الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجَوابُ: الحِكْمةُ في أنَّ اللهَ تَعالَى يَذْكُرُ الأعْلَى قَبلَ الأسْفَلِ، أمَّا التَّحدُّثُ عنِ خلْقِ السَّماءِ فقَدْ بيَّن اللهُ تَعالَى أنَّ الأسْفَلَ يُخْلَقُ قبْل الأعلَى كالبِناءِ، فعِندَما تُريدُ أنْ تبْنِيَ شَيئًا فلَن تبْنِيَ السَّقْفَ قبْل أنْ تبْنِيَ العمُودَ، فعِنْدَ الذِّكْرِ والتَّحَدُّثِ يَبِينُ الأشْرَفُ والأعْلَى؛ يُقدَّمُ، وعِنْد التَّكوِين والبِناءِ يُبْدأُ بالأسْفَلِ؛ لأَنَّه هُو الأصْلُ.
مِنْ فوائِدِ الآيَةِ الكَريمَةِ:
الْفَائِدَة الأُولَى: مِنّة اللهِ سبحانه وتعالى على عِبادِه؛ حيْثُ جعَلَ في الأرْض رواسِي، أيْ: ثوابِتَ، والحِكمَةُ ذَكَرها اللهُ تعالَى في قوْلِه:{أَنْ تَميِدَ بِكُمْ} [لُقمان: 10]؛ لوْلا هذِه الرَّواسِي لمادَتْ بِنا الأرْضُ، فيستفاد من ذلك: أنَّ الأرْضَ تدُورُ؛ لِقوْلِه: {أَنْ تَميِدَ بِكُمْ} ؛ لأنَّ نفْي المَيَدانِ دليل على وُجُودِ أصْلِ الحَرَكةِ؛ إذْ لَم يَقُلْ: أنْ تَتحرَّكَ بِكَم، ونَفْيُ الأخَصِّ يَقْتَضِي وُجُودَ الأعمِّ، كما قُلْنا في قوْلِ الله تبارك وتعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، إنَّه دلِيل على أنَّ اللهَ يُرَى لِكن لا يُدْرَكُ؛ إذْ لَو كان لا يُرى لوَجَبَ أنْ يَقولَ: لا تَراه الأبْصارُ، فلَمّا نفَى الأخَصَّ صار دَلِيلًا على وُجُودِ الأَعمِّ. هَكَذا قرَّرها بَعضُهم، وقال: إنَّ في الآيَةِ دَلِيلًا على أنَّ الأرْضَ تَدُورُ؛ لِأنَّ اللهَ ألْقَى هَذه الرَّواسِيَ؛ لِتكون دَوْرتُها مُتَّزِنةً، لا تَرْتَجُّ فتَضْطَرِبُ بالنَّاسِ.
ولكِنَّ هَذا - وإنْ كان قَوِيًّا مِن حَيْث النَّظر - لَكِنَّه ليْس مُتعَيِّنًا؛ إذْ يجُوزُ أنْ يَكونَ مَعنَى "أنْ تَمِيدَ بِكُم"؛ تَضطَربَ ولَو كانَت واقِفَةً، فالسَّفِينَةُ مَثلًا على الماءِ تضْطَرِبُ ولَو كانَتْ واقِفةً، فيَكونُ معنى "أنْ تَميدَ بِكُم": أنْ تضْطَربَ بِكُم، وسواءٌ كانَتْ تدُورُ أو لا تَدُورُ؛ ولهِذا ليْس في الآيَةِ دَلالَة قَطعِيَّة على أنَّ الأرْضَ تدُورُ.
فإنْ قال قائِلٌ: إذا قُلْت: إنَّه يَحتَمِلُ أنْ تَكونَ دالَّةً على أنَّ الأرْضَ تُدُورُ؛ فما جوابُك عنْ آياتٍ كثِيرَةٍ تدُلُّ على أنَّ الشَّمْسَ تجْري وتَطْلُعُ وتَغرُبُ وتَزاوَرُ وتَوارَى
وتذْهَبُ؛ فكُلُّ هذِه الأفْعالِ أُسْنِدت إلَى الشَّمْسِ، والأصْلُ أنَّ الفِعْلَ إذا أُسنِدَ إلَى شيْءٍ أنْ يَكونَ قائِمًا بِه، فيَكونُ ظاهِرُ القُرْآنِ أنَّ الشَّمسَ هِي الَّتي تَدُورُ على الأرْضِ:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} [الكهف: 17]، إذَنْ مَعناها هِي الَّتي كانَت مخُتَفيةُ ثمَّ طَلَعت علَينا، وهؤُلاءِ الَّذِين يقُولُون: الأرْضُ تدُورُ فيَكون معْنَى {إِذَا طَلَعَتْ} أيْ إذا طلَعنا علَيْها؛ لأَنَّنَا نحْن الَّذِين نأتِي إلَيها، أمَّا الشَّمسُ فهِي ثابِتةٌ قارَّةٌ؟
قُلنا: يَجُوز أنْ تَكونَ الأرْضُ تَدُورُ والشَّمْسُ أيْضًا تدُورُ، وإذا كان الدَّوَرانُ بِالعَكْسِ فظاهِرٌ أَنَّه يَتَعاقَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ، يعْنِي: إذا كانَتِ الأرْضُ تَدُورُ نحْوَ الشَّرْقِ والشَّمْسُ تَدُورُ نحْو الغَرْبِ، فهَذا مُمكِنٌ بكُلِّ سُهُولةٍ، فإِن كانَتا تَدُوران إلَى اتِّجاهٍ واحِدٍ فإنَّ إحْداهُما إذا كانَت أسْرَعَ مِنَ الأُخْرَى تَحقَّقَ اخْتِلافُ اللَّيْلِ والنَّهارِ، ومَن قال: إنَّه لا يُمكِنُ أنْ نَقولَ: إنَّ الشَّمسَ تجْرِي إلَّا إذا قُلْنا: إنَّ الأرْضَ ثابِتة لا تَدُورُ.
فأمَّا إثْباتُ دوَرانِ الأرْضِ مَع دَوَرانِ الشَّمْسِ فإِنَّ هَذا لا يُمْكِنُ، فإنَّه قوْلٌ غيْر صَحِيحٍ، أمَّا الإمْكانُ فمُمكِنٌ، ولَو قُلْنا بِدَوَرانِهما جَمِيعًا، لكِنَّ الشَّيْء الَّذي نَعْتَقِدُه الآنَ: أنَّ اللّيْلَ والنَّهارَ يحْصُلُ بتَعاقُبِ الشَّمْسِ على الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ، لا بِتَعاقُبِ الكُرَةِ على الشَّمْسِ؛ لأنَّ هَذا هُو ظاهِرُ القُرْآنِ والقُرْآنُ صَدَر عَن الخالِق عز وجل وهُو أعلَمُ بما خلَقَ، ولا يُمكِنُ أنْ نَحِيدَ عَن هَذا قِيدَ أنمُلةٍ ما دام لَم يَظْهرْ لنا أمْر حِسِّيٌّ لا يُمْكِنُ التَّكذِيبُ بِه.
وعِنْد بعْضِهم - أيْ: بَعْضِ الَّذِين يَقولُون بِدوَران الأرْض - يَقولُون: عِندنا أمْر قَطْعِيّ بِدلِيلِ الصَّوارِيخِ العابِرةِ لِلقَّارَّاتِ؛ فإنَّها تُقَدَّرُ بتَقْدِيرٍ مُعيَّنٍ بِحَيثُ يَتَماشَى مَع دَورانِ الأرْضِ، فَيُصِيبُ الهَدَفَ وإلَّا لما أمْكَنَ.
وعلى كلِّ حالٍ: فهَذِه المَسْألَة - في يوْمٍ مِن الأَيَّامِ - كانَت مَثارًا للْجَدَلِ بيْن
النَّاسِ بيْن طلَبةِ العِلمِ وبيْن عامَّةِ النَّاسِ، وبيْن الَّذِين لم يَتَمكَّنوا منَ العِلمِ كَثيرًا؛ فنَحْن نَقُولُ:
أوَّلًا: البَحْثُ العَمِيقُ في هَذا والجَدَلُ في هَذا، أمْر لا يَنْبَغي وَلا فائِدةَ مِنه.
ثانيًا: عِندما نُريدُ أنْ نُحقِّقَ المَسْألةَ تَحقِيقًا عِلْميًّا نَظرِيًّا نَنظُر إلَى الآياتِ، فإِذا كان ظاهِرُ قَولِه تَعالَى:{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} يَقتَضي أنَّها تدُور قُلْنا بذلِك ولا حَرَجَ، ولا مانِعَ أنْ نَقُولَ: هِي تَدُورُ، وكذَلِك الشَّمْسُ، فنكُونُ أخذْنا بظاهِرِ القُرْآنِ في الشَّمْسِ وبِظاهِرِ {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} في الأرْضِ، وإذا كان قَولُه:{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} لا يَتَعيَّنُ أنْ يَكونَ بِحَرَكَتِها، وإنَّما قَد تَضْطَربُ وهِي ساكِنَة قارَّةٌ؛ فَلا يَبْقى في الآيَةِ دَلِيلٌ على أنَّ الأرْضَ تَدُورُ.
فَإنْ قال قائِلٌ: ألَا يُمكِن أنْ نُقِرَّهم على قَولهِم بأنَّ الشَّمْسَ ثابِتَةٌ؟
فالجَوابُ: نحْن نَقُولُ: لا نُقرُّهم على أنَّ اختِلافَ اللَّيلِ والنَّهارِ يكُونُ باخْتِلافِ دَورَةِ الأرْضِ، بلْ نَقُولُ بِاخْتِلافِ طُلُوعِ الشَّمْسِ على الأرْضِ، ولا يَمْنعُ أنْ تَكونَ الأرْضُ تَدُورُ، لكِن لَو فُرِضَ أَنَّه جاءَنا دَلِيل حِسِّيٌّ مَلمُوسٌ على أنَّ اختِلافَ اللَّيلِ والنَّهارِ بِسَبَبِ دَورَةِ الأرْضِ لَقُلنا بِه، ويَكونُ إضافةُ الأفْعالِ هذِه إلَى الشَّمْسِ على حسْبِ رُؤَيةِ الإنْسانِ لَها.
والآنَ إذا قَرَأْنا قوْلَه تَعالَى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 17]، هَذه فِيها أرْبَعةُ أفْعالٍ أُضِيفَت كلُّها إلَى الشَّمسِ. والأصْلُ أنَّ الأفْعالَ مُضافةٌ إلَى الشَّيْءِ أنَّها قائِمةٌ بِه، فالشَّمسُ هِي الَّتي تَطْلُع، وهُم يَقولون: لا، الشَّمْسُ لا تَطْلُع علَيْنا، بلْ نَحْن الَّذِين نَطلُعُ علَيْها بِسبَبِ دَوَرانِ الأرْضِ، فالقُرْآنُ لا يُخالِفُ الحِسَّ أبَدًا، وتُفَسَّرُ الأفْعالُ المُضافَةُ إلَى
الشَّمْسِ بِحَسْبِ رُؤَيةِ الرَّائِي.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ اللهَ تَعالَى جعَلَ الرَّواسِيَ فوْقَ الأرْضِ لِما في ذلِكَ مِنَ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ، وأشَرْنا إلَيه في أثْناءِ التَّفسِيرِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ اللهَ تَعالى بارَك في الأرْضِ، ووَجْهُ البَركَةِ ظاهِرٌ، فقَد حَمَلتِ الأحْياءَ والأمْواتَ، وحمَلَتْ مِنَ الدَّوابِّ ما لا يَعْلَم أجْناسَه - فَضْلًا عَن أنْواعه، فَضْلًا عَن أفرادِه - إلَّا اللهُ، عز وجل.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ اللهَ تَعالَى قدَّر في الأرْضِ أقْواتَها، أي جعَلها مُقَدَّرةً بِقَدَرٍ مَعلُومٍ، ومن ذلك التَّقديرِ: أنْ جعَلَ في جِهاتٍ مِن الأرْضِ مِنَ الأقْواتِ ما ليْس في جِهاتٍ أُخْرى، حتَّى يتَبادلَ النَّاسُ هَذه الأقْواتَ وتتَحرَّكَ التَّجارةُ
…
، إلَى غيْرِ ذلِكَ مِن الفَوائِدِ، ولعلَّه يُشِيرُ إلَى هَذا قَولُ الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} يَعنِي: المَطَر {لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50].
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ خلْقَ الأرْضِ تمَّ في أرْبَعةِ أَيَّامٍ؛ لِقوْلِه تَعالَى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ الله تبارك وتعالى يُجيبُ السَّائِلين أسْئِلتَهم، سَواءٌ سَألُوا بِلِسانِ الحالِ أو بِلِسانِ المَقالِ؛ فالْإنْسانُ مُتَشوِّفٌ إلَى عِلْمِ المَسْألةِ دُون أنْ يَنْطقَ بِلِسانه، فَيُقَالُ: إنَّه سائِلٌ بلِسانِ الحالِ، والإِنْسانُ الَّذي يَتكلَّمُ باللِّسانِ سائِل بلِسانِ المَقالِ، والسُّؤالُ عَن خلْق السَّمواتِ والأرْضِ، فهَذا يَكونُ بلِسانِ الحالِ، ويَكونُ بلِسانِ المَقالِ.
* * *