الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن مَشَى إليهم ضاعَ وَقتُه، فهل يَترُكُهم؛ لأنَّ الوَقتَ قَليلٌ؟ وهل يُعذَرُ الإنسانُ إذا غَلَبَ على ظَنِّه أنَّ هذا الشَّخصَ بَعيدُ الاستِجابَةِ أو بَعيدٌ أن يَقبَلَ منه، ولا يَجِدُ الوَقتَ المُناسبَ له؟
فالجَوابُ: هذه في الواقِعِ مَوعِظةٌ أو أمْرٌ، فالدَّعوَةُ تَكونُ بصِفةٍ عامَّةٍ، أمَّا أن تَذهَبَ إلى فُلانٍ وتَنصَحُه فهذا في الحَقيقَةِ مَوعِظةٌ، وإن كان لك سُلطَةٌ فهو أمرٌ، أمرٌ بالمَعروفِ، وهذا كما نَعرِفُ له أَحوالٌ، لا يَجِبُ على الإنسانِ أن يَترُكَ ما يَهُمُّه في دينِه ودُنياهُ من أجلِ أن يَذهبَ إلى النَّاسِ وَيقرَعَ أبوابَهم ليَأمُرَهم أو يَعِظَهم، هذا ليس بواجبٍ.
فإن قيل: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَن رأى مِنكم مُنكرًا فَلْيُغيِّرْه"
(1)
؟
فالجواب: نعم في: (مَن رَأى)، لكنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم ما ذَهبَ وما قال: تطلَّبوا رُؤيَةَ المُنكَرِ، وهذا الَّذي لا يُصلِّي يُمكنُ أن أَعِظَه في السُّوقِ أو في المَسجدِ؛ ولهذا نَجِدُ النَّاسَ الآنَ يَستثقِلونَ أن يَقرعَ عليهِمُ البابَ أحدٌ فيَعِظَهم أو يَأمُرَهم، ورُبَّما حَصَلَ من ذلك ما يُسَمَّى برَدِّ الفِعلِ.
من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: تَفاضُلُ الأعمالِ؛ لقَولِه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} ، وأحسنُ اسمُ تَفضيلٍ، ولا شكَّ أنَّ الأعمالَ تَتَفاضَلُ بثَلاثِ اعتِباراتٍ: باعتِبارِ الجِنسِ، وباعتِبارِ النُّوعِ، وباعتِبارِ الهَيئَةِ والكَيفيَّةِ.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم (49)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
تَتفاضَلُ باعتِبارِ الجِنسِ: فمَثلًا الصَّلاةُ أفضَلُ مِنَ الزَّكاةِ، الزَّكاةُ أفضَلُ مِنَ الصَّومِ، الصَّومُ أفضَلُ مِنَ الحَجِّ، هذا باعتِبارِ الجِنسِ، وتَتَفاضَلُ أيضًا مِن وَجهٍ آخَرَ؛ واجِبُ العِبادَةِ أفضلُ مِن نَفلِها، فصَلاةُ الظُّهرِ مَثلًا أفضَلُ مِن قيامِ اللَّيلِ، هذا تَفاضُلٌ باعتِبارِ الجِنسِ لكنَّه من وَجهٍ آخَرَ، ودَليلُ ذلك أنَّ النَّبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم- قال عن اللهِ:"وما تَقرَّب عَبدي بشَيءٍ أحبُّ إِلَيّ ممَّا افتَرضتُ عليه"
(1)
.
وتَتفاضَلُ باعتِبارِ النُّوعِ: مِثلَ: الوِترُ أفضلُ من مُطلَقِ التَّهجُّدِ، والرَّواتبُ أفضَلُ مِنَ النَّفلِ المُطلَقِ، هذا باعتِبارِ النُّوعِ، وإن شِئتَ فاجعَلْ تَفاضُلَها باعتِبارِ الوُجوبِ والنَّدبِ من هذا النَّوعِ.
والثَّالثُ باعتِبارِ الهَيئَةِ: صَلاةٌ يَخشعُ فيها الإنسانُ ويَتدبَّرُ ما يَقولُ وما يَفعَلُ ويَطمَئِنُّ، وصَلاةٌ أخرى يَقتَصِرُ على الواجبِ وبدون خُشوعِ قَلبٍ مثلًا فالأُولَى أفضَلُ.
والمُهِمُّ أنَّنا نُؤمِنُ بأنَّ الأعمالَ تَتفاضَلُ وأنَّ بعضَها أَحبُّ إلى اللهِ من بعضٍ، لكن يَبقى النَّظرُ: هل يَلزَمُ مِن تَفاضُلِ العَملِ تَفاضُلُ العامِلِ؟ نَعَمْ، وعلى هذا فالعامِلُ أيضًا يَختلِفُ ويَتفاضَلُ، قال النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم -:"لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالَّذي نَفسي بِيدِهِ لو أَنفَقَ أحدُكم مِثلَ أُحُدٍ ذَهبًا ما بَلَغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه"
(2)
. العَملُ واحدٌ لكنَّ العامِلَ مخُتلِفٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فَضيلَةُ الدَّعوةِ إلى اللهِ عز وجل في قولِه: {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} .
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذا خليلا"، رقم (3673)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الإشارَةُ إلى الإِخلاصِ في الدَّعوَةِ نَأخُذُها من قولِه: {إِلَى اللَّهِ} ؛ لأنَّ الدَّاعيَ رُبَّما يَدعو وَيقومُ للنَّاسِ ويُذكِّرُهم وَيعِظُهم ويَحُثُّهم على الخَيرِ ويُحذِّرُهم مِنَ الشَّرِّ، لكن يُريدُ أن يَكونَ مَرموقًا بينهم، هذا دعا إلى نَفسِه، فلا بدَّ إذن مِنَ الإخلاصِ، فلو قال قائلٌ: هل يُسلَبُ الإخلاصُ ما لو أَرادَ بالدَّعوَةِ إِصلاحَ النَّاسِ؟ الجَوابُ: لا، لا يُسلَبُه؛ لأنَّ الأصلَ دَعوتُهُ من أجلِ إصلاحِ النَّاسِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فَضيلَةُ العَمَلِ الصَّالحِ الَّذي جَمَعَ بينَ أمرَينِ: الإِخلاصِ والمُتابَعَةِ؛ لقَولِه: {وَعَمِلَ صَالِحًا} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: وُجوبُ العِلمِ، نَأخُذُه مِن قَولِه:{وَعَمِلَ صَالِحًا} ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أن تَعرِفَ أنَّ العَمَلَ مُوافِقٌ للشَّرعِ أو غَيرُ مُوافقٍ إِلَّا بالعِلمِ، وهذا واضِحٌ، فيَكونُ في الآيَةِ دَليلٌ على وُجوبِ العِلمِ؛ لأنَّه إذا كان العَمَلُ الصَّالحُ مِنَ الواجِباتِ فلا بُدَّ أن تَعلَمَهُ بالشَّرعِ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّه يَنبَغي للمُسلمِ أن يَكونَ عَزيزًا بِدِينِه وأن يُعلِنَ به وأن يَقولَ: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وألَّا يَستحيَ إذا قيل له أنَّه مُسلِمٌ؛ لقَولِهِ: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: الإِشارَةُ إلى تَجنُّبِ التَّزكيةِ الذَّاتيَّةِ؛ لأنَّه قال: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، ولم يَقُلْ: وقال إنَّني مُسلِمٌ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يَعتزُّ بقَولِه: إِنَّني مُسلمٌ ويَفخَرُ أَكثرَ ممَّا يَكونُ ذلك فيما لو قال: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: الإِشارَةُ إلى المُؤاخاةِ بينَ المُسلمينَ؛ لقَولِه: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} إشارَةٌ إلى أنَّني كواحدٍ من هَؤلاءِ، لا افْتِراقَ عنهم.
* * *