المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (37 ، 38) - تفسير العثيمين: فصلت

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌الآيتان (2، 3)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَين الكَرِيمَتيْن:

- ‌الآية (4)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌مِن فَوائِد الآيَةِ الكَرِيمَةِ:

- ‌الآيتان (6، 7)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتَيْن الكرِيمَتيْن:

- ‌الآية (8)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَرِيمةِ:

- ‌الآية (9)

- ‌مِن فوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (10)

- ‌مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (11)

- ‌مِنَ فوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (12)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَريِمَتَين:

- ‌الآيتان (15، 16)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَرِيمتين:

- ‌الآية (17)

- ‌مِن فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (19 - 24)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (30 - 32)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيات (34 - 36)

- ‌من فوائِدِ الآياتِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (37 ، 38)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكَريمتَينِ:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (41، 42)

- ‌مِن فَوائدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (43)

- ‌الآية (44)

- ‌من فَوَائدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (46)

- ‌مِنْ فَوائِدِ الآيةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (47)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكرِيمَةِ:

- ‌الآية (48)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآية (49)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (50)

- ‌مِن فَوائِدِ الآيةِ الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فَوائِدِ الآيةِ الكَريمَةِ:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائِدِ الآيَةِ الكريمَةِ:

- ‌الآيتان (53، 54)

- ‌من فوائِدِ الآيَتين الكريمَتين:

الفصل: ‌الآيتان (37 ، 38)

‌الآيتان (37 ، 38)

* * *

* قال اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 37 - 38].

* * *

قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي: آياتِ اللهِ عز وجل، والآيَةُ في اللُّغةِ العَلامَةُ وهي بالنِّسبَةِ لآياتِ اللهِ ما كان عَلامَةً على قُدرَةِ اللهِ عز وجل وقُوَّتِه وحِكمَتِه وعِلمِه ورَحمَتِه وغَيرِ ذلك. وقَولُه:{وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةُ على قُدرَتِه وعِلمِه وحِكْمتِه ورحمَتِه وغَيرِ ذلك مِمَّا دَلَّ عليه هذا اللَّيلُ والنَّهارُ.

{اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} اللَّيلُ بظَلامِه والنَّهارُ بضِيائِه، هذا من آياتِ اللهِ لا أَحَدَ يَستَطيعُ أن يَفعَلَ ذلك إِطلاقًا يَقولُ اللهُ عز وجل:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] الجَوابُ: لا إِلَهَ، لا أَحَدَ يَأتي بذلك، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] الجَوابُ: لا أحَدَ.

فهذا مِن آياتِ اللهِ العَظيمَةِ الدَّالَّةِ على قُدرَتِه وعلى رَحمَتِه وعِلمِه وحِكمَتِه وقُوَّتِه، بينَما اللَّيلُ قد غَشِيَ الأَرضَ بظَلامِه، وإذا بِالصُّبْحِ قد كَشَفَ هذا الغِطاءَ،

ص: 197

فأصبحت الدُّنيا ضياءً.

كذلك مِن آياتِه الشَّمسُ والقَمرُ، وما أَعظَمَها من آيَةٍ، هذانِ الكَوكبانِ يَسيرانِ مُنذُ خَلَقَهما اللهُ عز وجل إلى أن يَأذَنَ اللهُ عز وجل بخَرابِهما يَسيرانِ على نَمَطٍ واحدٍ لا يَتَعَدَّيانِه ولا يَتجاوَزُانَّه قال بَعضُ العُلماءِ: لو أنَّ الشَّمسَ بَعُدَت عن مَقَرِّها شَعرةً واحدةً لهَلَكَ النَّاسُ مِنَ البَردِ وجَمُدَت المَائعاتُ، ولو أنَّها نَزَلَت شَعرَةً واحدةً لَذابَت الأرضُ مِنَ الحَرِّ، وهذا مِن قُدرَةِ اللهِ عز وجل ثُمَّ هذا الجِرمُ العَظيمُ له هذه الإضاءةُ العَظيمَةُ مع البُعدِ التَّامِّ.

وهذه الحَرارَةُ العَظيمَةُ مع البُعدِ التَّامِّ، لو أنَّك سَعَّرت أَقوَى نارٍ في الدُّنيا ما بَلَغَت مَسافةَ حَرِّها إلى مئةِ مِترٍ، ومعَ ذلك تَجِدُ مَسَّ الحَرارَةِ فقط لا أن يَصِلَ إلى هذه الدَّرجَةِ، وهذه بَينَك وبَينَها ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ عز وجل وتَجِدُ هذا الحَرَّ في أيَّامِ الصَّيفِ، قال لي بَعضُهم: رُبَّما بَدَأَ المَاءُ يَغلي مِن شِدَّةِ الحرارَةِ في بَعضِ المَناطِقِ، مِمَّا يَدُلُّ على عَظَمَةِ هذه الشَّمسِ.

والقَمرُ أيضًا عَظيمٌ، هذا القَمرُ الكَوكَبُ الكُتلَةُ يُضيءُ هذه الإضاءَةَ العَظيمَةَ مِن بُعدٍ مع ذلك هو باردٌ لا يُسخِّنُ الجَوَّ ولا يُسَخِّنُ الأرضَ؛ لأنَّه آيَةَ لَيلٍ. أرأيتم لو أنَّه كان حارًّا أيَتمتَّعُ النَّاسُ باللَّيلِ كما يَتمتَّعونَ اليومَ؟ لا يَتمتَّعونَ أبدًا، لكن مِن رحمَةِ اللهِ عز وجل أن جَعَلَه نورًا باردًا حتَّى لا تَبقى حَرارَةُ الأرضِ طَوالَ أَربعٍ وعِشرينَ ساعةً، وحتَّى يَستقِرَّ النَّاسُ في مَنامِهم وذَهابِهم ومجَيئِهم.

قال اللهُ تَعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} (مِن) هذه للتَّبعيضِ وعَلامَةُ مِنِ التَّبعيضِيَّةِ أن يَحِلَّ مَحلَّها بَعضُ، يَعني: بَعضُ آياتِه اللَّيلُ والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ، وذَكَرنا وَجهَ كَونِها هذه الأربع مِن آياتِه.

ص: 198

ثُمَّ قال اللهُ تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} الخِطابُ لجميعِ العِبادِ نَهاهم أن يَسجُدوا للشَّمسِ ولا للقَمرِ؛ لأنَّ مِن النَّاسِ مَن يَعبُدُ الشَّمسَ والقَمرَ ويَسجُدُ لها، وقد أَخبَرَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام:"أنَّ الشَّمسَ تَطلُعُ بين قَرنَيْ شَيطانٍ فإذا طَلُعَت سَجَدَ لها الكُفَّارُ"

(1)

؛ ولذلك نُهِيَ عنِ الصَّلاةِ عندَ طُلوعِ الشَّمسِ وعندَ غُروبِها، وقال بَعضُ العُلماءِ رحمه الله: إنَّ المُرادَ: لا تَسجُدوا للشَّمسِ ولا للقَمرِ عندَ تَغيُّرِ هما بالكُسوفِ.

ولكن في قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [أي: الآياتِ الأربعَ، {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}]، يَعني: إن كُنتُم صادِقينَ في عِبادتِه فلا تَسجُدوا لغَيرِه؛ لأنَّ مَن يعبُدُ اللهَ ويَعبُدُ غَيرَه ليس صادقًا في عِبادَتِه، فالصَّادقُ في عِبادَتِه هو الَّذي يُخلِصُ العِبادَةَ للهِ عز وجل.

وقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} المُرادُ بِالسُّجودِ هُنا - واللهُ أعلمُ - ما هو أعمُّ مِنَ السُّجودِ الخاصِّ الَّذي هو وَضعُ الأعضاءِ السَّبعَةِ على الأرضِ؛ أي أنَّ المُرادَ بالسُّجودِ هُنا الذُّلُّ، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15].

ويَحتَمِلُ أن يَكونَ المُرادُ به السُّجودَ الخاصَّ؛ لقَولِه: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} والقاعدَةُ في عِلمِ التَّفسيرِ أنَّه إذا كان اللَّفظُ يَحتَمِلُ مَعنيينِ أَحدُهما أوسعُ وأعَمُّ وأشمَلُ، فإنَّه يُحمَلُ على الثَّاني الَّذي هو أَوسَعُ وأعمُّ.

وقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الَّذي خَلَقَ هذه الأشياءَ، وفي

(1)

أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم (832)، من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه.

ص: 199

هذا إِشارَةٌ إلى أنَّ اللهَ هو المُستَحِقُّ لأن يُسجَدَ له؛ لأنَّه هو الخالِقُ، وأمَّا هذه فهي مَخلوقَةٌ لا تَستَحِقُّ أن يُسجَدَ لها.

وقَولُه تَعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: إن كُنتم ذَوِي عِبادَةٍ للهِ حقًّا فاسجُدوا للهِ ولا تَسجُدوا للشَّمسِ ولا للقَمرِ.

وقَولُه: {إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} العِبادَةُ بمَعنى: الذُّلِّ، ومنه قَولهُم طَريقٌ مُعَبَّدٌ؛ أي: مُذَلَّلٌ لمَن سَلَكَه ليس فيه وُعورَةٌ لا طُلوعَ ولا نُزولَ ولا التِفافَ يَمينًا ولا شِمالًا، فالطَّريقُ المُعَبَّدُ يَعني: المُذَلَّلَ. إذن فَالتَّعبُّدُ للهِ هو التَّذَلُّلُ له مَحبَّةً وتَعظيمًا. واعلَمْ أنَّ العِبادَةَ تُطلَقُ على مَعنيينِ:

المَعنى الأَوَّلِ: التَّعبُّدُ للهِ الَّذي هو فِعلُ العابِدِ.

والمَعنى الثَّاني: المُتَعَبَّدُ به الَّذي هي العِباداتُ، ولهذا قال شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رحمه الله:"إنَّ العِبادَةَ اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه"

(1)

بناءً على أنَّ المُرادَ بها المُتَعَبَّدُ به.

قَولُه تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} قَدَّمَ المَفعولَ به لإِفادَةِ الحَصْرِ؛ لأنَّ مِن القَواعدِ المُقَرَّرةِ في عِلمِ البَلاغَةِ وغَيرِها أنَّ تَقديمَ ما حَقُّه التَّأخيرُ يُفيدُ الحَصْرَ، فإذا قُلتَ مَثلًا: إيَّاك أَكرَمْتُ، المَعنى لم أُكْرِمْ غَيرَك، وقَولُ القائِلِ في سورَةِ الفاتِحَةِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} يَعني: لم نَعبُدْ غَيرَك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] يَعني: لا نَستَعينُ غَيرَك.

ثُمَّ قال تَعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} يَعني: عن عِبادَةِ اللهِ والسُّجودِ له فإنَّ اللهَ تَعالى غَنيٌّ عنهم.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 149).

ص: 200

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} عَنِ السُّجودِ للهِ وَحدَه {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أي: فالمَلائِكةُ {يُسَبِّحُونَ} يُصَلُّون {لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} لا يملون] يَعني: فإنِ استَكبَرَ هَؤلاءِ عَن عِبادَةِ اللهِ فللهِ عِبادٌ آخَرون، كما في قَولِهِ تَعالى:{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].

ثُمَّ على فَرضِ أنَّه لا يُوجَدُ عابدٌ للهِ فإنَّ اللهَ تَعالى يَقولُ: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7]{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فهُنا شَيئانِ:

الشَّيءُ الأَوَّلُ: أن يَستكبِرَ طائفَةٌ مِن المَخلوقينَ عن عِبادَةِ اللهِ، فإنِ استَكبَروا فهُناكَ طائفَةٌ أُخرى تَعبُدُ اللهَ.

الثَّاني: أن يَستكْبِرَ الكُلُّ وهذا مُحالٌ حَسَبُ ما نَعلمُ، لكن على فَرضِ أنَّ جَميعَ المَخلوقاتِ استَكبَرَت عن عِبادَةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عنهم، كُلُّ هذا أَفصَحَ اللهُ عنه:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} ، هذا إذا كَفَرَ بَعضٌ وآمَنَ بَعضٌ.

{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} هذا إذا استكبَرَ بَعضٌ وذَلَّ بَعضٌ: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} .

جُملَةُ {فَالَّذِينَ} هي جَوابُ الشَّرطِ وقُرِنت بالفاءِ؛ لأنَّ ما بَعدَها لا يَصِحُّ أن يَكونَ فِعلًا للشَّرطِ، وهذه قاعِدَةٌ: إذا كان جَوابُ الشَّرطِ لا يَستقيمُ أن يَكونَ فِعلًا للشَّرطِ وَجَبَ اقتِرانُه بالفاءِ كما قال ابنُ مالكٍ

(1)

:

واقرِنْ بفا حتمًا جَوابًا لو جُعِلَ

شرطًا لـ (إن) أو غَيرِها لم يَنْجَعِلْ

(1)

الألفية (ص: 58).

ص: 201

وقد ذَكَرَ بَعضُ الجامِعينَ لما يَجِبُ أن يَقتَرِنَ بالفاءِ جَمَعَ ذلك في بَيتٍ هو

(1)

:

اسمِيَّةٌ طَلبيَّة وبجامِدٍ وبما

قد وبلن وبالتَّنفيسِ

قال اللهُ تَعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وهُم المَلائِكَةُ {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} .

يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{يُسَبِّحُونَ} هو أي: يُصَلُّون]، وهذا نَعَمْ له وِجهَةُ نَظَرٍ، لأنَّ السِّياقَ في السُّجودِ ويُمكِنُ أن نَقولَ: يُسبِّحونَ بما هو أَعمُّ مِنَ الصَّلاةِ أي: يَقولون: سُبحانَ اللهِ والحَمدُ للهِ وما أَشبَهَ ذلك مِن كُلِّ ما فيه تَنزيهٌ للهِ عز وجل عمَّا لا يَليقُ به.

وقَولُه: {يُسَبِّحُونَ لَهُ} هو أي للهِ، واعْلَمْ أنَّ التَّسبيحَ مَعناه التَنّزيهُ، فما الَّذي يُنزَّهُ اللهُ عنه؟

يُنزَّهُ اللهُ تَعالى عن كُلِّ نَقصٍ، فهو عز وجل مُنزَّهٌ عن كُلِّ نَقصٍ، لا يُمكِنُ أن يَعتَرِيَه نَقصٌ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ.

ثانيًا: يُنزَّهُ عن كُلِّ نَقصٍ في كمالِه فلا نَقصَ في سَمعِه ولا بَصَرِه ولا قُدرَته ولا قُوَتِه.

الثَّالثُ: يُنزَّهُ عن مُماثَلةِ المَخلوقينَ فلا يُماثلُ المَخلوقَ أبدًا بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ، والتَّماثُلُ بينَ الخالِق والمَخلوقِ مِن أكبرِ المُحالِ.

فما يُنَزَّهُ اللهُ عنه ثَلاثَةُ أشياءَ:

الأَوَّلُ: النَّقصُ لا يُمكنُ أن يَعتَرِيَه نَقصٌ إطلاقًا.

(1)

انظر النحو الوافي (4/ 463).

ص: 202

والثَّاني: النَّقصُ في كَمالِه، فكَمالاتُه من عِلمٍ وقُدرةٍ وحَياةٍ وسَمْعٍ وبَصرٍ ورحمَةٍ وغيرِ ذلك لا يُمكنُ أن يَعترِيَها نقصٌ بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ.

والثَّالثُ: مُماثلَةُ المَخلوقينَ.

ولاحِظوا هذه المَسألَةَ فأكثَرُ الَّذين يُعبِّر ون بمِثلِ هذا يُعبِّرون بمُشابهَةٍ، وهذا ليس بصَوابٍ، الصَّوابُ أن يُعبِّرَ بما عَبَّر اللهُ به عن نَفسِه فقال:{كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، ولم يَذكُرِ التَّشبيهَ بأيِّ حالٍ منَ الأحوالِ، ولهذا كان التَّعبيرُ بنَفيِ التَّمثيلِ هو الصَّوابُ دونَ التَّشبيهِ. دَليلُ هذا أنَّ اللهَ مُنزَّهٌ عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ قَولُه:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]

المَثَلُ يعني: الوَصفَ؛ لأنَّ المَثَلَ يُطلَقُ على ذلك كما في قَولِه تَعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15] مَثَلُ بمعنى: وَصفُها صِفتُها، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} فإذا كان اللهُ له المَثَلُ الأعلى؛ أي: الأَكمَلُ لَزِمَ أن يَكونَ مُنزَّهًا عن كُلِّ نقصٍ.

أمَّا النَّقصُ في كَمالِه فيَدُلُّ له قَولُه تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38] أي: مِن نَقصٍ على أنَّ هذه المَخلوقاتِ عَظيمَةٌ جدًّا، ومع ذلك ما لَحِقَ اللهُ تَعالى فيها نَقصٌ. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف: 33].

الثَّالثُ: عدمُ مُماثلَةِ المَخلوقينَ، يَقولُ اللهُ عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، ويَقولُ تَعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].

إذن؛ التَّسبيحُ بمعنى: التَّنزيهِ، والَّذي يُنزَّهُ اللهُ عنه ثَلاثَةُ أشياءَ.

ص: 203

قال اللهُ تَعالى: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الباءُ هُنا بمَعنى (في)؛ لأنَّ المَقصودَ {بِاللَّيْلِ} يَعني: ظَرفَ اللَّيلِ، وعلى هذا تَكونُ الباءُ بمعنى (في) كما هي في قَولِه تَعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138] باللَّيلِ يَعني: في اللَّيلِ.

فإِنْ قال قائِلٌ: ما القَولُ في رَأيِ عُلماءِ البَصرَةِ الَّذين يُنكِرون تَقابُلَ الحُروفِ بَعضِها بَعضًا؟

فالجَوابُ: نَحنُ لَدينا قاعدَةٌ:

أَوَّلًا: أنَّه إذا دَلَّ القُراَنُ على شَيءٍ جائزٍ فلا عِبرَةَ بمَن خالَفَه.

ثانيًا: إذا اختَلَف النَّحويُّون في مسألَةٍ، فإنَّنا نتَّبعُ الأسهَلَ، لا يوجَدُ دَليلٌ شَرعيٌّ مَثلًا يُؤيِّدُ هؤلاءِ ولا هَؤلاءِ فنتَّبعَ الأسهَلَ، فإذا رَأيتُم عُلماءَ البَصرَةِ وعُلماءَ الكوفَةِ محُتلِفون في شَيءٍ فاتَّبعوا الأسهَلَ، وأَقولُ: الحَمدُ للهِ على الرَّاحةِ.

فإن قيل: هَل شَيخُ الإسلامِ يُغَلِّطُ مثلَ هذا؟

فالجَوابُ: لا، لا يَغلِّطُ بمثل هذا، شَيخُ الإسلامِ

(1)

يُغلِّطُ فيما إذا أَمكَنَ تَضمِينُ الفِعلِ مَعنًى يُناسبُ حَرفَ الجَرِّ مثل: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] منهم مَن يَقولُ {بِهَا} (الباءُ) بمَعنَى (مِن) أي: يَشرَبُ مِنها عِبادُ اللهِ. نحنُ نَقولُ: لا، الأَوْلَى أن تُضَمِّنَ الفِعلَ مَعنًى يُناسِبُ الحَرفَ، أمَّا الآيَةُ الَّتي مَعَنا {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ} [فصلت: 38] فلا تَستَقيمُ.

وقَولُه: {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يَعني: إذن كُلُّ الوَقتِ يُسبِّحونَ اللهَ.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (21/ 123 - 124).

ص: 204