الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: تَحدِّي هَؤلاءِ المُكذِّبينَ لِلرَّسولِ صلى الله عليه وسلم الكافِرينَ بِالقُرآنِ، وأنَّهم بَعدَ أن عَلِموا بِالحقِّ كَفَروا بِه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ لِقولِه: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وَجهُ ذَلِكَ أنَّ القُرآنَ وَصفٌ لأنَّه كَلامٌ، والوصفُ لا بُدَّ أن يَقومَ بِمَوصوفٍ، وإِذا كانَ مِن عندِ اللهِ لَزِمَ أن يَكونَ المَوصوفُ بِهِ هو اللهُ عز وجل، ثُمَّ زيادَةً علي ذَلكَ وَجهُ الدَّلالَةِ كَونُه مِن عندِ اللهِ، وأنَّ الكلامَ صِفةٌ ولَيس عَينًا قائمةً بِنَفسها حَتَّى نَقولَ: إِنَّه مَخلوقٌ كَما في قَولِه تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206].
وهذا ما نُؤمنُ بِه وُيؤمنُ بِه السَّلفُ أَهلُ السُّنَّةِ والجماعَةِ بِأنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ تَكلَّمَ بهِ حَقيقةً بِحُروفِهِ، وسَمِعَه مِنه جِبريلُ وأَلقاه عَلي قَلبِ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم-.
وَيرى أَهلُ التَّعطيلِ أنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ لَكنَّه مخَلوقٌ، لَيسَ وَصفًا مِن صِفاتِه بل هو مخَلوقٌ مِن مخَلوقاتِه، وهذا رَأيُ الجَهميَّةِ والمُعتزلَةِ، وهَذا الرَّأيُ يُبطِلُ الأمرَ والنَّهيَ ويُبطِلُ الشَّريعَةَ كُلَّها؛ لِأنَّه إِذا كانَ كَذلكَ صارَ مجُرَّد أَصواتٍ أو مجُرَّد حُروفٍ لا مَدلولَ لَها، كَما نَسمعُ صَوتَ الرَّعدِ مَثلًا لا نَستفيدُ مِنهُ شَيئًا، إِنَّما هو شَيءٌ يُسمَعُ فقط ولَيس لَه مَعنًى، أو حُروفٌ خُلِقَت عَلي هَذا النَّحوِ كَأنَّها نَقشٌ في جِدارٍ أو في بابٍ، نُقوشٌ لَيسَ لَها مَعنًى؛ ولهِذا يُعتبَرُ هَذا القولُ مِن أَشدِّ الإلحادِ؛ لِأنَّه تَبطلُ بِه الشَّريعَةُ.
فَمثلًا: كَلمَةُ (قُل) إذا قلنا: إِنَّها مَخَلوقَةٌ إِن رَسمتَها في وَرقةٍ صارت صورةَ كَلِمةٍ فَقط كَأنَّها نَقشٌ؛ لِأنَّها لَيست بِكلامٍ، وإِن تَكلَّمتَ بِها فالصَّوتُ مَخلوقٌ،
بَلِ اللهُ عز وجل حينَ تَكلَّم بِها وأَوحاها إِلي جِبريلَ يُعتبرُ خَلَقَ صَوتًا ليس له مَعنًى؛ لِأنَّه مخَلوقٌ مِنَ المخلوقاتِ.
واللهُ عز وجل فَرَّق بَينَ الخلقِ والأمرِ فَقالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وكَذَلكَ: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ولَم يَقُل: مِن خَلقِنا.
فالقائلونَ بِأنَّ القرآنَ كَلامُ اللهِ لكنَّه مَخلوقٌ قد عَطَّلوا الشَّرائِعَ نِهائيًّا، إِذ إِنَّه لَيس هُناكَ أَمرٌ ولا نَهيٌ.
وهُناكَ قَولٌ آخَرُ لِلأشاعِرَةِ يَقولونَ: إِنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ، لكنَّه أي: الكلامُ هو المعنَى القائمُ بِنفسِهِ أَمَّا ما سَمِعَه جِبريلُ فَإنَّه مَخلوقٌ، فالقُرآنُ عندهُم كَلامُ اللهِ لَكِنَّ كَلامَ اللهِ هو المعنَى القائِمُ بِنفسِه، وأَمَّا ما يُسمَعُ مِنَ اللهِ عز وجل كَمُناجاتِه موسَى وكَلامِه بِالوحيِ إلي جِبريلَ فَإِنَّه مَخلوقٌ عِبارةٌ عَنِ المعنَى القائِمِ بالنَّفسِ.
وهذا المعنَى أَشدُّ وأَخبثُ مِن قَولِ المُعتزلَةِ، لِأنَّ المُعتزِلَةَ يَقولونَ: ما نَقرأُه في المَصاحفِ كَلامُ اللهِ حقًّا، والأشاعِرَةُ يَقولونَ: عِبارةٌ عَن كَلامِ اللهِ ولَيس كَلامَ اللهِ، والكلُّ مُتَّفِقونَ عَلى أنَّ ما نَقرأُه في المَصاحفِ مخَلوقٌ، لكنَّ المُعتزِلَةَ يَقولونَ: هو كَلامُ اللهِ، والأَشعريَّةُ يَقولون: عِبارةٌ عن كَلامِ اللهِ، فصاروا مِن هَذهِ النَّاحيةِ أَخبثَ وأَشَرَّ مِنَ المُعتزِلَةِ والجهميَّةِ.
أَمَّا نَحنُ فَنُؤمنُ بِأنَّ ما كُتِبَ في المَصاحفِ وحُفِظَ في الصُّدورِ فَإنَّه كَلامُ اللهِ وهو غَيرُ مَخلوقٍ.
فإن قالَ قائلٌ: أَرَأَيتَ القارئَ يَقرأُ نَسمَعُ صَوتَه بِالقراءَةِ هَل هذا الصَّوتُ مَخلوقٌ أو غَيرُ مَخلوقٍ؟
قلنا: هو مَخلوقٌ؛ لِأنَّ صَوتَ الإِنسانِ وَصفٌ مِن أَوصافِه فَهو مَخلوقٌ كَأصلِه لَكِنَّ الملفوظَ بِهِ والمُصَوتَ بِه غَيرُ مَخلوقٍ، وهُناكَ فَرقٌ بَينَ الصَّوتِ والنُّطقِ وبَينَ المُصوَّتِ به والمَنطوقِ به، فأَنا لَو قَرأتُ كِتابًا ألَّفَه عالِمٌ مِنَ العُلماءِ فالصَّوتُ صَوتي لَكِنَّ المَقروءَ لِلعالِم الَّذي كَتَبَ الكِتابَ؛ ولهِذا قالَ شَيخُ الإِسلامِ رحمه الله في كِتابِه العقيدةُ الواسطيَّةُ: الكلامُ إِنَّما يُضافُ حَقيقةً إلى مَن قالَه مُبتَدئًا لا إلي مَن قالَه مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا
(1)
.
فَلَو أَرادَ الإِنسانُ أَن يَستَفصِلَ، هَل لَفظُ الإِنسانِ بِالقُرآنِ مَخَلوقٌ أو لا؟
نَقولُ: لَفظُه الَّذي هو تَلَفَّظَه مَخلوقٌ؛ لِأنَّه حَركاتُ الإِنسانِ وشَفَتَيه وصَوتِه، وأَمَّا المَلفوظُ بِه فَإِنَّه كَلامُ اللهِ غَيرُ مخَلوقٍ، وَيدُلُّ لهِذا أَنَّ اللهَ تَعالَي قالَ في القُرآنِ الكريمِ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 19، 20] الرَّسولُ هُنا جِبريلُ، وَقالَ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، 41] الرَّسولُ هُنا محُمَّدٌ عليه الصلاة والسلام، ولا يُمكنُ أَن يَكونَ كَلامٌ واحدٌ لمُتكَلِّمَينِ اثنَينِ لَكن أَضافَه إِليهِما لِأنَّهما رَسولانِ مُبَلِّغانِ عَنِ اللهِ؛ ولِهَذا قال:{لَقَوْلُ رَسُولٍ} في الآيتَينِ.
وذُكِرَ عَنِ الإِمامِ أَحمَدَ رحمه الله أنَّ مَن قال: لَفظي بِالقُرآنِ مخَلوقٌ فَهو جَهميٌّ، ومَن قالَ: غَيرُ مَخلوقٍ فَهو مُبتدِعٌ
(2)
، هكذا رُوِيَ عنه، وفي رِوايةٍ: مَن قالَ: لَفظي بِالقُرآنِ مخَلوقٌ يُريدُ القُرآنَ فَهو جَهميٌّ، ومَن قال: غَيرُ مَخلوقٍ فَهو مُبتدِعٌ
(3)
.
(1)
العقيدة الواسطية (ص: 90).
(2)
انظر: سيرة الإمام أحمد لابنه صالح (ص: 70)، والكامل لابن عدي (3/ 241)، طبقات الحنابلة (1/ 75).
(3)
انظر: مجموع الفتاوي (12/ 74).
فالرِّوايَةُ الثَّانيةُ عنه فَسَّرتِ الرِّوايةَ الأولَى أي: مَن قالَ لَفظي بِالقُرآنِ مَخلوقٌ يُريدُ القُرآنَ الَّذي هو اللفوظُ به.
فإِن قالَ قائِلٌ: هَل يُمكنُ أَن يُرادَ بِاللَّفظِ المَلفوظُ؟ قُلنا: نَعَم، لِأنَّ لَفظَ مَصدرٌ والمَصدَرُ يَأتي أَحيانًا بمَعنَى اسمِ المَفعولِ كَما في قولِه -صلَّى اللهُ عليه وَعَلى آلِه وسَلَّم-:"مَن عَمِلَ عَملًا ليسَ عَليهِ أَمرُنا فَهو رَدٌّ"
(1)
. رَدٌّ بمَعنَى مَردودٍ. وكَما في قَولِه تَعالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق: 6] أي: أولاتُ مَحمولٌ، فالحَملُ مَصدَرٌ ويُرادُ بِه اسمُ المَفعولِ.
ونَحنُ نَقولُ في كَلامِ اللهِ عز وجل: إِنَّه كَلامٌ مَسموعٌ بِحرفٍ وصَوتٍ وأَنَّه غَيرُ مَخلوقٍ وأَنَّه صِفةٌ مِن صِفاتِه.
ولَكِن هل هو مِنَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ أو مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؟ نَقولُ: أَمَّا بِاعتِبارِ أَصلِه وأَنَّه تَعالَى لَم يَزلْ ولا يَزالُ مُتكلِّمًا فهو مِنَ الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ، وأَمَّا بِاعتِبارِ آحادِه فَهو مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؛ لِقولِه تَعالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] صارت {كُن} بَعدَ الإِرادَةِ، وَهذا دَليلٌ علي أنَّ كَلامَ اللهِ من حَيثُ آحادُه وأَفرادُه مِنَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ.
فإِن قالَ قائِلٌ: قَولُ الأشاعِرَةِ هَل يُكَفِّرُهم؟
فالجَوابُ: يَجبُ أَن نَعلَمَ قاعدةً مُهِمَّةً أنَّ المُجتَهدَ مِن هَذهِ الأُمَّةِ ولَو أَخطَأَ فَإنَّه مَغفورٌ لَهُ، هُم يُريدونَ بهذا أنَّ اللهَ مُنزَّهٌ أن تَقومَ بِه الحوادِثُ؛ لِأنَّهم يَعتَقدونَ بِعُقولهِم السَّخيفَةِ أنَّ الحَوادثَ لا تَقومُ إِلَّا بِحادثٍ وهُم يَعلَمونَ أنَّ الكَلامَ حادثٌ،
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
كُلُّ حَرفٍ حَدَثَ بَعدَ الحَرفِ الَّذي قَبلَه، لكن لِعُقولهِم السَّخيفَةِ ظَنَّوا أنَّ مَن يَقومُ بِالحادثِ فَهو حادثٌ، وهَذا خَطأٌ، ولَكن لا نُكفِّرهم في هَذا، ولَو أنَّ إِنسانًا تَبيَّن لَهُ الحقُّ وقالَ: إِنَّه لا يُريدُ الحقَّ وإنَّما يَتَّبعُ هَواه فَقَد يكفر.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ الكُفرَ بَعدَ التَّبيُّنِ أَشدُّ قُبحًا مِنَ الكُفرِ مع الجَهلِ بِدَليلِ قولِهِ: {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} ، فإِنَّ {ثُمَّ} تَدُلُّ على التَّرتيبِ والتَّراخي وأنَّ كُفرَهُم كان بَعدَ أَن تَبيَّنَ الأمرُ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّه لا أَحَدَ أَضَلُّ مِمَّن شاقَّ اللهَ ورَسولَه حَيثُ إِنَّه في شِقاقٍ بَعيدٍ لِقولِه تَعالَى: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: بَلاغَةُ القُرآنِ التَّامَّةُ حيثُ يَختارُ في كُلِّ تَركيبٍ ما يُناسبُ الحالَ؛ لِقولِه تَعالَى: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: وُقوعُ الِاستِفهامِ مَوقعَ النَّفيِ وأنَّ إيقاعَ الِاستِفهامِ مَوقِعَ النَّفيِ أُسلوبٌ عَربيٌّ صَحيحٌ، وفائدتُه أَنَّه إِذا كانَ بصيغَةِ الِاستِفهامِ كانَ مُشربًا بِالتَّحدِّي، فَقولُه:{مَنْ أَضَلُّ} أَبلغُ مِن قولِه: لا أَضَلَّ.
* * *