الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (25)
* * *
* قالَ اللهُ عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25].
* * *
يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [{وَقَيَّضْنَا} سببنا] والصَّوابُ: أنَّ معناها هَيَّأنا؛ أي هَيَّأْنا لهم قُرَناءَ، وذُكِرَ الفاعِلُ بضَميرِ الجمْعِ للتَّعظيمِ؛ لأنَّ ضَميرَ الجمْعِ يُرادُ به تَارَّةً التَّعظيمُ وتَارَّةً التَّعدُّدَ، وهُنا لا يُمكِنُ أن يَكونَ المُرادُ به التَّعدُّدَ؛ لأنَّ اللهَ إلَهٌ واحدٌ.
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله: [من الشَّياطينَ]، والمُرادُ شَياطينُ الإنسِ وشَياطينُ الجِنِّ؛ لأنَّ هُناك قَرينًا خَفيًّا وهو قَرينُ الجِنِّ يَأمُرُ الإنسانَ بالسُّوءِ وَينهاه عنِ الخَيرِ، وهُناكَ قَرينُ سوءٍ مِنَ الإنسِ، ولهذا مَثَّلَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّم- قَرينَ السُّوءِ بأنَّه كَنافِخ الكيرِ، إِمَّا أن يَحرِقَ ثِيابَك وإمَّا أن تَجِدَ منه رائِحَةً كريهَةً
(1)
.
قال اللهُ تعالى: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فُصِّلَت: 25] زَيَّنوا أي القُرَناءُ، {لَهُمْ} أي للمُقْتَرِنينَ بهم، {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله:
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، رقم (5534)، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، رقم (2628)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أَمْرِ الدُّنيا واتِّباعِ الشَّهواتِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} مِن أمْرِ الآخِرَةِ بقَولِهم: لا بَعْثَ ولا حِسابَ] هؤلاءِ القُرناءُ حَسَّنوا لهم ما بين أيديهم مِنْ أمْرِ الدُّنيا، وقالوا لهم: اتَّبِعوا الشَّهواتِ، كَيِّفوا كما شِئْتُمْ، أتْرِفوا كما شئتم، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] ومَنُّوهم وما خَلْفَهم، أي: ما أمامهم؛ لأنَّ الخَلْفَ والوَراءَ قد يُرادُ به الأَمامُ كما في قولِه تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] يعني: أَمامَهم.
إذن: زَيَّنوا لهم الآخِرَةَ أيضًا بأنْ مَنُّوهم بأَحَدِ أَمْرينِ: إمَّا بالنَّجاةِ منَ العَذابِ في قولهِم: لا بَعْثَ ولا حِسابَ، وإمَّا أن يَنْتَقِلوا إلى خَيرٍ من ذَلِكَ، ويقولوا: إِنَّ الَّذي أَتْرَفَنا في الدنيا سوف يُتْرِفُنا في الآخِرَةِ، كقول بعضهم:{هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فُصِّلَت: 50]، وكقولِ صاحِبِ الجَنَّتينِ:{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، فهكذا يُمَنِّي الشَّيطانُ أولياءَه يَقولُ: انبَسِطوا بالدُّنيا أَتْرِفوا أنفُسَكم، وفي الآخِرَةِ سوف تَنْتَقِلونَ إلى ما هو أَفْضَلُ، زَيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خَلْفَهم ومَنَّوا لهمُ الأمانِيَّ.
قال تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فُصِّلَت: 25]، حقَّ عليهم أي: وَجَبَ القولُ، قَولُ اللهِ تبارك وتعالى، والقَولُ الَّذي حَقٌّ فَسَّرَه المفَسِّرُ رحمه الله بقوله:[وهو {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} السجدة: 13]. وقيل: القَولُ: هو قولُه تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97].
ونَقولُ -كما أَسْلَفنا في القاعِدَةِ في التَّفسيرِ- أنَّ الآيَةَ إذا كانت تَحتَمِلُ مَعنيينِ لا مُرَجِّحَ لأَحَدِهِما على الآخَرِ، ولا مُنافاةَ بينهما، فإنَّها تُحمَلُ على المَعنَيينِ جميعًا،
نَقولُ: حقَّ عليهم قَولُ اللهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وهذا في الدُّنيا، يعني: مهما عالجتَ الإنسانَ الَّذي حَقَّت عليه كَلِمَةُ اللهِ، فلن يَهتَديَ، وحَقَّت عليهم كَلِمَةُ اللهِ في الآخِرَةِ وهي:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، إذن لا فائِدَةَ.
إنَّ أَبْرَزَ مَثَلٍ لنا في هذا ما حَصَلَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع عَمِّه أبي طالِبٍ الَّذي كان -أعني: عَمَّه- يُدافِعُ عنه أَشَدَّ المُدافَعَةِ ويُؤويه وَينْصُرُه وَيشْهَدُ أنَّه حقٌّ، لكنَّه لم يَنقاد لذلك ولم يَتَّبعْ، فما أَغْنَى عنه مِنَ اللهِ شيئًا، عند موتِه يَقولُ:"يا عَمِّ، قل: لا إلَهَ إلَّا اللهُ كَلِمَةً أُحاجُّ لك بها عِنْدَ اللهِ"
(1)
، ولم يَنْفَعْه ذلك كان آخِرَ ما قال: أنَّه على مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلِبِ؛ لأنَّ أبا طالِبٍ عِندَ مَوتِه حَضَرَه النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام وحَضَرَه رجُلانِ من كِبارِ قُريشٍ، فكان الرَّسوُل يَقوُلُ:"يا عَمِّ قُلْ: لا إِلَهَ إلَّا اللهُ وهما يقولانِ له: أَتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلبِ يَعني عن مِلَّةِ الكُفْرِ"، فآخِرُ ما قال هو على مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلِب، وأبى أن يَقولَ: لا إِلَهَ إلَّا اللهُ مع العِلْمِ بأنَّه يُقِرُّ وَيعترِفُ بأنَّ الرَّسولَ حَقٌّ، يَقوُل
(2)
:
ولقد عَلِمْتُ بأنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ
…
مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دِينًا
ويقولُ في لامِيَّتِه المَشهورةِ
(3)
:
لقد عَلِموا أنَّ ابْنَنا لا مُكَذَّب
…
لَدَينا ولا يُعنى بقَولِ الأباطِلِ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، رقم (1360)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب أول الإيمان قول لا إله إلا الله، رقم (24)، من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه.
(2)
انظر: تهذيب اللغة (10/ 111)، وخزانة الأدب (2/ 76)، وديوان أبي طالب (ص: 87، 189).
(3)
انظر: سيرة ابن هشام (1/ 280)، وديوان أبي طالب (ص: 84).
أي: بقولِ السَّحَرَةِ، يعني: ليس بِساحِرٍ، ومع ذلك فقد حَقَّتْ عليه الكَلِمَةُ نَسألُ اللهَ العافِيَةَ، وأن يُحسِنَ لنا ولكم الخاتِمَةَ، حَقَّت عليه الكَلِمَةُ فلم يُؤمِنْ.
يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{فِي} جُمْلَةِ {أُمَمٍ}] يَعني في جُمْلتِها، واحتَجْنا إلى قَولٍ في جُمْلَةٍ، يعني: إِدخالَ جُمْلَةٍ مع أنَّها مَعروفَةٌ في السِّياقِ؛ لأنَّه لو قال: في أُمَمٍ، لكان هؤلاءِ مُشارِكينَ لكُلِّ الأُمَمِ الماضيةِ والمُستَقْبَلَةِ مع أنَّهم في أُمَّتِهم وَحدَهم، فيكونُ المعنى:{فِي أُمَمٍ} أيْ [{فِي} جُمْلَةَ {أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} هَلَكَتْ {مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} .. إلخ].
قولُه تعالى: {مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ أي: قَبْلَ هؤلاءِ المُكذِّبينَ، {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، الجِنُّ هم عالَمٌ غَيبيٌّ خَلَقَهمُ اللهُ تعالى من نارٍ؛ لأنَّ أباهم إبليسَ كان مِن نارٍ، ولهذا كان شأنُهم، أو كانت حالهُم الطَّيشَ والسُّرعَةَ والِانْدِفاعَ كالنَّارِ في لَهَبِها، فهم خُلِقوا مِنَ النَّارِ، وهم مُكلَّفون بالإيمانِ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، ولكن هل الأعمالُ الَّتي كُلِّفوا بها، هَلْ هي الأَعْمالُ الَّتي كُلِّفتْ بها الإنسُ أو غَيرُهَا؟
إن نَظَرنا إلى عُموماتِ الأدِلَّةِ قُلنا: إنَّ الجِنَّ مُكلَّفَةٌ بما كُلِّفَ به الإنسُ، لأنَّ الشَّريعَةَ الَّتي بين أيدينا لم تأتِ بشَريعَةٍ للجِنِّ، بَلِ الشَّريعَةُ واحدَةٌ والرَّسولُ واحدٌ، فهم مُكلَّفون مَثلًا بصَلاةٍ كصَلاتِنا ووُضوءٍ كوُضوئِنا وحَجٍّ كحَجِّنا وصَومٍ كَصَومِنا وصَدَقَةٍ كصَدَقَتِنا، كُلُّ ما نَحنُ مُكلَّفون به فَهُمْ مُكلَّفون به، إذ إِنَّنا لا نَرى في الشَّريعَةِ الَّتي بينَ أيدينا تَشريعاتٍ لِلجِنِّ هذا إذا نظرنا إلى عُمومِ الأدِلَّةِ.
وإذا نَظَرنا إلى حِكْمَةِ اللهِ تعالى في شرْعِه قُلنا: إنَّهم مُكلَّفون بِشَريعَةٍ تَليقُ بهم، فكما أنَّ الإنسَ إذا اختَلَفوا يُجعَلُ لكُلِّ صِنفٍ ما يَلِيقُ به فكذلك الجِنُّ، والجِنُّ مُخالِفونَ تمَامًا للإنسِ في الحَدِّ والحَقيقَةِ، فتكونُ شَريعَتُهُمْ خَاصَّةً تَلِيقُ بهم، لكنَّ
تَحريمَ الشِّركِ والظُّلمِ والعُدوانِ وما أَشْبَهَ ذلك هذا عامٌّ على الجِنِّ والإنسِ، إنَّما أُريدَ التَّكليفاتُ البَدَنيَّةُ كالصَّلاةِ مثلًا، هل صَلاتُهُمْ كصَلاتِنا أو صِيامُهم كصِيامِنا، هذا هو مَحَلُّ الخِلافِ بينَ العُلَماءِ.
فمنهم مَنْ يَقولُ: إنَّ الجِنَّ مُكلَّفونَ كما كُلِّف الإنسُ تمامًا، وحُجَّةُ هَؤلاءِ عُمومُ الأَدِلَّةِ الَّتي بين أَيدينا الَّتي أُرسِلَ بها الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام لا نَجِدُ فيها أحكامًا تَخُصُّ الجِنَّ، فالأصلُ العُمومُ، وَالأصلُ أنَّ كُلَّ ما كُلِّفَ بهِ الإنسُ هو ما كُلِّفَ به الجِنُّ.
فإِنْ قال قائلٌ: حُجَّتُهم أنَّهم خَلْقٌ من خَلْقِ اللهِ! قلنا: تَرِدُ عليه المَلائِكَةُ.
القَولُ الثَّاني: أنَّ الجِنَّ يَختَلِفونَ عن الإنسِ في العِبادَةِ وما كُلِّفوا به، ووَجهُ ذلك أَنَّنا نَجِدُ مِن حِكمَة اللهِ أنَّ التَّشريعاتِ مُناسِبَةٌ للمُكَلَّف بها، فالمَريضُ يُصلِّي قاعدًا، والمُسافِرُ يُؤخِّرُ الصَّومَ، والَّذي لا يَستطيعُ الرُّكوبَ على الرَّحلِ لا يَحُجُّ، فإذا كانت هذه الِاختِلافاتُ تَكونُ بين الإنسِ لاختلافِ أحوالهِم، فما بين الإنسِ والجِنِّ من باب أَوْلَى.
لكنَّ هُناك أشياءَ لا إِشكالَ فيها وهي: تَحريمُ الشِّركِ والظُّلمِ والعُدوانِ وما أَشْبَهَ ذلك؛ ولذلك نَجِدُ كَثيرًا مِنَ العُلماءِ الَّذين يَقْرَؤونَ على مَنْ مَسَّهم الشَّيطانُ يُذَكِّرونهم بتَحريمِ الظُّلمِ، وأنَّه حَرامٌ، وأنَّهم مُعتَدونَ، وما أَشْبَهَ ذلك ممَّا يدُلُّ على أَنَّهم مُلتَزِمون بهذا.
فإِنْ قال قائلٌ: مِنَ المَعلومِ أنَّ العِباداتِ تَوقِيفِيَّةٌ فكيفَ سيَعْبُدون اللهَ عز وجل إذن؟
فالجَوابُ: يَعْبُدونَه بشَريعَةٍ مِنَ اللهِ يَكونُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم قد عَلَّمَهُمْ؛ لأنَّهُ اجتَمَعَ بهم وعَلَّمَهم ما يَلْزَمُهم.
يَقولُ اللهُ تَعالَى: {مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، إذن الجِنُّ عالَمٌ غَيبيٌّ، خُلِقوا مِن نارٍ، مُكلَّفون بشَريعَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلزامًا؛ لأنَّه مُرسَلٌ إلى الجِنِّ والإنسِ، لكنَّ غَيْرَ الرَّسولِ لا نَعلَمُ هل هُمْ مُلْزَمونَ بذلك أو لا، لكنَّهم مَأذونٌ لهم أن يَعْمَلوا بها كما قال تَعالَى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 29 - 30] ممَّا يدُلُّ على أنَّهم انْتَفَعوا بكِتابِ موسى: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30]، فهم مُلْزَمون بالعَمَلِ بِشَريعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قُلنا: إنَّهم عالَمٌ غَيبيٌّ، لكن رُبَّما يَبْرُزونَ لبَعضِ النَّاسِ يَتَلَوَّنونَ، فقد يَتَراءىَ الجِنُّ للإنسيِّ بصورَةِ إنسانٍ فَخْمٍ كَبيرٍ عَظيمٍ، أو بصورَةِ هيكلٍ له قُرونٌ وله آذانٌ وله أَرْجُلٌ طَويلَةٌ وما أشبه ذلك، وأمَّا ما زَعَمَ بَعضُ النَّاسِ أنَّهم أَجسادٌ ليس فيها عِظامٌ، وأنَّهم إذا لمَسْتَه وَجَدتَه رَقيقًا جدًّا، وأنَّ أعينَهم مَشقوقَةٌ طولًا هكذا، فهذا لا أَصْلَ له.
إذن؛ نَقولُ: هُمْ عالَمٌ غَيبيٌّ، وَيدُلُّ لذلك المادَّةُ الَّتي يوصَفونَ بها يعني: الجِنَّ؛ لأنَّ الجيمَ والنُّونَ تَدُلُّ على الِاستِتارِ والخَفاءِ، أرأيتم الجَنَّةَ، الجَنَّةُ: هي البُستانُ الكَثيرُ الأشجارِ، والجِنَّةُ: الجِنُّ، والجُنَّةُ: ما يَتَّخِذُه المُقاتِلُ لحمايَةِ نَفسِه مِنَ السِّهامِ يَستَتِرُ به.
فإِنْ قال قائِلٌ: الجِنُّ هل فيهم رَسولٌ؟
فالجَوابُ: يَقولُ اللهُ عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] وقال العُلماءُ: إنَّ الرِّجالَ لا يَكونونَ مِنَ الجِنِّ، لكن في هذا التَّعليلِ نَظَرٌ؛
لأنَّ اللهَ يَقولُ في سورَةِ الجِنِّ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، قالوا: الآيَةُ الأُخرى: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، فيُقالُ: الجِنُّ أيضًا من أَهْلِ القُرى، لكنَّ الأحقَّ بالأرضِ الإنسُ لا شكَّ، ولهذا لو اعتَدى أحدٌ مِنَ الجِنِّ ونزل بَيتَكَ فلك أن تُخرِجَهُ، والدَّليلُ هو أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم- جَعَلَ الأرضَ لمالكِها:"مَنِ اقتَطَع شِبرًا مِنَ الأرضِ ظُلمًا طَوَّقَه اللهُ بها يَومَ القِيامَةِ من سَبع أَرَضِينَ"
(1)
.
فأنا أَستطيعُ أن أَحْرُثَ في الأَرْضِ وأَزرَعَ وأَبني وأَعْمَلَ ما شِئتُ ولا مُعارِضَ لي، ولكن: كيف لو جاءوا واعتدوا على بَيتِك وحَفَروا فيه وأصبحت، وإذا السَّطْحُ مَملوءٌ مِنَ الزَّرعِ والمَجالِسُ مملوءةٌ مِنَ النَّخيلِ!
قال اللهُ تعالَى: {وَالْإِنْسِ} هُم هَؤلاءِ البَشَرِ مِن بَني آدَمَ وسُمُّوا إنسًا؛ لأنَّ بَعضَهم يأنسُ ببَعضٍ، ولهذا قيل: إنَّ الإنسانَ مَدنيٌّ بالطَّبْعِ.
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} {إِنَّهُمْ} ، أيِ الَّذين حَقَّ عليهم القَولُ {كَانُوا خَاسِرِينَ} كانوا في عِلمِ اللهِ وليس يَومَ القيامَةِ؛ لأنَّه لو كان كذلك لقال: يَكونون، لكن {كَانُوا} في عِلمِ اللهِ عز وجل وتَقديرُهُ:{خَاسِرِينَ} .
فإِنْ قال قائِلٌ: ألا يَجوزُ أن يَكونَ قولُه سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} على أنَّه يومُ القيامَةِ من باب قولِهِ تَعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]؟
فالجَوابُ: لا، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} لولا أنَّهُ قال:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} لكان على ظاهِرِه.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (2452، 2453)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610)، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.