الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالجَوابُ: لا، قالُوه هُم ولُغَتُهم غَيرُ عَربِيَّةٍ، لكِنَّ اللهَ يَنقُلُ عَنهم بالمَعنَى.
وقَولُهم هَذا كما يُقالُ: تَصوُّرُ هَذا القَولِ كافٍ في ردِّه وإبْطالِه، يَعنِي حتَّى كُفَّارُ قُريشٍ قالُوا هَكذا في سُورةِ الأنْعامِ:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 8 - 10].
مِنْ فَوائِدِ الآيَتين الكَريِمَتَين:
الْفَائِدَة الأُولَى: إثْباتُ القِياسِ؛ لِأنَّ إنْذارَ المُكذِّبين إذا لمْ يَكُنِ المُرادُ بذَلِك قِياسُ حالِ المُكذِّبين للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم على حالِ المُكذِّبين لِهُودٍ وصالِحٍ لم يَكُنِ لِهَذا الإنْذارِ فائِدةٌ، لَولا القِياسِ ما كان لهِذا الإنْذارِ فائِدةٌ.
إذَن ففِيه جَوازُ القِياسِ والِاعتِبارِ بالنَّظِيرِ والمُماثِلِ، ولقَد قال اللهُ تَعالَى في آية أُخرَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وإثْباتُ القِياسِ دَليلًا، مِن مَحاسِنِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأنَّ إثْباتَ القِياسِ دَليلًا، هُو مُقتَضى العَقلِ السَّلِيمِ إذْ إنَّ العَقْلَ لا يُمكِنُ أبدًا أنْ يُفرِّقَ بيْن مُتَماثلَيْن، وعلَى هَذا، فالَّذِين أنْكَروا القِياسَ وقالوا: لا قِياسَ في الشَّرِيعةِ خالَفوا الدَّلِيلَ السَّمعِيَّ والدَّلِيلَ العَقلي.
وسُبحان اللهِ! القُرآنُ كلُّه يُشِيرُ إلَى هَذا، كُلُّ الأمْثالَ المَضْرُوبةُ في القُرْآنِ كُلُّها دَلِيلٌ على القِياسِ لا شكَّ، وإلَّا لمْ تَكُنْ فائِدةٌ في المَثَلِ، السُّنة أيضًا أَتَتْ بالقِياسِ: "أرَأيْتَ لَو كان على أمُّك دَيْن أَكنتِ قاضِيتِه؟
…
اقضُوا اللهَ فاللهُ أحَقُّ بالْوَفاءِ"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، رقم (1852)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
هُم أيْضًا مخُالِفون لِلعَقلِ؛ لِأنَّه لَولا ثُبُوتُ القِياسِ لَكانتِ الشَّرِيعةُ ناقِصةً، حَيْث لَم تَجمَعْ بيْن المُتماثِلين. إذَن في الآيَةِ إثْبات القِياسِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الرُّسُلَ أَتَوا قَومَهم مِن كُلِّ جانِبٍ، مُقبِلِين ومُدبِرين، يُرونَهم الآياتِ الماضِيةِ والآياتِ المُستَقبَلةِ، ولكِن لا فائِدةَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ الرُّسُلَ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه علَيْهم أَتَوا بتَحقِيقِ التَّوحِيدِ لِقَولِه: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ، وهَذِه هِي الأصْلُ الأصِيلُ الَّذي دَعَت إلَيْه الرُّسُلُ جَمِيعًا، والدَّلِيلُ على ذَلِك {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وآيَةٌ أصْرَح مِنْها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ أهْلَ الباطِلِ يُشبِّهون بما لَيس لَه حَقِيقةٌ، وذَلِك حِين رَدُّوا دَعْوةَ الرُّسُلِ بما لا يَصِحُّ أنْ يَكونَ رَدًّا، ف {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ، فَهَذه الشُّبهَةُ لَيْست بِحُجَّةٍ، بِدَلِيلٍ أنَّ اللهَ عز وجل يَقولُ في آيَةٍ أُخرَى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، وحِينَئذٍ لَو أنْزَلَ اللهُ عز وجل مَلَكًا لجَعلَه رَجُلًا ولَعادَتِ الشُّبْهةُ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: شِدَّةُ عِنادِ المُكذِّبين لِصالِحِ وعادٍ وهُودٍ، ووَجْهُه: أنَّهم حتَّى مَع إثْباتِ الرِّسالةِ لهم، فهُم مُصِرُّون على عِنادِهم، وعَدَم إِيمانِهم بهَؤُلاء الرُّسُلِ، ووَجْهٌ آخَرَ كَأنَّهم يَقولون لِعِنادِهم: لَو آمَنَّا بكُلِّ شَيءٍ، لمْ نُؤمِن بما أُرسِلْتم بِه، يَعنِي: بما أُرسِلتُم به خاصَّة، ووَجْه الخُصُوصِيَّةِ تَقدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ على مُتعَلِّقه، وأيْضًا مِن مَظاهِر العِنادِ لهِؤُلاء أنَّهم أكَّدُوا كُفْرَهم بـ "إنَّ"{فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، فَصارَ
تَأكِيدُهم لِكُفرِهم وعِنادِهم مِن عِدَّة أوجُهٍ:
أوَّلًا: التَّاكِيدُ بـ "إنَّ".
وثانيًا: الحَصْرُ، وذَلِك بتقديمِ ما حقُّه التَّأخيرُ؛ أي: بتقديمِ الجارِّ والمجرورِ على متعلِّقه.
وثالثًا: أنَّهُم أَتَوا بِه بالجُملَةِ الاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ على الثُّبوتِ والِاستِمرارِ، بِخِلافِ الفِعلِيَّةِ؛ فهِي دالَّةٌ على الحُدُوثِ وعَدَمِ الِاستِمرارِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ المُكذِّبين للرُّسُلِ - وهُم كُفَّارٌ - يُؤمِنون بالمَلائِكةِ، لِقولِه:{لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} .
الْفَائِدَةُ السَّابعَةُ: أنَّ المُقرَّ بالرُّبوبيَّةِ لا يُعتَبَر مُؤمِنًا حتَّى يُقِرَّ بالأُلوهيَّةِ؛ لِقَولهِم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ، وهَكَذا الكُفَّارُ الَّذِين بُعِثَ فِيهم الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام كانوا مُقِرِّين بالرُّبوبيَّةِ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [الزخرف: 87].
ولكِنَّ الإيمانَ بالرُّبُوبيَّةِ لا يكفِي في كَوْنِ الإنسانِ مُسلمًا، لا بُدَّ مِنَ الإيمانِ بالْألُوهِيَّةِ إضافَةً إلَى الإيْمانِ بالرُّبوبيَّةِ، فهُما مُستَلْزِمٌ أحَدُهُما للآخَرِ ومُتضمِّنٌ، المُستَلزِمُ للآخَرِ مَن آمَنَ بالرُّبُوبيَّةِ لَزِمَه أنْ يُؤمِنَ بالألوهيَّةِ، إذَن المُستَلْزَمُ هُو الرَّبُوبيَّةُ، ومَن آمَنَ بالألوهيَّةِ فقَد تضَمَّنَ إيمانُه بالألُوهيَّةِ الإيمانَ بالرُّبُوبيَّةِ، فأحَدُهما مُتضَمِّن للآخَرِ، والثَّاني مُستلزِمٌ للآخَرِ.
فَإِنْ قالَ قائِلٌ: هَلْ قَولُه: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، يَدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ كانُوا يُوقِّرُون اللهَ في الأسْماءِ والصِّفاتِ؟
فالجَوابُ: لا، قَد يَكونُ ذَلِك، وقَد يَكونُون أقرُّوا ببَعضِ الأسْماءِ والصِّفاتِ، وهُم يُنكِرُون الرَّحْمَنَ، أيْ: أنَّ البَعْضَ يُثبِتُونها لا شكَّ.
* * *