيتان (15، 16)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَرِيمتين:

- ‌الآية (17)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (19 - 24)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (30 - 32)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (34 - 36)

- ‌من فوائِدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (37 ، 38)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكَريمتَينِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (41، 42)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌من فَوَائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (46)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (47)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (48)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (49)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (50)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فَوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (53، 54)

- ‌من فوائِدِ الآيَتين الكريمَتين:

الفصل: ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَرِيمتين:

الْفَائِدَة الأُولَى: بَيانُ عِظَمِ استِكْبارِ هَؤلاء المُكذِّبين لنَبِيِّهم، أعْنِي: عادًا؛ لِقَولِه: {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيانُ طُغيانِ الإنْسانِ وأنَّ الإنْسانَ لا حَدَّ لِطُغيانِه؛ لأنَّ وُصُولَه إلَى هَذِه الدَّرَجةِ {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} يَدُلُّ على الطُّغيانِ العَظِيمِ والكِبْرِياءِ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: حِكْمَةُ اللهِ عز وجل بِأخْذِهم بِالعَذابِ؛ حَيْثُ أُخِذوا بِما هُو ألْطَفُ الأشْياءِ وَهُو الرِّيحُ، الرِّيحُ اللَّطِيفةُ الَّتي يَكونُ بِها إنْعاشُ البَدَنِ وتَقْوِيَتُه ونَشاطُه، هِي الَّتي أُهْلَك بِها عادًا؛ لِأنَّهم قالُوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، وانْظُر إلَى فِرعَونَ حِينَ قال:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزُّخرُف: 51 - 52]، عُذِّبَ بِالماءِ الَّذي كان بالأمْسِ يَفْتَخِرُ به.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بَلاغَةُ القُرآنِ في الإقْناعِ وإقامَةِ الحُجَّةِ؛ لقَوْلِه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، وجْهُ ذلِك أنَّه قال:{الَّذِي خَلَقَهُمْ} .

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: جَوازُ عَقْدِ المُفاضَلَةِ بَيْن الخالِقِ والمَخْلوقِ؛ لِقَولِه: {أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} مَع أنَّه سبحانه وتعالى أشَدُّ مِن كُلِّ أحَدٍ، لَكِن المَقامَ مَقامُ محُاجَّةٍ، ومَقامُ المُحاجَّةِ لا بَأس أنْ تُذْكرَ فِيه المُفاضَلةُ بيْن المُفَضَّلِ والمُفَضَّلِ عَلَيه، ونَظِيرُ هَذا -بلْ أبْلَغ مِنْه- قَولُ اللهِ تَعالَى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، لَيْس في أصْنامِهم خَيرٌ، لَكِنَّ هَذا مِن بابِ المُحاجَّةِ، وأنَّ الإنْسانَ يُحاجُّ الخَصْمَ بِما يُقِرُّ بِه.

يَتفَرَّعُ على هذا مِن الفوائدِ: خطأُ مَن يُفسِّرُ قَولَ اللهِ تَعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 55]

ص: 103

{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] وما أَشْبهَ ذلك؛ حيثُ يُفسِّر أعلمَ بعالمٍ - كالجلالَين رَحِمَهُمَا اللهُ- هذا خَطأٌ عَظيمٌ وتَحريفٌ لِلقُرآنِ، أَعْلَمُ أَبلغُ من عالمٍ؛ لأنَّ أَعْلمَ يَمنعُ المُشاركَةَ، وعالمِ لا يَمنعُ المُشاركةَ، تَقولُ: فُلانٌ عالمٌ، وفُلانٌ عَالمٌ، وفُلانٌ عالمٌ، لكن إذا قُلتَ: فُلانٌ أَعلمُ، معناها أنَّه لا يُساويه أحدٌ في دَرجتِه، فتَفسيرُ أَعلم بعالمٍ لا شكَّ أنَّه تَحريفٌ للقُرآنِ وقُصورٌ عَظيمٌ.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: بَيانُ أنَّ هؤلاءِ المُكذِّبين لهُودَ صلى الله عليه وسلم وهم عادٌ جَمَعوا بينَ الأمرَينِ، جَمَعوا بين الاستِكبارِ وبَينَ التَّكذيبِ، الاسْتِكْبارُ في قولِه:{فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} [فُصِّلَت: 15]، والتَّكذيبُ في قولِه:{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فُصِّلَت: 15]. الْفَائِدَةُ السَّابعَةُ: أنَّ اللهَ عز وجل أَرسَلَ الرُّسلَ بالآياتِ وأَقامَ البَيِّناتِ والبَراهينَ على أنَّه الحقُّ، وأنًّ رَسولَه حقٌّ؛ لقولِهِ:{بِآيَاتِنَا} .

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ الرِّياحَ تَجري بأَمْرِ اللهِ؛ لقولِه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [فُصِّلَت: 16]، ولا شكَّ أنَّ كلَّ شَيءٍ يَجري بأمْرِ اللهِ، حتَّى أَفْعالُ البَشرِ تَكونُ بأَمْر اللهِ عز وجل كما هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، فكُلُّ شيءٍ يَسيرُ بأَمْرِ اللهِ عز وجل الرِّياحُ السَّحابُ البِحارُ الأنْهارُ، كُلُّها تَجْري بأمرِ اللهِ عز وجل.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: بَيانُ حال هذه الرِّيحِ الَّتي أَهلكَ اللهُ بها عادًا، وأنَّها ريحٌ صَرْصَرٌ شَديدةٌ، وفي آياتٍ أُخرَى ما يَدُلُّ على أنَّها ليس فيها مَطَرٌ وليس فيها خَيرٌ، بل هي عَقيمَةٌ مِن الخَيرِ كُلِّه.

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: حِكمَةُ اللهِ عز وجل في مجُازاةِ مَن يستَحِقُّ الجَزاءَ؛ حيثُ يُجازَى بمِثلِ عَملِهِ، ولهذا يَقولُ العُلماءُ: الجَزاءُ مِن جِنسِ العَمَلِ، ووَجهُ ذلك أنَّ اللهَ

ص: 104

أَرسلَ على هَؤلاءِ المستكبِرين الَّذين يَقولون مَن أَشَدُّ منَّا قُوَّةً الرِّيحَ اللَّيِّنةَ الهَيِّنةَ، ومن حِكمةِ اللهَ عز وجل في هذا العَذابِ أنَّها لم تَكُنْ تَجرُفُهم في آنٍ واحدٍ، بل سُلِّطت عليهم سبعَ لَيالٍ وثَمانيَةَ أيَّامٍ، ليَكونَ هذا أَشَدَّ في استِمْرارِ العُقوبَةِ؛ لأنَّ الإنْسانَ المُعاقَبَ لو عوقِبَ بما يُهلِكُه فورًا لكان ينتهي من العُقوبَةِ، لَكِنْ إذا كانت العُقوبَةُ تأتي عليه في ساعاتٍ أو أيَّامٍ صار هذا أَشَدَّ.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: بَيانُ أنَّ أفعالَ اللهِ تَعالَى مَقرونَةٌ بالحِكمةِ؛ لقوله: {لِنُذِيقَهُمْ} [فُصِّلَت: 16]، وهذا مَذهبُ أهلِ السُّنَّة والجماعَةِ: أنَّ أفعَالَ اللهِ تَعالَى مَقرونَةٌ بالحِكمةِ، وأنَّ شرعَه مَقرونٌ بالحِكمةِ، فكُلُّ ما شَرَعه أو قدَّرَه، فإنَّه لحِكمةٍ، منها ما هو مَعلومٌ، ومنها ما ليس بمَعلومٍ، مِثْلَ: الصَّلواتِ الخَمسِ ما نعلمُ الحِكمَةَ في أنَّها خَمسٌ؛ لأنَّ عُقولَنا قاصِرةٌ، لكنَّنا نعلمُ أنَّ اللهَ لا يَفعلُ شيئًا إلَّا لحِكمةٍ، ولهذا كان جَوابُ عائِشَةَ رضي الله عنها لمُعاذَةَ أن قالت:"كان يُصيبُنا ذلك فنُؤمَرُ بقَضاءِ الصَّومِ ولا نُؤمَرُ بقَضاءِ الصَّلاةِ"

(1)

يعني: وإذا كان الأَمرُ كذلك نُؤمَرُ بقَضاءِ هذا دون هذا فهذا لا بُدَّ أن يَكونَ لحِكْمةٍ.

ومن عُلماءِ الأُمَّة وفِرَقِها مَن يَقولُ: إنَّ أفعالَ اللهِ لا تُعَلَّلُ، ليس لها حِكمةٌ، وشَرْعَه ليس له حِكمَةٌ، يُفعلُ لمجرَّدِ المَشيئَةِ، يُحكَمُ بالشَّرعِ لمُجرَّد المَشيئَةِ، وهؤلاء لا شكَّ أنَّهم وَصَفوا اللهَ بالنَّقصِ والسَّفَهِ، وقد أَنكَرَ اللهُ على ذلك بقولِه تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، وقال:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38] وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة، رقم (321)، ومسلم: كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، رقم (335).

ص: 105

أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، والآياتُ في هذا كَثيرةٌ، وكُلُّ آيةٍ فيها لامُ التَّعليلِ فإنَّها تَدُلُّ على الحِكمةِ.

وآخَرونَ عَكَسوا وقالوا: إنَّ أفعالَ اللهِ مُعلَّلةٌ بحِكمةٍ، وأنَّه يَجبُ عليه أن يَفعلَ ما تَقتَضيه الحِكمةُ، وأن يُشرِّعَ ما تَقتَضيه الحِكمَةُ، وهؤلاء أصابوا مِن وَجهٍ وأَخطَؤوا مِن وَجهٍ، فإنْ أَرادوا بذلك أنَّنا نُوجبُ على اللهِ أن يَفعلَ ما تَقتَضي عُقولُنا أنَّه الحِكمةُ فهذا غَلطٌ، وإنْ أرادوا أنَّ اللهَ أَوجَبَ على نَفسِه أن يَفعلَ ما بِه الحِكمةُ؛ لأنَّه حَكيمٌ، فهذا صَحيحٌ.

ونحنُ لا نشكُّ أنَّ الحكمَةَ هي مُرادُ اللهِ عز وجل وأنَّه لا يَفعلُ شيئًا ولا يَحكُمُ شيئًا إلَّا لحِكمَةٍ، لكن هل نحنُ الَّذين نُقدِّر الحكمةَ ثمَّ نُوجبُ على اللهِ أن يَفعلَ؟ هذا هو الخَطأُ.

فالثَّاني هذا مَذهَبُ المُعتزِلَةِ، والأَوَّل مَذهبُ الأشاعِرَةِ وأَتْباعِهم.

والصَّوابُ الوَسَطُ، ودائمًا خيرُ الأُمورِ الوَسَطُ، وهو أنَّ اللهَ يَجِبُ عليه أن يَفعلَ لإيجابِه على نفسِه الحِكمَةَ؛ لأنَّه نفى أن يَكونَ فعلُه عبثًا أو لَعِبًا أو باطلًا، وهذا يَقتَضي أنَّه سبحانه وتعالى يَفعلُ الأَشْياءَ لحِكمَةٍ، لكنَّنا لَسنا نَحنُ الَّذينَ نوجبُها على اللهِ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ عذابَ الآخِرَةِ أَشدُّ من عَذابِ الدُّنيا؛ لقولِهِ: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الكافِرَ يُعاقَبُ بالعُقوبتَينِ: عُقوبَةِ الدُّنيا وعُقوبَةِ الآخِرَةِ؛ لقولِه: {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} . أَمَّا المُؤمنُ فإنَّ اللهَ تَعالَى لا يَجمعُ عليه عُقوبتَينِ، إذا عوقِبَ بالذَّنبِ في الدُّنيا لم يُعاقَبْ به في الْآخرَةِ؛

ص: 106

لقولِه تبارك وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]؛ ولأنَّ النَّبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وعَلَى آلِه وسلَّم- "أَخبَرَ أنَّ مَن أتى شيئًا مِن هذه القَاذوراتِ -يَعني المَعاصي-، فعوقِبَ به في الدُّنيا لَمْ يُعذَّبْ به في الْآخرَةِ"

(1)

، فالمُؤمنُ إذا عوقِبَ في الدُّنيا عَلى عَمَلِه لَمْ يُعاقَبْ في الآخِرَةِ، والكافر يُعاقَبُ بهذا وهذا.

وانظُرْ إلى قولِه تَعالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 68 - 69] حيثُ قال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فإمَّا أنْ يَكونَ المُرادُ أنَّ عَذابَ الآخِرَةِ أَشدُّ فيَكونُ بالنِّسبَةِ لشِدَّتِه مُضاعفًا، وإمَّا أنْ يَكونَ هو الجَمعُ له بَينَ عَذابِ الدُّنيا وعَذابِ الآخِرَةِ.

وقولُنا: "إنَّه يَجمعُ له بَينَ عَذابينِ" ليس مَعْناه أنَّه حتميٌّ، لكن نَقولُ: إنَّه إذا عُذِّب بذَنْبِه في الدُّنيا لم يَسلَمْ من تَعذيبِه به في الآخِرَةِ، حتَّى لا يَرِدُ علينا أنَّ الكُفَّار الآنَ يَموتون وهم في غايةِ ما يَكونُ من السُّرورِ والعافيةِ والأَمْوالِ والأَولادِ ولم يَجِدوا عَذابًا، والمَعْنى أنَّهم لم يَجِدوا عَذابًا يُشاهدُ لكنَّ العَذابَ القَلبيَّ عندهُمْ لا شكَّ أنَّه مَوجودٌ، فأَشَدُّ النَّاس عذابًا قَلبيًّا وقلقًا هم الكُفَّار، وكلَّما كان الإنسانُ أَعْصى لربِّه كان أَشدَّ قلقًا وأقلَّ راحةً، وكُلَّما كان أَشدَّ إيمانًا وعملًا صالِحًا كان أَشدَّ طُمأنينَةً.

واستمعْ إلى قَولِه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ولم يَقُلْ عز وجل:

(1)

أخرجه البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، رقم (3892)، ومسلم: كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم (1709)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ص: 107

لنُعطينَّهم مالًا كثيرًا، لا لنُحيينَّه حياةً طيِّبةً ولو كان فقيرًا، فتَجِدُ حياتَه طيِّبةً مُطمئِنَّ البالِ مستريحًا لا يَهتمُّ بشيءٍ إلَّا بما يُرضي اللهَ عز وجل.

فإِنْ قال قائِلٌ: هل مُعاقَبَةُ المُؤمنِ على الذَّنْبِ في الدُّنيا دون الآخِرَةِ يَشملُ حتَّى ولو لم يَتُبْ فعوقِبَ وهو مُصِرٌّ على ذَنْبِه كالزَّاني مَثلًا؟

فالجَوابُ: نَعَمْ، لأَنَّه إذا تاب فلا يُعاقَبُ لا في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ.

وإن قيل: أليس التَّائبُ مِن الذَّنْب كمَنْ لا ذَنْبَ له، عَكْسُها أنَّه كَمَنْ عليه ذَنْبٌ، يعني ما استفاد مِن هذه العُقوبَةِ وما ارتدع؟

فالجَوابُ: أنَّه إذا عوقِبَ مُحِيَ عنه إِثْمُ ما سَبَقَ؛ لأنَّه أَخَذَ جزاءَه وانتهى، لكن قد يُؤخَّرُ له العَذابُ إلى يوم القيامة، ولهذا إذا أَحَبَّ اللهُ قومًا عجَّل لهم العُقوبَةَ في الدُّنيا حتَّى لا يُخزَونَ بها يومَ القيامَةِ.

وإن قيل: لو عوقب الآنَ ثُمَّ مات مُباشرةً قبل أن يَفعلَ الذَّنبَ الآخَرَ هل يُعاقبُ بنِيَّةِ عدمِ التَّوبَةِ؟

فالجَوابُ: إنِ استمرَّت النِّيَّةُ بعدَ العُقوبَةِ، فهذا رُبَّما يُعاقَبُ على نِيَّتِه لا على فعله.

وإن قيل: الَّذي يُعاقَبُ في نيَّتِه هل يُعاقَبُ إذا لم يُباشِرِ الفِعلَ؟

فالجَوابُ: لا، العِقابُ على النِّيَّة إذا نوى الإنسانُ فِعْلَ المَعصيَةِ، إمَّا أن يُدافِعَ هذهِ النِّيَّةَ ويَدَعُ المَعصيَةَ لله عز وجل فهذا يُثابُ، وإمَّا أن يستمرَّ على نِيَّتِه وَيعزِمُ ولكنَّه يَعجَزُ فهذا يُعاقَبُ على نِيَّتهِ.

وإِنْ قال قائلٌ: هل عَذابُ القبرِ مُتَّصِلٌ إلى يومِ الْقيامَةِ؟

ص: 108

فالجَوابُ: عَذابُ القَبرِ بالنِّسبَةِ للمُؤمنِ قد يَنقطِعُ، فيُعذَّبُ بقَدْرِ ذُنوبِه ثُمَّ يَنقطِعُ، وبالنِّسبَةِ للكافِرِ فإِنَّ الظَّاهرَ استمرارُهُ.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّه لا ناصِرَ للمُعذَّبين يومَ القيامَةِ؛ لقولِه: {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} وهذه لها شواهِدُ، ومنها قولُه تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9 - 10]، وكذلك هم يُقِرُّون:{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101]، ثم قال:{وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} .

* * *

ص: 109