الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا} {أَلَا} أَداةُ استفتاحٍ أُخري تُفيدُ التَّنِبيهَ والتَّوُكيدَ.
يَقولُ المُفسِّرُ رحمه الله: [{أَلَا إِنَّهُ} تعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} عِلمًا وقُدرةً فَيُجازيهم بِكُفرِهم].
هُم في شَكٍّ مِن لِقاءِ اللهِ لَكِن سوفَ يُنبِّئُهمُ اللهُ عز وجل بِما عَمِلوا؛ لِأنَّه بِكُلِّ شَيءٍ محُيطٌ وعلى هَذا فَصلَةُ قَولِه: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} بما قَبلَها الإِشارةُ إلي أَنَّه سوفَ يُجازيهم.
من فوائِدِ الآيَتين الكريمَتين:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ اللهَ تَعالَى سَيُظهرُ ما يَتبيَّنُ بِه صِدقُ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام في الآفاقِ وَفي أَنفُسهم، نَأخذُها مِن قولِهِ:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هذه الإِراءَةَ قَريبةٌ محُقَّقةٌ، تُؤخَذُ مِن:{سَنُرِيهِمْ} لِأنَّها صُدِّرت بِالسِّينِ الدَّالَّةِ علي التَّحقُّق والقُرب.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَنبغي لِلإنسانِ أَن يُفَكِّرَ في آياتِ اللهِ تَعالَى وفي نَفسِه؛ لِأنَّ ذَلكَ طَريقٌ إلي أن يَتبَيَّنَ لَه الحَقُّ، نَأخذُها مِن:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ، فأَنتَ كُلَّما ازددتَ تَأمُّلًا وتَدبُّرًا لِآياتِ اللهِ الآفاقيَّةِ والآتيَةِ بِنفسكَ فَإِنَّكَ لا شكَّ تَزدادُ إيمانًا ويَتبَيَّنُ لَكَ صِدقُ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الإِنسانَ ناقصُ العِلمِ نَقصًا عَظيمًا؛ وَجهُه: أَنَّ اللهَ تَعالَى يُريهِ آياتِه في نَفسِه، فالإنسانُ غَيرُ عالِمٍ بِنَفسِه إِلَّا إذا عَلَّمه اللهُ؛ ولِذلكَ النَّفسُ الَّتي هي مادَّةُ الحياةِ لا نَعرِفُها.
ولهِذا اختَلفَ فيها النُّظَّارُ مِنَ المُتكلِّمينَ والفَلاسِفَةِ وغَيرِهِم، مِنهم مَن قال: إِنَّ النَّفسَ هي الدَّمُ، ومِنهم مَن قال: إِنَّ النَّفسَ جُزءٌ مِنَ البدنِ، ومِنهُم مَن قالَ: إِنَّ النَّفسَ عَرَضٌ في البدنِ، ومِنهم مَن قال: إِنَّ النَّفس لا توصَفُ بِشيءٍ فَلا هي داخلُ العالَمِ، ولا خارِجُه ولا مُتَّصلَةٌ ولا مُنفصلَةٌ، إِلي آخِر ما يَقولونَ في النَّفيِ المُطلَقِ، ومنهم مَن قال: إِنَّ النَّفس مخَلوقٌ مِن مخَلوقاتِ اللهِ وأَنَّها ذاتُ جُرمٍ وأَنَّها تَدخُلُ في البدَنِ وتَسيرُ فيهِ كَما تَسيرُ الجَمرُ في الفَحمِ أَوِ الماءُ في المَدَرِ.
وَيَدُلُّ لِذلكَ أَنَّ النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام أَخبرَ أَنَّ الإِنسانَ إِذا قُبِضَ أُخِذَت نَفسُه، أَخَذَتها المَلائِكَةُ وجَعَلَتها في كَفَنٍ وحَنوطٍ وأَنَّه إِذا قُبِضَ اتَّبَعهُ البَصرُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّها شَيءٌ مَخَلوقٌ لَه جُرمٌ وجَسَدٌ، لَكِننا مَع ذلك لا نَعلَمُ مِنها إِلَّا قَليلًا، ولِهذا لمَّا سَألوا عَنِ الرُّوحِ قالَ اللهُ تَعالَى:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أَنَّ القُرآنَ والرَّسولَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وعلى آلِهِ وسَلَّم- حَقٌّ؛ لقَولِه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ الآياتِ الدَّالَّةَ عَلى ذَلكَ: آياتٌ توصِّلُ إلي اليَقينِ لِقولِه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} التَّبَيُّن أي: الوُضوحُ والظُّهور، ومنه قَولُه تَعالَى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فَإذا عَلِمتَ أَنَّك لَم تَصِل إلي اليَقينِ فاتَّهِم نَفسَكَ، وعَلَيكَ أَن تُعالِجَ هَذا المَرضَ العُضالَ الخَطيرَ حَتَّى تَصِلَ إلي اليَقينِ؛ حَتَّى تَصِلَ إلي ما يَدُلُّ عَليه قَولُ الرَّسولِ - صَلَّى اللهُ عَليه وعلى آلِه وسَلَّم-:"أَن تَعبُدَ اللهَ كَأنَّك تَرا، فَإِن لَم تَكُن تَراه فَإِنَّه يَراكَ"
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، رقم (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، رقم (9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: كِفايَةُ اللهِ تَعالَى عَن كُلِّ شَيءٍ بِشهادَتِه لِقولِه: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَهُ: الِاستِدلالُ بِالآثارِ على مُؤَثِّراتِها، وَجهُ ذَلكَ أنَّ اللهَ تَعالَى استدلَّ بِتَمكينِه الرَّسولَ عَلى أَنَّه حَقٌّ، فالإِنسانُ يَستَدِلُّ بِالآثارِ عَلى مُؤَثِّراتِها؛ ولهِذا قيلَ: البَعرَةُ تَدُلُّ عَلى البَعيرِ، وَهذا جَوابٌ مِن أَعرابي سُئِلَ بِما عَرَفتَ رَبَّك؟ فَقالَ عَلى البَديهَةِ:"البعرَةُ تَدُلُّ عَلى البَعيرِ -اختارَ هذا؛ لِأنَّه أَعرابيٌّ ما يَعرفُ إِلَّا الإِبِلَ -والأثَرُ يَدُلُّ عَلى المَسيرِ- إِذا رَأَيتَ مَثلًا صورةَ القَدمِ عَلى الأَرضِ عَرفتَ أَنَّه قد سارَ عَلى هَذا أَحَدٌ -فسَماءٌ ذاتُ أَبراجٍ وأَرضٌ ذاتُ فِجاجٍ وبِحارٌ ذاتُ أَمواجٍ أَلا تَدُلُّ عَلى السَّميعِ البَصيرِ؟ "
(1)
، والجوابُ: بَلَي هذا الأَعرابيُّ استدلَّ بِالآياتِ الآفاقيَّةِ عَلى وُجودِ اللهِ وعَلى قُدرته.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: الحذَرُ مِنَ المُخالَفةِ وهذه فائِدَةٌ تَربَويَّةٌ، تُؤخَذُ من:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فَإِذا عَلِمتَ أَنَّ اللهَ شَهيدٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ عَلى نَفسِك أَفعالِك أَقوالِك كُلِّ التَّصرُّفاتِ، فَإِنَّكَ سَوفَ تُراقِبُ الله عز وجل، ومَن لَم يَتَّعظ بِمِثلِ هذه الآيةِ فَإِنَّه لَن يَتَّعِظَ، إِذا عَلِمتَ أَنَّ اللهَ شَهيدٌ عَليكَ في خَلَواتِكَ في وَحدَتِك في جُلوسِكَ مَع أَهلِكَ في جُلوسِكَ مع صَحبِكَ، فَإنَّك سوفَ تُراقِبُ اللهَ عز وجل وهذا هو مَعنَى قَولِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام:"أَن تَعبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإِن لم تَكن تَراهُ فَإِنَّه يَراكَ"
(2)
.
(1)
انظر: زاد المسير (1/ 266)، وتفسير ابن كثير (1/ 106).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، رقم (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، رقم (9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: بَيانُ حالِ هَؤلاءِ المُكذِّبينَ وأنَّ سَببَ تَكذيبهِم أَنَّهم في شَكٍّ مِن لقاءِ اللهِ، ومَعلومٌ أَنَّ مَن كانَ في شَكٍّ مِن لِقاءِ اللهِ فَلن يَعمَلَ للهِ؛ ولهذا تَجِدونَ اللهَ تبارك وتعالى يَقرِنُ دائمًا بَينَ الإيمانِ بِه واليومِ الآخرِ؛ لِأنَّ مَن نَقَصَ إيمانُه بِاليومِ الآخِر فَسوفَ يَنقُص عَملُه ومَن كَمُلَ إيمانُه بِاليومِ الآخرِ فَسوفَ يَكمُل عَمَلُه؛ لِأنَّه يَرجو أن يَكونَ سَعيدًا في ذَلكَ اليومِ، أَنت حينما تَركَعُ وتَسجُدُ اجعل عَلى بالِكَ أنَّ هَذا الرُّكوعَ والسُّجودَ سَوفَ يَنفعُكَ يَومَ القيامةِ، وهو يَنفَعُكَ مِنَ الآنِ؛ لِأنَّ الصَّلاةَ تَنهي عَنِ الفحشاءِ والمُنكرِ، لَكِنَّ الثَّمرةَ المَلموسَةَ يَومَ القيامَةِ الَّتي تَظهرُ لِكُلِّ أحدٍ، وفي الدُّنيا يَظهرُ لِلمُؤمِن الِانتِفاعُ التَّامُّ بِالطَّاعاتِ، كَما قالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رحمه الله:"ما يَفعلُ أَعدائي بي! إِنَّ جَنَّتي في صَدري، حَبسي خُلوةٌ ونَفيي سياحَةٌ وقَتلي شَهادَةٌ"
(1)
رحمه الله، فالإنسانُ المُؤمنُ يَجِدُ هَذا في نَفسهِ قَبلَ يَومِ القيامَةِ، وفي يَومِ القيامَةِ يَكونُ الظُّهورُ الكاملُ يَكشِفُ عَن كُلِّ شَيءٍ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: بَيانُ إِحاطةِ اللهِ بِكلِّ شيءٍ: عِلمًا وقُدرةً، وسُلطانًا وتَدبيرًا، وغَيرِ ذَلكَ؛ محُيطٌ بِكلِّ شَيءٍ بِأفعالِهِ وأَفعالِ العِبادِ، قالَ اللهُ تبارك وتعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: تَحقيقُ مُراقبةِ اللهِ؛ لِأنَّك إِذا آمَنتَ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ محُيطٌ فَسوفَ تُراقبُه المُراقبةَ التَّامَّةَ، بِحيثُ لا يَفتقدُكَ حَيثُ أَمَرَك، ولا يَراكَ حَيثُ نَهاكَ.
* * *
(1)
انظر: الوابل الصيب (ص: 48).