الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يَقولُ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} يَعني: بَعدَ أَنْ نُنبَئِّهَم ويُقِرُّوا بِذلكَ نُذيقُهم {مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ، يَقولُ المفسِّرُ رحمه الله:[شَديدٍ واللَّامُ في الفِعلَينِ لَامُ القَسَم] وَالفِعلانِ هما: {فَلَنُنَبِّئَنَّ} {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} .
في هَذه الآيَةِ وَالَّتي قَبلَها بَيانُ حالِ الإنسانِ الكافرِ وَهو كُفرُه بِنِعمةِ اللهِ عز وجل واعْتزازُه بِنَفسِه؛ لِقَولِه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ؛ فَإنَ هَذا يَدُلُّ علي كُفرِه الشَّديدِ، وَاعتزازِه بِنفسِه وَإِعجابِه بِها.
مِن فَوائِدِ الآيةِ الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أَنَّ الله تَعالى يَرحَم الكافرَ لِقَولِه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً} ، ولَكنِ اعْلَمْ أنَّ رَحمَةَ اللهِ تبارك وتعالى نَوعانِ: رَحْمةٌ خاصَّةٌ، ورَحمة عامَّةٌ.
فما به قوامُ البَدنِ مِنَ الرَّحمةِ العامَّةِ؛ لأنَّه يَشملُ المُؤمنَ وَالكافرَ وَالبَرَّ والفاجِرَ والإنسانَ وَالحيوانَ، هَذه رَحمةٌ عامَّةٌ، وَما بِهِ قَوامُ الدِّينِ مِنَ الرَّحمَةِ الخاصَّةِ، وَهَذا يَختصُّ بِالمُؤمنينَ.
وَالفرقُ بَينهما: أَنَّ الرَّحمةَ العامَّةَ إِنَّما هي غذاءُ البدنِ فَقط وتَزولُ بِزَوالِه،
والرَّحمةُ الخاصَّةُ غذاءُ الرُّوحِ تَبقَي بِبقاءِ الرُّوحِ في الدُّنيا وَالآخِرةِ، وَالرُّوحُ مُنذُ خَلَقَهَا اللهُ لا تَفني كَالوِلْدانِ في الجَنَّةِ وَالحورِ العِينِ في الجنَّة، خُلِقت لِلبَقاءِ، بِخِلافِ الأجسادِ، قالَ اللهُ تَعالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26].
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيانُ فَضلِ اللهِ عز وجل عَلي الكافرِ؛ لِكَونِ الرَّحمةِ الَّتي أَصابتِ الكافرَ مِنْ عِندِ اللهِ؛ لِقَولِه: {مِنَّا} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إِعجابُ الكافرِ بِنفسِه حَيثُ يُضيفُ هَذه الرَّحمةَ الَّتي هي مِنَ اللهِ
إِلي نَفسِه لِقَولِه: {هَذَا لِي} أَوْ يُضيفُها إِلي اسْتحقاقِه إِيَّاها، فَكأنَّ اللهَ لا مِنَّةَ له عليه علي القولِ الثَّاني أنَّ مَعنَى قولِه:{هَذَا لِي} هذا مُستَحَقٌّ لي.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بَيانُ عُتوِّ الكافرِ حَيثُ أَنكرَ ما قامتِ الأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ والعقليَّةُ والحِسِّيَّةُ علي ثُبوتِه في قَولِه: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} .
والأدلَّةُ الشَّرعيَّةُ علي ثُبوتِ قيامِ السَّاعةِ كَثيرةٌ لا تُحصى، والأدلَّةُ العقليَّةُ هو أَنَّه ليس مِنَ الحِكمةِ أَنْ يُوجِدَ اللهُ هَذِهِ الخَليقةَ ويَأمُرُها ويَنهاها، ويُسلِّطُ بَعضَهَا علي بَعضٍ بِالسَّيفِ، وَيُقاتلُ المُؤمنُ الكافرَ ثُمَّ تَكونُ النِّهايةُ لا شيءَ، هذا سَفَهٌ، وقَدْ أَشارَ اللهُ إِلي ذلك في قَولِه:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115] أيُّ فائدةٍ لِخَلقٍ يُوجَدُ ويُؤمَرُ ويُنْهَي ويُسلَّطُ بَعضُهُ على بَعضٍ في القتلِ العَمدِ، ثُمَّ النِّهايةُ لا شيءَ! لا فائدةَ مِن هذا، وحِكمةُ اللهِ تبارك وتعالى تَأْبَي أَنْ يَقعَ مِثلُ ذَلكَ مِنَ اللهِ، هَذا دَليلٌ عَقليٌّ واضحٌ يُوجبُ أَنْ يُبعثَ النَّاسُ لِيُجازَوْا عَلى أَعْمالهِمْ.
أمَّا الدَّليلُ الحِسِّيُّ علي ثُبوتِ البَعثِ وإِمكانِه وجَوَازِه، فَاللهُ تَعالَى يُقرِّرُه في القُرآنِ:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} يَعني: هامدةً لَيس فيها نَباتٌ: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} أَي: ماءُ المَطرِ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} فَصارت حَيَّةً بَعدَ أَنْ كانت مَيْتةً، قال اللهُ تَعالى:{إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]، فَإِحياءُ الأرْضِ مِنْ بَعدِ مَوتِها وَالنَّاسُ يُشاهدونَ دَليلٌ عَلي إِمكانِ إِحياءِ الموتي وبَعْثِهم، وهَذا دَليلٌ واضحٌ حسِّيٌّ مُشاهَدٌ، كَذلِكَ أيضًا أَشْهدَنا اللهُ عز وجل في الدُّنيا إِحياءَ المَوتي، فَلْنَسْتَعْرِضْ هَذا في القُرآنِ:
المَشهدُ الأوَّلُ: بَنُو إِسرائِيلَ قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فَأَخذَتْهمُ الصَّاعقةُ وَماتوا ثُمَّ بُعِثوا، هذا في الدُّنيا.
المَشْهَدُ الثَّانِي: القتيلُ الَّذي اخْتَلفتِ القَبيلتانِ فيهِ فَأَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَذبَحوا بَقرةً وأَنْ يَضْربوا القَتيلَ بِبعضِها، فَفَعَلوا فَحَيِيَ القَتيلُ وَقالَ: إِنَّ الَّذي قَتَلَهُ فُلانٌ، فَهذا إِحياءٌ بَعدَ الموتِ.
المَشهدُ الثَّالِثُ: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243] خافوا مِنَ الموتِ وخَرَجوا مِن دِيارهم {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} فَماتوا {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} أَماتهم لِيَعْلموا أَنَّه لا مَفَرَّ لَهُمْ مِن قَضاءِ اللهِ {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} لِيَقْضِيَ أَجَلًا.
المَشهَدُ الرَّابعُ: صاحبُ القَريةِ مَرَّ علي قريةٍ: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259].
المَشْهَدُ الخامِسُ: إِبْراهيمُ عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، فَأَمَرَه اللهُ عز وجل أَنْ يَذبَحَ أَربعةً مِنَ الطُّيورِ وَيَجعلَ علي كُلِّ جبلٍ مِنها جُزءًا، وأَنْ يَدعوها فَفَعَلَ، فَأَقْبَلَت إِليه حَيَّةً إِمَّا أَنَّها تَطيرُ أو تمَشي بِسرعةٍ.
هَذِه خَمسةُ مَشاهِدَ مَذكورةٍ في البَقرةِ، كُلُّها تَدُلُّ عَلَي إِمْكانِ الإِحياءِ بَعْدَ المَوْتِ.
أَمَّا قِصَّةُ عِيسي فَكذلِكَ أيضًا، فَقدْ كانَ عيسَي عليه الصلاة والسلام يُحيي المَوتي بِإذْنِ اللهِ يَقِفُ عَلَي الميِّتِ ويَقولُ: يا فُلانُ، قُمْ ويَقومُ بل يَقِفُ عَلَي قَبْرِ المَيِّتِ المَدفونِ، ويَأمرُه أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا، فيَخْرُجُ كما قال تَعالَى:{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110].
وفي الدَّجَّالِ أَخبَرَنا النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ يَقْطَعُ رَجلًا جِزْلَتَيْنِ وَيمُرُّ بينهما ثُمَّ يَقِفُ ويَأمرُه أَنْ يُقبِلَ يَأمُرُ هذا المَيِّتَ القِطعَتينِ أَنْ يُقْبِلَ فَيَلْتئمَ حالًا ويَقومَ،
والنَّاسُ يَنظُرون
(1)
، هذا أيضًا شاهِدٌ محَسوسٌ، فَالمُهِمُّ أَنَّ البعثَ دَلَّ عَليه السَّمعُ والعقلُ والحسُّ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ هذا الكافرَ عِندَه مِنَ العَجبِ وَالثِّقةِ بنفسِه علي أَنَّه لَيس له شَيءٌ يَثقُ بِه ما أَمْكنَه أَنْ يَقولَ: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الإِقرارَ بِالرُّبوبيَّةِ لا يُدخِلُ الإنسانَ في الإِسلامِ؛ لأنَّ هذا المُنكِرَ مُقِرٌّ بِالرُّبوبيَّةِ، يُؤخَذُ من قَولِهِ:{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} .
والمُشركون كانوا مُقِرِّينَ بِالرُّبوبيَّةِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، لَكنَّ الإِقرارَ بِالرُّبوبيَّةِ لا يُغني عَنِ الإنسانِ شيئًا، ولقد فَخِرَ بَعضُ النَّاسِ الجُهَّالِ أَنَّ أحدَ رُوَّادِ الفَضاءِ شَهِدَ بِأنَّ لهِذا الكونِ خالقًا لمَّا صَعَدَ في الفضاءِ، ورَأي الأرضَ وَرَأى ما حولَه مِن الآياتِ شَهِدَ بأنَّ لها خالقًا، فَصارَ بَعضُ النَّاسِ الجُهَّال يُطَنْطِنُ علي إثباتِ أنَّ للكونِ خالقًا بِشهادةِ هذا الرَّجُلِ الكافرِ.
وهذا -حَقيقَةً- يَدُلُّ علي ضَعفِ إِيمانِه؛ لأنَّ خَبرَ اللهِ ورَسولِه عَنْ ذَلك أَصدقُ وأَوجبُ لِلإيمانِ، نَعَمْ لو كُنَّا نُجادلُ شخصًا مُنكِرًا لا يُؤمِنُ بِالأديانِ فَنقولُ له: صاحبُك الَّذي هو مِثلُك أَقَرَّ بِأنَّ لِلكونِ خالقًا رُبَّما يَنفعُ، فَيكونُ هَذا مِن بابِ إقامةِ حُجَّته عليه، لَكنْ نَجعلُ هذا حُجَّةً مُطلَقةً، فيه نَظرٌ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: التَّأكيدُ على أنَّ هؤلاءِ الكافرينَ سوف يُخبَرونَ بما عَمِلوا؛ لِقولِه: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} وَيكونُ هذا يَومَ القيامةِ.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الفتن، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم (7132)، ومسلم: كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، رقم (2938)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
فَإنْ قال قائلٌ: هَلْ لهِذا القَيدِ مَفهومٌ أو هو لِبيانِ الواقعِ: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؟
فَالجوابُ: لِبيانِ الواقعِ لَيس له مفهومٌ لِأنَّك لو جَعلْتَ له مَفهومًا لكانَ المؤمنونَ لا يُنبَّؤونَ بما عَمِلوا مَع أَنَّهم يُنبَّؤونَ، قال اللهُ تَعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7].
وَثَبَتَ عَنِ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عَليه وعَلَي آله وسلَّم- أنَّ اللهَ يَخلو بعبدِه المُؤمنِ فَيمَرِّره بِذنوبِه عَمِلْتَ كذا فِي يَومِ كذا
(1)
.
إذن: تَقييدُ الإِنباءِ بِالكافِرِ لبَيانِ الواقعِ يَعني: أَنَّ هَؤلاء الَّذين كَذَّبوا واقعُهم أَنَّهم سَيُنبَّؤونَ بِما عَمِلوا.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: أَنَّ كُلَّ شيءٍ مُقيَّدٌ محفوظٌ علي الإنسانِ، نَأخذُه مِن قَولِهِ:{بِمَا عَمِلُوا} فَإنَّ {بِمَا} اسمُ مَوصولٍ يُفيدُ العُمومَ، وقَدْ قال اللهُ تَعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18] فَأيُّ قَولٍ تَلْفِظُ بِهِ فَلَديكَ رَقيبٌ حاضرٌ عَتيدٌ يَعني: حاضرٌ يَكتبُ ما تَقولُ.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّ عذابَ هَؤلاءِ الكُفَّارِ سَيكونُ غَليظًا، أي: شَديدًا؛ لِأنَّ الغِلظَةَ مَعناها القَسوةُ، وهي في كلِّ مَوضعٍ بِحسبِهِ، فَغِلَظُ الطِّباعِ لَيْس كَغِلَظِ الطِّينِ أو العَجينِ أَو ما أَشبهَ ذَلكَ، وغِلَظُ العذابِ ليس كَغِلَظِ الطِّينِ والعَجينِ وغِلَظِ القولِ، وَما أَشبهَ ذَلِكَ، كُلُّ غِلْظةٍ بِحَسَبِها.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، رقم (2441)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، رقم (2768)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: إِثباتُ العذابِ في الآخرةِ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فَهلْ هناك عَذابٌ قَبلَ الآخرَةِ؟
الجوابُ: نَعَمْ، يُعذَّبُ الإِنسانُ في قَبرِه قَبْلَ أَنْ يُبعثَ، وَهذا ثابتٌ بِالقُرآنِ وَالسُّنَّةِ اسْتَمِعْ إِلَيهِ في القُرآنِ قالَ اللهُ تَعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93]، فَقوُله:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} يَدلُّ على أَنَّهم شَحيحونَ بِأنْفسِهم لا يُريدونَ أَنْ تَخرُجَ ولهذا يُقالُ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} تَوبيخًا، ثُمَّ يُقالُ لَهم:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: يَومَ مَوتِكم: {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} وهَذه نَصٌّ في إِثباتِ عَذابِ القبرِ.
وقال اللهُ تبارك وتعالى عَن آلِ فِرعونَ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46].
وأَمَّا السُّنَّةُ فَطافِحةٌ في ذَلكَ وكَثيرةٌ، ومِنها ما أَجمعَ المُسلمونَ عَليه، فَكُلُّ المُسلمينَ يَقولون في الصَّلاةِ: أَعوذُ بِاللهِ مِنْ عَذابِ جَهنَّمَ ومِن عَذابِ القبرِ، وهل يُتصوَّرُ أنَّ أحدًا يَتعوَّذ مِن شيءٍ إِلَّا وهو يُؤمنُ بوجودِه! لا يُتصوَّرُ.
إِذَنْ: فَعذابُ القَبرِ ثابتٌ بِالقرآنِ والسُّنَّة وَالإجماعِ، وعليهِ فَيكونُ العَذابُ المَذكورُ في قولِه:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} هو عذابُ الآخرةِ، وهو أَشدُّ مِن عَذابِ القبرِ، أَجارنا اللهُ وإِيَّاكم مِن ذلك.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مِن عِبادِ اللهِ مَن لا يَشكُرُ اللهَ عز وجل ولا يَعْترفُ له بِالفَضلِ، فَإِذا جَاءته الرَّحمَةُ بَعْدَ الضَّرَّاءِ ادَّعى أَنَّ هذا بِعمَلِه وأَنَّه مَحقوقٌ به وأَهلٌ له؛ لِقولِه تبارك وتعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} .. إلخ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الرَّحمةَ إِنَّما هي مِن اللهِ عز وجل لا يَستطيعُ الإِنسانُ أَنْ يَجلِبَ لِنفسِه نَفعًا ولا أَنْ يَدفَعَ عَنْهَا ضَررًا، بل ذلك إلى اللهِ، ولكنَّ اللهَ قَد جَعَلَ لِكُلِّ شيءٍ سببًا، فَللرَّحمةِ أَسبابٌ ولِلعذابِ أَسبابٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: بَيانُ حالِ هذا الإِنسانِ الَّذي إِذا أصابتْه الرَّحمةُ والخَيرُ: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ثُمَّ ادَّعَى دَعوَةً أُخرى أَنَّه لَو رَجعَ إِلي اللهِ لَوَجَدَ عِندَه خَيرًا من ذلك، مع أَنَّه يُنكِرُ قيامَ السَّاعةِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَهديدُ مَنْ هَذهِ حَالُه بِأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى سَوف يُقَرِّرُه بِذنوبِه ويُذيقُه مِنَ العَذابِ الغَليظِ لِقولِه: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الإظهارَ في مَوضعِه خَيرٌ مِنَ الإضمارِ يَعني: إِذا دارَ الأمرُ بَينَ أَنْ تَأتيَ بِضميرِ المُتحدِّثِ عَنه أو بِاسْمٍ ظاهرٍ، فَإنَّ الأصلَ أَنْ تَأتيَ بِالضَّميرِ، لكن إِذا صارَ هناك فائدةٌ في الإِظهارِ في مَوضعِ الإِضمارِ فَهو أَوْلَى وأَحْسَنُ، الإِظهارُ في مَوضعِ الإِضمارِ في قَولِه:{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وَلو أَضْمرَ لقالَ: فَلَنُنَبِّئنَّهُمْ، لكنَّه أَظْهَرَ في مَوضِعِ الإِضمارِ، والإِظهارُ فِي مَوضعِ الإِضمارِ، ذَكَرْنا أَنَّ فيه أَربعَ فَوائدَ:
1 -
بَيانُ الصِّفَةِ أَو الوَصْفِ الَّذي اسْتحقَّ مِن أَجْلِه أَنْ يُعاقَبَ بِهذه العُقوبةِ.
2 -
بَيانُ العُمومِ، يَعني: أَنَّ هذا الوعيدَ ليس لهِذا الرَّجُل وَحدَه بَل لكُلِّ كافرٍ، هذا بِالنِّسبةِ لِهذه الآيةِ.
3 -
انْتباهُ المُخاطَبِ؛ لِأنَّ الكلامَ إِذا كانَ على نَسَقٍ واحدٍ بضمائرِه ومُظهَراتِه، فإنَّ الإِنسانَ لا يَنتبهُ لكن إِذا جاء شيءٌ يُخرِجُ الكلامَ عَن سياقِه، فَإنَّه لابُدَّ أنْ يَنْتبِهَ.
4 -
مُراعاةُ فَواصلِ الآياتِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِثْباتُ البعثِ لِقولِه: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: عُمومُ عِلْمِ اللهِ عز وجل؛ لِأنَّ المنبئَ بِالعَملِ لا بُدَّ أَنْ يكونَ عالمًا به.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: بَيانُ عَظمَةِ اللهِ سبحانه وتعالى حَيثُ أَضاف الضَّمائِرَ إِليه بِصيغةِ الجَمعِ، والجَمعُ لِلواحدِ يُرادُ بِه التَّعظيمُ.
* * *